کتاب الصلاه المجلد 2

اشارة

سرشناسه : اراکی، محمدعلی، 1373 - 1273

عنوان و نام پديدآور : کتاب الصلاه/ الاراکی

مشخصات نشر : قم: مکتب آیه الله العظمی الشیخ محمدعلی الاراکی (ره)، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : 2 ج.نمونه

شابک : 964-6677-07-x15000ریال

يادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : نماز

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

موضوع : نماز -- رساله عملیه

رده بندی کنگره : BP186/الف37ک2 1379

رده بندی دیویی : 297/353

شماره کتابشناسی ملی : م 80-4866

[تتمة المقصد الثاني في أفعال الصلاة]

البحث الرابع و من واجبات الصلاة القراءة.

اشارة

و فيه مواضع للكلام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 7

[الموضع] الأوّل لا كلام في جزئيّة الحمد للصلاة

و وجوبه في الأوليين منها، و الدليل عليه- مضافا إلى الإجماع- الأخبار كما يعلم بمراجعة المفصّلات، كما لا إشكال في عدم كونه من الأركان حتّى يوجب نقصه و زيادته سهوا بطلانها، كما هو الحال في الأركان، فإنّ مقتضى «لا تعاد» كون ذلك مغتفرا في غير الخمسة الذي منه الحمد، مضافا إلى الأدلّة الخاصّة الموجودة في المقام كما يعلم بمراجعة الكتب المفصّلة.

لكن ليعلم أنّ النقص و الزيادة تارة يكونان عن علم و التفات بالحكم و الموضوع، و هو المتيقّن من صور البطلان.

و اخرى عن جهل بالحكم تقصيرا، و هو أيضا كذلك، بل و كذلك الجهل القصوري و السهو و النسيان المتعلّقان بالحكم، فإنّ الحديث منصرف عن شمول هذه الصور كما بيّن في محلّه، فيبقى على مقتضى القاعدة الأوّليّة من الفساد، لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه.

بقيت صور تعلّق الجهل و السهو و النسيان بالموضوع، و لا إشكال في أنّ السهو عن الموضوع المشمول للحديث ليس منحصرا في ما إذا عزب صورته عن الذهن بالكلّية و لم يؤت به في محلّه بلا شعور، أو أتى به في غير المحلّ بلا التفات إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 8

ذلك أصلا، ثمّ بعد الدخول في الركن التفت إليه، بل أعمّ من ذلك و ممّا إذا حصل كلّ من هذين عن التفات إليه، و لكن مع الاشتباه أو السهو في شي ء آخر صار ذلك منشأ للترك في المحلّ أو الفعل في غير المحلّ، كما لو سها عن كون الركعة التي بيده ثالثة و تخيّلها رابعة فسلّم، فإنّه حين يسلّم يكون صادرا منه بإرادة و عمد و قصد إليه،

و لكن بالتوهّم في المنشأ و الاشتباه فيه.

و بالجملة، بعد ادّعاء انصراف الحديث إلى الخلل الراجع إلى الموضوع دون ما كان مسبّبا عن الجهل أو السهو في الحكم لا يفرق الحال في ما هو المنصرف إليه بين القسمين المذكورين، فكلّ منهما داخل في المنصرف إليه.

و حينئذ فيرد في المقام سؤال و إن كان من مسائل الجماعة، و لكن لا بأس بالتعرّض له هنا لمناسبته بالمقام و كونه محلّا للاهتمام، و هو أنّ من المسلّم في ما بينهم هو الحكم ببطلان صلاة من اعتقد أنّه أدرك الإمام في الركوع و كان واقعا غير مدرك له، فترك القراءة لأجل ذلك ثمّ تبيّن أنّه لم يدركه، فيسئل عن أنّه ما وجه هذه الفتوى و كيف يمكن تطبيقها على القاعدة، فإنّ الصلاة المذكورة لا عيب فيها غير خلوّها عن القراءة، و ليس ذلك إلّا عن تخيّل و اشتباه في الاقتداء، و قد فرضنا أعمّيّة السهو المغتفر بمقتضى الحديث عمّا يشمل ذلك و العزوب الرأسي، بل يمكن أن يكون هذا هو الوجه في حكم الإمام عليه السّلام بصحّة صلاة من اقتدى بيهودي و لم يعلم بذلك إلّا بعد الفراغ، فلا يمكن الاستشهاد بأمثاله للقول بعدم اعتبار العدالة الواقعيّة و كفاية الإحرازيّة، لملاءمته مع اعتبار واقعها، فإنّ غاية الأمر بطلان جماعته دون أصل صلاته.

نعم لو قلنا باختلاف الجماعة و الفرادى في الحقيقة كما ينسب إلى بعض كلمات المحقّق القمّي قدّس سرّه أمكن أن يقال ببطلان الصلاة أيضا، لأنّه قصد تلك الحقيقة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 9

و لم يحصل، لفقدان شرطها، و الحقيقة الأخرى لم تقصد.

أمّا لو قلنا باتّحادهما حقيقة كما لعلّه الظاهر فلا وجه للبطلان، و لا للاستشهاد المذكور،

نعم الاستظهار من أدلّة اعتبار العدالة أنّها بوجودها العلمي شرط مطلب آخر و كذلك سنخ هذا الفرع غير عزيز في مسائل الجماعة، و منه ما إذا اقتدى اثنان كلّ منهما بصاحبه، فإنّ من المسلّم الحكم بالبطلان، إلى غير ذلك ممّا يشابهه، فما وجه الفرق بين هذه المسائل و بين مسألة زيادة التسليمة باعتقاد الركعة الرابعة، أو ترك التشهّد باعتقاد الركعة الاولى و عدم التذكّر إلّا بعد مضيّ المحلّ.

فإن كان الوجه في حكمهم بالبطلان في تلك حصول الترك باختيار و عمد، فكذلك الحال في الأخيرتين، و إن كان الوجه في الحكم بالصحّة في الأخيرتين كونه اختيارا ناشئا عن الاشتباه، فكذلك الحال في تلك المسائل، فما وجه الفرق حيث جزموا بالصحّة فيهما، و بالبطلان في تلك؟

و قد يقال بإمكان دعوى انصراف دليل لا تعاد عمّا إذا نوى الإنسان فعلا مقيّدا و كان عدم اشتمال ذلك الفعل على شي ء مطابقا لقاعدته و إن كان هو مخطئا في نيّته لذلك الفعل المقيّد و كان الصواب أن ينوي مقيّدا آخرا.

و أمّا إذا نوى مقيّدا مشتملا على أجزاء و شرائط ثمّ لم يأت بواحد من أجزائه أو شرائطه في محلّه إمّا لعزوب صورته عن ذهنه بالمرّة، أو لخطئه في المنشأ، فهذا ليس منصرفا عن الدليل المذكور.

و على هذا فنقول: فرق بين مسائل الجماعة و بين المسألتين و أضرابهما، فإنّ المكلّف حينما يدخل في الجماعة ينوي هذه الصلاة المقيّدة التي و إن كانت غير مغايرة مع الفرادى في الحقيقة، لكن لا أقلّ من اختلافهما الصنفي، حتّى أنّهما مختلفان في بعض الأحكام، و قاعدة هذا الصنف من الصلاة عدم الاشتمال على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 10

القراءة، و أمّا المسألتان فالمكلّف إذا

شرع في الصلاة ينوي الصلاة المشتملة على التشهّد في محلّه أو التسليمة كذلك، فإذا خرج عمّا هو مقتضى ترتيبه دخل في عموم لا تعاد.

و بعبارة أخرى: الخطأ في إحدى الصورتين في أصل العمل، و في الأخرى في جزئه أو شرطه، و عموم الحديث لا يشمل الخطأ الواقع في نفس العمل، بل الواقع في بعضه مع الفراغ عن صحّة نفسه، و عمل الجماعة و الفرادى لا إشكال في تغايرهما و معدوديّتهما عملين و إن كانا كلاهما من حقيقة واحدة من جنس الصلاة، فإذا كان عمل المكلّف أحد هذين و هو اشتبه و تخيّله الآخر فهذا غير مشمول للعموم، و أمّا إذا أصاب في تشخيص عمله و لكن أخطأ في تشخيص أبعاضه فهذا مشمول له.

و بعبارة ثالثة: إنّ من تصوّر صورة الفعل المركّب ثمّ أراده و دخل فيه و أتى بجميع ما نواه مع كمال الشعور فأيّ منقصة فيه عن العامد و لو كان أصل دخوله في العمل مبنيّا على سهو أو اشتباه و جهل، لكنّه في داخل العمل الذي تحقّق فيه مبادي اختياره ما عرض عليه سهو و نسيان، بل أتى بتمام ما نواه، و هذا لا يسمّى شي ء من أجزاء عمله عند العرف بالسهويّة و لا ينصرف عنه اسم العمد.

و هذا بخلاف من ينوي عملا مركّبا و لكن يعرضه في البين اشتباه أو تخيّل باطل و جهل مركّب، أو سهو، فلا يأتي بجميع ما نواه من الابتداء على نحو الإجمال، أو يأتي بما نوى عدمه إجمالا، فإنّه يسمّى عرفا باسم السهو، و الحكم في ذلك هو العرف، فإنّهم فارقون بين الموردين في التسمية باسم السهو و العمد، فراجع الوجدان تجده أقوى شاهد.

و حينئذ نقول: إنّ

الجماعة و الفرادى و إن كان الحقّ على خلاف ما ذهب إليه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 11

المحقّق القمّي قدّس سرّه الشريف كونهما كالقصر و الإتمام مندرجين تحت حقيقة واحدة و لا اختلاف بينهما بحسب النوع، و إنّما هو اختلاف في الخصوصيّة، نظير اختلاف الخطّ القصير المحدود بنصف ذرع، و الطويل المحدود بالذرع بحيث يصلح احتساب القدر المشترك بينهما في مقام امتثال أمر كلّ من العنوانين، فمن كان مأمورا بإيجاد الخطّ البالغ نصف الذرع فشرع بقصد إتمامه ذرعا تامّا فبدا له قبل تجاوز النصف يحسب هذا امتثالا لذلك الأمر و بالعكس.

و هكذا الحال في البابين المشار إليهما، أعني باب القصر و الإتمام و باب الجماعة و الفرادى، فلا مانع من احتساب كلّ منهما مقام الآخر في مقام الامتثال من هذه الجهة لو فرض عدم المانع من جهة أخرى.

و لكنّ المانع في صورة ترك القراءة بتخيّل الاقتداء مع بطلانه واقعا موجود، و هو ما ذكرنا من قصور شمول دليل لا تعاد مثل هذا الترك الذي قصده المصلّي من أوّل شروعه في الصلاة إلى حين بلوغه محلّ الجزء، فلم يعرضه في عمله الذي أخذه بيده سهو و اشتباه، و إنّما السهو و الاشتباه في ما قبل ذلك، و من هنا يظهر الحال في الفروع الأخر التي أشار إليها شيخنا المرتضى قدّس سرّه في هذا المقام.

أحدها: ما لو صلّى بنيّة الاقتداء فبان عدم الإمام، و من أفراده المسألة المعروفة أعني: الاقتداء بزيد على وجه التقييد فبان أنّه عمرو، فإنّ من المسلّم بينهم الحكم ببطلان الصلاة رأسا، لا بطلان الاقتداء.

و الثاني: ما لو نوى الاقتداء، فتبيّن فقد أحد الشروط المطلقة للجماعة، كما لو تبيّن البعد المفرط أو وجود

الحائل مثلا.

و الثالث: ما إذا اعتقد أنّ الإمام في إحدى الأوليين، فلم يقرأ فتبيّن بعد الركوع أنّه في غيرهما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 12

الرابع: ما إذا صلّى رجلان نوى كلّ منهما الائتمام بالآخر، فإنّ الحكم بالبطلان في هذه الفروع الأربعة كما يظهر منهم على نحو التسالم مطابق للقاعدة على حسب ما قرّرنا.

مضافا إلى وجود النصّ الخاصّ في الفرع الأخير، و هو رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام عن آبائه عن عليّ عليه و عليهم الصلاة و السلام أنّه عليه السّلام «قال في رجلين اختلفا، فقال أحدهما: كنت إمامك، و قال الآخر: كنت إمامك: إنّ صلاتهما تامّة، قال: قلت: فإن قال كلّ واحد منهما: كنت أئتمّ بك؟ قال عليه السّلام: فصلاتهما فاسدة و ليستأنفا» «1».

و المناقشة في سند الرواية بالضعف كما عن صاحب المدارك قدّس سرّه غير وجيهة بعد الانجبار باشتهار العمل به بين الأصحاب، بل الظاهر أنّه السبب لأصل تعرّضهم لهذا الفرع في كتبهم الفقهيّة، و إلّا فهو في نفسه من الفروع النادرة التي قلّما يتّفق الابتلاء به، بحيث لا يصلح التعرّض له.

و بالجملة، فقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة لو لا النصّ أيضا هو الحكم بالبطلان.

بل و من هنا يمكن القول بالبطلان في كلّ زيادة أو نقيصة كانت ناشئة عن الجهل بالحكم أو السهو فيه، فإنّ الفاعل حين الشروع إنّما يقصد الفعل الخالي عن الجزء أو الواجد للمانع، ثمّ يأتي بطبق ما بقصده في الخارج من دون عروض سهو عليه.

و من هنا يظهر وجه تسالمهم على الحكم بالبطلان في جميع أفراد الخلل الناشئ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 13

من الشبهة

و الجهل في الحكم، تقصيريّا كان أم قصوريّا، و عدم تمسّكهم بذيل عموم لا تعاد، فاغتنم ذلك و الحمد للّٰه.

نعم في الفرع الثالث من الفروع الأربعة أعني: المأموم المسبوق يمكن أن يقال بالصحّة من جهة أخرى لو تمّت، و هي أن يدّعي أحد عموم ما دلّ على سقوط الحمد عن المأموم لو لم يمهله الإمام و خشي أن يرفع رأسه من الركوع بالنسبة إلى المقام و أنّ الخارج عنه صورة العمد الخالص مع العلم بالحكم و الموضوع.

و أمّا الصور التي اتّفق ذلك إمّا بغير اختيار منه أو باختيار و لكن عن جهل منه بالحكم الناشئ عن الجهل بالموضوع الخارجي كما في المقام حيث إنّ عدم قراءة المأموم اختياريّ له، لكن نشأ ذلك عن تخيّل أنّه تكليفه، و هو نشأ عن اعتقاده الخطائي بكون الإمام في إحدى الأوليين، فكلّها داخلة تحت العموم المذكور، فإن صحّت هذه الدعوى أمكن الصحّة في الفرع المذكور، فإنّ المفروض انعقاد اقتدائه صحيحا و خطابه بالركوع عند ضيق الوقت عن الحمد و إسقاط الحمد عنه، و إلّا فهو أيضا معطوف على أخواته في ما ذكرنا من مقتضى القاعدة.

و أمّا ما ورد في إجزاء الصلاة خلف الإمام الذي تبيّن كونه يهوديّا و هو مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في قوم خرجوا من خراسان أو بعض الجبال، و كان يؤمّهم رجل، فلمّا صاروا إلى الكوفة علموا أنّه يهوديّ، «قال عليه السّلام: لا يعيدون» «1».

و في رواية زياد بن مروان القندي في كتابه أنّ الصادق عليه السّلام «قال في رجل صلّى بقوم حين خرجوا من خراسان حتّى قدموا مكّة، فإذا هو يهوديّ أو نصرانيّ،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة،

الباب 37 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 14

قال عليه السّلام: ليس عليهم إعادة» «1».

فلا يمكن حمله على كون ذلك لأجل عدم اعتبار العدالة الواقعيّة و أنّ صلاتهم صحيحة جماعة، فإنّ المفروض ليس مجرّد فسق الإمام، بل كفره و نجاسته و عدم تمشّي القربة منه، و بالجملة فالصادر منه صورة الصلاة لا حقيقتها، بخلاف الإمام الفاسق، و حينئذ فيحتمل فيه وجهان:

الأوّل: أن يكون عدم الإعادة من باب اغتفار القراءة على خلاف مقتضى القاعدة.

و الثاني: أنّه قضيّة في واقعة، فمن الممكن أنّ اليهودي أظهر أنّه من المخالفين، فإنّ الداعي له إلى التزوير هو الاحترام، و كان الشوكة يومئذ معهم، و إلّا فلو أظهر نفسه من الإماميّة لزم نقض غرضه، لأنّه خرج عن اليهوديّة إلى الرفض و هو في النهاية في تلك الأيام مثلها أو أدون.

و على هذا فكان معاملة القوم معه معاملة المخالفين، و من المعلوم أنّ حكم الصلاة خلف المخالف هو الإتيان بالقراءة في نفسه، غاية الأمر سقوط وصف الجهريّة لو كانت الصلاة جهريّة، فلعلّ السرّ في الحكم بعدم الإعادة في تلك القضيّة معلوميّة كون صلاتهم واجدة للقراءة من هذه الجهة و إن كانت ناقصة من حيث الإخفات مقام الجهر في الصلوات الجهريّة، فغايته الدلالة على هذا التقدير على اغتفار هذه الجهة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 37 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 15

الثاني يجب بعد الحمد قراءة سورة كاملة على المشهور،

اشارة

بل عن بعض الإجماع عليه.

و قد استدلّ عليه [الوجوب] بأخبار

بعضها ظاهر في ذلك و إن كان بعضها الآخر لا دلالة فيه.

فمن القسم الأوّل خبر محمّد بن إسماعيل «قال: سألته قلت: أكون في طريق مكّة فنزل للصلاة في مواضع فيها الأعراب، أ يصلّي المكتوبة على الأرض فيقرأ أمّ الكتاب وحدها: أم يصلّى على الراحلة فيقرأ فاتحة الكتاب و السورة؟

قال عليه السّلام: إذا خفت فصلّ على الراحلة المكتوبة و غيرها، و إذا قرأت الحمد و سورة أحبّ إليّ و لا أرى بالذي فعلت بأسا» «1».

حيث إنّ ظاهر الرواية أنّ تجويز الصلاة على الراحلة مع استلزامها فوات القيام و الاستقرار يكون لأجل إدراك السورة، كما جوّز له ترك السورة لأجل إدراكهما بإتيان الصلاة على الأرض، بل جعل إدراك السورة أحبّ من إدراكهما.

لا يقال: مفروض السائل الخوف في كلتا الحالتين، لا أنّ الخوف يحدث

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 16

بالبقاء بمقدار قراءة السورة، و على هذا فتجويز الصلاة على الراحلة يكون لأجل الخوف، لا لمراعاة السورة.

لأنّا نقول: و إن كان الخوف محقّقا على كلّ حال و الاختلاف إنّما هو في مرتبته، لكن ظاهر الرواية تجويز الصلاة على الأرض بلا سورة بمقتضى قوله عليه السّلام:

و لا أرى بالذي فعلت بأسا، فإنّه قال: ننزل للصلاة إلخ، و مفروضة أنّه صلّى بلا سورة، و إنّما سؤاله عن إجزاء فعله أو لزوم الصلاة على الراحلة مع السورة، فإذا جوّز الإمام عليه السّلام كلا القسمين فظاهره أنّ تجويز الصلاة على الراحلة لمراعاة السورة، و إلّا لوجب عليه الصلاة على الأرض مستقرّا مع القيام و إن فات السورة.

و الحاصل أنّ السائل فرض تكليف نفسه بين الأمرين،

إمّا الصلاة في مواضع الخوف على الأرض مخفّفة، و إمّا على الراحلة بلا تخفيف، و قد أخبر أنّه قد فعل الأوّل، فأجاز الإمام عليه السّلام له كلا القسمين و جعل الثاني أحبّ، و لو لا رعاية السورة لكان الواجب الاقتصار على الأوّل لئلّا يفوت الواجب بالمستحبّ.

و بالجملة فالظهور في المدّعى ثابت للرواية.

و من هذا القسم أيضا: صحيحة زرارة الواردة في المأموم المسبوق، قرأ في كلّ ركعة ممّا أدرك خلف الإمام في نفسه بأمّ الكتاب و سورة «فإن لم يدرك سورة تامّة أجزأته أمّ الكتاب» «1». الحديث.

و منه: حسنة عبد اللّٰه بن سنان بابن هاشم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «للمريض أن يقرأ فاتحة الكتاب وحدها، و يجوز للصحيح في قضاء صلاة التطوّع بالليل و النهار» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 47 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 17

و من القسم الثاني: خبر يحيى بن عمران الهمداني «قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام: جعلت فداك، ما تقول في رجل ابتدأ ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم في صلاته وحدة في أمّ الكتاب، فلمّا صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها، فقال العبّاسي: ليس بذلك بأس، فكتب عليه السّلام بخطّه: يعيدها (مرّتين) على رغم أنفه، يعني العبّاسي» «1».

و الظاهر أنّ «مرّتين» من كلام الراوي، و مقصوده أنّ الإمام عليه السّلام كتب هذه الكلمة مرّتين.

وجه عدم الدلالة في هذا الخبر أنّ ضمير «يعيدها» لا يعلم هل هو راجع إلى الصلاة حتّى يفيد المدّعى من جزئيّة السورة، أو إلى السورة حتّى يفيد جزئيّة البسملة لها، و لا دلالة على هذا فيه

على حكم نفس السورة من الوجوب أو الاستحباب، و بالجملة فهو في مقام الوجوب الشرطي على هذا التقدير، لا الشرعي، و إذا جاء الاحتمال حصل الإجمال.

و مثله في هذه الجهة صحيحة معاوية بن عمّار «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أقرأ بسم اللّٰه الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب؟ قال عليه السّلام: نعم، قلت: فإذا قرأت فاتحة القرآن أقرأ بسم اللّٰه الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال عليه السّلام: نعم» «2».

و منه صحيحة منصور بن حازم «قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة و لا بأكثر» «3».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 6.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 18

وجه عدم الدلالة وقوع النهي الأوّل في سياق النهي الثاني المحمول على الكراهة، جمعا بينه و بين ما دلّ على جواز القران بين السورتين في الفريضة.

و منه صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: لا بأس بأن يقرأ الرجل في الفريضة بفاتحة الكتاب في الركعتين الأوليين إذا ما أعجلت به حاجة، أو تخوّف شيئا» «1».

فإنّ تجويز ترك السورة لمجرّد الحاجة الدنيويّة أو التخوّف الدنيوي الشامل بإطلاقه لما لا يصل حدّ الضرورة المسقطة للواجب مناسب مع الاستحباب و يوهن دلالة البأس المستفاد من المفهوم على التحريم، و لا نعني أنّه لا يمكن اجتماع ذلك عقلا مع الوجوب حتّى يقال بإمكانه بفرض تضيّق الموضوع و تقيّده واقعا بصورة عدم طروّ الحاجة، فطروّها رافع للموضوع، بل المقصود أنّه مع إمكانه عقلا قرينة

على عدم الوجوب عرفا، و لا أقلّ من الإجمال و عدم الدلالة.

و قد استدلّ للقول بالاستحباب بأخبار.

منها: صحيحة ابن رئاب عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سمعته يقول بأنّ فاتحة الكتاب تجوز وحدها في الفريضة» «2».

و مثلها صحيحة الحلبي.

و منها: المستفيضة الدالّة على جواز الاكتفاء بالتبعيض، و في بعضها أنّه «صلّى بنا أبو عبد اللّٰه عليه السّلام، فقرأ بفاتحة الكتاب و آخر سورة المائدة، فلمّا سلّم التفت إلينا فقال: أما إنّي أردت أن أعلّمكم» «3».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(2) المصدر: الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 19

و في آخر: «صلّيت خلف أبي جعفر عليهما السّلام، فقرأ بفاتحة الكتاب و آي من البقرة، فجاء أبي فسأل، فقال يا بنيّ إنّما صنع ذا ليفقّهكم و يعلّمكم» «1».

و قد يقال في الجواب عن الأوّلين بأنّهما محمولتان على صورة الاستعجال و الحاجة، بقرينة بعض الأخبار المفصّلة.

و فيه أنّه مستلزم لحمل المطلق على الفرد النادر، مضافا إلى أنّ هذا الجمع أعني: حمل المطلق على المقيّد بحمل الطائفة الموجبة على صورة عدم الحاجة، و المرخّصة على صورة وجودها إنّما ينفع القائل بالوجوب إذا كان المراد بالحاجة هو العذر الشرعي المقبول في سائر المقامات لرفع اليد بسببه عن الواجب، و من المعلوم أنّ المراد بها في المقام ليس هذا المعنى، بل الأعمّ منه و من الحوائج العرفيّة الجزئيّة الغير اللازم من فوتها حرج على المكلّف، و حينئذ فتعليق الإتيان بعدم طروّ مثل ذلك فيه شهادة عرفا بعدم كون الفعل من المهتمّات عند الآمر، كما عرفت آنفا.

و الأحسن في مقام الجمع العرفي هو التصرّف في

الطائفة الاولى من حيث الهيئة بحملها على الاستحباب، لكن إعراض المشهور عن العمل بهذه الأخبار مع كثرة الطائفة الثانية منها و صراحة دلالتها و صحّة سندها يمنعنا عن ذلك، لأنّه يوجب الوهن فيها و لو لم يكن لها معارض.

و إذن فتبقى الطائفة الأولى سليمة، بيان ذلك أنّ حجّية الخبر و صلاحيّته للاستناد محتاجة إلى أمور، أحدها: الدلالة إمّا نصوصيّة و إمّا ظهورا، و الآخر:

الصدور إمّا قطعا و إمّا أصلا، و الثالث: وجه الصدور كذلك، و إذا صار الخبر مع وضوح الدلالة و صحّة السند محلّ إعراض الأصحاب كان هذا أمارة على اختلال

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 20

وجه صدوره و يوجب سقوط أصالة الجهة بالنسبة إليه، و الظاهر تحقّق الإعراض في مقامنا، حيث حكي أنّه لم يفت بمضمون هذه الأخبار قبل صاحب المدارك و من تبعه من المتأخّرين غير الديلمي.

و أمّا القدماء من لدن أصحاب الأئمّة عليهم السّلام فالظاهر من حالهم كون الوجوب عندهم من الأمور المفروغ عنها، و هذا مع ملاحظة طريقة العامّة أعني عدم الوجوب و تجويز التبعيض يوجب انهدام الأصل الجهتي.

نعم صرف كون الخبر مطابقا لفتاواهم بدون الإعراض لا يوجب ارتفاع الأصل المذكور، بل مع ضميمة الإعراض، كما تحقّق كلاهما في مقامنا هذا.

و ليس هذا أيضا من قبيل الرجوع إلى المرجّح في مقام التعارض السندي حتّى يقال: إنّ الرجوع إلى المرجّحات من غير فرق بين موافقة العامّة و مخالفة الكتاب و غيرهما يكون متأخّرا في الرتبة عن الجمع الدلالي، و لا محلّ لشي ء منها مع وجوده، و ها هنا يكون الجمع المذكور محقّقا كما عرفت، لما عرفت من أنّه

موجب لاختلال أركان الحجّية في أخبار التجويز للترك رأسا و أخبار التبعيض مع تظافرها و صحّة أسانيدها.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من كون الأخبار المرخّصة محمولة على كونها صادرة للتقيّة، لا إشكال في جريانه بالنسبة إلى ما كان منها مشتملا على القول و الفتوى بذلك، و أمّا ما كان مشتملا على العمل فقد يستشكل بأنّ ظاهر الأخبار أنّ علّة العمل هو التعليم، و لو كان العلّة هو التقيّة لعلّله الإمام عليه السّلام بها، و صرف التعليم لا يصلح علّة للعمل إلّا في مقام تعليم الأحكام الواقعيّة، و أمّا الحكم المجعول لحال التقيّة على خلاف الواقع فلا يمكن صيرورة صرف تعليمه علّة للعمل ما لم يكن تقيّة في العمل، و هو خلاف الظاهر، حيث إنّ الظاهر كون العلّة هو التعليم، لا شي ء آخر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 21

مضافا إلى أنّ فتوى العامّة ليست على التحريم في السورة الكاملة، بل يجوّزونها و التبعيض.

و على هذا فيشكل حمل العمل على التقيّة و لو تنزّلنا عن الإشكال الأوّل أيضا، لوضوح أنّه حينئذ ليس في إتيان العمل على وفق الواقع مخالفة لمذهبهم حتّى يحصل التقيّة بتركه، فلا وجه لمخالفة الواقع حتّى لو فرض كون العمل واقعا في محلّ التقيّة.

و هذا بخلاف الأخبار المشتملة على القول بجواز التبعيض، فإنّه لو أفتى بخلافه كان خلاف التقيّة، فيصحّ الاستناد في هذا الفتوى إلى التقيّة، و أمّا في العمل فلا.

و يمكن الجواب مضافا إلى ما في نفس تعجّبهم من فعله و اعتذاره عليه السّلام بهذا التعليل من الدلالة على كونه من المنكرات عند الشيعة، و من الأمور المغروس خلافها في أذهانهم، فيمكن الاستشهاد بنفس هذين الخبرين على الوجوب بأنّ مقصوده عليه السّلام من التعليل

المذكور بيان أوسعيّة التقيّة و عدم اختصاصها بما إذا كان التخالف بين مذهبهم و مذهب الخاصّة بالتباين الكلّي، بل لها المساغ من التباين الجزئي، كما في المقام، فإنّ التزام الخاصّة بإتيان السورة عملا مع كون العامّة غير ملتزمين كذلك فيه غبار الخلاف.

فرفع هذا المعنى يتحقّق بأنّهم أيضا أحيانا يفعلون في صلاتهم مثل فعلهم من تبعيض السورة، فالإمام عليه السّلام جعل ذلك الحين الذي لا بدّ أن يظهر فيه الموافقة لهم عملا هذا الحين الخاصّ بغرض التعليم و التفقيه حتّى لا يتخيّلوا أنّ التقيّة لا مساغ لها ها هنا بعد كون إتيان السورة خاليا عن المخالفة لهم.

فكأنّه عليه السّلام أراد أن يعلّمهم أنّ المطلوب في باب التقيّة ليس مجرّد عدم المخالفة لهم، بل إظهار الموافقة معهم في الرأي و العقيدة، و هذا الإظهار تارة يكون بالفتوى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 22

بجواز التبعيض، و اخرى يكون بالعمل، و هو متوقّف على إتيان الصلاة مع التبعيض في بعض من الأحيان، و هذا نظير الحضور في جماعاتهم و الصلاة مثل صلاتهم مع ثبوت المندوحة بإتيان الصلاة في محلّ الخلوة، و لعلّه معنى قولهم عليهم السّلام: التقيّة أوسع ممّا بين السماء و الأرض، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام.

ثمّ إنّك قد عرفت الرخصة في صحيحة الحلبي في ترك السورة إذا ما أعجلت به حاجة أو تخوّف شيئا، و عرفت أنّ إطلاق الحاجة يشمل ما ليس بواجب ديني و لا ضروري دنيوي، بل ما كان مسمّى باسم الحاجة و لو كان مثل التعجيل إلى الغذاء لئلّا يبرد، أو للوصول إلى الرفيق مع عدم اضطراره إليه.

و هل يشمل ضيق الوقت عن الإتيان بجميع أجزاء الصلاة أيضا أو لا؟ مجمل الكلام في

ذلك أنّه لا إشكال في عدم انصراف الحاجة إلى الأغراض الأخر الخارجة عن الصلاة، بل يشملها و الصلاة في الوقت، فإنّها أيضا من المهامّ و الأغراض العقلائيّة اللائقة بأن يسمّى حاجة، بل من أهمّ الحوائج الدينيّة، و لا في عدم انصراف الإعجال عن هذا الفرد المتعلّق بالصلاة في الوقت.

لكن مع ذلك قد يستشكل في عموم الحاجة للصلاة في الوقت بأنّ الذي يعجل المكلّف لا محالة امتثال أمر الصلاة في الوقت.

و حينئذ نقول: لا يخلو إمّا أن يكون الأمر متعلّقا بالصلاة مع السورة، و إمّا بها بلا سورة، أمّا الأوّل فغير معقول، لفرض عدم التمكّن منه بواسطة ضيق الوقت عن الإتيان بجميع الأجزاء حتّى السورة، و أمّا الثاني فالمفروض أنّه لا دليل عليه إلّا نفس هذا الخبر الدالّ على الإسقاط في حقّ المستعجل، و دلالة الخبر بالنسبة إلى هذا الفرد غير معقول، إذ لا يمكن تحقّق الموضوع من قبل الحكم.

و الحاصل إن قلت: إنّ الحاجة هي الصلاة مع السورة في الوقت و يكون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 23

الاستعجال من جهتها فيدلّ الخبر على الإسقاط، فهذا لا يعقل.

و إن قلت: إنّ الحاجة هي الصلاة بلا سورة في الوقت، و الاستعجال إنّما هو بملاحظة هذه الحاجة و هي قد أعجلتني فالمفروض أنّك تريد أن تستخرج مشروعيّة الصلاة بلا سورة من نفس هذا الأمر المتوجّه إلى من أعجلت به الحاجة، فكيف يتحقّق بهذا الأمر موضوعه أعني: الحاجة.

و هذا حاصل ما يؤخذ من كلام شيخنا المرتضى قدّس سرّه حيث قال ما هذا لفظه:

و أمّا الوجه المذكور- و مراده ما أشار إليه في كلامه قبل ذلك من التمسّك لسقوط السورة في الضيق بحيث يخرج الوقت بقراءته بأنّ إدراك مجموع

الصلاة في وقتها إن كان إلى الغرض الدنيوي أو الديني المندوب، فهو على فرض تسليمه لا يوجب أزيد من الرخصة، و المقصود العزيمة. و إن كان إلى الغرض الديني الحتمي فهو فرع الأمر بإدراك الصلاة في الوقت، و هو بعد فرض السورة جزء منها ممنوع، ضرورة عدم جواز الأمر بفعل في وقت يقصر عنه، و سقوط السورة حينئذ عين محلّ الكلام، و أهمّية الوقت إنّما هي بالنسبة إلى الشرائط الاختياريّة دون الأجزاء، إلّا أن نتمسّك بفحوى تقديم الوقت على كثير من الشرائط التي علم أنّها أهمّ في نظر الشارع من السورة، انتهى كلامه، رفع في الخلد مقامه.

و حاصله أنّ وجه تعيّن سقوط السورة أحد الأمرين، إمّا التمسّك بحديث سقوطها عن المستعجل، و إمّا ملاحظة التزاحم بينها و بين الوقت و إحراز أهمّية الوقت، و كلّ من هذين محلّ الإشكال، إلّا أن يحرز الأهميّة في الوقت بالوجه الذي أشار إليه، أو يتمسّك بالاتّفاق المدّعى في المعتبر و المنتهى و غيرهما الذي لا مساغ لردّه، أو يقال: إنّ دليل وجوب السورة لا إطلاق له يشمل المقام، كما أشار إليهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 24

أيضا بعد الكلام الذي نقلناه.

قال شيخنا و ملاذنا و ملاذ العرب و العجم الأستاذ الأعظم العلّامة، شيّد اللّٰه في الدين و الدنيا و الآخرة إعلامه: إنّ التمسّك بأخبار المستعجل في بعض أفراد المسألة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه، و هو ما إذا كان الوقت باقيا بمقدار الصلاة التامّة الأجزاء حتّى السورة، لكن لا بحسب ما جرى به عادة الشخص في سائر الأيام، بل أقصر منه، كما لو كانت الصلاة المعتادة له محتاجة إلى خمس عشرة دقيقة، و كان الوقت بمقدار عشر دقائق،

فإنّه حينئذ يحتاج إلى إسقاط المستحبّات و الاقتصار على الواجبات مع سرعة اللسان، كما هو الحال في الشخص المستعجل الذي أعجلت به حاجة دنيويّة حتّى يصلّي صلاته بهذا القسم، فإنّه لا مساغ لإنكار أنّه بعد تحقّق هذا الموضوع يشمله الحكم، أعني: سقوط السورة عن المستعجل على سبيل الرخصة، لا العزيمة.

إنّما الكلام في الفرد الآخر الذي هو محلّ كلام شيخنا الأجلّ المرتضى قدّس سرّه الشريف و هو ما إذا لم يف الوقت بالصلاة مع السورة و لو مع كمال الاستعجال و الاقتصار على أقلّ الواجب.

فنقول: إن أمكن دعوى الأولويّة القطعيّة لإسقاط السورة في حقّه بعد استفادته في حقّ القسم الأوّل من الأدلّة كما ذكرنا، فإنّه مع كون القسم الأوّل مدركا للصلاة مع السورة في الوقت قد أسقط عنه الشارع السورة على ما عرفت، فكيف يرضى بعدم إسقاطها عن هذا القسم الثاني الذي يدور أمره بين الأداء بلا سورة و بين القضاء، فهو المطلوب، و إلّا فقد يقال: إنّه يمكن استفادة الحكم في حقّه أعني:

تعيين الصلاة الأدائيّة في ما بقي من الصلاة غير السورة بواسطة عدم إطلاق في أدلّة جزئيّة السورة بحيث يشمل المقام.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 25

و فيه أنّه و إن كان عدم إطلاق تلك الأدلّة حقّا فإنّه لم يرد دليل كان الغرض الأصلي منه بيان جزئيّة السورة و لو بلسان الأمر بها حتّى نستكشف بإطلاق مادّته الجزئيّة المطلقة لها الشاملة لحالتي القدرة و العجز، و إنّما أدلّتها واردة مورد حكم آخر، مثل أنّ السورة ساقطة عن المريض، أو أنّ المأموم المسبوق لا بدّ أن يقرأ، مع الفراغ عن أصل الجزئيّة، و بالجملة، ليس واحد منها في مقام تحديد الجزئيّة حتّى يؤخذ بإطلاقها.

إلّا أنّ

دليل الحمد و غيره أيضا ليس له إطلاق شامل لهذه الحالة، أعني ضيق الوقت عن الإتيان بالسورة، ألا ترى أنّ قوله عليه السّلام: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب لا يمكن التمسّك به و لو لم يدرك من الصلاة إلّا نفس الفاتحة بلا شي ء آخر دونها؟

فهذا شاهد على عدم الإطلاق له بحسب الهيئة يشمل هذه الحالة.

و أمّا بحسب المادّة فإطلاقه و إن كان مسلّما بمعنى أنّ جزئيّة الحمد للصلاة غير متوقّفة على إدراك السورة و عدمه و القدرة و عدمها، بل ثابتة على كلّ حال، لكن مجرّد ذلك لا يستفاد منه ثبوت التكليف الفعلي بأداء الصلاة الأدائيّة في داخل الوقت بلا سورة.

و بعبارة أخرى: لا يستفاد منه مشروعيّة بدليّة هذا الفرد عن الصلاة التامّة، بل لا بدّ لاستفادة ذلك من إقامة دليل آخر، و مجرّد بقاء جزئيّة الحمد في هذا الحال يلائم مع انتقال التكليف إلى الصلاة الأدائيّة مع السورة و إدراك ركعة منها في الوقت، فإنّه يحتمل بحسب الثبوت جزئيّة السورة، و مقتضاه سقوط التكليف بالأداء و الانتقال إلى إدراك الركعة في الوقت الذي هو وقت اضطراري، و عدمها، و مقتضاه ثبوته، و مجرّد قيام الأدلّة على كون الحمد جزءا مطلقا و كذا الركوع و السجود و غيرهما من سائر الأجزاء غير السورة لا لسان لها بتعيين وظيفة المكلّف

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 26

و جعل الصلاة بلا سورة في حقّه، فكما أنّ ثبوت جزئيّة السورة لا دليل عليه إثباتا و إن كانت محتملة ثبوتا، فكذلك نفي جزئيّتها.

و بالجملة، ففي مقام إثبات مشروعيّة البدل الاضطراري و تعيينه نحتاج إلى دليل خارجي من إجماع لو ثبت، أو عموم: لا تترك الصلاة بحال، لو ثبت كونه

رواية لا قاعدة مجمعا عليها، و إلّا كان راجعا إلى الإجماع.

و الملخّص من جميع ما ذكر أنّ من ضاق عليه الوقت عن إدراك مجموع الصلاة على قسمين:

الأوّل: من لو بادر على خلاف عادته مستعجلا بدرك أقلّ الواجب بل و لو مع بعض المستحبّات لكن مع سرعة يوجب صدق عنوان المستعجل و عدم صدق المتأنّي.

و الثاني: من لا يدرك المجموع، بل لا بدّ من وقوع بعض من صلاته خارج الوقت و لو اقتصر على أقلّ الواجب مع المبادرة في إتيانه بحيث يحتاج في إدراك المجموع من رفع من واحد من الواجبات، إمّا السورة و إمّا الحمد، و إمّا ركعة مثلا.

فالقسم الأوّل لا شكّ في شمول أخبار المستعجل له، لصدق العنوان المذكور عليه، و كذا كونه لحاجة عقلائيّة، و قد فرضنا أنّ الشارع رخّص للمستعجل لأجل حاجة عقلائيّة في ترك السورة تحقيقا، لاستعجاله، و تحصيلا لبعض من التأنّي له، و هذا المعنى موجود في المقام.

و أمّا القسم الثاني فقد استشكلنا في شمول الأخبار المذكورة إيّاه لأجل أنّا لم نعلم أنّ الصلاة الموظّفة في حقّه مع قطع النظر عن خبر المستعجل ما ذا، و إطلاق المادّة في بقيّة الأجزاء و الشرائط غير السورة أيضا لا يجدي، بعد عدم إطلاق الهيئة فيها، فإنّ إطلاق المادّة فقط لا يستفاد منه الدستور و أنّه الصلاة بأربع ركعات في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 27

الوقت بلا سورة، إذ لعلّه الصلاة المدركة ركعة منها فيه مع السورة، فإنّ السورة ليس لدليلها إطلاق، لا مادّة و لا هيئة، لا أنّها بحسب الثبوت أيضا لا يحتمل جزئيّتها.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّا نستكشف بالأولويّة القطعيّة حكم هذا القسم من القسم الأوّل، حيث إنّه مع إدراكه

الصلاة بجميع أجزائها قد رخّصه الشارع لأجل أن يكون في إتيانه الصلاة على تأنّ، فكيف إذا لم يدرك السورة رأسا يغمض عن إدراك البقيّة أيضا و يحكم بالبدل الاضطراري و لا يسقطها حتّى يدرك الوقت الاختياري في جميع الصلاة، هذا.

و يمكن أن يقال بإمكان التشبّث بذيل خبر المستعجل في هذا القسم أيضا، بيانه أنّ المستفاد من الخبر و لو علّق الحكم فيه صورة على عنوان المستعجل كونه معلّقا لبّا على الأعمّ، و هو أنّه كلّما كان وجود السورة مانعا عن الوصول إلى غرض عقلائي إمّا ديني و إمّا دنياوي فقد رفع عنه الوجوب، لا بواسطة المزاحمة حتّى يقال: يحتاج إلى إحراز الأهميّة في ذلك الغرض، بل لأجل ضيق الموضوع في جانب السورة بحسب أصل المصلحة الوجوبيّة، غاية الأمر أنّه إن كان ذاك الغرض الذي صار بقبال وجودها غير واجب شرعا جاز للمكلّف تفويته بقراءة السورة و إن كان واجبا كذلك فهو محكوم عقلا بعدم جواز تفويته الواجب الشرعي على نفسه.

إذا عرفت ذلك فنقول: هنا مجعولات من قبل الشارع لا يمكن المكلّف الجمع بينها، و لا محيص له عن رفع اليد من بعضها، و تلك المجعولات عبارة عن الحمد و الركوع و كذا و كذا، و الوقت، و هذه لم يقيّد عقد موضوع المصلحة الوجوبيّة فيها بعدم الممانعة الوجوديّة عن شي ء، و منها السورة، و هذه قد أخذ في عقد موضوعها أن لا يكون للمكلّف حاجة عقلائيّة كان قراءة السورة مانعة عن الوصول إليها،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 28

فإذا فرضنا أنّ الاشتغال بالسورة مانع عن إدراك تلك المجعولات المطلقة و موجب لفوت واحد منها لا محالة فمقتضى الخبر أنّ الوجوب مرتفع عنها حينئذ، و إذا

صارت مرتفعة الوجوب لزم بحكم العقل اختيار عدمها لئلّا يفوت الواجب المطلق المضيّق وقته.

ثمّ هذا كلّه في صورة معلوميّة الضيق، و لو شكّ في الضيق و السعة فيمكن التمسّك حينئذ أيضا بذيل قوله في بعض تلك الأخبار عطفا على عنوان الإعجال:

«أو تخوّف شيئا» حيث إنّ من المعلوم عدم كون المراد منه الخوف بمعنى التوحّش النفساني، بل المقصود هو الشكّ.

فالمعنى- و اللّٰه العالم- أنّه لا بأس بترك الرجل في الفريضة قراءة السورة في حالين، إحداهما حال الاستعجال لحاجة عقلائيّة، و الأخرى حال كونه شاكّا في إدراك الحاجة العقلائيّة لو قرأ السورة.

لا يقال: إنّ استصحاب بقاء الوقت بمقدار جميع الصلاة يرفع هذا الشكّ.

لأنّا نقول: الاستصحاب إنّما ينفع في مقام كان الأثر لنفس الواقع و كان الشكّ بعنوان الطريقيّة، و أمّا [لو] كان الأثر لنفس صفة الشكّ فالاستصحاب غير نافع لرفع الصفة النفسانيّة.

و الحمد للّٰه أوّلا و آخرا.

1349.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 29

اعتبار الترتيب بين الحمد و السورة

و يجب الترتيب بين الحمد و السورة، و لا إشكال في أصله، و المقصود التكلّم في ما يتفرّع عليه، و هو ما إذا خالف الترتيب و أتى بالسورة مقدّمة على الحمد، فللمسألة صور.

الاولى: أن يفعل ذلك عامدا عالما.

و الثانية: أن يفعله جاهلا بالحكم.

و الثالثة: أنى يفعله ساهيا في الموضوع.

أمّا الصورة الأولى فقد حكموا فيها بالبطلان، معلّلين تارة بأنّه زيادة عمديّة، و اخرى بأنّه كلام محرّم، لكونه قد أتى به على وجه التشريع.

و الحقّ أن يقال: إن قلنا بأنّ الترتيب معتبر في الصلاة في عرض الأفعال فاللازم هو البطلان، لأنّه قد أخلّ بهذا الواجب، و لا يمكن تداركه، لأنّ السورة وقعت جزءا للصلاة، و الترتيب المعتبر هو ما كان بين السورة التي هي جزء للصلاة،

و بين الحمد، فإذا وقعت مقدّمة فلا يمكن حفظ الترتيب، و يكون وجه البطلان على هذا هو النقيصة العمديّة.

لكن لازم هذا المبنى عدم وجوب تدارك السورة بعد قراءة الحمد في حال السهو أيضا، و لا يلتزمون به.

و إن قلنا بأنّه أخذ قيدا في الأفعال بمعنى أنّ السورة الخاصّة مثلا جزء للصلاة و كذلك الركوع الخاصّ و السجود الخاصّ و هكذا، أعني ما كان منها واجدا للترتيب، فاللازم حينئذ بقاء محلّ التدارك للسورة، لأنّ ما أتى به لغو، و ليس

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 30

ممّا اعتبر جزءا للصلاة، لفقدانه الخصوصيّة المعتبرة فيه، و لكن ليست زيادة أيضا، لأنّ صرف الوجود لا يتّصف بالزيادة فإنّ الزيادة وصف لثاني الوجود.

نعم بعد الإتيان بالسورة ثانيا يلحق وصف الزيادة للوجود الأوّل، و أين هذا من إيجاد الزيادة، فلا يمكن الحكم بالبطلان من هذه الجهة، كما لا وجه من جهة النقيصة، لأنّ الفرض حصول التدارك بإتيان السورة ثانيا، و أمّا كون السورة المقدّمة كلاما محرّما بالعنوان الثانوي و هو التشريعيّة فلا وجه لعدّه من المبطلات، و أيّ فرق بينه و بين النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة.

و الحاصل أنّ النهي إذا كان متعلّقا بأمر خارج عن العبادة و أجزائها فلا يوجب الفساد، و ها هنا من هذا القبيل، و قد مرّ نظيره في الإتيان ببعض الأجزاء رياء، ثمّ التدارك بإتيانه بقصد القربة، و بالجملة فعلى هذا المبنى لا نعلم ما وجه الحكم بالبطلان.

فإن قلت: يمكن أن يكون الوجه إضراره بالاستدامة الحكميّة المعتبرة في النيّة، حيث إنّه مشرّع، و المشرّع غير قاصد للامتثال، و العبادة ما كان معتبرا فيه قصد الامتثال ابتداء و استدامة.

قلت: مضافا إلى إمكان عدم منافاته مع

قصد الامتثال بأن كان التشريع في الخصوصيّة بعد حصول أصل التحرّك إلى الطبيعة بدعوة الأمر نقول: هذا إنّما يسلّم إذا كان ذلك من قصده في أوّل الأمر بأن قصد الإتيان بالصلاة المأتيّ بها على خلاف الترتيب المقرّر.

و أمّا لو كان قصده من الأوّل الصلاة الشرعيّة، ثمّ بدا له بعد التكبيرة أن يأتي بالسورة مقدّمة على الحمد فأتى، ثمّ بدا له و قرأ الحمد و تدارك السورة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 31

فلا مانع فيه من حيث الاستدامة الحكميّة أيضا، لأنّه في جميع آنات اشتغاله بأفعال الصلاة متحرّك بالأمر الشرعي، لا التشريعي، و ما صدر منه بالأمر التشريعي خارج عن الأفعال الصلاتيّة، و ليس حاله إلّا كحال من عزم على الخروج من الصلاة حين عدم اشتغاله بفعل من الأفعال ثمّ بدا له و أتى بالبقيّة، فإنّ الأقوى صحّة صلاته.

و يمكن أن يقال في وجه البطلان بناء على المبنى المذكور بأنّه قد أتى بالجزء الصلاتي محرّما بالعنوان الثانوي، و كلّما أتى بجزء من أجزاء الصلاة محرّما بأحد من العناوين الثانوية مثل التشريع و الرياء و غيرهما فالصلاة باطلة.

بيان ذلك أنّ من المسلّم بينهم رضوان اللّٰه عليهم أنّ من المبطلات عنوان الماحي لصورة الصلاة، و لم يرد بذلك نصّ في آية أو رواية، و لا دلّ عليه ظاهر دليل، و لا يكون عنوان المحو في ذاته منافيا مع العباديّة، لأنّا نقطع بعدم إضراره في باب الوضوء و الغسل، مع أنّهما أيضا من العبادة، فلو وثب في أثناء الوضوء مثلا، أو تكلّم مع الغير بحيث انمحى صورة الوضوء عنه عرفا مع بقاء الموالاة المعتبرة كفى في الصحّة قطعا.

و بالجملة فعنوان المحو ما لم يعتبر عدمه في العبادة اعتبارا

شرعيّا ليس وجوده مبطلا لها، و المفروض عدم الإشارة إلى هذا التقييد في الكتاب و السنّة، فينحصر الوجه فيه أنّ أذهان المتشرّعة من حيث هم متشرّعة حاكمة باعتبار قيد الاتّصال بين أجزاء الصلاة، بحيث يخلّ به تخلّل مثل الوثبة و السكوت الطويل في أثنائها، و ليس أمر هذا الاتّصال المعتبر بحسب ارتكازهم تحت ضابط معلوم، فإنّ البكاء لأمر دنياوي مضرّ، و عين ذلك البكاء إذا كان لأمر الآخرة غير مضرّ، و المعيار لزوم الاتّصال بين الأجزاء الصلاتيّة و عدم قطع اللاحق من السابق

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 32

بحسب وجدان المتشرّعة.

إذا عرفت ذلك فنقول: لا يبعد دعوى أنّ من موارد الحكم بعدم الاتّصال المذكور ما إذا تخلّل بين الأجزاء الصلاتيّة وجود سنخ الأجزاء المذكورة بعنوان الجزئيّة، لكن على وجه العصيان و التمرّد و الطغيان على اللّٰه تعالى شأنه، و الفرق بينه و بين ما إذا حصل التمرّد بفعل خارجي غير مرتبط بالصلاة، فإذا أتى بالسورة رياء بعنوان القرآنيّة لا يضرّ، و إذا أتى بها كذلك بعنوان الصلاتيّة كان مضرّا، و الحكم الرجوع إلى وجدان المتشرّعة، هذا تمام الكلام في صورة العمد.

و أمّا صورة الجهل بالحكم التي هي الصورة الثانية فإن قلنا باعتبار الترتيب في الصلاة في عرض أفعالها فاللازم البطلان بواسطة النقص و عدم العفو عنه مع الجهل بالحكم، فإنّ عموم لا تعاد غير شامل إلّا للجهل و السهو في الموضوع كما حقّق في محلّه و أشير إليه في أوّل هذا المبحث.

و إن قلنا باعتباره قيدا في الأفعال فاللازم الحكم بالصحّة، فإنّ الوجه الأخير الذي أشرنا إليه في الصورة السابقة غير جار هنا، لعدم طروّ عنوان التشريع مع فرض الجهل بالحكم و زعم كونه

مشروعا.

بقيت الصورة الثالثة و هي ما إذا خالف الترتيب ساهيا، و لا إشكال في أصل الصحّة و عدم الفساد، و هل يجب عليه تدارك السورة بعد إتمام الحمد أو يكفي السورة السابقة وجهان مبنيّان على القول بكون الترتيب معتبرا في الصلاة أو في إعمالها، فعلى الأوّل يتعيّن الثاني، لفقد محلّ تدارك المنسيّ، أعني الترتيب، لأنّ محلّه صرف الوجود للسورة، و قد أتى بخلاف الترتيب، و لا يمكن تكراره، فيكون معفوّا بعموم لا تعاد، و على الثاني يتعيّن الأوّل، لبقاء محلّ التدارك.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 33

و أمّا رواية قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام «قال: سألته عن رجل افتتح الصلاة فقرأ سورة قبل فاتحة الكتاب، ثمّ ذكر بعد ما فرغ من السورة، قال عليه السّلام: يمضي في صلاته و يقرأ فاتحة الكتاب في ما يستقبل» «1» فيحتمل أن يكون المراد أنّه لا يقرأ الفاتحة في هذه الركعة، بل في الركعة المستقبلة.

و يحتمل أن يكون المراد قراءة الفاتحة وحدها بلا سورة في هذه الركعة.

و يحتمل أن يكون من باب العطف التفسيري لقوله عليه السّلام: يمضي في صلاته، فالمعنى أنّ كيفيّة مضيّه شروعه في قراءة فاتحة الكتاب و جعل ما تقدّم لغوا، و لازمة قراءة السورة بعد الفاتحة، فإن لم نقل بظهورها في الأخير فلا أقلّ من الإجمال و عدم الدلالة، و حينئذ فإذا لم يكن على أحد الطرفين دليل فالمرجع هو الأصل العملي و هو استصحاب التكليف بالسورة بعد قراءة الحمد الثابت قبل الشروع في السورة المقدّمة.

قراءة السورة الطويلة المفوّتة للوقت

و لا يجوز قراءة السورة الطويلة المفوّتة لوقت الفريضة على المشهور، بل عن بعض نسبته إلى الأصحاب، و كذلك بطلان الصلاة،

و مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين قصد الجزئيّة بها و عدمه، و العمدة النظر في مقتضى القواعد، ثمّ في ما يستفاد من النصّ الوارد في المقام.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 28 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 34

فنقول: أمّا الأوّل، فاعلم أنّ المسألة من صغريات مبحث الضدّ، فإنّ السورة منافية للوقت الذي هو واجب.

فإن قلنا: إنّ الأمر بأحد الضدّين يستلزم النهي عن ضدّه الخاصّ فاللازم هنا تعلّق النهي بالسورة الطويلة، و أمّا بطلان الصلاة فإن قصد بها الجزئيّة من أوّل الأمر على وجه يرجع إلى عدم قصد الامتثال، فلا إشكال في البطلان و إن قصد الجزئيّة، لكن حين الشروع في السورة أو من الابتداء، لكن على وجه تعدّد المطلوب، كما تقدّم نظيره في المسألة السابقة، فالحكم بالبطلان مبنيّ على الكلام في المسألة السابقة، فإنّ تمام ما قلناه هناك جار ها هنا حرفا بحرف، فراجع، بل هذه من صغرياتها، لأنّه مشرّع في إتيان السورة كما كان كذلك هناك بواسطة مخالفة الترتيب.

و إن قلنا بأنّ الأمر بأحد الضدّين لا يستلزم النهي عن ضدّه الخاصّ لإنكار المقدّميّة بين وجود أحد الضدّين و عدم الآخر كالعكس، و لكن يستلزم عدم الأمر بالضدّ الآخر، فاللازم عدم تعلّق النهي بالسورة المذكورة، و لكنّ الصلاة المشتملة عليها أيضا ليست بمأمور بها، فيتحقّق التشريع أيضا لو قصد الإتيان بها بعنوان الجزئيّة و المأمور بهيّة، فيجري فيه أيضا الكلام المتقدّم حرفا بحرف.

كما أنّه لو أتى بها لا بقصد الجزئيّة فلا وجه للبطلان مطلقا، و كذلك لو قصد الجزئيّة لكن بداعي الرجحان الذاتي و قلنا بكفاية مثله في العباديّة و عدم الحاجة إلى قصد الأمر، بل و كذلك لو

قصد الأمر الشرعي الموجود بحسب أصل التشريع.

و حينئذ فإن ضاق الوقت عن مجموع الصلاة و لكن وسع بمقدار ركعة دخل في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 35

مصاديق من أدرك و يحكم بصحّة صلاته من هذه الجهة و إن كان قد عصى بواسطة تحصيل عنوان الاضطرار لنفسه، و إن ضاق و لم يسع الركعة أيضا كانت الصلاة صحيحة ملفّقة من الأداء و القضاء مستفادة صحّتها من جمع دليلي الأداء و القضاء، و قد تقدّم شرح ذلك في بعض الأبحاث السابقة، هذا هو الكلام حسب مقتضى القاعدة.

و أمّا النصّ الوارد في المقام فروايتان:

إحداهما: ما رواه الشيخ قدّس سرّه بإسناده عن سيف بن عميرة عن عامر بن عبد اللّٰه «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: من قرأ شيئا من الحم في صلاة الفجر فاته الوقت» «1».

و الثانية: ما رواه أيضا بذلك السند عن سيف المذكور عن أبي بكر الحضرمي «قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث: لا تقرأ في الفجر شيئا من الحم» «2».

و إطلاق هذا الأخير منزّل على صورة تفويت الوقت بقرينة الخبر الأوّل، و السند مجبور بالاشتهار و الاتّفاق المحكيّ.

و أمّا الدلالة فقد نوقش فيها بأنّ الظاهر من الوقت وقت الفضيلة، لأنّهم كانوا مواظبين على إتيان الصلوات في أوائل الأوقات، فلا بدّ من حمل هذا النهي على التنزيه و الكراهة.

و فيه أنّ ذلك لا يمنع من حمل النهي على المعنى الجامع الذي ينطبق في مورد تفويت وقت الفضيلة على الكراهة و في مورد تفويت وقت الإجزاء على التحريم،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 44 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 44 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث

2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 36

فإنّه يعلم منه أنّ الشارع لا يرضى بفعل السورة الموجب لفوات الوقت، و لا محالة يتفاوت مرتبة عدم رضائه باختلاف مطلوبيّة الوقت، فإن كانت بدرجة الاستحباب كان عدم رضائه كراهة، و إن كانت بدرجة الوجوب كان عدم رضائه تحريما.

و بالجملة، فالخدشة المذكورة غير واردة.

نعم يمكن أن يخدش في ظهور هذا النهي في المولويّة، بيان ذلك أنّه إذا تعلّق أمر مولوي بعنوان من العناوين فهذا الفعل بالعناوين الثانويّة مثل إطاعة الأمر و نحو ذلك يتحقّق فيه الداعي العقلي، و لا يحتاج إلى إيجاد أمر مولوي، فأوامر الإطاعة لو فرض إمكان مولويّتها و سلامتها عن محذور التسلسل اللازم على تقدير كونها مولويّة على ما بيّن في محلّه لا يحمل مع ذلك على المولويّة و إرادة الجامع بين الاستحباب و الوجوب حسب اختلاف المقامات بواسطة عدم ظهورها في هذا المقام في المولويّة.

و كذلك الأوامر الواردة بعنوان الاحتياط بالنسبة إلى موارد العلم الإجمالي لا يحمل على المولويّة مع قبول المحلّ لذلك حتّى يكون المرتكب في الشبهة التحريميّة و التارك في الوجوبيّة عاصيا لثلاثة نواهي أو أوامر.

و كذلك الأوامر في أخبار من بلغ لا يحمل على المولويّة حتّى يستفاد منها الاستحباب الشرعي مع قبول المحلّ لذلك، و لذلك قال به بعض، و ليس ذلك إلّا لأنّ نفس الأمر الواقعي في أطراف العلم كاف للبعث عند العقل، فلا يحتاج إلى إيجاد الأمر المولوي متعلّقا بعنوان المحتمل، و كذلك نفس رجاء الأمر الواقعي كاف للانبعاث نحو الإتيان بدون حاجة إلى جعل استحباب شرعي متعلّق بعنوان من بلغ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 37

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الأمر بأحد الضدّين كما أنّه كاف للباعثيّة العقليّة نحو

فعل ذلك الضدّ، كذلك كاف للزاجريّة كذلك عن الضدّ الآخر، فإذا ورد في لسان الشرع نهي عن الضدّ الآخر فحال هذا النهي حال أوامر الاحتياط و أوامر من بلغ في كونه محمولا على الإرشاد دون المولويّة.

و ممّا ذكرنا يظهر عدم جواز حمل النهي الموجود في المقام على الوضع و إفادة المانعيّة أيضا، فإنّ الظاهر كونه لمحض الإرشاد إلى الضدّ الأهمّ من دون إعمال تعبّد في هذا الضدّ الآخر لا بوجه التكليف و لا الوضع، و المقصود التنبيه على أنّ وقت فضيلة الفجر ضيّق لا يسع مقدار قراءة الحم، فنهى عن القراءة للإرشاد إلى إدراك فضيلة الوقت كما هو المرسوم عند أهل العرف، حيث إنّهم إذا رأوا شخصا موظّفا بشغل مشغولا بضدّه الذي لا يمكن معه الإتيان بشغله يقولون له: مالك و هذا الاشتغال بعنوان أنّ عليك الإقبال على شغلك و ليس لك مجال حتّى تصرف الوقت في أضداده و منافياته.

عدم جواز قراءة العزيمة في الفريضة

و لا يجوز قراءة إحدى سور العزائم في الفريضة، دون النافلة على المشهور، بل استفاض عليه نقل الإجماع، و الأصل فيه الأخبار.

منها: خبر زرارة عن أحدهما عليهما السّلام «قال عليه السّلام: لا تقرأ في المكتوبة بشي ء من العزائم، فإنّ السجود زيادة في المكتوبة» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب لقراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 38

و منها: موثّق سماعة «قال: من قرأ: اقرأ باسم ربّك فإذا ختمها فليسجد، إلى أن قال عليه السّلام: و لا تقرأ في الفريضة و اقرأ في التطوّع» «1».

و منها: موثّق عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يقرأ في المكتوبة سورة فيها سجدة من العزائم «فقال عليه السّلام: إذا بلغ موضع السجدة

فلا يقرؤها، و إن أحبّ أن يرجع فيقرأ سورة غيرها و يدع التي فيها السجدة، فيرجع إلى غيره» «2» الحديث.

و منها: رواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة النجم، أ يركع بها أو يسجد، ثمّ يقوم فيقرأ غيرها؟ قال عليه السّلام:

يسجد، ثمّ يقوم فيقرأ بفاتحة الكتاب و يركع، و ذلك زيادة في الفريضة، و لا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة» «3».

و الكلام تارة في سند هذه الأخبار، و اخرى في دلالتها، و ثالثة في معارضاتها.

أمّا الأوّل فالظاهر أنّها من قسم الموثّق، لورود التمسّك بها في كلام الأصحاب، و ذلك ممّا يجبر ضعفها لو كان، و عدم اعتناء صاحب المدارك قدّس سرّه بها مبنيّ على أصله المحجوج من عدم العمل في الأخبار الآحاد إلّا بالصحيح الأعلائي، و أمّا على ما هو المختار من تعميم الحجّية بالنسبة إلى مطلق الموثوق بالصدور كما حقّق في الأصول فلا وجه للخدشة فيها من حيث السند.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 39

و أمّا الثاني فاعلم أنّ الاحتمالات في هذه النواهي أيضا كالنهي الموجود في المسألة السابقة ثلاثة:

الأوّل: أن تكون مولويّة مفيدة للتحريم الاستقلالي النفسي.

و الثاني: أن تكون مولويّة مفيدة للتحريم الوضعي، أعني: المانعيّة.

و الثالث: أن تكون إرشاديّة، و الظاهر منها هو الأخير، لنظير ما تقدّم في المسألة السابقة.

بيانه أنّه لا إشكال في أنّ الزيادة العمديّة في الفريضة محرّمة بحسب الجعل الأوّلي، و التسبيب إلى المحرّم الذاتي

بما يكون علّة للوقوع فيه من دون بقاء اختيار للمكلّف حرام عقلا، لما قرّر في مبحث مقدّمة الحرام، حتّى لو فرض تبدّل عنوان التحريم إلى الوجوب لعارض بعد إيجاد سبب وقوعه.

مثلا شرب الخمر محرّم ذاتي لم يقيّد في حرمته الذاتيّة عدم الاضطرار، غاية الأمر أنّه لو حصل الاضطرار من غير ناحية التكليف فهو معذور، و أمّا لو أوجد هو باختياره أسباب الاضطرار إلى الشرب كما لو مشى إلى مكان ينجرّ أمره إلى الإلجاء إلى الشرب، و أنّه لو لم يشربه لهلك نفسه لتوعيد ظالم مثلا إيّاه بالقتل لو لم يشرب و كان عالما بذلك، فهو و إن كان بعد المشي إلى ذلك المكان مكلّفا بالشرب حفظا لنفسه، و لكنّه معاقب أيضا بسوء اختياره الذي أعمله في المقدّمات.

و هكذا الكلام في من توسّط أرضا مغصوبة لو قلنا بمقدّميّة الخروج للتخلّص عن الغصب الزائد، فإنّه منهيّ أوّلا عن جميع أنحاء الغصب دخولا و خروجا، و بعد العصيان و الدخول يجب عليه الخروج، للمقدّميّة حسب الفرض، و لكنّه معاقب عليه أيضا، لأنّه مختار في إيجاد مقدّمته.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 40

و على هذا فنقول: إنّ قراءة سورة العزيمة في المكتوبة تسبيب إلى أحد الأمرين، بحيث لا ينفكّ المكلّف عقيب الفراغ منها عن أحدهما، و لا يبقى له الاختيار في الاجتناب عنهما، لأنّه إمّا أن يؤخّر السجدة إلى ما بعد الصلاة، و هذا تأخير للواجب الفوري، و إمّا يأتي بها في أثناء الصلاة، و هذا إتيان للحرام الذاتي أعني: الزيادة العمديّة الموجبة لبطلان الصلاة، و لا ينافي محرّميّته الذاتيّة اتّصافه بالوجوب العرضي، كما مثّلنا به في المثالين، فيكون قراءة السورة محرّمة، لكونها علّة مستلزمة للحرام.

إذا عرفت ذلك فنقول:

إذا ورد على لسان الشارع النهي عن قراءة العزيمة معلّلا بأنّه موجب لوقوع السجود الذي هو زيادة في المكتوبة، فهذا النهي ظاهر في عدم كونه مسوقا للمنع الوضعي في نفس القراءة، بل يمكن ادّعاء صراحته بالنسبة إلى ذلك، و أنّه إنّما هو لأجل المنع الوضعي في السجود المترتّب عليه.

و أمّا احتمال كونه للتحريم النفسي فهو أيضا خلاف الظاهر بالبيان الذي تقدّم نظيره في السابق من أنّه إذا كان النهي واردا في مقام يكون الزاجر في نفس العبد موجودا من قبل عقله كما بيّنّا وجوده في المقام فهذا النهي ظاهر في الإرشاد، و لا ظهور له في المولويّة.

نعم فرق بين ما نحن فيه و المسألة السابقة من حيث إنّ النهي هناك كان للإرشاد الصرف إلى الضدّ الآخر من دون كراهة بالنسبة إلى الضدّ المتعلّق للنهي في نفس المولى أصلا، لعدم المقدّميّة بين الضدّين، و أمّا هنا فبابه باب المقدّمة و في نفس المولى الكراهة المقدّميّة موجودة قهرا.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ هنا مانعين للصلاة، أحدهما بالعنوان الأوّلي، و هو منحصر في السجود للتلاوة، و الثاني بالعنوان الثانوي، و هو قراءة السورة بناء على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 41

ما أسلفناه من مانعيّة كلّ محرّم أتى به بعنوان الصلاة، و قد سبق كون القراءة محرّمة من باب العلّيّة و الاستلزام للوقوع في أحد المحرّمين، فالإتيان بها بعنوان الصلاة محرّم لذلك و للتشريع.

و على هذا فإن كان عالما بإيجاب السورة للسجدة و فوريّتها، كان هذا النهي فعليّا في حقّه، و يوجب البطلان و لو لم يأت بالسجدة.

و أمّا إذا كان جاهلا إمّا في إيجابها السجدة، و إمّا لفوريّتها بجهل قصوري فلا يكون النهي فعليّا، فلا بطلان.

نعم لو التفت

بعد الفراغ من السورة إلى وجوب السجدة فورا فإن أتى بها أبطلت صلاته، و إن عصى و لم يأت فلا بطلان أيضا، لأنّ المبطل وجود السجدة، لا وجوبها، و المفروض عدم وجودها.

بيان ذلك أنّ مدلول الرواية النهي عن قراءة السورة معلّلا بكون السجدة زيادة، و حاصله بناء على ما تقدّم أنّ القراءة موجبة للوقوع بين المحذورين الذاتيّين، و الفعل الذي هذا شأنه لا بدّ أن لا يرتكبه الإنسان، فالمقصود بالإفادة بيان هذا المعنى، و التنبيه على كون السجود زيادة يكون توطئة لذلك بعد ارتكازيّة فوريّة وجوب السجدة و حرمة تأخيرها.

و على هذا فلا يستفاد من الرواية أنّ الحكم عند الدوران بين هذين المحذورين تقديم أيّهما، كما في ما فرضناه من المثال أعني: صورة عدم تحقّق التشريع بإتيان القراءة و عدم طروّ البطلان على الصلاة من ناحية قراءتها، فإنّ الأمر حينئذ يدور بين أن يسجد فيبطل الصلاة مع كون قطعها محرّما بحسب أصل التشريع، و أن يؤخّرها مع كونه أيضا كذلك.

و إذا لم نفهم من الرواية حكم تقديم السجود و إيجابه، فلا بدّ من الرجوع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 42

إلى ما يقتضي القواعد، و المقام من قبيل الدوران بين المطلوبين النفسيّين، و حكمه التخيير مع عدم إحراز الأهميّة و تقديم الأهمّ مع إحرازه، و لو فرض إحراز أهميّة السجود من الخارج و عصى و أتى بالصلاة و أخّر السجود فهو مبنيّ على مسألة الضدّ، و قد حقّق فيها الحكم بالصحّة إذا أتى بالعبادة بداعي الرجحان الذاتي.

و ليس المقام من قبيل الدوران بين أجزاء المركّب المأمور به و عدم إمكان الجمع بينها، حيث قلنا في بعض المباحث السابقة: إنّ مقتضى القاعدة العقليّة سقوط المركّب رأسا،

فإن علم من الخارج عدم سقوطه فالمقام من دوران الأمر عند احتمال الأهميّة و عدم قطع المساواة بين التعيين و التخيير الشرعيّين، و المرجع فيه الاحتياط.

و الحاصل: تارة يقال: مدلول الرواية أنّه: لا تقرأ العزيمة في المكتوبة، لأنّه لو قرأتها يجب عليك أن تأتي بالسجود، و إذا أتيت به يوجب بطلان صلاتك، لكونه زيادة عمديّة.

و اخرى يقال: مدلولها: لا تقرأ المكتوبة، لأنّ السجود لو أتيت به يكون زيادة عمديّة، و حيث إنّ محذوريّة عدم إتيانه إلى ما بعد الصلاة كان ارتكازيّا فالمعنى أنّه يوجب الوقوع في أحد المحذورين.

فالمدّعى أنّ الرواية أوّلا ليست بظاهره في المعنى الأوّل، بل مردّد بينهما، و ليس في المعنى الثاني مخالفة لظاهرها، و ثانيا لو سلّمنا الظهور في المعنى الأوّل فغايته الحكم بأهمّية السجود بالنسبة إلى إتمام الصلاة و عدم قطعها، و على كلّ تقدير لا يلزم بطلان صلاة من قرأ العزيمة على غير وجه التشريع و أتمّ صلاته بدون سجود التلاوة في الأثناء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 43

فتحقّق أنّ إتيان العزيمة في الفريضة يكون على وجهين.

الأوّل: على وجه التشريع، و هو لا يتحقّق إلّا بالنسبة إلى من علم بأنّها محرّمة، لاستلزامها للوقوع في أحد المحذورين.

و الثاني: على غير وجه التشريع، و هو يتحقّق بالنسبة إلى الناسي أو العالم بعدم وجوب السجدة أو وجوبها، لا على وجه الفوريّة.

ففي القسم الأوّل يتحقّق البطلان بنفس قراءة العزيمة حسب ما أسلفنا، و في الثاني يتحقّق البطلان لو أتى بالسجدة، و أمّا لو لم يأت و أتمّ الصلاة فمقتضى القاعدة هو الصحّة، هذا كلّه بالنسبة إلى من قرأ العزيمة بتمامها أو إلى ما بعد آية السجدة.

و أمّا لو قرأها إلى ما قبل الآية المذكورة

و قد كان عازما من الأوّل على الإتمام، و الحاصل أنّه كان متجرّيا بالإقدام على الفعل المحرّم، و لكن قبل الوصول إلى الآية ندم و أمسك عن القراءة ففي صحّة صلاته و بطلانها وجهان إذا لم يكن هذا من قصده من حين الشروع في الصلاة على وجه يرجع إلى عدم قصد الامتثال، و إلّا فالمتعيّن البطلان.

وجه البطلان في الصورة المزبورة دعوى إلحاق التجرّي بالمعصية الحقيقيّة في الاندراج تحت عنوان الماحي، وجه العدم عدم ثبوت ذلك، و حينئذ فلا إشكال في الصحّة لو لم يتجاوز النصف، لأنّه يعدل حينئذ إلى سورة أخرى غير العزيمة، و شبهة حرمة القران بين السورتين و خصوصا تعميمه للجمع بين سورة و بعض اخرى و إن كان يشهد له قوله في بعض الروايات: لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة و لا بأكثر، ضعيفة، لأنّ الحقّ كراهته كما يأتي في محلّه إن شاء اللّٰه تعالى، و لو تجاوز النصف فكذلك يقوي الصحّة، لأنّ النهي عن العدول يمكن دعوى انصرافه إلى ما إذا أمكن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 44

إتمام السورة المعدول عنها، فلا يشمل المقام.

بقي الكلام في الأخبار المعارضة.

فمنها: حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يقرأ بالسجدة في آخر السورة؟ «قال عليه السّلام: يسجد، ثمّ يقوم فيقرأ فاتحة الكتاب، ثمّ يركع و يسجد» «1».

و منها: موثّق سماعة «قال عليه السّلام: من قرأ اقرأ باسم ربّك فإذا ختمها فليسجد، فإذا قام فليقرأ فاتحة الكتاب و ليركع، قال عليه السّلام: و إذا ابتليت بها مع إمام لا يسجد فيجزئك الإيماء و الركوع» الحديث «2».

و منها: رواية وهب بن وهب عن أبي عبد اللّٰه عن أبيه عليهما

السّلام أنّه «قال عليه السّلام:

إذا كان آخر السورة السجدة أجزأك أن تركع بها» «3».

و منها: رواية محمّد عن أحدهما عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يقرأ السجدة فينساها حتّى يركع و يسجد «قال عليه السّلام: يسجد إذا ذكر إذا كانت من العزائم» «4».

و منها: رواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة النجم، أ يركع بها أو يسجد ثمّ يقوم فيقرأ بغيرها؟ قال عليه السّلام:

يسجد ثمّ يقوم فيقرأ بفاتحة الكتاب و يركع، و ذلك زيادة في الفريضة، و لا يعود يقرأ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 37 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 37 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 37 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 39 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 45

في الفريضة بسجدة» «1».

و بالإسناد «قال: و سألته عن إمام يقرأ السجدة فأحدث قبل أن يسجد كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: يقدّم غيره فليسجد و يسجدون و ينصرف و قد تمّت صلاتهم» «2».

و نقل في الجواهر متنها هكذا: عن إمام قرأ السجدة فأحدث قبل أن يسجد، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: يقدّم غيره فيتشهّد و يسجد و ينصرف هو و قد تمّت صلاتهم.

و هذه الأخبار و إن كان لا صراحة بل و لا ظهور في واحد منها في حكم أصل القراءة و أنّه الرخصة أو المنع، لإمكان حملها على صورة وقوع ذلك لبعض العوارض كالتقيّة أو النسيان، فلا معارضة فيها مع ما تقدّم من حيث هذه الجهة، و لكن لا يخفى ظهورها،

بل صراحة بعضها في أنّه يجب فعل السجدة في أثناء الصلاة، و لا يبطل الصلاة بسبب ذلك، غاية الأمر في بعضها الحكم بقراءة فاتحة الكتاب بعد القيام من السجود ليتحقّق الركوع عن قراءة، و في بعضها جواز الركوع بنفس تلك السورة و عدم الاحتياج إلى القراءة الأخرى حتّى يكون الركوع بالقراءة الأخرى، فيحمل لأجله الطائفة الأولى على استحباب القراءة الجديدة.

و على كلّ حال فهي متّفقة في الحكم بأصل صحّة الصلاة و عدم إيراث سجدة التلاوة في أثنائها خللا فيها.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 46

و بعضها و إن كان بحسب الصورة مطلقا غير مصرّح بالفريضة، و لكن بعضها كروايات عليّ بن جعفر مصرّح بذلك، بل و مع ذلك حكم في الرواية الاولى من رواياته بكون السجدة زيادة في المكتوبة، فقد جمع فيها بين الحكم بصحّة الصلاة و بين الحكم بكونها زيادة في المكتوبة.

و القول بأنّه لعلّ ذلك لاغتفار الإعادة بسبب الجهل بالحكم، مدفوع بأنّ الجهل يوجب اغتفار القراءة، و أمّا السجدة فالمفروض بحسب تعيين الإمام عليه السّلام تكليفه وقوعها في حال العمد و العلم، فلا وجه لاغتفار مبطليّتها بمجرّد وقوع سبب وجوبها عن سهو أو عن جهل.

فإن قلت: نعم لا يؤثّر ذلك في خروج السجدة عن الاتّصاف بالعمديّة، و لكن حيث إنّ وصف زيادتها ليس على وجه الحقيقة، لأنّ الزيادة الحقيقيّة ما كان من سنخ الأجزاء الصلاتيّة قد أتى به بعنوان الجزئيّة و كونه من الصلاة، فلا يشمل مثل السجدة التي يكون المقصود بها السجدة للتلاوة، لا السجدة الصلاتيّة، فيكون التعبّد

بالزيادة من باب التنزيل، فيمكن الاقتصار في هذا التنزيل على مورد وقوع سببها بغير وجه السهو، نعم لا يمكن التقييد بالعلم بالحكم، لأنّه مستلزم للدور أو التصويب.

قلت: أوّلا: إنّ الإمام عليه السّلام حكم بكون هذا الذي يأتي به في مفروض السؤال زيادة في المكتوبة.

و ثانيا: بناء على حمل مفروض السؤال على السهو و الغفلة و النسيان لا يبقى معنى لقوله عليه السّلام: لا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة، إذ المعنى على هذا التقدير المنع عن العود إلى السهو و أمثاله، و هو كما ترى، فهذا شاهد على أنّ المفروض في السؤال وقوع ذلك على وجه التعمّد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 47

و منه يظهر أنّه لا يمكن حمله على وجه التقيّة، إذ لا يصحّ قوله عليه السّلام: لا يعود، بناء عليه أيضا كما هو واضح، بل يتعيّن كونه عمدا بلا تقيّة، غاية الأمر للجهل الحكمي، و قد اعترفت بأنّه لا يمكن أن يكون غاية للتنزيل.

فصار الحاصل أنّه عليه السّلام جمع بين وقوع السجدة في الفريضة بلا حدوث خلل من ناحيتها في الفريضة، و بين التنزيل منزلة الزيادة العمديّة، فهذا يكون شاهدا على عدم إرادة البطلان من التعليل المتقدّم في بعض أخبار النهي على ما تقدّم هنا من استفادة ذلك منه.

و حينئذ فإمّا يقال في مقام الجمع بأنّ الإمام عليه السّلام أعرض أوّلا عن مورد السؤال و بيّن حكم مورد يكون القراءة فيه مجوّزة، و هو النافلة، فحكم فيه بالسجدة، ثمّ القيام و القراءة بالفاتحة، ثمّ الركوع، ثمّ شرع في حكم الفريضة، فكأنّه قال: لكن هذا الذي ذكرته لك غير جار في الفريضة، لأنّه زيادة عمديّة مبطلة، و لا يعود إلى قراءة السجدة في العزيمة، يعني

أنّ ما فعله باطل و لا يعود في المستقبل أيضا إلى مثله.

أو يقال بحمل الكلام على بيان مورد السؤال و حمل النهي في قوله:

«لا يعود» على الكراهة، و حمل قوله عليه السّلام «و ذلك زيادة إلخ» على أنّه شبه الزيادة، لا على التنزيل حتّى يكون مفاده ترتيب أثر الزيادة الحقيقيّة.

فإن قلت: فلم لا تقول بحرمة السجدة نفسا لا وضعا، أمّا الأوّل فللأخذ بظاهر الصيغة بدون ما يصرف عنه، و أمّا الثاني فللرواية المتقدّمة عن عليّ بن جعفر الظاهرة كمال الظهور في أنّ الصلاة المفروضة في السؤال صحيحة و لو بعد إتيان السجدة.

قلت: التعليل بأنّها شبه زيادة في الصلاة يناسب كونها مبطلة لها، فإذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 48

لم يمكن حفظ هذا الظهور بواسطة القرينة المتقدّمة فالأقرب إليه هو الحمل على الكراهة، لأجل كونها توجب الحزازة في الصلاة، لا الحرمة النفسيّة، هذا، و لكن القول بالكراهة متروك بين الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم.

هل يجب تعيين السورة عند البسملة

و هل يجب تعيين السورة عند البسملة حتّى لو عيّن سورة ثمّ عدل عنها بعد البسملة يجب إعادة البسملة، و كذا لو بسمل بلا قصد سورة معيّنة، بل بقصد مطلق القرآنيّة لا يجب فيكتفى في كلا المثالين؟

توضيح المقام يحتاج إلى تقديم مقدّمة و هي أنّ الأجزاء المشتركة للمركّبات يكون على أنحاء.

الأوّل: أن لا يكون للقصد في جزئيّتها للمركّب مدخل أصلا، حتّى لو أتى بها بقصد مركّب ثمّ بدا له و جعلها جزءا لمركّب آخر صار كذلك، كما في الخلّ بالنسبة إلى السكنجبين و المركّب الآخر الملتئم من الخلّ و الدبس، فلو وضع الخلّ في الإناء بقصد السكنجبين ثمّ بدا له و وضع عليه الدبس صار ذلك الآخر، و هذا واضح، و هكذا

الحال في قائمة الباب و السرير و نحو ذلك من أجزاء المركّبات الخارجيّة العينيّة.

الثاني: أن يكون للقصد مدخل في جزئيّته، و لكن لا مدخليّة لقصد حكاية ألفاظ الغير، و هذا كما في الأذكار الصلاتيّة غير القراءة، فإنّ قول: «سبحان» الذي هو الجزء المشترك بين الذكر الصغير و الكبير لو أتى به بقصد أحدهما جاز له احتسابه من الآخر بأن يضمّ إليه بقيّة أجزاء الآخر، و هذا أيضا واضح، و القصد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 49

الذي يكون دخيلا في هذا القسم هو قصد الذكر الصلاتي.

الثالث: أن يكون للقصد مدخل مع لزوم كونه قصد حكاية ألفاظ الغير، و هذا كما في القراءة الصلاتيّة، فإنّها لا بدّ أن تقع بعنوان الحكاية عن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين صلّى اللّٰه عليه و آله بلسان عربيّ مبين.

بيان حقيقة القراءة

و لا بدّ هنا من شرح حقيقة هذه الحكاية:

فنقول: إنّ الحكاية لألفاظ الغير تارة يكون تصديقيّة فيتّصف بالصدق تارة و بالكذب اخرى، و هو كما في قولك: قال زيد كذا، و اخرى يكون تصوّرية و لا يتّصف حينئذ بهما، و هي في هذه الجهة مثل النسبة الخبريّة، فإنّها أيضا ذات قسمين، فيكون تصديقيّة تارة، و هي التي تشتمل عليه كلّ قضيّة، و لا يكون في كلّ قضيّة إلّا واحدة و تصوّرية اخرى، و هي التي ينحلّ إليها النسبة التصديقيّة بملاحظة التقييدات في جانب الموضوع أو المحمول، و معيار الصدق و الكذب هو النسبة الاولى الأصاليّة دون الأخيرة الانحلاليّة.

مثلا قولك: زيد العالم جاءني و إن دلّ على قضايا خبريّة انحلالا، إحداها أنّ زيد موجود في الدنيا، و الأخرى أنّه عالم، و الثالثة و هي القضيّة المقصودة بالأصالة

إنّه جاءني، و لهذا قيل: إنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار، إلّا أنّ الصدق و الكذب لا يتعدّد بواسطة هذه النسب، فلو لم يكن الزيد موجودا لا يلزم أن يكون قد كذب ثلاثا، و وجهه ما ذكرنا من أنّ هذه النسب نسب تصوّريّة لا تصديقيّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 50

و حينئذ فنقول: هكذا الحال في جانب حكاية اللفظ عن اللفظ، فتارة يكون تصديقيّة، و اخرى تصوّريّة، و الاولى قد عرفت مثالها، و الثانية كما لو تكلّمت بكلام بعنوان حكايتك عن الكلام الصادر عن الغير، فيكون سمت الألفاظ الصادرة منك سمت النقوش في الكتابة في أنّها تحكي عن الألفاظ، و الألفاظ المحكيّة تحكي عن المعاني، فالكاتب يقصد المعاني بواسطتين، كذلك هذا المتكلّم أيضا يقصد بألفاظ نفسه حكاية ألفاظ غيره و يقصد المعاني بتلك الألفاظ المحكيّة، فحال هذه الحكاية حال حكاية الألفاظ عن معانيها و النقوش الكتبيّة عن ألفاظها.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا أمر الشارع بقراءة إحدى السور القرآنيّة فاختيار التعيين و إن كان بيد المكلّف و ليس مأمورا بالسورة المعيّنة، إلّا أن امتثاله لا يحصل إلّا بقراءة إحدى المعيّنات المتميّزة كلّ واحدة منها عن غيرها بالمميّزات الشخصيّة التي لا تنطبق إلّا على شخص نفسها، مثلا سورة الجحد عبارة عن القطعة المعيّنة المحدودة بالبسملة الشخصيّة من أوّلها و الكلمة الكذائيّة في آخرها، و هكذا سورة التوحيد و غيرها، و قد فرضنا أنّ قوام الحكاية بجعل اللفظ مشيرا إلى لفظة الغير، و إذا كان ألفاظ السور القرآنيّة مشخّصات معيّنات في أنفسها فلا محيص إلّا عن الإشارة إلى أشخاصها في صيرورة الكلام متّصفا بكونه قراءة للسورة، نعم لا يشترط في اتّصافه بجنس القرآنيّة هذا القصد، بل يكفي الإشارة

إلى البسملة الجامعة بين جميع البسملات التي أنزل بها جبرئيل.

و الحاصل أنّ قراءة البسملة تارة يجب بعنوان قراءة القرآن، و اخرى بعنوان كونها جزءا من إحدى السور، و هذا الأخير لا يصدق إلّا مع قصد التعيين، إذ بدون التعيين و القصد إلى المبهم اللابشرط لا يصدق أنّه قراءة جزءا من هذه أو هذه أو هذه، و المفروض أنّ على عهدتنا قراءة واحدة من هذه المعيّنات بنحو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 51

النكرة و الفرد المردّد.

فحينئذ فالأمر بقراءة واحدة من هذه السور يكون نظير الأمر بالأمر لواحد من أفراد الإنسان، فإنّ الخروج عن امتثال هذا الأمر هل يحصل إلّا بأن يأمر المأمور واحدا معيّنا من الأشخاص الإنسانيّة؟ و هل يكتفى بمجرّد إصدار الأمر إلى واحد لا معيّن بين آحاد معيّنين، فالآمر و إن لم يطلب إلّا النكرة و الفرد المردّد بحيث يصحّ سلب المطلوبيّة عن كلّ واحد واحد من الخصوصيّات، إلّا أنّ المأمور لا مفرّ له عن الامتثال في ضمن أحد المعيّنات.

و هكذا الحال في مقامنا، فإذا قيل: اقرأ واحدة من هذه السور، فلا يحصل امتثال هذا الأمر إلّا بالإشارة و الحكاية الذهنيّة عند التلفّظ بالألفاظ المشتركة بين السور مثل البسملة إلى واحدة معيّنة من تلك السور، فإن قصد الإشارة إلى الذات المبهمة المأخوذة اللابشرط فهو كما لو أمر المأمور في المثال واحدا غير معيّن من الرجال، فكما ليس ذلك امتثالا لقول المولى: مر واحدا من أفراد الإنسان، فكذلك هذا لا يكون امتثالا لقوله: اقرأ واحدة من السور القرآنيّة، إذ من المعلوم أنّ قراءة واحدة معيّنة من المعيّنات لا يتحقّق إلّا بالإشارة إلى تمامها من صدرها إلى ذيلها بخصوصيّاتها المشخّصة لها، فإن أتى ببعض أجزائها

المشتركة بقصد الإبهام و اللاتعيين فقد أخلّ بإكمال السورة الشخصيّة بالنسبة إلى ذلك الجزء، فإنّه قد أشار إلى الجهة الجامعة دون الجهة الخاصّة بهذه السورة المقروءة.

و على هذا فيقوى عدم الاكتفاء بالقصد الإبهامي، كما لا يكتفى بالقصد التعييني للغير.

فإن قلت: إذا قصد الإبهام فلا يخلو إمّا يكون مقروّة قرآنا أو خارجا منه رأسا، لا سبيل إلى الثاني، و على الأوّل فلا يخلو إمّا يكون جزء سورة معيّنة أو قابل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 52

لأن يضمّ إلى بقيّة أيّ سورة شاء المكلّف، فيصير جزءا لها، و حيث لا سبيل إلى الأوّل قطعا يتعيّن الثاني.

قلت: كونه قرآنا مسلّم، لكنّه حكاية للجامع دون شخص من الأشخاص، فإنّ الجامع و إن كان لا يمكن أن يوجد إلّا في ضمن الفرد، أمّا حكايته لا في ضمن الفرد كالعلم به كذلك فهي بمكان من الإمكان.

و بعبارة أخرى: الجامع في مقام الوجود اللفظي كالوجود العلمي و التصوّري قابل لأن يتلبّس بالوجود منفكّا عن الأفراد و إن كان غير قابل لذلك في مقام الوجود الخارجيّ، و قد عرفت أنّ سنخ الحكاية في مقامنا سنخ حكاية الألفاظ عن معانيها، فالألفاظ المقروّة الحاكية الصادرة منّا بقصد الحكاية عن الألفاظ الشخصيّة المنزلة بالنزول الشخصي وجودات لفظيّة لمحكيّاتها، فإن أريد بها الحكاية عن جامع بسم اللّٰه الرحمن الرحيم الوارد في التنزيل بلا إشارة إلى تنزيل خاصّ كان اللفظ وجودا حكائيّا لفظيّا عن الجامع دون الفرد، و إن أريد التنزيل الخاصّ المتعقّب بقوله تعالى: قل هو اللّٰه أحد، مثلا كان وجودا لفظيّا للقرآن الخاصّ المسمّى بالاسم الخاصّ.

و بالجملة فلا إشكال في عدم كفاية قصد الإبهام، فضلا عن قصد تعيين الخلاف بعد لزوم قراءة سورة معيّنة من

المعيّنات.

اللّٰهمّ إلّا أن ينكر ثبوت التكليف بقراءة سورة معيّنة كان اختيار تعيينها بيد المكلّف بحيث دخل المقروّ تحت أحد الأسماء المعيّنة، بل المتيقّن من الأدلّة قراءة طبيعة سورة كاملة، و أمّا لزوم كونها مسمّاة بأحد الأسماء المعيّنة من التوحيد أو الجحد أو نحوهما فلا دليل عليه.

و حينئذ فإذا قرأ البسملة بدون قصد شي ء إلّا كونها قرآنا فلا شبهة في أنّه قد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 53

حكى و قرأ جزءا من السور و إن كان لم يسمّ باسم خاصّ، لكنّه لا يخرج عن الجزئيّة لمطلق السورة، فإذا ضمّ إليها بقيّة سورة التوحيد مثلا فقد أتى بما هو مصداق لطبيعة السورة الكاملة، أمّا البقيّة فواضح، لأنّه إذا قرأ الخاصّ فقد قرأ العامّ، و أمّا البسملة فالمفروض أنّه قراءة للعامّ، فالسورة الكاملة تحقّقت، غاية الأمر غير مسمّاة بأحد الأسماء المعيّنة، و هو أيضا لا يضرّنا.

و بعبارة أخرى: فرق بين ما إذا ورد الأمر بالطبيعة التي لا يمكن امتثالها في الخارج إلّا بالإتيان بأفرادها المشخّصة كما في: جئني برجل، و بين الأمر بالطبائع التي يكون تقوّمها بالقصد، مثل البيع و العتق، فإذا قال: بع أحد عبديك، أو أعتقه، فكما أنّ له مصداقا خاصّا معيّنا، كذلك له مصداق لا معيّن، و هو أن يبيع الكلّي الموصوف بالوحدة من عبديه.

و ما نحن فيه من هذا القبيل، إذ للقصد مدخل في تحقّقه كما عرفت، فما المعيّن للزوم جعل المقروّ معنونا بأحد العناوين الخاصّة حتّى يلزم منه عدم الاكتفاء بقصد الإبهام؟

و فيه أنّ الحكم بيننا و بينك العرف، فهل ترى إذا قيل: بعني أحد عبديك يفهمون منه الكلّي الطبيعي الذي أحد أفراده بيع الكلّي، أو أنّ المتفاهم منه النكرة، و الفرد

المردّد الذي ينحصر امتثاله في بيع هذا المعيّن أو ذاك المعيّن.

و هكذا الكلام في مقامنا إذا قيل: اقرأ سورة، لا يفهمون منه طبيعة كلّية أحد مصاديقها الجامع بين السورتين أو السور، بل المستفاد هو النكرة، و قد عرفت انحصار امتثالها في الإتيان بواحدة من المعيّنات، و اللّٰه العالم.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ التعيين اللازم في المقام أعمّ من التفصيلي و الإجمالي الارتكازي و إن كان مغفولا عنه تفصيلا، فلو رأى نفسه في أواخر سورة أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 54

أواسطها يكفيه ذلك، إذ يكشف عن أنّ المؤثّر في نفسه إلى قراءة هذا المعيّن كان داعيا مكمونا غير ملتفت إليه تفصيلا، و كفى به تعيينا.

و كذا هو أعمّ من الإشارة التفصيليّة أو الإشارة الإجماليّة، بمعنى أن يشير إلى وجه من وجوه السورة، كما إذا لم يعرف السورة المقصودة إلّا بعنوان التوحيد فقرأ البسملة بهذا القصد ليقرأ البقيّة بتعليم غيره.

و الظاهر أنّ من هذا القبيل ما إذا عيّن السورة بعنوان ما يختاره بعد البسملة في علم اللّٰه تعالى، و ليس هذا قولا بكفاية قصد الإبهام، فإنّ القائل بذلك يقول:

إنّ القارئ بعد ما لم يقصد إلّا الإبهام يصحّ له بعد ذلك ضمّ الخصوصيّة، و نحن قلنا:

لا يعقل انقلاب الواقع عمّا وقع، و أمّا في ما نحن فيه فالمقروّ من أوّل وجوده متخصّص بخصوصيّة واقعيّة معلومة عند اللّٰه مجهولة عندنا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 55

فروع
الأوّل إذا علم أنّه حين البسملة عيّن إحدى السورتين من الجحد أو التوحيد و نسي ما عيّنه،

فإن قلنا بجواز العدول من إحدى السورتين إلى صاحبتها بالأمر سهل، إذ يقرأ إحداهما ببسملة مستأنفة بقصد القربة المطلقة، فأمّا أنّه كانت البسملة الأولى بقصد هذه أو بقصد أختها فعلى الأوّل لا يلزم إلّا تكرار البسملة بقصد القربة المطلقة، و

هو غير مضرّ، و على الثاني فاللازم هو العدول من إحداهما إلى أختها، و المفروض جوازه.

و إن قلنا بعدم الجواز كما لا يجوز منهما إلى غيرهما، فإن قلنا بجواز القران كان الأمر أيضا سهلا، لأنّه يختار إحداهما فيأتي ببقيّتها ثمّ يأتي بالأخرى مع البسملة، فإن كانت البسملة الأولى بقصد التي أتى ببقيّتها فاللازم قران السورتين الكاملتين، و إن كانت بقصد الثانية فاللازم القران بين سورة كاملة و اخرى ناقصة، و على كلّ حال فلا مانع حسب الفرض من جواز القران بكلا قسميه.

و إن قلنا بعدم جواز القران فربما يقال بإمكان التصحيح أيضا بأن يقرأ بقيّة إحداهما بقصد القربة المطلقة ثمّ تمام الأخرى كذلك، فإنّ القران الممنوع هو أن يأتي بهما معا بقصد الجزئيّة للصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 56

الثاني لو شكّ في أنّه عيّن حين البسملة أيّ سورة من السور

فالظاهر بقاء التخيير له، بمعنى أنّه الآن يختار أيّ سورة شاء بإعادة البسملة، لأنّه يشكّ في أنّه هل زال التخيير الذي كان قبل البسملة و تبدّل بخصوص إحدى السورتين من الجحد و التوحيد، أو أنّه باق بحاله، فالأصل بقاؤه.

الثالث لو شكّ أنّه هل عيّن سورة حين البسملة أو قرأها على وجه الإبهام،

فإن قلنا بعدم كفاية قصد الإبهام فمقتضى القاعدة لزوم الإتيان ثانيا بقصد التعيين.

فإن قلت: ما المانع من إجراء قاعدة التجاوز في البسملة؟

قلت: ليس للإتيان بالبسملة على وجه الإبهام محلّ معيّن حتّى يكون الإتيان في غيره إتيانا في غير المحلّ، و إجراء القاعدة إنّما يصحّ في ما إذا اشتغل ببقيّة السورة المعيّنة ثمّ شكّ هذا الشكّ، و أمّا إذا لم يشتغل بعد كما هو المفروض فلا مورد لها، فمقتضى قاعدة الاشتغال بإتيان السورة الكاملة المتوقّف على قصد التعيين هو ما ذكرنا من الإعادة للبسملة بقصد التعيين، و إن قلنا بكفاية قصد الإبهام فالظاهر أنّ أصالة عدم التعيين للحكم بجواز قراءة أيّة سورة شاء غير جارية، إذ لا يثبت به عنوان السورة الكاملة التي هي المأمور بها، و هذا واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 57

الرابع لو كان بانيا على قراءة سورة فنسي و شرع في غيرها،

ثمّ التفت في أثنائها أو بعد تمامها كفى ذلك، لأنّ هذه السورة قد أتى بها بالداعي الارتكازي الحادث بعد نسيان الداعي الأوّلي، و قد تقدّم كفاية الداعي الارتكازي في مقام التعيين، من غير فرق بين كون السورة المقروّة عادة له و عدمه.

نعم هذا في ما إذا علم بعدم تخلّل حالة جديدة له في الأثناء قبل هذا الحال، و أمّا لو احتمل أنّه كان قد أتى بالبسملة بقصد تلك السورة، ثمّ نسي و قرأ هذه التي بيده فأصالة عدم طروّ النسيان جارية، و لا يرد إشكال المثبتيّة هنا، لأنّها أصل عقلائي و من جملة الأمارات المعتبرة عندهم.

الخامس يجوز العدول من كلّ سورة إلى غيرها ما لم يتجاوز النصف،
اشارة

أو ما لم يبلغه على الخلاف، إلّا من الجحد و التوحيد، فإنّه لا يجوز العدول منهما إلى غيرهما بمحض الشروع إلّا في يوم الجمعة إلى خصوص الجمعة و المنافقين،

فهاهنا أمور:
اشارة

أحدها: جواز العدول من سائر السور غير الجحد و التوحيد.

و الثاني: تقييد الجواز في هذا الموضوع بكون العدول قبل بلوغ النصف أو قبل تجاوزه على الخلاف.

و الثالث: عدم الجواز من السورتين إلى غيرهما بمجرّد الشروع.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 58

و الرابع: استثناء ظهر الجمعة من هذا الحكم، فيجوز فيه العدول من هاتين أيضا إلى الجمعة و المنافقين، و هل يكون مقيّدا بالحدّ المذكور في سائر السور أو لا، فيه أيضا محلّ للكلام.

أمّا الدليل على الأوّل

فهو أنّه مقتضى الأصل الأوّلي، توضيح ذلك أنّا إمّا نقول بأنّ المأمور به طبيعة السورة الكاملة أو النكرة و الفرد المردّد، فعلى الأوّل لا إشكال في أنّ العقل حاكم بأنّ تعيين المصداق باختيار المكلّف إلى أن يأتي بفرد تامّ، فإنّه حينئذ يحصل الامتثال و يسقط الطلب، و أمّا ما لم يأت بالفرد تماما و لو كان في أثناء إتيانه فله الاختيار و رفع اليد عمّا بيده.

نعم لو قلنا بأنّ الطبائع التي مصاديقها تدريجيّة الحصول ينقلب التكليف بعد الشروع في فرد إلى التكليف بإيجاد الباقي و إتمام ما بيده، فلا يبقى له الاختيار بين إحداث فرد آخر و بين إتمام هذا الفرد، لأنّ المقدار الذي دلّ العقل بإثبات التخيير فيه هو التكليف الأوّلي بإحداث الطبيعة، و قد انقلب ذلك التكليف إلى تكليف آخر بإتمام ما شرع فيه، و لا دليل على التخيير بينه و بين اختيار إحداث فرد آخر، لكنّ الحقّ خلاف هذا المبنى.

و على الثاني [التقييد بقبل البلوغ للنصف]

كما هو الظاهر فالتخيير بين الأفراد حينئذ يكون شرعيّا، فكأنّه قيل: اقرأ أمّا سورة الجحد و إمّا سورة التوحيد إلى آخر السور، و ما دام لم يأت بالمصداق الخارجي لواحد من هذه المعيّنات كان مقتضى التخيير المذكور بقاء الاختيار بيده، لأنّ الواجب التخييري إنّما يسقط بإتيان أحد الأبدال، و هو حال كونه في أثناء السورة غير آت بواحد من الأبدال، لأنّها السور التامّة.

فقد تحقّق أنّ مقتضى الدليل الأوّلي جواز العدول، و لا يتصوّر مانع إلّا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 59

من وجوه ثلاثة:

أحدها: لزوم الإبطال المحرّم بالآية، و الجواب هو الفرق بين الإبطال و الإعراض، مضافا إلى أنّ الظاهر أنّ المراد هو إبطال العمل بحبط ثوابه بالمعصية المتأخّرة.

و ثانيها: لزوم القران.

و فيه أنّه لا مانع منه كما يأتي في محلّه.

و ثالثها: لزوم الزيادة العمديّة حيث يصير ما قرأه أوّلا متّصفة بالزيادة بعد العدول، و الجواب أنّ الذي دلّ عليه الدليل كون إحداث الزائد مبطلا، و أمّا إعطاء وصف الزائدي على الشي ء الموجود فلا يستفاد من الأدلّة إبطاله، و ما نحن فيه من هذا القبيل.

و منه أيضا ما إذا استأنف الكلمة المشكوك في صحّتها قبل إتمامها، فإنّه على فرض صحتها واقعا تصير زائدة عمدا، مع أنّه لا يمكن الالتزام به ظاهرا. هذا هو الكلام في ما هو مقتضى القاعدة.

و أمّا النصوص الخاصّة الواردة في المسألة فمنها: صحيحة عمرو بن أبي نصر «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الرجل يقوم في الصلاة يريد أن يقرأ سورة فيقرأ قل هو اللّٰه أحد و قل يا أيّها الكافرون؟ فقال عليه السّلام: يرجع من كلّ سورة إلّا قل هو اللّٰه أحد و قل يا أيّها الكافرون» «1».

و منها: صحيحة الحلبي «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: رجل قرأ في الغداة سورة قل هو اللّٰه أحد؟ قال عليه السّلام: لا بأس، و من افتتح بسورة ثمّ بدا له أن يرجع في سورة غيرها فلا بأس، إلّا قل هو اللّٰه أحد، لا يرجع منها إلى غيرها، و كذلك

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 35 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 60

قل يا أيّها الكافرون» «1».

و منها: موثّقة عبيد بن زرارة «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل أراد أن يقرأ في سورة فأخذ في أخرى، قال عليه السّلام: فليرجع إلى السورة الأولى، إلّا أن يقرأ بقل هو اللّٰه أحد، قلت: رجل صلّى

الجمعة فأراد أن يقرأ سورة الجمعة، فقرأ قل هو اللّٰه أحد، قال عليه السّلام: يعود إلى سورة الجمعة» «2».

و منها: موثّقته الأخرى عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أيضا «في الرجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ غيرها، فقال عليه السّلام: له أن يرجع إلى ما بيته و بين أن يقرأ ثلثيها» «3».

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام «في الرجل يريد أن يقرأ سورة الجمعة في الجمعة، فيقرأ قل هو اللّٰه أحد؟ قال عليه السّلام: يرجع إلى سورة الجمعة» «4».

و منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا افتتحت صلاتك بقل هو اللّٰه أحد و أنت تريد أن تقرأ غيرها فامض فيها و لا ترجع، إلّا أن تكون في يوم الجمعة، فإنّك ترجع إلى الجمعة و المنافقين» «5».

و منها: خبر عليّ بن جعفر المرويّ عن قرب الإسناد عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن رجل أراد أن يقرأ سورة فقرأ غيرها، هل يصلح له أن يقرأ نصفها

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 35 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 69 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 36 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 69 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 69 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 61

ثمّ يرجع إلى السورة التي أراد؟ قال عليه السّلام: نعم ما لم تكن قل هو اللّٰه أحد و قل يا أيّها الكافرون، و سألته عن القراءة في الجمعة بما يقرأ؟ قال عليه السّلام: بسورة الجمعة

و إذا جاءك المنافقون، و إن أخذت في غيرهما و إن كان قل هو اللّٰه أحد فاقطعها من أوّلها «1» و ارجع إليهما» «2».

و منها: ما عن الشهيد في الذكرى نقلا من كتاب نوادر البزنطي عن أبي العباس عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «في الرجل يريد أن يقرأ السورة، فيقرأ في أخرى، قال عليه السّلام: يرجع إلى التي يريد و إن بلغ النصف» «3».

و منها: ما عن كتاب دعائم الإسلام «قال: و روينا عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: من بدأ بالقراءة في الصلاة بسورة ثمّ رأى أن يتركها و يأخذ في غيرها فله ذلك ما لم يأخذ في نصف السورة الأخرى، إلّا أن يكون بدأ بقل هو اللّٰه أحد، فإنّه لا يقطعها، و كذلك سورة الجمعة أو سورة المنافقين في الجمعة لا يقطعهما إلى غيرهما، و إن بدأ بقل هو اللّٰه أحد قطعها و رجع إلى سورة الجمعة أو سورة المنافقين في صلاة الجمعة تجزيه خاصّة» «4».

و منها: ما عن الفقه الرضوي عليه السّلام «قال: و قال العالم: لا تجمع بين السورتين في الفريضة، و سئل عن رجل يقرأ في المكتوبة نصف السورة، ثمّ ينسى فيأخذ في

______________________________

(1) قال الأستاذ العلّامة دام ظلّه: يحتمل أن يكون المراد من قوله عليه السّلام: فاقطعها من أوّلها أي من أصلها مبالغة في العدول، لا أن يكون المقصود تقييد الجواز بالأوّل. منه عفي عنه و عن والديه.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 69 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 36 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(4) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة

(للأراكي)، ج 2، ص: 62

الأخرى حتّى يفرغ منها، ثمّ تذكّر قبل أن يركع؟ قال عليه السّلام: لا بأس به و تقرأ في صلاتك كلّها يوم الجمعة و ليلة الجمعة سورة الجمعة و المنافقين و سبّح اسم ربّك الأعلى، و إن نسيتها أو واحدة منها فلا إعادة عليك، فإن ذكرتها من قبل أن تقرأ نصف سورة فارجع إلى سورة الجمعة، و إن لم تذكرها إلّا بعد ما قرأت نصف سورة فامض في صلاتك» «1».

هذه جملة ما عثرت من أخبار الباب، فمقتضى إطلاق جملة منها واردة في مقام البيان عدم التحديد للجواز، و مقتضى بعضها التحديد بالثلثين، و مقتضى بعض آخر التحديد بعدم تجاوز النصف، و هو قوله: و إن بلغ النصف، حيث إنّ الظاهر أنّه في مقام ذكر أخفى الأفراد، و مقتضى بعض التحديد بعدم بلوغ النصف و هو قوله: ما لم يأخذ في نصف السورة.

فقد يقال: إنّه يعامل مع هذه المضامين معاملة الإطلاق و التقييد، أمّا بين الطائفة الاولى و الثانية فواضح، و أمّا بين الثانية و الثالثة فبأن يقال: إنّ ما بين المصلّي و بين الثلثين طبيعة كلّية صادقة على أفراد منها النصف، ففي الخبر الثالث صرّح بلزوم هذا الفرد من تلك الطبيعة و عدم كفاية ما بعده، فيقيّد ذلك الإطلاق بهذا التقييد، و أمّا الخبر الأخير فهو ظاهر في عدم الجواز في النصف، و الخبر الثالث نصّ في الجواز فيه، فليحمل ذلك الظاهر على هذا النصّ و يقال بعدم إرادة المفهوم بالنسبة إلى نفس النصف.

لكن يمكن أن يقال بجريان مثل ذلك بالنسبة إلى خبر الثلثين و قوله: و إن بلغ النصف بتقريب أنّ ما يذكر بعد «إن» الوصليّة و إن كان ظاهرا في

أنّه ليس أخفى منه

______________________________

(1) فقه الرضا عليه السّلام: 11.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 63

موجودا، و لكن قد يذكر غير الأخفى، أعني: ما إذا كان للأخفى مراتب، فيصحّ جعل المرتبة الدنيا تلو «إن» و لهذا قد يذكر المرتبة القصوى بعد ذلك بكلمة «بل» الدالّة على الترقّي، فيقال في ما نحن فيه مثلا: بل و إن تجاوز النصف.

و بالجملة، فقوله عليه السّلام: له أن يرجع ما بينه و بين أن يقرأ ثلثيها صريح في الجواز في السدس المتّصل بالنصف عقيبه، و قوله عليه السّلام: يرجع و إن بلغ النصف، ظاهر في كون هذا السدس خارجا عن حكم الرجوع، فليحمل هذا الظاهر على ذلك النصّ.

و حينئذ فإن ثبت إجماع على نفي هذا المعنى بواسطة كونهم رضوان اللّٰه عليهم بين قولين لا ثالث لهما أعني: القول بعدم بلوغ النصف و القول بعدم مجاوزته فيصير ذلك موجبا لسقوط «حتّى الثلثين» عن الحجّية، و إن لم يثبت فمقتضى الجمع الخبري هو الجواز إلى الثلثين، لكنّ الأحوط الاقتصار على النصف خروجا عن شبهة الإجماع.

[التقييد بالنسبة إلى الجحد و التوحيد]

بقي الكلام في الدليل على ثبوت هذا التحديد بأيّ معنى اخترناه بالنسبة إلى الجحد و التوحيد.

قد يقال بأنّهما يندرجان تحت إطلاق دليل التحديد، غاية الأمر استثني منه هاتان السورتان بالنسبة إلى غير صلاة الجمعة، فبقيتا تحته بالنسبة إلى صلاة الجمعة.

و فيه أنّ المرجع إطلاق دليل الترخيص في العدول منهما يوم الجمعة إلى الجمعة و المنافقين، و الخبر المحدّد ناظر إلى مطلق السور، و قد فهمنا استثناء السورتين من هذا الحكم، و ليس مفاده التحديد في كلّ سورة قابلة للعدول، بل مفاده تجويز العدول من كلّ سورة إلى كلّ سورة ممّا عداها محدودا بالغاية المذكورة، و بعد

فرض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 64

استثناء السورتين عن هذا الحكم كيف يمكن التمسّك بغايته، بل الحكم إطلاق الدليل الدالّ على جواز الرجوع منهما إلى الجمعة و المنافقين، حيث إنّ أدلّته ممّا سوى الرضوي غير مشتمل على التحديد، نعم حدّده الرضوي بقوله: فإن ذكرتها من قبل أن تقرأ نصف سورة فارجع، فإنّه و إن لم يرد في خصوص السورتين، لكنّه وارد في خصوص صلاة الجمعة، لكن الكلام في حجّيته و إن أصرّ المحدّث العلّامة النوري قدّس سرّه عليها.

و قد يقال بأنّه و إن لم يمكن التمسّك بإطلاق أخبار التحديد المتقدّمة لما ذكرت، لكن بعد إطلاقها في سائر السور بالنسبة إلى الجمعة و المنافقين في يوم الجمعة يثبت ذلك في السورتين بطريق الأولويّة القطعيّة، بيانها أنّ تلك السور مع عدم كونها عند الشارع بمثابة هاتين السورتين من الاهتمام، و لهذا جوّز الرجوع من تلك إلى أيّ سورة في جميع الصلوات و لم يجوّزها في هاتين، إلّا في خصوص يوم الجمعة إلى خصوص الجمعة و المنافقين إذا لم يجوّز العدول منها إلى الجمعة و المنافقين في يوم الجمعة حسب الإطلاق المذكور، فلو كان العدول من هاتين جائزا بغير تحديد حسب إطلاق دليله لزم كون هاتين مع أهميّتهما من تلك أسوأ حالا من تلك، فاللازم تقييد الإطلاق الثاني لئلّا يلزم هذا المحذور المقطوع الخلاف.

و فيه أنّه بعد تسليم هذه الأولويّة على وجه يورث القطع أنّ الأمر غير منحصر بهذا الطريق، بل يمكن بطريق آخر و هو رفع اليد عن الإطلاق الأوّل أعني: إطلاق أخبار التحديد في سائر السور بالنسبة إلى الجمعة و المنافقين في يوم الجمعة، فإنّه إذا رفعنا اليد عن الإطلاق بالنسبة إلى هذا الفرد و

قلنا بالجواز و إن جاوز الثلثين ارتفع المحذور من البين، و إذن فالأمر دائر بين هذين الإطلاقين، و لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فيحصل الإجمال و يرجع إلى مقتضى الأصل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 65

الأوّلي الذي هو الجواز كما عرفت، فيقال بجواز العدول يوم الجمعة إلى الجمعة و المنافقين بلا تحديد بغاية، من غير فرق بين السورتين و غيرهما من سائر السور.

هذا مضافا إلى إمكان أن يقال بأنّ الحكمين أعني: جواز العدول من غير السورتين في غير الجمعة و العدول منهما في يومها ليسا من سنخ واحد، و الأولويّة إنّما نسلّمها مع كونهما من سنخ واحد، بمعنى أنّه لو كان الحكم في كلا المقامين بجواز العدول راجعا إلى عدم الاهتمام بشأن المعدول عنه و أنّه لا يقع المكلّف بواسطة الشروع فيه في المضيقة من أجله حتّى لا يجوز له رفع اليد عنه، بل هو مرخّص في ذلك، فإن كان حكم العدول من السورتين في يوم الجمعة بهذا اللسان كما هو كذلك بالنسبة إلى سائر السور في غير يوم الجمعة كان للأولويّة وجه.

و لكن لقائل أن يمنع ذلك و يقول: لسان العدول في سائر السور و إن كان كذلك، و لكن في السورتين بالنسبة إلى الجمعة و المنافقين يكون بوجه الأمر و لو ندبيّا لإدراك فضل سورتي الجمعة و المنافقين، لا بنحو الترخيص لأجل عدم الاهتمام بشأن التوحيد و الجحد.

لا يقال: أنّى لك بإثبات ذلك مع أنّ لسان الأخبار في البابين لسان واحد، فإن كان نظرك إلى صيغة الأمر الموجود في الثاني فهي موجودة في كليهما، و الحقّ أن صيغة الأمر في كليهما لكونها واردة مورد توهّم الحظر مفيدة للإباحة و الترخيص، فلا مزيّة

لأحدهما على الآخر.

لأنّا نقول: ما ذكرت بالنسبة إلى أخبار العدول في غير يوم الجمعة حقّ لا محيص عنه، و لكن بالنسبة إلى أخبار العدول في يوم الجمعة إلى الجمعة و المنافقين محلّ منع، و ذلك بواسطة ملاحظة كثرة التشديدات الواردة في الأخبار بقراءة السورتين في صلاة الجمعة، حتّى أنّ في بعضها: من قرأ غيرهما فلا صلاة له، أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 66

فلا جمعة له، أو: يعدل بنيّته إلى النافلة و بعد التسليم يعيد الصلاة، فهذه الأخبار يوجب ظهور هذا الأخبار الواردة في المقام في ما ذكرنا، فمفادها بعد ملاحظة هذه الأخبار أنّ الاهتمام بشأن الجمعة و المنافقين يكون بحدّ لو شرعت في غيرهما أيّ سورة كان فلا بدّ لك من الرجوع إليهما.

فإن قلت: مقتضى إطلاق أخبار التحديد في غير السورتين كما اعترفت به ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية حتّى في يوم الجمعة بالنسبة إلى الجمعة و المنافقين، فقد لزم المحذور السابق أعني: لزوم كون الجحد و التوحيد أسوأ حالا من سائر السور، حيث لا يجوز من سائر السور العدول بعد النصف، و يجوز منهما مطلقا، و ما ذكرت من اختلاف لسان الحكمين إنّما هو بالنسبة إلى ما قبل الغاية، و أمّا بعدها فإطلاق تلك الأدلّة يقتضي عدم الجواز، و إطلاق هذا الدليل يقتضي الجواز بل الاستحباب، و هذا عين المحذور.

قلت: الحكم المذكور في الصدر عبارة عن حكم «ارجع» على وجه الترخيص، و الغاية مرتبطة بهذا الحكم، فإذا ورد في خبر منفصل حكم ارجع على نحو الأمر فهو استثناء عن نفس المغيّا، فكأنّه قيل: حكم ارجع الترخيصي في هذا المقام مبدّل بارجع الأمري، فلا يرتبط الغاية المتّصلة بحكم ارجع الترخيصي بارجع الأمري بعد

استثنائه عن نفس المغيّا.

ألا ترى أنّا لو كنّا قائلين بوجوب الجمعة و المنافقين في صلاة الجمعة و كان ارجع محمولا على الوجوب فهل كان ارتباط للغاية به؟ كلّا و حاشا، فهكذا إذا حملناه على الأمر الاستحبابي.

و على هذا فنقول باستحباب العدول من كلّ سورة إلى الجمعة و المنافقين بلا تحديد بغاية، لقوله عليه السّلام في خبر عليّ بن جعفر بعد الأمر بقراءة الجمعة و المنافقين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 67

في الجمعة: و إن أخذت في غيرهما و إن كان قل هو اللّٰه أحد فاقطعها من أوّلها و ارجع إليهما. و يدخل في عموم غيرهما سورة الجحد أيضا، و الظاهر من قوله: من أوّلها، أي من أصلها.

ثمّ هل العدول إلى الجمعة و المنافقين في السورتين مطلقا و في غيرهما بعد النصف مخصوص بما إذا كان الأخذ في السورة المعدول عنها نسيانا أو يعمّه و ما إذا كان عمدا؟ مقتضى جملة من الأخبار الاختصاص بصورة القراءة و قد كان مريدا للجمعة و المنافقين، و قد عرفت التصريح بذلك في الرضوي.

و أمّا قوله: و إن أخذت في غيرهما إلى آخر ما تقدّم نقله فلا اطمئنان بالإطلاق فيه، نعم لا إشكال في غير السورتين قبل النصف، فإنّه قد ورد التصريح بجواز العدول مع العمد أيضا، فراجع، و إذن فالمرجع بالنسبة إلى السورتين عمومات المنع من العدول، هذا.

و يمكن الخدشة في ذلك أمّا أوّلا: فلأجل أنّ منع الإطلاق في قوله: و إن أخذت في غيرهما، لا وجه له.

و أمّا ثانيا: فلأجل أنّ التقييد في سائر الأخبار في كلام السائل إلّا في قوله عليه السّلام في صحيحة الحلبي: إذا افتتحت صلاتك بقل هو اللّٰه أحد و أنت تريد أن

تقرأ غيرها فامض فيها و لا ترجع إلّا أن يكون في يوم الجمعة إلخ، و من المعلوم أنّه لم يقصد به التقييد بالنسبة إلى حكم فامض و لا ترجع، للعلم بثبوتهما حال العمد أيضا، و إنّما الغرض من ذكر ذلك أنّ الإنسان لا داعي له غالبا إلى العدول مع العمد، و حصوله منحصر في حال النسيان، فيعلم من ذلك أنّ الحال كذلك بالنسبة إلى الاستثناء، أعني: قوله: إلّا أن يكون في يوم الجمعة، فكما أنّ المستثنى منه ثابت للمطلق من العامد و الناسي، فكذلك المستثنى، و ذكر الناسي في كليهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 68

لأجل المثال، لا للخصوصيّة.

و أمّا ثالثا: فلأنّا و إن سلّمنا عدم وجود الإطلاق، لكن الرجوع إلى عمومات المنع أيضا غير جائز، و ذلك لجريان عين ما ذكره شيخنا المرتضى قدّس سرّه في مبحث الاستصحاب من الرسائل، و في مبحث خيار الغبن من المكاسب وجها لعدم جواز الرجوع إلى العموم في فرد بعد خروجه في زمان و أنّ المرجع فيه الأصل العملي في هذا المقام و إن لم يكن من مصاديق ذلك العنوان، فإنّ الذي يكون وجها له هو أنّ العموم اللفظي غير متعرّض إلّا للأفراد دون الأحوال و الأزمان، و إنّما إثبات العموم بالنسبة إليهما يكون بتوسّط مقدّمات الإطلاق، و هي متفرّعة على دخول ذات الفرد في العموم اللفظي و متأخّرة عنه رتبة، بمعنى أنّه لا بدّ أوّلا من إثبات أنّ ذات الفرد داخل في المراد الجدّي من العموم حتّى يحكم بمعونة المقدّمات أعني أنّه أعطى لفظه في مقام البيان بلا ضمّ قيد بتسرية الحكم في الأزمان و الأحوال.

و أمّا إذا علم بخروج ذات الفرد في زمان أو في

حال على وجه لم يرجع إلى تقييد العنوان أو تنويع الموضوع فلا يبقى مجال للتمسّك بالإطلاق، لأنّ هذا الفرد فرد واحد و لم ينعقد في العموم اللفظي بالنسبة إليه إلّا دلالة واحدة، و قد فرض سقوطها.

نعم لو فرض أنّ العامّ جعل الفرد بحسب الأزمان أو بحسب الأحوال أفرادا فإذا سقط دلالته بالنسبة إلى فرد من أفراد هذا الفرد يبقى دلالته بالنسبة إلى سائر الأفراد، و أمّا إذا لم يعتبره إلّا فردا واحدا كما هو كذلك واقعا فليس هناك دلالات بعدد الأحوال الموجودة فيه، و لا بحسب الأزمان الجارية عليه، و إنّما يحكم بثبوت الحكم في تمامها بتوسّط المقدّمات، فلو قام دليل على خلاف العامّ في زمان أو حال

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 69

ينظر إلى ذلك الدليل المخرج هل جعل هذا الزمان أو الحال قيدا للعنوان أو للموضوع، كما إذا لم يوجب الوفاء المقيّد بكذا أو وفاء العقد المقيّد بكذا، فيحكم بإسراء ضدّ هذا القيد إلى العامّ، فيجعل الوفاء أو العقد في أَوْفُوا بِالْعُقُودِ مقيّدا بخلاف ذلك القيد، أو أنّه غير متصدّ إلّا لإخراج الذات، غاية الأمر مقرونة ببعض الأحوال و الأزمان المحتمل دخلها في الإخراج و عدم الدخل، فحينئذ يسقط المقدّمات بالنسبة إلى غير الزمان أو الحال المتيقّن، و المرجع هو الأصل العملي، إذ لا يلزم من ثبوت حكم العامّ في غيرهما حفظ العموم، و لا من عدم ثبوته زيادة تخصيص، بل هو فرد واحد خرج عن العموم، سواء ثبت فيه بعد ذلك حكم العموم أم لم يثبت.

و من هنا يعلم أنّه لا فرق في ما إذا خرج فرد في زمان بين كونه في أوّل زمان وجوده أو وسطه أو آخره، لاتّحاد الملاك

المذكور في الجميع، و إنّما يفرق الحال لو كان الملاك حفظ الاستمرار و عدمه، فيقال بأنّ الاستمرار محفوظ في الأخيرين دون الأوّل.

و لكنّك عرفت أنّه لا مساس له بمسألة الاستمرار، بل الملاك عدّ الفرد بحسب النظر اللفظي في العامّ أفرادا أو فردا واحدا بحسب الأزمان و الأحوال، و لا فرق في ذلك بين الأقسام المذكورة.

و على هذا فنقول في مقامنا: قد خرج من عموم تحريم العدول من السورتين إلى شي ء ممّا سواهما في شي ء من الصلوات سورتا الجمعة و المنافقين في خصوص صلاة الجمعة مقرونتين بحال النسيان، لذكره في كلام السائل، و لم يعلم أنّ للحال المذكورة مدخلا في هذا الخروج، أو أنّ الخارج هما في جميع الأحوال، فمقتضى ما تقدّم عدم جواز الرجوع إلى تلك العمومات و الرجوع إلى الأصل و هو الجواز

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 70

كما تقدّم.

و هل الحكم المذكور أعني جواز العدول من السورتين إلى السورتين يعمّ جميع صلوات يوم الجمعة حتّى الصبح و العصر، أو يخصّ الظهر و الجمعة، أو يخصّ الأخير؟ حكي عن الحدائق تقوية الأخير، نظرا إلى التصريح بصلاة الجمعة في بعض الأخبار، و ما في بعضها الآخر من الإطلاق، كقوله عليه السّلام في صحيحة الحلبي:

إلّا أن تكون في يوم الجمعة فإنّك ترجع إلى الجمعة و المنافقين، محمول على ذلك التصريح حملا للمطلق على المقيّد.

و استشكل عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه بأنّه فرع كون المطلق و المقيّد متنافيين.

و يمكن منع ما ذكره أمّا أوّلا: فلمنع الإطلاق في الفقرة المذكورة، إذ فرق بين ذكر لفظ الصلاة مضافا إلى يوم الجمعة و بين ذكر يوم الجمعة بلا إضافة الصلاة إليه، غاية الأمر أنّه يعلم إجمالا أنّه ليس بإطلاقه،

و إنّما المقصود صلاة هذا اليوم، و لكن الذي يعلم ليس له إطلاق، بل بنحو الإجمال، و ليس من مقولة اللفظ حتّى يعرضه الإطلاق.

و أمّا ثانيا: فلأنّا و إن سلّمنا إطلاقها، لكن نمنع ما ذكره من عدم كون المقام من موارد حمل المطلق على المقيّد، فإنّهما و إن كانا غير متنافيين لكونهما مثبتين، إلّا أنّه قد حقّق في الأصول أنّهما مع ذلك أيضا يكونان من موارد الحمل المذكور، لكن بشرط أن يعلم وحدة الحكم و لو من جهة وحدة السبب، كما في قوله: إن ظاهرت فأعتق رقبة، و قوله: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، إذ بعد إحراز الوحدة نقول: إمّا أنّ الموضوع لهذا الحكم الواحد هو المطلق، فيكون المقيّد مذكورا في الدليل الآخر من باب أحد الأفراد، و إمّا أنّ الموضوع هو المقيّد، فيحمل المطلق عليه، و حيث إنّ الثاني أهون من الأوّل فيكون هو المتعيّن، نعم لو لم يحرز الوحدة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 71

فيمكن العمل بكلا الدليلين بلا تصرّف في ظاهر شي ء منهما فيقال: هنا حكمان أحدهما متعلّق بالمطلق و الآخر بالمقيّد.

و حينئذ نقول في مقامنا: قد علمنا أنّ حكم جواز الرجوع إلى السورتين حكم واحد ناش من حفظ شأن السورتين و الاهتمام بهما، و هذا الحكم إمّا متعلّق بالمطلق، و المقيّد مذكور من باب أحد الأفراد، إلى آخر ما تقدّم.

لا يقال: يمكن أن يكون حفظ احترام السورتين و الاهتمام بهما في خصوص صلاة الجمعة آكد منه بالنسبة إلى سائر صلوات ذلك اليوم، فيكون المطلق ناظرا إلى إثبات الأصل، و المقيّد إلى إثبات التأكّد.

لأنّا نقول: هذا أيضا أحد أطراف الاحتمال، لكنّه في مخالفة الظاهر بمكان، فإنّ أحدا لا يلتفت إليه إلّا

بعد التنبيه، و بعد صرف النظر عن هذا و كون جميع الأخبار في مقام بيان أصل حكم العدول نقول: الأمر دائر بين كون الموضوع لهذا الحكم الواحد هو المطلق أو المقيّد إلى آخر ما تقدّم، هذا.

و لكنّ لا بدّ أن نعلم أنّا و إن قلنا بحمل المطلق على المقيّد، لكن لا يلزم القول بالاختصاص بخصوص صلاة الجمعة في مقابل صلاة الظهر كما زعمه صاحب الحدائق قدّس سرّه، بل الحقّ هو التعميم إليهما معا، نعم لا عموم بالنسبة إلى صلاتي الصبح و العصر.

وجه العموم بالنسبة إلى الأوّلين أنّ صلاة الجمعة في لسان الأخبار- كما يظهر بالتتبّع فيها- ليست اسما لخصوص الركعتين مع الشرائط المقرّرة، بل اسم للأعمّ منهما و من الأربع ركعات بغير تلك الشرائط، و الشاهد على هذا أنّه قد عبّر بهذا الاسم بالنسبة إلى المسافر، فيعلم منها أنّ صلاة الظهر في يوم الجمعة مسمّاة بصلاة الجمعة، غاية الأمر مع الشرائط المقرّرة يصلّى ركعتين مع الخطبة، و بدونها يصلّى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 72

أربعا، و أمّا جعل خصوص الاولى جمعة و الثانية ظهرا فهو اصطلاح مستحدث في لسان الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم، و على هذا فيقوي الحكم بالرجوع في كلتيهما، و اللّٰه العالم بالحقائق.

فرعان:
الأوّل: لو شرع في إحدى سورتي الجحد و التوحيد أو في غيرهما

و تجاوز من النصف ثمّ نسي بقيّة السورة أو خاف فوات الوقت بإتمامها بواسطة طولها فهل الواجب بمقتضى تكليفه بالسورة الكاملة الرجوع إلى سورة أخرى لم يخف فوت الوقت بقراءتها، أو أنّ الواجب بمقتضى تكليفه بترك العدول هو المضيّ في الصلاة بلا سورة، أو هو مخيّر بين الأمرين؟ وجوه مبنيّة على أنّ العدول محرّم نفسا في السورتين، و في غيرهما بعد النصف، أو أنّ المضيّ واجب كذلك، أو لا

ذاك و لا هذا، بل المقصود بالنهي عن العدول و الأمر بالمضيّ نفي الجزئيّة عن المعدول إليها و تعيينها في المعدول عنها.

فإن قلنا بالأخير فالمتعيّن مضيّه بلا سورة، كما لو عجز عن حقيقة السورة، فإنّه و إن لم يعجز عن حقيقتها ها هنا، إلّا أنّه بالنسبة إلى السورة التي جعلت جزءا لصلاته صار عاجزا، فسائر السور ليست بجزء من الأصل، و هذه السورة أيضا سقطت عن الجزئيّة بواسطة طروّ العجز، فحاله حال من عجز عن حقيقة السورة في صلاته.

و إن قلنا بكون المضيّ واجبا نفسيا فالمتعيّن الرجوع إلى سورة أخرى، لأنّ التكليف بالمضيّ لعدم القدرة على الامتثال سقط عنه، فيبقى مشغول الذمّة بإتيان السورة الكاملة لصلاته، و المفروض انحصار قدرته بإتيان سائر السور.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 73

و إن قلنا بكون العدول محرّما نفسيّا فهنا مطلوبان كلّ منهما مطلق بحسب دليل أصل التشريع، و لم يقدر المكلّف على الجمع بينهما، أحدهما: إتيان السورة الكاملة، و الأخرى: ترك العدول عن الجحد و التوحيد أو بعد النصف من غيرهما، فمقتضى القاعدة هو التخيير لو لم يحرز الأهميّة، و إلّا فتعيين الأهمّ.

ثمّ إنّ حمل النواهي عن العدول على النفسيّة بعيد، بل الظاهر منها الإرشاد إلى إتيان ضدّه و هو المضيّ و إتمام السورة المشروع فيها، و أمّا أنّ الأمر بالمضيّ هل هو للتكليف، لإفادة كونه واجبا نفسيّا أو أنّه للوضع و تعيين الجزئيّة في هذه السورة و نفيها عمّا عداها، فكلّ محتمل و لا دليل على تعيين أحدهما، و إذا صار هذا الأمر مجملا فدليل جزئيّة سائر السور يكون محكّما، فيأتي بسورة أخرى كاملة غير مفوّتة، و اللّٰه تعالى هو العالم.

الثاني: لو نذر أن يقرأ في صلاته سورة خاصّة

تكون هي المحسوبة جزء لها، فنسي

و شرع في الجحد أو التوحيد أو غيرهما مع بلوغ النصف ثمّ التفت، فهل يعدل أو يأتي ببقيّة السورة التي شرع فيها، أو يتخيّر؟ وجوه مبنيّة أيضا على الاحتمالات المتقدّمة في الفرع المتقدّم، بمعنى أنّه لو قلنا بأنّ النهي عن العدول يكون لإفادة الوضع أعني: نفي الجزئيّة عن غير السورة المشروع فيها، فيتعيّن إتمام السورة التي شرع فيها، إذ على هذا التقدير يتبيّن فساد نذره بعدم الموضوع له رأسا و أنّ السورة المنذورة ما كانت متّصفة بالجزئيّة لصلاته و إن تخيّلها كذلك على خلاف الواقع.

و إن قلنا بأنّه للتكليف و إفادة تحريم العدول نفسا فكذا يتعيّن إتمام السورة التي بيده، إذ على هذا التقدير يتبيّن انحلال نذره بواسطة انكشاف مرجوحيّة متعلّقه و حرمته بواسطة طروّ العنوان الثانوي الذي هو العدول، فإنّ المعيار في صحّة النذر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 74

رجحان متعلّقه حال الوجود، لا حين النذر، و لهذا ينحلّ بواسطة نهي الوالد عن العمل المنذور.

و إن قلنا بأنّه للإرشاد إلى وجوب ضدّه أعني: المضيّ وجوبا نفسيّا فهنا مطلوبان مطلقان بحسب أصل التشريع يعجز المكلّف عن الجمع بينهما، و هما الوفاء بالنذر و إتمام السورة التي أخذ فيها، و مقتضى قاعدة التزاحم هو التخيير إن لم يثبت الأهمّ، و إلّا فيتعيّن الأهمّ.

فإن قلت: كيف يعجز المكلّف عن الجمع و الحال أنّه على القول بجواز القران بين السورتين كما هو المختار و سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى لا مانع من إتمام هذه السورة، ثمّ الإتيان بالمنذورة.

قلت: قد قيّدنا في صدر العنوان السورة المنذورة بكونها هي المحسوبة جزء للصلاة، لئلّا يرد هذا السؤال، فإنّه بعد تقييد متعلّق نذره بهذا يكون باب القران أيضا مسدودا، لأنّ الصلاة

غير محتاجة إليها حينئذ، و لا تكون هي بالخصوص جزءا لها كما هو واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 75

مسألة في حكم القران بين السورتين

المشهور بين القدماء عدم جواز القران بين السورتين في الفريضة، خلافا لجمهور المتأخّرين حيث ذهبوا إلى كراهته.

و استدلّ الأوّلون بأخبار ظاهرها التحريم، و حملوا ما دلّ على الجواز على التقيّة، لموافقته مذهب العامّة، و الآخرون أنّ الحمل على التقيّة فرع المعارضة و عدم وجود الجمع الدلالي بين الخبرين، و هو هنا موجود، أمّا أوّلا فلوجود قرائن في نفس أخبار النهي مثل اشتمال بعضها على لفظة الكراهة «1»، و الآخر على نفي الصلاح «2»، و الثالث على التعليل بأنّه أي ترك القران أفضل «3»، و الرابع على التعليل بأنّ في تركه و الاقتصار على سورة واحدة إعطاء كلّ سورة حقّها من الركوع و السجود «4»، فإنّ هذا التعليل مشعر بالكراهة كما لا يخفى.

و أمّا ثانيا فلأنّ مقتضى الجمع العرفي بين النهي و بين الترخيص الصريح في الفعل هو الحمل على الحزازة و الكراهة، حملا للظاهر على النصّ، و إذن فلا يبقى للدغدغة في الحكم بالكراهة مجال.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 76

نعم يبقى الكلام في أنّ هذه الكراهة على القول بها من باب الكراهة العباديّة فلا بدّ من حفظ الرجحان العبادي معها، و حيث إنّ الكراهة بمعنى رجحان الترك المطلق لا يجامع مع رجحان الفعل، فلا بدّ من التزام أنّ الراجح هو الترك الخاصّ، أعني: الترك

إلى بدل، فيرجع الأمر إلى رجحان الفعل و أرجحيّة ذلك البدل، مثلا صلاة الحمّام يكون راجح الفعل بالنسبة إلى تركها المطلق، و أمّا بالإضافة إلى الصلاة في غير الحمّام فهي مرجوحة، و لكن هذا في ما إذا كان هناك بدل، كما في صلاة الحمّام، و أمّا في ما لم يكن له بدل كما في صوم العاشور فلا يجري الكلام المذكور كما هو واضح.

فيستكشف في مثله عقلا أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ، إمّا أنّ هنا أمرا وجوديا و هو أرجح من الفعل، و لا يمكن الجمع بينه و بين الفعل، بل بينهما مضادّة، و على هذا فالنهي ليس مولويّا، بل للإرشاد إلى ذلك الضدّ الأهمّ، و إمّا أنّ هنا عنوانا حسنا منطبقا على الترك و هو أرجح من الفعل، فالترك بما هو نقيض الفعل ليس راجحا، بل يكون مرجوحا، و لكن بما هو مصداق ذلك العنوان الأرجح يكون راجحا، بل أرجح من الفعل، فيكون النهي على هذا أيضا إرشاديّا.

و ما نحن فيه من هذا القبيل، أعني: ما لا بدل له، فإنّ ضمّ السورة الثانية إلى الاولى لا يوجب مرجوحيّة الأولى، بمعنى رجحان تركها إلى بدل و هو السورة المقيّدة بعدم الانضمام، بل المنهيّ هو السورة الثانية فقط مع وقوع الأولى راجحة و في المحلّ كما هو المستفاد من قوله عليه السّلام: لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة و لا بأكثر، حيث يستفاد أنّ الزيادة من سورة هي المرجوحة، فلا بدّ من أن يستكشف عقلا إمّا أنّ متعلّق هذا النهي أمر وجودي غير ممكن الاجتماع مع السورة الثانية وجودا،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 77

و هو إعطاء كلّ سورة حقّها من الركوع و السجود، و

إمّا أنّ هنا عنوانا راجحا منطبقا على تركها و هو أرجح من فعلها.

فإن قلت: فعلى هذا يمكن حفظ العباديّة مع فرض القول بالحرمة و حمل النواهي عليها.

قلت: إنّما ألجأنا على تقدير القول بالكراهة إلى ذلك أمران: أحدهما كراهة الفعل، و الثاني عباديّته، و أمّا على القول بالحرمة فلا إلجاء إلى المصير إلى ذلك، فإنّه توجيه لا يصار إليه بلا ضرورة، بل يقال: إنّ متعلّق النهي نفس السورة الثانية بما هي هي، و من المعلوم منافاته للعباديّة.

فإن قلت: فما الوجه في فتواهم بانحلال النذر بنهي الوالدين عن إتيان المنذور، بل و باستدعاء المؤمن تركه، و لو صحّ ما ذكرت من عدم المنافاة في ذلك مع بقاء الفعل على صفة الرجحان لما يبقى وجه للانحلال، بل مقتضى القاعدة في الأوّل حصول التزاحم بين واجبين على تقدير القول بوجوب إطاعة الوالدين، أحدهما ذلك و الآخر الوفاء بالنذر، و في الثاني بقاء وجوب النذر بحاله، و ذلك لأنّ الوجوب أو الاستحباب المتعلّقين بالعنوان الملازم للترك أعني: إطاعة الوالدين أو إجابة المؤمن لا منافاة لهما مع بقاء الفعل على صفة الرجحان.

قلت: يمكن أن يكون الوجه هو أنّ المستفاد من الأخبار في باب النذر لزوم كون المنذور فعلا تحت إرادة الشارع و ممّا يبعث إليه، فلا يكفيه الإرادة الطوليّة التي نقول بها في الضدّ المبتلى بالأهمّ، فإنّ الإرادة الفعليّة متوجّهة سمت الأهمّ، و بعبارة أخرى: الرجحان أو الأمر المعتبران في باب العبادة أمرهما أسهل منهما في باب النذر، فالمعتبر فيه كون المنذور موافقة للإرادة الفعليّة المولويّة و طاعة لها كذلك، بل يعتبر كون المنذور بعنوانه الخاصّ تحت إرادة الشارع لا بالعنوان العامّ، فلو نذر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 78

الصلاة

في الحمّام أو في آخر الوقت لم ينعقد.

فإن قلت: فلو نذر التصدّق بالمال الخاصّ أو للفقير الخاصّ يلزم عدم الانعقاد، لعدم تعلّق الأمر إلّا بالعنوان العامّ.

قلت: الفرق بين هذين و بين ما تقدّم من المثالين أنّ الأمر هناك كان متعلّقا بعنوان الصلاة بوجودها الصرف بلا تعلّق له بالأشخاص و الخصوصيّات أصلا، بخلافه في هذين، فإنّه فيهما متعلّق بالطبيعة باعتبار الوجود الاستيعابي من حيث المال، و باعتبار الوجود البدلي من حيث الفقير، فللخصوصيّات مدخل في متعلّق الأمر الشرعي ها هنا، دون ما تقدّم، و تمام الكلام في محلّه.

ثمّ على القول بحرمة القران هل يبطل الصلاة به أو لا؟

قد يقال بالأوّل نظرا إلى أنّ المستفاد من النهي إمّا شرطيّة الاتّحاد أو مانعيّة القران كالتكلّم و نحوه، و على كلّ حال يوجب البطلان.

و فيه أنّ التعليل بإعطاء كلّ سورة حقّها يقتضي كون النهي على تقدير حمله على الإلزام نفسيّا كما لا يخفى، و قد تقدّم نظيره في النهي عن قراءة آية السجدة معلّلا باستلزامها للزيادة المبطلة.

نعم يتّجه البطلان حينئذ من جهة كونه داخلا في الكلام المحرّم الذي حكي الإجماع على مبطليّته، و قد تقدّم تقوية كونه من الماحي للصورة عند المتشرّعة.

و هل القران المنهيّ عبارة عن الإتيان بالسورتين بعنوان الجزئيّة، أو يعمّه و الإتيان بعنوان القرانيّة.

توضيح المقام أنّ الجمع بين السورتين يتصوّر على أنحاء:

أحدها: أن يأتي بهما زاعما أنّ امتثال الطبيعة كما يتحقّق بإيجاد فرد منها،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 79

كذلك يمكن بإيجاد فردين متعاقبين.

و ثانيها: أن يأتي بالثانية بعد العلم بحصول الامتثال بالفرد الأوّل، لاحتمال كون الثانية أوفق بالغرض الداعي إلى الأمر، حيث إنّ للمأمور تبديل مصداق الامتثال بمصداق آخر أحسن.

و ثالثها: أن يأتي بالثانية بعنوان

الاحتياط و رجاء إدراك الصحّة الواقعيّة، و ذلك بأن كانت السورة الأولى محتملة الفساد عنده مع عدم إمكان إعادتها بنفسها على وجه يقطع بالصحّة، و قاعدة الفراغ و إن كانت حاكمة بالصحّة ظاهرا، لكنّه يحتاط بإتيان السورة الثانية برجاء إدراك الصحّة الواقعيّة.

و رابعها: أن يأتي بها بقصد القرانيّة المحضة، و الفرق بين القسمين الوسطين و بين القسم الأوّل أنّه في الأوّل يقصد الجزئيّة بنحو الجزم، و فيهما على وجه الاحتمال، أعني: احتمال أوفقيّة الثانية في الأوّل منهما و احتمال فساد الاولى في الثانية منهما.

إذا عرفت هذا فنقول: ينبغي القطع بخروج القسم الأخير من النواهي، كما ينبغي القطع بدخول الأوّل، و أمّا القسمان الوسطان فأوّلا لا بدّ أن نعلم أنّ التعليل بإعطاء كلّ سورة حقّها لا شهادة فيه على دخولهما، فإنّه لو كان المراد من القران عبارة عن خصوص ما إذا أتى بالسورتين بعنوان الجزئيّة الجزميّة أو الاحتماليّة لكن مع مصادفة الجزم و الاحتمال مع الواقع فلا يخفى أنّ الجزم أو الاحتمال المصادف غير موجود إلّا في إحدى السورتين.

نعم لو كان المراد من القران أعمّ ممّا إذا كان بقصد الجزم بالجزئيّة و ما إذا كان بقصد احتمالها، سواء طابق الواقع أم لا، فحينئذ قد أتى بسورتين، أولاهما بقصد الجزم بالجزئيّة، و الثاني بقصد احتمالها، و لم يعطها حقّها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 80

و الإنصاف عدم الجزم باعتبار الجزم، إذ الاحتمال المصادف في مفهوم القران، و إنّما المقطوع خروج الجزم بالقرانيّة عن تحته، بل المحتمل قويّا دخول غيره بأقسامه، و إذن فالأحوط بناء على القول بالحرمة ترك القسمين الوسطين، أمّا الأوّل منهما فواضح، و أمّا الثاني فلأنّه على تقدير صحّة الاولى يكون من الجمع بين سورتين

تامّتين، و على تقدير فسادها يكون من الجمع بين ناقصة و اخرى تامّة و هو أيضا محرّم بمقتضى قوله عليه السّلام في بعض الأخبار: لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة و لا بأكثر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 81

الموقع الثالث في ما يتعلّق بالجهر و الإخفات بالقراءة

اشارة

و سائر الأقوال الصلاتيّة، و ها هنا مسائل:

[المسألة] الأولى اعلم أنّ من المسلّم أصل مشروعيّة الجهر و الإخفات بالأعمّ من الوجوب و الاستحباب،
اشارة

بمعنى أنّ لنا قسما من الصلوات جهريّة و قسما اخرى إخفاتيّة، و كذلك من المسلّم أنّ الطائفة الاولى عبارة عن الغداة و المغرب و العشاء، و الثانية عبارة عن الظهر و العصر، و بعد ذلك يقع الكلام في جهتين:

الاولى: هل الجهر في الطائفة الاولى و الإخفات في الثانية بنحو الوجوب أو بنحو الاستحباب كما يحكى عن السيّد و الإسكافي.

و الثانية: هل الحكم يختصّ بالقراءة في الأوليين، أو يعمّ سائر الأقوال حتّى التشهّد و ذكر الركوع و السجود، و على تقدير الاختصاص فما حال التسبيحات أو القراءة في الأخيرتين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 82

أمّا الجهة الأولى [الخلاف في وجوب الجهر و استحبابه]

فيدلّ على الوجوب صحيحة زرارة «عن أبي جعفر عليهما السّلام في رجل جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه و أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه؟

فقال عليه السّلام: أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته و عليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شي ء عليه و قد تمّت صلاته» «1».

حيث دلّت على وجوب الإعادة بالإخلال بهما عمدا، و لا يضرّ إجمال قوله عليه السّلام: فقد نقض بين كونه بالصاد المهملة، أو بالضاد المعجمة، و على الأوّل لا دلالة له على البطلان، فإنّ الاستشهاد إنّما يكون بالفقرة الأخيرة، أعني:

قوله عليه السّلام: و عليه الإعادة.

و لا يعارضها رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام «قال:

سألته عن الرجل يصلّي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة، هل عليه أن لا يجهر؟

قال عليه السّلام: إن شاء جهر، و إن شاء لم يفعل» «2».

و ذلك لإجمال السؤال فيها بواسطة اشتماله على قوله: هل عليه إلخ بعد فراغ السائل عن كون الصلاة ممّا يجهر فيها، فإنّ اللائق بعد

ذلك هو السؤال عن جواز ترك الجهر، لا عن وجوبه كما هو مقتضى كلمة «على».

و حينئذ فيحتمل أن يكون المراد هو السؤال عن رفع الصوت زيادة على أقلّ الجهر، أو أن يكون المراد هو السؤال عن صورة الاقتداء بإمام غير مرضيّ مع إخفات الإمام و كون الفريضة جهريّة، فإنّه حيث يجب القراءة على المأموم خلف هذا الإمام فتوهّم السائل وجوب متابعته في الإخفات إمّا للتقيّة و إمّا لحصول

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 83

الاقتداء، فأجابه الإمام عليه السّلام بالتخيير. و يحتمل أن يكون المراد: هل عليه بأس إن لم يجهر.

و بالجملة، الأمر دائر بين أحد هذه الاحتمالات، و كلّها مشترك في مخالفة الظاهر، و لعلّ الأخير أبعدها، و على هذا فتبقى الرواية الأولى سليمة عن المعارض، و لا حاجة إلى طرح الثانية بالشذوذ و ندرة العامل كما حكي عن بعض.

و أمّا الجهة الثانية [الخلاف في اختصاص الحكم بالقراءة و عدمه]

فيدلّ على جواز الأمرين في سائر الأقوال غير التسبيحات و القراءة في الأخيرتين صحيحة عليّ بن يقطين «قال: سألت أبا الحسن الماضي عليه السّلام عن الرجل هل يصلح له أن يجهر بالتشهّد و القول في الركوع و السجود و القنوت؟

فقال عليه السّلام: إن شاء جهر، و إن شاء لم يجهر» «1».

و نحوه رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه عليه السّلام «2»، و هي و إن لم يتعرّض لغير ما اشتملت عليه مثل السلام و التكبيرات و نحوها، لكن يعلم حكمها من المذكورات، لظهورها في كون المذكورات من باب المثال.

فالمقصود السؤال عن ما عدا القراءة، و هل يشمل مقصوده

القراءة و التسبيحات في الأخيرتين أو لا؟ كلّ محتمل.

و على هذا فيبقى القراءة و التسبيحات خاليتين عن الدليل بعد عدم دلالة صحيحة زرارة المتقدّمة أيضا على وجوب الجهر إلّا في ما ينبغي الإجهار فيه و وجوب الإخفات إلّا في ما ينبغي الإخفات فيه، و كونهما من أيّ القسمين محلّ الكلام، و حينئذ فيرجع فيهما إلى الأصل، لرجوع الشكّ إلى الشكّ في القيد الزائد.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 20 من أبواب القنوت، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 20 من أبواب القنوت، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 84

و يمكن الاستدلال على وجوب الإخفات في الركعتين الأخيرتين مطلقا، سواء اختار التسبيحات أم القراءة بأمرين.

أحدهما و هو العمدة: مداومة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله على الإخفات في تمام عمره صلّى اللّٰه عليه و آله و ذلك آية الوجوب، إذ يبعد غايته أن يكون من الجائز ترك الجهر و مع ذلك لم يتركه صلّى اللّٰه عليه و آله في مدّة عمره صلّى اللّٰه عليه و آله و لو مرّة واحدة.

و الثاني: معلوميّة فعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله ذلك و لو لم يعلم التزامه به و استمراره عليه، بأن لم يعلم كونه صلّى اللّٰه عليه و آله تاركا للجهر في بعض صلواته، بضميمة قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «1» فإنّ الإخفات ممّا فعله صلّى اللّٰه عليه و آله، و الجهر لم يعلم صدوره منه، و نحن ملزمون بالأخذ بفعله و لو لم نعلم وجهه، حتّى نعلم كون وجهه الندب أخذا بظاهر قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: صلّوا إلخ.

لا يقال: هل هو إلّا كالعامّ الذي نعلم بالاستحباب في بعض الأفراد

منه و نعلم بالوجوب في بعض و نشكّ في ثالث، حيث يسقط عن الاستدلال، لأنّ اشتماله على الفرد المستحبّ آية كونه مستعملا في الجامع بين الوجوب و الندب، و ذلك للعلم باشتمال صلاته صلّى اللّٰه عليه و آله على المستحبّات.

لأنّا نقول: بل الظاهر منه السوق لإفادة الوجوب، و ذلك لأنّه ورد لبيان الوظيفة الوجوبيّة الصلاتيّة التي ورد إيجابها في الكتاب العزيز بقوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ فكأنّه قال صلّى اللّٰه عليه و آله: إن كنتم لا تدرون كيفيّة هذه الصلاة التي أمركم اللّٰه بإقامتها فانظروا إلى صلاتي فافعلوا مثل فعلي. و لا يخفى ظهور هذا الكلام الوارد في هذا المقام في وجوب كلّ كيفيّة صدرت منه حتّى يعلم الخلاف، فيكون هذا أصلا في

______________________________

(1) عوالي اللئالي 1: 198.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 85

كلّ ما علم انتسابه إليه صلّى اللّٰه عليه و آله، كما في المقام.

و أنت خبير بعدم الاطمئنان بهذا الظهور، لعدم الاطمئنان بوروده في ذلك المقام، أعني: شرح الحقيقة الواجبة، بل من الممكن كونه بمقام شرح جميع ماله دخل في الحقيقة و ما له دخل في الكمال، فالعمدة هو الوجه الأوّل.

و لا بأس بصرف الكلام إلى دفع ما ربما يورد من الإشكال العقلي على قوله عليه السّلام في صحيحة زرارة «قال: فإن فعل ذلك ناسيا إلخ» و تقريب الإشكال من وجهين:

الأوّل: أنّ تقييد الشرطيّة بحال العلم بها كما هو الظاهر من قوله: فلا شي ء عليه و قد تمّت صلاته مستلزم للدور كما هو واضح.

و الثاني: أنّ من المسلّم أنّ من كان مقصّرا في التعلّم يكون معاقبا على ترك الجهر و الإخفات في محلّهما، و على هذا فيستشكل بأنّه مع بقاء الوقت يجب الحكم بالإعادة،

و على تقدير الإسقاط فلا وجه للعقوبة، إذ المفروض عدم حصول العصيان بعد، لبقاء الوقت بمقدار أداء الواجب على حسب الفرض، فالجمع بين الحكمين، أعني الحكم بالإسقاط و التماميّة كما هو مفاد قوله عليه السّلام: لا شي ء عليه و قد تمّت صلاته و الحكم بالاستحقاق كما هو المسلّم في ما بينهم لا يعلم له وجه.

و حاصل الدفع يحتاج إلى توضيح، و هو أنّ سقوط الإعادة في الوقت عن الجاهل يتصوّر على أنحاء:

الأوّل: أن يكون بتقييد واقع الشرطيّة بحال العلم بها، فيكون صلاة الجاهل غير مشروطة واقعا، و هذا مستلزم للدور.

و الثاني: أن تكون الشرطيّة الواقعيّة غير مختصّة بالعالم، و لكن جعلت الصلاة الفاقدة في حقّ الجاهل بدلا شرعيّا عن الصلاة الواجدة، بمعنى أنّ الشارع

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 86

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 86

تقبّلها مصداقا للصلاة المأمور بها، كما هو الحال في حكمه بالصحّة الظاهريّة بعد الفراغ، إذ كما أنّ له الجعل قبل العمل، له التقبّل بعده، و هذا ممكن لا يستلزم المحذور، إلّا أنّ اللازم منه عدم الاستحقاق للعقوبة على ترك المبدل كما هو واضح.

و الثالث: أن تكون الصلاة الإخفاتيّة في موضع الجهريّة و بالعكس مفوّتة للمصلحة القائمة بالمأمور به، بحيث لا يمكن إدراكها بعده، فسقوط الإعادة يكون من جهة عدم إمكان الإدراك للمصلحة الصلاتيّة، و الاستحقاق يكون من جهة تفويت موضوع الواجب بسوء الاختيار، نظير حرق جسد الميّت قبل غسله، و هذا أيضا سالم عن المحذور العقلي، و لكن لا يجامعه قوله عليه السّلام: و قد تمّت صلاته، إذ عليه ليس ما فعله بصلاة حقيقة، و مقتضاه كونه صلاة تامّة.

و الرابع:

أن يكون هنا مصلحتان: إحداهما قائمة بالمطلقة، و الأخرى بالمقيّدة، لكن كانت الثانية في طول الاولى، لا في عرضها، بمعنى أنّ مصلحة المقيّد متقوّمة بتحصيل القيد في ضمن صرف الوجود، و لهذا لو أتى بصرف الوجود بدون القيد فقد فات منه محلّ المصلحة القائمة بالمقيّد، و لكن قد أدرك المصلحة القائمة بالمطلقة، فالتعبير بتماميّة الصلاة بملاحظة إدراك هذه المرتبة من الصلاة، و الاستحقاق بملاحظة تفويت المرتبة الأتمّ الحاصلة من انضمام واجبين مستقلّين، و هذا أيضا خال عن المحذور و عن المنافاة مع القول المذكور، و لكنّ اللازم منه الحكم بالصحّة لو أتى بالإخفات أو الجهر في موضع ضدّه عالما عامدا، و لا يقولون به.

لا يقال: لعلّه من جهة الإخلال بقصد القربة المعتبرة في الصلاة مع العلم مع محفوظيّته بحاله مع الجهل و لو تقصيرا.

فإنّا نقول: قد تقرّر في محلّه أنّ الضدّ المبتلى بالأهمّ يصحّ وقوعه عبادة، و هذا من هذا القبيل، فإنّ الصلاة الإخفاتيّة ضدّ للجهريّة و بالعكس و يكون مفوّتة لها

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 87

بالمضادّة، مع كون ما فات أهمّ.

الخامس: أن نلتزم بالمصلحتين على نحو ما تقدّم، لكن مع تقييد المصلحة القائمة بصرف الوجود بحال الجهل بالمصلحة القائمة بالمقيّد، فيكون سنخه سنخ الحكم الظاهري، لكنّ الفرق أنّ الحكم الظاهري لا مصلحة تحته بناء على الطريقيّة، و هذا تحته مصلحة.

و حينئذ فإن صحّحنا وجود الأمرين الفعليّين بواسطة اختلاف الرتبة و إن كان الموضوع متّحدا في الخارج فلا إشكال في صحّة التقرّب بقصد امتثال الأمر الفعلي المتوجّه إلى الجاهل، و إن لم نصحّحه فيكون الموجود في حقّ الجاهل بالنسبة إلى الصلاة الفاقدة صرف الملاك و الجهة، و هو كاف في العباديّة أيضا، و

هذا الوجه كما ترى سليم عن جميع الإشكالات.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 88

[المسألة] الثانية يستثنى من وجوب الإخفات في أوليي الظهر يوم الجمعة
اشارة

سواء أتى فيه بالجمعة أم بالظهر مكانها، فلا يجب الإخفات في أولييهما.

أمّا الجمعة

فالأخبار بالجهر فيها متظافرة، و ظاهرها الوجوب، و لا صارف عنه إلّا ما ادّعي من الإجماع على نفي الوجوب.

و استشكله صاحب الجواهر قدّس سرّه بأنّ المظنون إرادة مدّعيه أصل الرجحان في مقابل وجوب الإخفات في سائر الأيّام، فلا منافاة فيه مع ظاهر الأخبار، و يؤيّده ما حكي عن العلّامة قدّس سرّه من أنّه لم يقف على قول للأصحاب في الوجوب و عدمه.

و على كلّ حال فأصل المشروعيّة، بل مطلق الرجحان في الجملة ممّا لا ريب فيه نصّا و فتوى، و قد عرفت ظهور الأوّل في عدم مشروعيّة الإخفات، فإن تمّ إجماع على مشروعيّته أيضا كان صارفا لظهور النصّ، و إلّا كما هو الظاهر فالأقوى هو الوجوب، هذا هو الكلام في الجمعة.

و أمّا صلاة الظهر يومها

فهل هي أيضا ملحقة بها في رجحان الجهر أو وجوبه، أو هي مثل الظهر في سائر الأيّام في وجوب الإخفات؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 89

اختلف الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم في ذلك، لكن المشهور على الاستحباب، و قيل بالتفصيل بين الإمام و المنفرد بالاستحباب في الأوّل و المنع في الثاني، و المنشأ اختلاف الأخبار.

فمنها: ما يدلّ على مشروعيّة الجهر بل و وجوبه، كصحيحة الحلبي «قال:

سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يصلّي الجمعة أربع ركعات، أ يجهر فيها بالقراءة؟

قال عليه السّلام: نعم و القنوت في الثانية» «1».

تقريب الاستدلال أنّ قوله عليه السّلام: نعم، بمنزلة قوله: يجهر فيها، و هو جملة خبريّة، و ظهورها في الوجوب أبلغ من الصيغة كما قرّر في الأصول، نعم قد يقال:

إنّها بواسطة ورودها مورد توهّم الحظر لا دلالة لها على الوجوب، و لكنّ الحقّ أنّها واردة مورد توهّم الوجوب بناء على القول بوجوب الجهر في الجمعة المصطلحة، إذ الظاهر

أنّ نظر السائل إلى أنّ الظهر حكمها حكم الجمعة في وجوب الجهر أوّلا، فأجاب عليه السّلام: نعم، كما أنّا لو قلنا بالاستحباب في الجمعة كان مفاد الخبر هو الاستحباب في الظهر.

و مثلها في الدلالة صحيحته الأخرى، إلّا أنّه قال: أجهر بالقراءة؟

فقال عليه السّلام: نعم «2». مضافا إلى قوله عليه السّلام: اجهروا، و قوله عليه السّلام: و القراءة فيها جهر في خبرين آخرين «3».

و إذن فحيث عرفت ابتناء الأمر في هذه الأخبار على الحال في الأخبار

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2 و 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 90

الواردة في صلاة الجمعة و أنّه هل يستفاد منها الوجوب أو لا، فاعلم أنّ الإنصاف عدم ظهور واحد من أخبار ذلك الباب في الوجوب، إذ لم يرد خبر في مقام إفادة حكم الجهر مستقلّا، بل الأخبار بين وارد مورد حكم آخر، و بين ما ذكر فيه بعض المستحبّات، فيوهن بذلك ظهوره في الوجوب، و الأولى التيمّن بذكرها حتّى يتّضح الحال، فنقول و على اللّٰه التوكّل:

منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه «قال: إنّما فرض اللّٰه عزّ و جلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا و ثلاثين صلاة، إلى أن قال عليه السّلام: و القراءة فيها بالجهر، و الغسل فيها واجب» «1».

و صحيحة عبد الرحمن العزرمي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا أدركت الإمام يوم الجمعة و قد سبقك بركعة فأضف إليها ركعة أخرى و اجهر فيها، و إن أدركته بتشهّد فصلّ

أربعا» «2».

و صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة و ليلبس البرد و العمامة و يتوكّأ على قوس أو عصا و ليقعد قعدة بين الخطبتين و يجهر بالقراءة و يقنت في الركعة الأولى منهما قبل الركوع» «3».

و ما رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن عمران أنّه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام فقال: لأيّ علّة يجهر في صلاة الجمعة و صلاة المغرب و صلاة العشاء الآخرة و صلاة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1 و 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 91

الغداة، و سائر الصلوات الظهر و العصر لا يجهر فيهما إلى أن قال: «فقال عليه السّلام: لأنّ النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله لمّا اسري به إلى السماء كان أوّل صلاة فرض اللّٰه عليه الظهر يوم الجمعة فأضاف اللّٰه عزّ و جلّ إليه الملائكة يصلّي خلفه و أمر نبيّه صلّى اللّٰه عليه و آله أن يجهر بالقراءة ليتبيّن لهم فضله» الحديث.

و رواه في العلل عن حمزة بن محمّد بن العلوي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عليّ بن معبد عن الحسين بن خالد عن محمّد بن حمزة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام مثله، إلّا أنّه ذكر صلاة الفجر موضع صلاة الجمعة و ترك ذكر صلاة الغداة «1».

و صحيحتا جميل و محمّد بن مسلم الآتيتان إن شاء اللّٰه تعالى.

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا صحيحتا زرارة و عمر بن يزيد فقد سمعت

كونهما مشتملتين على ذكر المستحبّ في تلو الجهر، أعني: غسل الجمعة في الاولى و التوكّؤ على القوس أو العصا و القنوت في الثانية.

و أمّا صحيحة عبد الرحمن فهي واردة مورد حكم آخر و هو بيان أنّ المأموم المسبوق لا يصير صلاته منقلبة إلى الظهر، بل هي باقية على كونها جمعة، فإذا فارق الإمام يعمل بوظيفة الجمعة لا الظهر، فذكر الجهر إنّما هو مسوق لبيان ذلك.

و أمّا رواية الصدوق فمضافا إلى اختلاف النسخة يمكن أن يقال: إنّ السؤال إنّما هو عن العلّة في فعل الجهر في الصلاة المذكورة، لا عن العلّة في إيجابه، و مجرّد وقوع الجمعة في تلو المغرب و العشاء و الغداة لا يفيد المساواة في الحكم بعد كون السؤال عن علّة العمل، و هو مشترك في الجميع.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 92

فإن قلت: سلّمنا، و لكن قوله عليه السّلام: و أمر نبيّه صلّى اللّٰه عليه و آله أن يجهر بالقراءة لا ينكر ظهوره في الوجوب، فإنّ مادّة «ا م ر» قد سلّم في الأصول ظهورها في الوجوب كالصيغة.

قلت: بعد كون السؤال عن العلّة في وقوع الجهر فلا ظهور في هذه الفقرة أيضا، إذ غايته أنّ الأمر الصادر إلى النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله ليلة المعراج كان وجوبيّا و هو صار علّة للتشريع على الأمّة، لكن لا يلزم أن يكون هذا الأمر علّة للوجوب في حقّ الأمّة، بل لعلّه صار علّة للاستحباب في مقام التشريع.

و أمّا الصحيحتان الأخيرتان فالظاهر أنّ الأمر فيهما لبيان نفي النهي، حيث إنّه مسبوق بالنهي عن الجهر في الظهر الذي يجمع به في السفر، فكأنّه قال:

الجماعة التي تنعقد في السفر يصلّى بأربع ركعات و الجهر فيها ممنوع، و إنّما الذي لا منع عن الجهر فيه هي الجماعة التي لها خطبة، و هي ما كان في الحضر.

و حينئذ فنقول: ظهور الأخبار المتقدّمة في الظهر يوم الجمعة حيث إنّ الظاهر كونها بمقام السؤال عن التسوية بين الظهر و الجمعة غير مسلّم في الوجوب بعد ما عرفت عدم ظهور الأخبار الواردة في الجمعة في الوجوب، و لعلّه لذا لم يصرّح مفت في الفقهاء رضوان اللّٰه تعالى عليهم بالوجوب في الجمعة، و من المستبعد كون أمر واجبا و لم يصرّحوا به في شي ء من المظانّ، كما أنّه من المستبعد وجوب الجهر في الظهر و لم يصر ذلك مبانا بين الأمّة مع كثرة ابتلائهم به في كلّ أسبوع، بل القائل بوجوب الجهر فيه معدوم ظاهرا، و إنّما القول بين المنع عن الجهر و بين استحبابه مع جواز الإخفات، هذا حال الأخبار المذكورة في طرف الجهر، و قد عرفت عدم دلالتها على أزيد من الاستحباب.

بقي الكلام في معارضتها مع النهي عن الجهر الواقع في صحيحتي جميل و محمّد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 93

ابن مسلم، ففي الأولى: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الجماعة يوم الجمعة في السفر؟

فقال عليه السّلام: يصنعون كما يصنعون في غير يوم الجمعة في الظهر، و لا يجهر الإمام فيها بالقراءة، إنّما يجهر إذا كانت خطبة» «1».

و في الثانية: «سألته عن صلاة الجمعة في السفر؟ فقال عليه السّلام: يصنعون كما يصنعون في الظهر و لا يجهر الإمام فيها بالقراءة، إنّما يجهر إذا كانت خطبة» «2».

و قد يقال في مقام الجمع بأنّ هذا النهي حيث إنّه وارد مورد توهّم الوجوب، فمفاده

الإذن في الترك، كما أنّ الأمر بالجهر في الأخبار المتقدّمة حيث إنّه في مقام توهّم الحظر لا يفيد أزيد من الإذن في الفعل.

و بالجملة، فصلاة الظهر يوم الجمعة إذا قيس على الظهر في سائر الأيّام يكون موردا لتوهّم حظر الجهر، فالأمر في تلك الأخبار سيق لرفع هذا التوهّم، و إذا قيس إلى الجمعة عند حصول الشرائط يكون موردا لتوهّم وجوبه، فالنهي في هذين لدفع هذا التوهّم، فيكون مقتضى الجمع العرفي هو الرخصة في كلا الأمرين أخذا بنصّ كلّ من الدليلين و طرحا لظاهر كلّ منهما، هذا ما يقال.

و فيه أنّه ليس كلّ مخالفة ظاهر و لو بالنصّ القائم بقبالة منفصلا مقبولا عند العرف، بل المعتبر كونه متداولا غير مستوحش عند أهل المحاورة كما هو الحال في استعمال صيغة الأمر في مقام إفادة الرجحان الغير المانع عن النقيض، فإنّ إطلاق صيغة افعل في هذا المقام صار من الشائع، فإذا قام نصّ على الرخصة في الترك فلا بأس برفع [اليد] عن ذلك الظاهر بهذا النصّ، و ليس هكذا الحال في استعمال

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 8.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 94

صيغة لا تفعل في مقام إرادة الإذن في الترك، فإنّه غير مرسوم عند أهل المحاورة و إن كان ليس نصّا في رجحان الترك و مرجوحيّة الفعل، بل ظاهر في ذلك و نصّ في الإذن في الترك، فلو ورد نصّ في الرخصة في الفعل كان فعل الترك و الفعل مساويان، أو فعل الفعل أرجح من الترك، فليس حمل النهي على مجرّد الإذن في الترك جمعا عرفيّا، و

الحكم في هذا الباب مراجعة الوجدان و أهل اللسان.

و حينئذ فيمكن أن يقال: إنّ النهي في هذين الخبرين يحتمل وروده في حال و زمان كانت الشيعة في تلك الحال و الزمان مبتلين بالتقيّة و الخوف، و يشهد لذلك أنّ السائل في أحد هذين محمّد بن مسلم، و هو الراوي أيضا لواحد من أخبار الأمر بالجهر، حيث قال: «قال لنا- يعني أبا عبد اللّٰه عليه السّلام-: صلّوا في السفر صلاة الجمعة جماعة بغير خطبة و اجهروا بالقراءة، فقلت: إنّه ينكر علينا الجهر بها في السفر؟

فقال عليه السّلام: اجهروا بها» «1».

فإن قلت: كيف و قد ذكر في هذه الرواية أيضا إنكار العامّة، و مع ذلك أمر عليه السّلام بالجهر، فقد أمر به في موضع التقيّة.

قلت: ليس في السؤال أزيد من أنّ الجهر من المستغرب عندهم، و ليس الجواب هو الأمر بالجهر في محضر منهم.

و بالجملة، فهذا الراوي الواحد روى كلتا الروايتين، و هذا شاهد على أنّ الثاني كانت لأجل كونها في مقام بيان حكم حال التقيّة، أعني تقيّة السائل، لا تقيّة الإمام عليه السّلام حتّى يكون على خلاف الأصل.

فإن قلت: يبعّد هذا الاحتمال أنّ محمّد بن مسلم كان عالما عارفا بحكم حال

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 95

التقيّة، فيبعد أن يكون سؤاله عن هذا الأمر الواضح.

قلت: ليس سؤاله عن ذلك، بل الظاهر أنّه تخيّل ثبوت الجمعة في السفر و سأل عنه، فأجاب الإمام عليه السّلام بالعدم، و ذكر النهي عن الجهر تطفّلا، فكأنّه قال عليه السّلام: لا صلاة جمعة في سفر، و اعلم أنّ الزمان زمان التقيّة، فلا يجهر الإمام بالقراءة، إنّما يجهر إذا

كانت خطبة، يعني في الحضر.

فإن قلت: العبرة بعموم اللفظ، و ليس في شي ء من لفظي السؤال و الجواب ما يوهم التقييد بالذي ذكرت أعني: حال التقيّة و الخوف، و الأصل الإطلاق حتّى يتبيّن الخلاف، فإنّ أصالة الإطلاق قد مهّدت لدفع القيود المحتملة، و هذا منها.

قلت: كما أنّه لو كان في السؤال أو في الجواب لفظ و احتمل أن يكون له مدخليّة في الجواب كما لو سئل عن حكم الرجل فقال: يجب عليه كذا، فاحتملنا أنّ هذا الحكم ممّا لا يشترك فيه الرجل و المرأة فلا إطلاق يدفع به هذا الاحتمال، و إنّما نتعدّى عن الخصوصيّات المذكورة في الأسئلة مع توجّه الجواب إليها، مثل كون الراوي شخصا خاصّا أو كون السؤال عن ملاقاة النجاسة لليد أو الثوب مثلا بواسطة القطع بعدم المدخليّة و مساواة هذا الشخص و غيره و اليد و الثوب و غيرهما في الحكم، و إلّا فلو كان الخصوصيّة المذكورة ممّا يحتمل دخله فليس لنا إطلاق ندفع به هذا الاحتمال.

و لا ينافيه عدم إضرار القدر المتيقّن في مقام التخاطب بالأخذ بالإطلاق، فإنّه في ما إذا كان موضوع القضيّة بحسب اللفظ عامّا، و لكن كان بعض الأفراد متيقّنا.

و ما نحن فيه هو ما إذا لم ينعقد القضيّة ابتداء إلّا في الموضوع الخاصّ، لكن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 96

يحتمل عدم مدخليّة الخصوصيّة و تعلّق الحكم بالعامّ، و ذكره من باب المثال و كونه أحد الأفراد و يحتمل المدخليّة، ففي هذه الصورة لا مجال للأخذ بالإطلاق، هذا في صورة الذكر.

فكذلك لو وجّه الخطاب إلى شخص خاصّ بدون عموم في لفظ الجواب، و لكن يحتمل كون ذلك الشخص واجدا لخصوصيّة كانت ذات مدخليّة في الحكم المذكور،

فليس لنا التعدّي إلى فاقد تلك الخصوصيّة، كما لو وجّه الخطاب إلى شخص كائن من وراء الجدار و لا يرى شخصه و يحتمل كونه رجلا و كون هذا الحكم مختصّا به بعنوان الرجوليّة، فليس لنا التعدّي إلى المرأة.

فنقول: من هذا القبيل ما نحن فيه، فإنّ الخطاب في الخبر موجّه إلى محمّد بن مسلم، و نحن نعلم أنّ خصوصيّة كونه محمّدا و ابن مسلم غير دخيلة، و لكن من المحتمل باحتمال عقلائي لا مدفع له بأصل من الأصول كونه في حال هذا الخطاب مبتلى بالتقيّة و الخوف، و كذا عامّة الشيعة بحيث كان الجهر مظنّة لإيراث الفتنة و كان الخطاب المذكور مسبّبا عن هذه الجهة، و قد عرفت أنّه يشهد له أيضا أنّه سمع من الإمام عليه السّلام مرّة أخرى الأمر بالجهر، و قال هو هذا من المنكرات عند العامّة، و أمره أيضا بالجهر، و لم يعترض في شي ء من الروايتين، فيعلم أنّه أيضا فهم أنّ الأمر هو الحكم الأوّلي و النهي هو الحكم الثانوي.

و على هذا فمقتضى الأخبار المتقدّمة الآمرة بالجهر التي عرفت عدم دلالتها على أزيد من الاستحباب هو رجحان الجهر، و من المعلوم أنّه مقيّد بغير حال التقيّة و الخوف، و أمّا فيها فيحرم الجهر، و يحتمل كون الخبرين أيضا مسوقين لذلك، لوجود الحالتين في زمان صدور الخبرين، و معه لا يبقى مجال لرفع اليد عن إطلاق سائر الأخبار في إفادة الرجحان بالنسبة إلى حالة الأمن و عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 97

التقيّة، و اللّٰه تعالى هو العالم.

ثمّ لو سلّم عدم كون ما ذكرنا أيضا وجها وجيها فلا محيص عن بقاء التعارض بين الطائفتين و عدم الجمع العرفي في البين، فيجب

الرجوع إلى المرجّحات، و قد يقال بأنّ المرجّح مع الطائفة الآمرة بملاحظة مخالفتها مع العامّة و موافقة الناهية معهم.

و لكنّ الحقّ ترجيح الطائفة الناهية بملاحظة موافقتها مع عموم السنّة الدالّ على وجوب الإخفات في الصلاة النهاريّة الظهر و العصر، كقوله عليه السّلام في ما رواه الصدوق: «و الصلاتان اللتان لا يجهر فيهما إنّما هما بالنهار» «1».

و قد حقّق في محلّه أنّ الترجيح بموافقة العموم القرآني أو الموجود في السنّة مقدّم على الترجيح بمخالفة العامّة، و على هذا يجب الإخفات، فالمتحصّل من مجموع ما ذكرنا أنّ الجهر في ظهر يوم الجمعة أفضل، و الإخفات أحوط.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 98

[المسألة] الثالثة [عدم معذورية المتعمد]

لا إشكال في أنّ مقتضى صحيحة زرارة المتقدّمة الواردة في من جهر بالقراءة في ما لا ينبغي الجهر فيه معذوريّة الناسي و الساهي و الجاهل، و عدم معذوريّة المتعمّد.

و هل المعيار هو الشرطيّة الاولى، أعني: عدم معذوريّة المتعمّد، فالشرطيّة الثانية من باب ذكر أحد المصاديق لمفهوم الأولى، أو أنّ المعيار هو الثانية، فالأولى من باب أحد المصاديق لمفهومها.

و تظهر الثمرة في ما إذا أخفت في موضع الجهر أو عكس بدون تحقّق شي ء من عنواني التعمّد و سائر المذكورات بقبالة، كما لو كان لسبق اللسان أو مانع آخر عن ظهور جوهر الصوت، فإنّه خارج عن عنوان المتعمّد و كذا الناسي و الساهي و الجاهل.

فإن قلنا بالأوّل نحكم فيه بالمعذوريّة، لأنّه من مصاديق غير المتعمّد، و قد فرضنا أنّ كلّ من كان غير متعمّد فهو محكوم بالمعذوريّة.

و إن قلنا بالثاني نحكم بالعدم، لأنّ المفروض الحكم بعدم معذوريّة كلّ من لم يكن بناس و لا ساه

و لا جاهل، و هذا أيضا كذلك.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 99

و الظاهر من الوجهين هو الأوّل، و لا يبعد ادّعاء ذلك في عامّة نظائره كما في قولك: إن غسلته بالمركن فمرّتين، و إن غسلته في الجاري فمرّة واحدة، فيحكم بأنّ المراد إثبات المرّتين في القليل و كفاية المرّة في غيره و لو لم يكن جاريا كالكرّ.

و لو كان جاهلا بمفهوم الجهر و الإخفات مع العلم بالصغرى و الكبرى، بمعنى أنّه يعلم أنّ هذه الصلاة صلاة الظهر، و يعلم أنّ صلاة الظهر يجب شرعا فيها الإخفات، و لكنّه تخيّل أنّ أدنى مرتبة الجهر من الإخفات، فهل يحكم فيه بالعذر نظرا إلى أنّه داخل في مفهوم لا يدري، لعمومه لكلّ جهل موضوعيّا أم حكميّا أم مفهوميّا، أو بالعدم، نظرا إلى أنّ قوله عليه السّلام: لا يدري، ليس المراد به مطلق من لا يعلم، و إلّا لم يصحّ مقابلته بالناسي و الساهي، لأنّهما أيضا من أفراد من لا يعلم، فالمقابلة قرينة على إرادة الجاهل بالموضوع جهلا مركّبا، كمن اعتقد أنّ التي بيده صلاة الظهر و قد كانت مغربا، أو بالحكم بسيطا أو مركّبا، كمن يتردّد في حكم صلاة الظهر أو يعتقد كونه الجهر، و قد عرفت أنّ الشخص المفروض خارج عن كلا القسمين، لأنّه عالم بالموضوع و الحكم معا، و إنّما يكون جاهلا بأمر غيرهما و هو المفهوم.

ثمّ إنّه داخل في من تعمّد الجهر موضع الإخفات، لأنّ فعل الجهر وقع منه عن عمد، فيكون داخلا في المنطوق.

الظاهر هو الأوّل، فإنّ المقابلة غير مقتضية لعدم الشمول لهذا القسم، فإنّ النسيان و السهو أيضا كما يتصوّران بالنسبة إلى الموضوع و الحكم يتصوّران بالنسبة إلى المفهوم، فيكون الجهل أيضا

عامّا.

اللّٰهمّ إلّا أن يدّعى الانصراف إلى السهو و النسيان الراجعين إلى الحكم أو الموضوع، و بقرينتهما يكون الجهل أيضا خاصّا بهما، و لكن هذه الدعوى مشكلة،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 100

هذا هو الكلام في الجهل بالمفهوم.

و أمّا الجهل بالحكم فلا إشكال في معذوريّة الجاهل المركّب، و أمّا المتردّد فإن ادّعي انصراف كلمة لا يدري إلى الجهل التركيبي فلا إشكال في دخوله تحت المتعمّد، و لكن الظاهر عدم صحّة هذه الدعوى، و لهذا نقول بعموم أدلّة الأصول، مع أنّ الموجود فيها عدم العلم، و كذا أدلّة شكوك الصلاة، مع أنّ الموجود في بعضها كلمة لا يدري.

فإن قلت: سلّمنا عدم الانصراف، و لكن لا إشكال في صدق المتعمّد بالنسبة إلى الشاكّ المتردّد أيضا، فمقتضى القاعدة بناء على معياريّة الصدر هو الحكم بعدم العذر.

قلت: و إن كان المعيار هو الصدر بناء على ما قوّيناه، و لكن إذا فرّع المتكلّم عليه معذوريّة الجاهل يعلم أنّ المراد من المتعمّد هو من لا يشمل الجاهل و لا عكس بأن يقال: إنّ المراد من الجاهل هو من لا يشمل المتعمّد، و ذلك لأنّه يدفع ذلك إطلاق كلمة الجاهل، و العرف أقوى شاهد، حيث إنّهم يأخذون بإطلاق الجاهل و يتصرّفون في المتعمّد بحمله على غير هذا الفرد.

فإن قلت: سلّمنا ذلك، و لكن الجاهل المتردّد لا يتمشّى منه قصد القربة، فيبطل صلاته من هذه الجهة، كما صرّح بذلك شيخنا المرتضى قدّس سرّه في صلاته.

قلت: الحقّ عدم المانع من هذه الجهة أيضا، إذ أوّلا: يمكن أن يأتي بالجهر مثلا في حال الجهل برجاء مطابقته للواقع، فإن انكشف الوفاق فهو، و إلّا فيكون معذورا بمقتضى قوله عليه السّلام: و قد تمّت صلاته.

و ثانيا: يمكن أن

يلتفت إلى حكم الجاهل و يدعوه هذا الأمر إلى العمل، فيكون متقرّبا بسببه، و بالجملة فالظاهر شمول لفظة لا يدري للجهل الترديدي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 101

نعم يمكن أن يقال بالفرق بين القادر على الفحص و لم يفحص، و بين العاجز عنه و القادر الذي فحص و لم يظفر، فيدّعى انصراف الكلمة عن القسم الأوّل، و لهذا نحكم في الشكوك الصلاتيّة بالتروّي مقدارا يصدق استقرار الشكّ عرفا، فإنّ من بجنبه من لو سأله لاتّضح له الحال لا يصدق عليه أنّه لا يدري، أو أنّه لا يعلم أو يشكّ.

نعم قام الإجماع في الشبهات الموضوعيّة بعدم لزوم الفحص، و أمّا الشبهات الحكميّة فلزوم الفحص فيها بديهي، و سرّه هو ما ذكرنا من انصراف أدلّة الرخصة في الشكوك إلى الشكوك المستقرّة دون الابتدائيّة.

و على هذا فالجاهل المتردّد القادر على الفحص و السؤال بسهولة لو صلّى و خالف الواقع فلا نحكم بمعذوريّته، لكونه باقيا تحت عنوان المتعمّد، و أمّا القسمان الآخران فلا وجه للقول بعدم العذر فيهما.

و الذي أفاده شيخنا الأستاذ أدام اللّٰه علينا فيض أنفاسه القدسيّة أنّ الحقّ اختصاص كلمة لا يدري بالجهل المركّب و خروج الجهل البسيط عنه، و كذا عن العمد، بيان ذلك أنّ الظاهر من الصدر أعني قوله عليه السّلام: أيّ ذلك فعل متعمّدا إلخ أنّ العنوان المفروض في السؤال و هو الجهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه و الإخفاء في ما لا ينبغي الإخفاء فيه وقع مستندا إلى العمد و الاختيار، و من المعلوم أنّه لا يتّفق ذلك إلّا بعد العلم بكونه جهرا في موضع الإخفات أو بالعكس، و لا يكفيه مجرّد وقوع الجهر في حال الالتفات بدون استناد لحيث كونه في

موضع الإخفات إلى عمده و إرادته، كما هو الحال في الشاكّ، فإنّه و إن كان صدور الجهر باختياره و بتسبيب من إرادته و عمده، لكنّه من جهة كونه في موضع الإخفات غير مستند إلى العمد و الاختيار، و هذا واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 102

ثمّ ظاهر المقابلة بين الصدر و الذيل كون أحد العناوين المذكورة في الذيل علّة لوقوع العنوان المذكور في السؤال، و هذا في النسيان و السهو و الجهل المركّب صحيح، إذ يصحّ أن يقال: وقع الجهر في موضع الإخفات مستندا إلى النسيان، أو إلى السهو، أو إلى الجهل المركّب، و أمّا الشاكّ فلا يصحّ فيه أن يقال: الشكّ سبب للجهر في موضع الإخفات، لأنّ الطرفين في نظر الشاكّ متساويان، فلا يعقل صيرورة الشكّ علّة لوقوع أحد الطرفين، لأنّه ترجيح بلا مرجّح، فالشكّ غير دخيل في حصول الجهر المذكور بالمرّة، و قد عرفت أنّ العمد أيضا لم يتعلّق به بالعنوان المذكور، أعني كونه في غير الموضع، بل تعلّق به بعنوان الرجاء و الاحتياط.

و الحاصل أنّ الظاهر من الصدر و الذيل كون الأمور المذكورة أسبابا و عللا للعنوان المذكور، و حيث ليس ذلك متحقّقا في موضوع الشاكّ فيكون خارجا عن كلا الطرفين.

فإن قلت: من أين يستفاد السببيّة و ليس قوله: متعمّدا، و كذا قوله: ناسيا أو ساهيا، أو لا يدري، إلّا حالا، و لا يفيد إلّا تلبّس الفاعل بأحد هذه المبادي حال الفعل بالأعمّ من كونه على وجه السببيّة و الاستناد أو غيره.

قلت: بيننا و بينك العرف، فالمدّعى أنّ قول القائل: فعل فلان كذا عمدا أو عامدا أو ساهيا أو ناسيا أو جاهلا مساوق لقولنا: عن عمدا أو عن نسيان إلخ.

فإن قلت: قد

قلت سابقا: إنّ المعيار هو الصدر، فاللازم على حسبه القول بالعذر، لأنّه خارج عن الصدر و إن لم يدخل في عنوان لا يدري أيضا كما قلت في عنوان سبق اللسان.

قلت: المفروض في الشرطيّة وجود سبب في البين للعنوان المذكور، و بعد الفراغ عن هذا سيق الشرطيّتان، فكأنّه قيل: إن كان السبب من اختياره فكذا،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 103

و إن كان من غير اختياره فكذا، و الحاصل أنّ الشرطيّة قد يكون كقولنا: إن وقع العنوان المذكور، بسببيّة اختياره فكذا، و إلّا فكذا، و من المعلوم دخول ما نحن فيه حينئذ في المفهوم.

و قد يكون هكذا: السبب فيه إن كان اختياره فكذا، و إلّا فكذا، فحينئذ لا يدخل فيه، لأنّ السبب هو العمد، لكن لا بعنوان الواقع، بل بعنوان احتماله و رجائه، و الظاهر من التعبيرين في الخبر هو الثاني، و على هذا فلا بدّ من الرجوع في الشكّ إلى مقتضى القواعد.

و هل المعذوريّة في الناسي و أمثاله مختصّ بما إذا تذكّر بعد الفراغ، أو يعمّه و ما إذا تذكّر في الأثناء و لو كان قبل الركوع، بل و لو كان في أثناء الآية لا يجب عليه إعادة ما قرأه، الحقّ هو الثاني لوجهين:

أحدهما: ما قيل في تعميم قاعدة لا تعاد بالنسبة إلى الأثناء من كون الإعادة أعمّ من الاستئناف في لسان الأخبار، و لكن لا يخفى أنّه لا ينفع لجميع أفراد المقام، فإنّ المقصود في القاعدة الحكم بالصحّة عند التذكّر بعد المحلّ، فلو نسي الحمد و تذكّر بعد السورة قبل الركوع يجب عليه التدارك، و المقصود في المقام هو الحكم بالصحّة و لو كان في أثناء الآية فضلا عن كونه بعد الفراغ من الحمد

أو السورة، ركع أم لم يركع.

فالتعميم من هذه الجهة محتاج إلى الوجه الثاني و هو أنّ قوله عليه السّلام في الصحيحة: أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته ليس المراد به الحكم بالنقض بعد فراغه من الصلاة، بل المقصود ترتّب النقض أو النقصان بمحض إخلاله العمدي، كما هو الحال لو قيل: من تكلّم في الصلاة فقد أبطل صلاته، حيث إنّ المراد قطعا حصول الإبطال حين وقوع التكلّم و لو فرض أنّ المفروض في كلام السائل و المجيب هو إتمام الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 104

فإن قلت: بعد ما كان المفروض كون المصلّي قد فرغ من صلاته و قد أخلّ بالجهر عمدا فالحكم بالبطلان لا ينفع بالنسبة إلى من فعل ذلك و لمّا يركع، إذ لعلّ البطلان في مفروض الرواية لكونه قد أخلّ و لم يتدارك في المحلّ.

قلت: و إن كان المفروض إتمامه الصلاة بهذا الوجه من غير تدارك في المحلّ، لكن إذا علّق الإمام عليه السّلام الحكم بالبطلان بمحض كونه فعل ذلك متعمّدا فهو ظاهر لو لم يكن بصريح في أنّ تمام العلّة في البطلان هو هذا العنوان، لا هو مع ضميمة تركه للتدارك.

ثمّ إذا كان المراد بقوله: نقض، هو الحكم بالنقض عند الإخلال العمدي فبقرينة المقابلة يكون المراد من قوله عليه السّلام: و إن فعل ذلك، إلى قوله: و قد تمّت صلاته، أيضا أنّه لم يحدث من قبل ما فعله بأحد الوجوه المذكورة نقصان في صلاته كما كان قد حصل بواسطة الإخلال العمدي، و مقتضى ذلك عدم لزوم الإعادة، إذ لو لزم الإعادة فمقتضاه ورود النقصان من قبل الإخلال السهوي و أمثاله، و هو خلاف قوله عليه السّلام: تمّت صلاته قبالا لقوله: نقض

صلاته، فافهم و اغتنم.

ثمّ إنّ المتيقّن من الرواية هو الإخلال في القراءة في الأوليين، و أمّا التسبيحات أو القراءة في الأخيرتين فخارج عنها، و هل يختصّ بالإخلال بما هو الوظيفة الأوّليّة أو يعمّه و ما صار وظيفة بالعنوان الثانوي كالمأموم المسبوق و كالمرأة إن قلنا بأنّ صوتها عورة يحرم إسماعها الأجنبيّ أو فرضناه في موضع الريبة، حيث يحرم عليهما الجهر و إن كان هو الوظيفة الأوّلية؟

الظاهر الأوّل، إمّا لدعوى الانصراف أو لعدم الجزم بالإطلاق فيجب المشي فيه على القواعد و هو الحكم بالصحّة بعد الفراغ أو في الأثناء بعد المحلّ في النسيان و السهو و الحكم بالبطلان في العمد و الجهل الحكمي، قصورا كان أو تقصيرا.

ثمّ إنّ الأخبار المتعرّضة لحكم الجهر و الإخفات في الصلوات و أصل تشريعهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 105

خالية عن ذكر الرجل و إن كان على تقدير الذكر لم يكن لنا التعدّي إلى المرأة، لعدم إطلاق في اللفظ يدفع به هذا الاحتمال، بل علّق الحكم على الصلوات النهاريّة و غيرها من دون ذكر لاسم الرجل.

نعم في صحيحتي زرارة الواردتين في مقام حكم الإخلال بالجهر و الإخفات في مواضعهما قد ذكر اسم الرجل، لكن لا يحتمل الاختصاص من هذه الجهة، بمعنى أنّه لو ثبت من دليل آخر وجوب الإخفات على المرأة نعلم بأنّها أيضا في حكم الرجل لو أجهرت مكان الإخفات في التفصيل المذكور في الصحيحة.

و على هذا فنقول: أمّا وجوب الإخفات عليها في الظهرين فلا مانع من الأخذ بإطلاق ما دلّ على وجوبه في الصلوات النهاريّة، و أمّا وجوب الجهر في الثلاثة الأخرى فهو أيضا كذلك حسب عموم ما دلّ على وجوبه في غير النهاريّة، لكن رواية عليّ بن

جعفر عليه السّلام المرويّة عن قرب الإسناد عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن النساء هل عليهنّ الجهر بالقراءة في الفريضة؟ قال عليه السّلام: لا، إلّا أن تكون امرأة تؤمّ النساء فتجهر بقدر ما تسمع قراءتها» «1». دلّت على نفي الوجوب عنهن، و بها يخصّص العموم المذكور، و بعد ذلك يبقى وجوب الإخفات بالأصل، فيكون الحاصل جواز الأمرين لهنّ في الثلاثة لو لم نقل بظهور ذلك من نفس الرواية، لكن هذا في ما إذا لم يكن أجنبيّ يسمع صوتها بناء على كون صوتها عورة أو فرض تحقّق الريبة، فإنّه حينئذ لا إشكال في حرمة الإجهار عليها.

لكن لو عصت و أجهرت فهل يكون ذلك من موارد اتّحاد الحرام مع الواجب أعني: الإجهار مع القراءة، أو أنّ النهي متعلّق بما هو خارج عن القراءة؟

قد يقال بالأوّل نظرا إلى أنّ القراءة من مقولة الصوت، و لهذا اشتهر بينهم

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 31 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 106

تعريف اللفظ بالصوت المعتمد على مخارج الفم، و لا إشكال أنّ الجهر و الإخفات أيضا من كيفيّات الصوت.

و فيه: أنّ القراءة لا يتحقّق بدون الصوت كما لا تحقّق لها بدون القارئ و مخارج الفم، لا أنّ مفهومها واحد، و الشاهد على هذا أنّه لا يصحّ حمل أحدهما على الآخر، فلا يقال: القراءة صوت، و لا الصوت قراءة، كما لا يصحّ ذلك بالنسبة إلى الجهر و الإخفات، فلا يقال: القراءة جهر أو إخفات، بل يقال: جهريّة أو إخفاتيّة، نعم بينهما تلازم في الوجود، فلا يمكن التفكيك بين القراءة و الصوت.

نعم يمكن أن يقال: إنّ الذي وقع تحت النهي في بعض الأخبار هو

عنوان تكلّم المرأة عند غير زوجها و غير ذي محرم، كما في رواية الحسين بن زيد المرويّة في الوسائل في كتاب النكاح عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في حديث المناهي «قال عليه السّلام: و نهى ان تتكلّم المرأة عند غير زوجها و غير ذي محرم منها أكثر من خمس كلمات ممّا لا بدّ لها منه» «1».

و في رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، و كثرة مناقشة النساء، يعني محادثتهنّ» «2» الخبر.

و على هذا فلو حمل هذا النهي على التحريم و إن كان خلاف الظاهر لوقوعه في سياق ما يقطع بكراهته يتحقّق الاتّحاد بينه و بين القراءة كما هو واضح، فلعلّ نظر من جعله من باب الاجتماع إلى هذا النهي بناء على الحرمة، لا للبناء على تحريم إسماع صوتها مطلقا، هذا ما قاله العلّامة الأستاذ دام ظلّه، فتأمّل.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب النكاح، الباب 106 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب النكاح، الباب 106 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 107

[المسألة] الرابعة قيل: أقلّ الجهر أن يسمعه القريب الصحيح السمع إذا استمع،

و الإخفات أن يسمع نفسه إن كان يسمع، و مقتضاه عدم الوجود للإخفات أو بعسر و حرج، و لهذا جعل ذلك بعضهم أدنى الإخفات، و مقتضاه اجتماعهما في بعض المراتب، و هو خلاف ما يتبادر إلى الذهن من كونهما و صفين متضادّين، و أحاله بعض آخر إلى العرف، و فيه أنّه أيضا غير صحيح، لأنّ العرف يجعلونهما متضايفين، فكلّ مرتبة أخفى إخفات بالنسبة إلى ما فوقها،

و كلّ عال بالنسبة إلى الأعلى منه سافل و بالعكس.

فما جعله بعضهم معيارا للمعنى العرفي من ظهور جوهر الصوت في الجهر و خفائه في الإخفات غير وجيه.

و الأسدّ الأمتن في الباب أن نتمسّك بسيرة المسلمين المقطوع كونها من لدن شرع الصلاة إلى زماننا هذا، و قد كانوا يصلّون خلف النبيّ و الأئمّة صلوات اللّٰه عليه و عليهم أجمعين إلى أن وصل إلينا، فهذا المرسوم بينهم هو الذي كان قد علّمهم النبيّ و الأئمة صلوات اللّٰه عليه و عليهم و شاهدوه منهم عليهم السّلام.

و لو لا ذلك أمكن أن يقال: إنّ المستفاد من الأدلّة المثبتة للجهر في موضعه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 108

رفع الصوت بحيث يعرف صاحبها عند السامع لو كان بينهما معارفة، و من الإخفات ما يقابله، و لا يخفى أنّه مع خفاء جوهر الصوت و لو كان على نحو البحّة لا يعرف الصاحب لو خفي شخصه، بخلاف ما إذا أظهر جوهر الصوت.

و لكن على هذا يلزم الالتزام بعدم كفاية ما كان على وجه الهمهمة مع ظهور جوهر الصوت، بل و اللازم عليه دخول ذلك في الإخفات، و السيرة تأباه و إن كان لا تأبى عدم دخوله في الجهر، و إلّا فمن حيث الجهات الأخر مطابق مع السيرة، فإنّ محلّ السيرة في الجهر هو ما لا يتعدّى في العلوّ عن المتعارف كما هو ديدن المؤذّنين، و لا يصل في الخفاء إلى حدّ الهمهمة، كما أنّ محلّها في الإخفات هو الإخفاء لجوهر الصوت و لو بلغ حدّ البحّة، لكن هذا ممّا لا يساعده شي ء من الكلمات، لاتّفاق كلّها على دخول الهمهمة في الجهر، و إن كان الظاهر من البعض دخولها في الإخفات أيضا، هذا

حدّ الجهر و الإخفات.

و أمّا حدّ أصل القراءة الذي لو تجاوزه خرج عن اسم القراءة فأقلّه أن يسمع نفسه، فالأقلّ من ذلك خارج عن اسم القراءة عرفا، مضافا إلى النهي عنه في بعض الأخبار، فراجع.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 109

[المسألة] الخامسة يستحبّ في الصلوات الإخفاتيّة الجهر بالبسملة مطلقا

على المشهور، و قيل:

يختصّ الاستحباب بالإمام دون غيره، و قيل: يختصّ بالأوليين دون الأخيرتين لو اختار فيهما القراءة، و قيل بالوجوب مطلقا، و قيل به في خصوص الأوّلتين، هذه أقوال المسألة.

و أمّا الصلوات الجهريّة فيجب فيها الجهر بالبسملة كغيرها من أجزاء القراءة اتّفاقا، فالخلاف إنّما هو في الإخفاتيّة، و ينبغي التيمّن أوّلا بذكر ما ورد عن أهل بيت العصمة و الطهارة من الأخبار.

فنقول: منها: ما رواه في الكافي عن صفوان الجمّال «قال: صلّيت خلف أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أيّاما، فكان عليه السّلام إذا كانت صلاة لا يجهر فيها جهر ببسم اللّٰه الرحمن الرّحيم، و كان يجهر في السورتين جميعا» «1».

و منها: ما رواه فيه أيضا عن هارون عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: كتموا بسم اللّٰه الرحمن الرّحيم، فنعم و اللّٰه الأسماء كتموها، كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إذا دخل إلى

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 110

منزله و اجتمعت عليه قريش يجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرّحيم و يرفع بها صوته، فتولّى قريش فرارا، فأنزل اللّٰه تعالى وَ إِذٰا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ نُفُوراً «1».

و بعد ملاحظة كتمان العامّة للبسملة في ابتداء الفاتحة و السورة أو تركها رأسا يصير هذا الخبر ظاهرا في باب الصلاة.

و منها: ما رواه الشيخ قدّس سرّه

عن صباح الحذّاء عن رجل عن أبي حمزة «قال:

قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: يا ثمالي، إنّ الصلاة إذا أقيمت جاء الشيطان إلى قرين الإمام فيقول: هل ذكر ربّه، فإن قال: نعم، ذهب، و إن قال: لا، ركب على كتفيه و كان إمام القوم حتّى ينصرفوا، قال: فقلت: جعلت فداك، أ ليس يقرءون القرآن؟

قال عليه السّلام: بلى، ليس حيث تذهب يا ثمالي، إنّما هو الجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم» «2».

و منها: ما رواه الصدوق قدّس سرّه عن الأعمش عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين «قال عليه السّلام: و الإجهار ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم في الصلاة واجب» «3».

و عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه عليه السّلام إلى المأمون لعنه اللّٰه «قال عليه السّلام: و الإجهار ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم في جميع الصلوات سنّة» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2. و الآية في سورة الإسراء: 46.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 111

و عن رجاء بن أبي الضحّاك عن الرضا عليه السّلام «إنّه كان عليه السّلام يجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرّحيم في جميع صلواته بالليل و النهار» «1».

و منها: ما رواه في الكافي عن سليم بن قيس الهلالي «قال: خطب أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله متعمّدين لخلافه، و لو حملت الناس على تركها

لتفرّق عنّي جندي، أ رأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي كان فيه، إلى أن قال عليه السّلام: و حرّمت المسح على الخفّين و حدّدت على النبيذ و أمرت بإحلال المتعتين و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات و ألزمت الناس الجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم، إلى أن قال عليه السّلام: إذا لتفرّقوا عنّي» «2» الحديث.

بناء على أنّ المراد الجهر في الصلوات كما يشهد به سائر الروايات، و يشهد له الأخبار المستفيضة الواردة في أنّه من علائم المؤمن و الشيعة «3».

إذا عرفت ذلك فينبغي التكلّم في مقامات:

الأوّل: الظاهر من إطلاق روايتي الأعمش و الفضل بن شاذان عدم الفرق بين الإمام و المنفرد في رجحان الجهر، و يؤيّده ما عدّه من علائم المؤمن و الشيعة بعد ملاحظة مواظبة العامّة على الترك.

الثاني: و كذا لا فرق بحسب الظاهر بين الأوّلتين و الأخيرتين عند اختيار

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 7.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 38 من أبواب الوضوء، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 56 من أبواب المزار، الحديث 2، و لم نعثر على غير هذه الرواية.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 112

القراءة، لشمول إطلاق الروايتين، مضافا إلى عدم الدليل على لزوم الإخفات، لانحصار دليل أصل الإخفات في الأخيرتين بالعمل و الإجماع، و الأوّل لم يعهد من النبيّ و الأئمة صلوات اللّٰه عليه و عليهم استقراره على الإخفات، بل لم يعلم اختيارهم القراءة مع أفضليّة التسبيح، فضلا عن إخفات البسملة، و الثاني مفقود، لوجود الخلاف حسب الفرض، فيكون إطلاق الروايتين سليما عن المزاحم.

الثالث: الظاهر أنّ المأموم المسبوق سواء في الجهريّة أم في الإخفاتيّة يخفت بالبسملة، أمّا في الجهريّة

فلأنّ الروايات الواردة بالجهر بالبسملة إنّما دلّت على رجحان الجهر بها في مقام يخفت بالقراءة، و إلّا ففي مقام يجهر بها لا حاجة إلى الأمر في خصوص البسملة، فمصبّها الصلوات الإخفاتيّة.

لا يقال: صلاة المأموم المذكور أيضا إخفاتيّة بالعارض و إن كانت جهريّة بالذات.

لأنّا نقول: نعم، و لكنّ الظاهر من الأخبار إثبات الرجحان في ما كانت إخفاتيّة بالذات لا أقلّ من عدم الجزم بالإطلاق لما كانت إخفاتيّة بالعارض، و إذن فيبقى إطلاق ما دلّ على الإخفات في حقّ المأموم المذكور سليما عن معارضة هذه الأخبار و إن كانت النسبة على تقدير شمول الإطلاق عموما من وجه.

و أمّا في الإخفاتيّة فيمكن دعوى القطع بأنّه إذا كان احترام الجماعة موجبا للإخفات في ما كان الجهر واجبا بحسب الذات ففي ما كان مندوبا، كذلك يكون موجبا بطريق أولى.

الرابع: لا إشكال في دلالة الروايات المذكورة على أصل الرجحان، و أمّا أنّه على سبيل الوجوب أو الندب فمقتضى رواية الأعمش هو الأوّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 113

لا يقال: كلمة الوجوب لم يعلم ظهورها في لسان الأخبار في هذا المعنى المصطلح عند الفقهاء، بل هي باقية على معناها اللغوي من الثبوت، كما وقعت كذلك في بعض أخبار تحديد الغروب بذهاب الحمرة و هو قوله عليه السّلام: «فإذا جازت قمّة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الإفطار» «1» الخبر، و على هذا فلا دلالة لها على الوجوب المصطلح.

لأنّا نقول: نعم، و لكن إذا تمّت مقدّمات الإطلاق فهي محمولة على الوجوب المصطلح، فدلالتها عليه إنّما تكون بضميمة المقدّمات، لا بنفسها، و إذن فمقتضى الرواية المذكورة هو الوجوب.

و أمّا الأخبار الأخر فهي بين ما يحكي العمل، و لا منافاة فيه مع الوجوب، و بين

ما عبّر عنه بأنّه سنّة، و لا منافاة فيه أيضا، و بين ما ذكره من جملة علائم المؤمن و عدّه في عداد أشياء كلّها مستحبّات، و هذا أيضا غايته عدم الدلالة على الوجوب، لا أنّه من الأمارات على الاستحباب إمّا بوجه النصوصيّة أو الظهور الذي يترجّح على الخبر الأوّل، إذ من الممكن صيرورة واجب من خواصّ الشيعة كما في الولاية، كما يمكن عدّ مستحبّ في خواصّ هذه الأمّة، كما عدّ العاشوراء منها.

فالأولى أن يقال بموهونيّة ظهور نفس ذلك الخبر في الوجوب بعد ملاحظة صيرورة ترك الجهر شائعا بين العامّة و شعارا لهم، بحيث صار ذلك من بدعتهم التي اخترعوها، كما صرّح به في رواية سليم بن قيس، و رواية هارون المتقدّمتين، و إليه يشير قول مولانا الرضا صلوات اللّٰه عليه أنّه سنّة، فكأنّه عليه السّلام أراد أنّ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 114

ما فعلوه بدعة، فالحكم بالإيجاب بواسطة شدّة العناية، فإنّ العناية بالمندوب و السنّة التي همّت جماعة على إماتتها و إخفائها أعلى بمراتب من غيره الذي لم يعرضه ذلك.

و بالجملة، فمن المحتمل قويّا ورود هذه الكلمة في مقام ردع العامّة في بدعتهم، و لا يستفاد منها في هذا المقام أزيد من أصل الرجحان.

هذا مضافا إلى ما يستفاد من رواية الثمالي من مفروغيّة صحّة الصلاة على كلا الوجهين، أعني: الإجهار و العدم، حيث رتّب على الأوّل ذهاب الشيطان، و على الثاني ركوبه على كتف الإمام، لا لبطلان الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 115

الموقع الرابع في وجوب تعلّم القراءة

اشارة

و ما يتعلّق به و كيفيّة أداء الكلمات مادّة و هيئة، و حكم من لا يحسن القراءة، فهنا مسائل:

[المسألة] الأولى يجب على المكلّف تعلّم القراءة في الوقت أو قبله تخييرا،
اشارة

و لو فرض عدم تمكّنه بعده يجب قبله تعيينا، و هذا ممّا تقرّر في مبحث مقدّمة الواجب من الأصول.

إنّما الكلام في أنّ وجوب التعلّم هل هو على سبيل التعيين أو التخيير بينه و بين الائتمام، أو اتّباع القارئ أو القراءة من المصحف، فهنا ثلاثة مقامات:

[المقام] الأوّل:

لو تمكّن من الائتمام فهل يجب عليه التعلّم تعيينا، أو يجوز الاكتفاء بالائتمام؟ الذي قوّاه صاحب الجواهر قدّس سرّه حاكيا له عن كاشف الغطاء قدّس نفسه هو الأوّل، و استدلّ عليه بأنّ الاقتداء ليس من أفعاله، لتوقّفه على أمور خارجة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 116

عن قدرته، كعدم حدوث الحائل بينه و بين الإمام في أثناء الصلاة و نحوه من الموانع المحتمل حدوثها في الأثناء، و ما هذا شأنه كيف يصير متعلّقا للتكليف؟ و فرّع عليه أنّه لو ترك التعلّم في سعة الوقت و ائتمّ أثم و صحّت صلاته، هذا.

و فيه أنّه كما تكون الجماعة أفضل الفردين في حقّ المحسن للقراءة و معناه أنّه مع الفراغ عن المقدّمات الغير الاختياريّة يكون الأمر متعلّقا بما يرجع إليه و يكون من قبله، فكذلك هذا المعنى متحقّق في حقّ غير المحسن بلا شبهة.

و أمّا ما حكاه عن كاشف الغطاء قدّس سرّه فيمكن أن يكون نظره إلى صورة ترك التعلّم مع عدم الاطمئنان بحصول اقتداء صحيح له في آخر الوقت، بل بمجرّد احتمال الحصول، فإنّه إن لم يتّفق له ذلك كان آثما بلا شبهة، و لو اتّفق صحّت صلاته و عليه إثم التجرّي، لكونه مقدّما على ما يحتمل معه تفويت الواجب المنجّز.

و يمكن أن يكون نظره إلى كون التعلّم واجبا نفسيّا كما يحكى عن بعض.

و على كلّ حال فعلى ما هو الحقّ من

عدم الوجوب النفسي للتعلّم فلا إشكال في جواز تركه مع الاطمئنان بحصول الجماعة الصحيحة.

المقام الثاني: هل يجب عليه التعلّم تعيينا مع التمكّن من اتّباع القارئ؟

و بعبارة أخرى: لا إشكال في تقدّم الاتّباع عند تعذّر التعلّم على اختيار البدل الاضطراري للقراءة كالتسبيح و التهليل على تفصيل يأتي إن شاء اللّٰه تعالى، إنّما الكلام في أنّه مع التمكّن منه و من التعلّم يكون عدلا للتعلّم أو لا؟

الظاهر الأوّل، لعدم ما يدلّ على تقييد القراءة الواجبة بكونها عن ظهر القلب في مقابل اتّباع القارئ إلّا دعوى الانصراف في إطلاقات القراءة و كون الاتّباع خارجا عن السيرة العمليّة المستمرّة من لدن زمان المعصومين عليهم السّلام و خصوصا مع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 117

قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»، مضافا إلى أصالة الاشتغال على تقدير الشكّ.

و فيه منع الانصراف و منع إفادة السيرة للتقييد بعد احتمال ابتنائها على أسهليّة الحفظ من الاتّباع و منع دلالة قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: صلّوا إلخ على الوجوب بعد اشتمال صلاته صلّى اللّٰه عليه و آله على المندوبات و منع كون الأصل هو الاشتغال في نظائر المقام كما قرّر في الأصول.

المقام الثالث: لا إشكال في تعيّن القراءة من المصحف مع عدم التمكّن من التعلّم

و الحفظ و كونه مقدّما على التسبيح و نحوه، و هل يكون مخيّرا بينها و بين الحفظ في صورة التمكّن، أو يجب عليه الحفظ تعيينا؟

قد يقال بالثاني، لصحيحة عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام «قال: سألته عن الرجل و المرأة يضع المصحف أمامه ينظر فيه و يقرأ و يصلّي، قال عليه السّلام: لا يعتدّ بتلك الصلاة» «1».

و فيه أوّلا: احتمال كون المراد هو القراءة الغير الواجبة، لكن في حال الصلاة، كما لو قرأ بعد فراغه من الحمد و السورة بقصد مطلق القرآن، فيكون السؤال لأجل احتمال كون ذلك مع النظر إلى المصحف عملا خارجيّا

مضرّا بالصلاة، فأجاب عليه السّلام بعدم الاعتداد بتلك الصلاة، فمقصوده عليه السّلام إثبات المانعيّة لذلك في القراءة الغير الواجبة، لا شرطيّة الحفظ أو مانعيّة النظر في القراءة الواجبة.

و ثانيا: سلّمنا أنّها ناظرة إلى القراءة الواجبة في الصلاة أعني: الحمد

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 41 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 118

و السورة، لكن يجب حملها على الكراهة بقرينة صحيحة الحسن بن زياد الصيقل «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: ما تقول في الرجل يصلّي و هو ينظر في المصحف يقرأ فيه السراج قريبا منه؟ فقال عليه السّلام: لا بأس بذلك» «1».

و استدلّ أيضا بأنّ القراءة من المصحف مكروهة إجماعا، و لا شي ء من المكروه بواجب.

و فيه أنّ الكراهة إن تعلّقت بخصوص القراءة الواجبة في الصلاة، فهي من الكراهة العباديّة الغير المنافية مع الصحّة، كما في الصلاة في الحمّام، و إن تعلّقت بمطلق القراءة فالمورد من قبيل اجتماع الأمر و النهي إذا أتى بالقراءة الصلاتيّة من المصحف، و قد تقرّر في الأصول أنّه على القول بالامتناع يجب تقييد النهي، لبقاء الملاكين بلا تزاحم بينهما في الوجود، و ملاك الوجوب يقتضي الفعل بنحو اللزوم، و ملاك الكراهة يقتضي الترك مع الرخصة في الفعل، فالفعل مرخّص شرعا مع وجود ملاك الوجوب فيه، و هذا يكفي في عباديّته، غاية الأمر أنّه بالإضافة إلى الفرد الغير المبتلى بهذه الخصوصيّة مرجوح لابتلائه بالحزازة دون غيره، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 41 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 119

المسألة الثانية
اشارة

قد عرفت أنّ المتمكّن من التعلّم له الخيار بين تحصيل العلم بالقراءة و بين أحد الأمور الثلاثة،

هذا في سعة الوقت، و لو ضاق الوقت فإن تمكّن من اتّباع القارئ أو القراءة من المصحف فلا إشكال في تعيّنه إن لم يتمكّن من الائتمام و التخيير بين ذلك و الائتمام مع التمكّن منه.

و أمّا لو لم يتمكّن من القراءة بأحد النحوين أيضا و تمكّن من الائتمام فهل يجب عليه الائتمام أو يتخيّر بينه و بين ما يتمكّن من القراءة الناقصة؟ قد يقال بالثاني، نظرا إلى إطلاق أدلّة جعل البدل الاضطراري في حقّ من لا يحسن لحالتي القدرة على الائتمام و العجز عنه، و إلى إطلاق استحباب الجماعة حتّى بالنسبة إلى من لا يحسن.

كيفيّة جعل البدل الاضطراري

أقول: تحقيق الكلام في المقام يتوقّف على تمهيد مقال لبيان الحال في عامّة التكاليف البدليّة الاضطراريّة و كيفيّة جعلها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 120

فنقول و باللّه الاستعانة و منه الهداية إلى سواء السبيل: تارة يكون المستفاد من الدليل أنّ هناك مصلحة واحدة تقوم بفعل القادر مع خصوصيّة كذا و بفعل العاجز مع خصوصيّة أخرى، بحيث لوحظ القدرة و العجز في الدليل المثبت لتكليف المختار و المثبت لتكليف المضطرّ كعنواني السفر و الحضر منوّعين للموضوع، و على هذا فلا بدليّة في البين، و ليس أحدهما أوّليا و الآخر ثانويا، بل كلاهما تكليفان عرضيّان و لا إثم في تحصيل المكلّف عنوان العجز لنفسه، لأنّه كتحصيل السفر.

و اخرى يكون مفاد الأدلّة أنّ هناك مصلحة تامّة لزوميّة قائمة بالفعل المقيّد بخصوصيّة كذا، غاية الأمر أنّ الإيجاب لمّا لم يصحّ إلّا بالنسبة إلى القادر يكون العاجز خارجا عن تحت الخطاب مع فوت المصلحة عنه، لكن جعل في حقّه من باب ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه الفعل الفاقد للخصوصيّة المعجوز عنها بدلا للفعل

التامّ، و على هذا يصحّ البدليّة و كون تكليف المختار أوّليا و هذا ثانويا، و لا يجوز تحصيل الاضطرار اختيارا، هذا بحسب مقام الثبوت.

و أمّا بحسب الإثبات فإن كان القيد الواقع في الدليل المتضمّن لخلاف دليل آخر من القيود الغير المعتبرة في الهيئة عقلا، كما لو ورد: أكرم العالم، و ورد أيضا:

لا تكرم العالم الفاسق، و مثله في العبادات: صلّ أربعا، و صلّ إن كنت مسافرا ركعتين، فهذا من قسم تنويع الموضوع، فيصير الموضوع منوّعا إلى نوعين:

واجد القيد المذكور و فاقده، و يبقى تحت الدليل الأوّل فاقده و تحت الثاني واجده، و إن كان من القيود المعتبرة في الهيئة كذلك، كما لو ورد: صلّ مع القراءة الصحيحة أو مع القيام، ثمّ ورد: صلّ إن كنت عاجزا مع الملحونة أو مع القعود، فهذا من التكاليف الأوّلية و الثانوية.

و وجهه أنّ تقييد هيئة الدليل الأوّل بقيد القدرة عقليّ، فلا يبقى ظهور للدليل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 121

الثاني في أزيد من تقييد الهيئة، و يبقى إطلاق المادّة في الدليل الأوّل المقتضي لإطلاق المصلحة اللزوميّة في الفعل التامّ في كلّ من حالتي القدرة و العجز بحاله.

فإن قلت: فعلى هذا يلزم تحقّق الفوت في حقّ العاجز و لو أتى بتكليف المضطرّ، فيكون مشمولا لدليل وجوب القضاء، فما الوجه في إفتائهم بسقوط القضاء عنه.

و بعبارة اخرى: إن كان القدرة و العجز منوّعين فعدم القضاء صحيح و لا يبقى لحكمهم بالعصيان لو حصّل الاضطرار اختيارا وجه، و إن لم يكونا منوّعين فالعصيان صحيح، و لا يبقى لسقوط القضاء وجه.

قلت: قد دفعنا هذا الإشكال في مسألة العاجز عن أداء تكبيرة الإحرام، فراجع تلك المسألة.

إذا عرفت هذا فنقول: عنوان من لا يحسن القراءة

عامّ بحسب اللغة لمن تمكّن من التعلّم و قصر حتّى ضاق الوقت عنه، و لمن كان لآفة في لسانه، و لكن حيث إنّ إطلاق المادّة في الصلاة مع القراءة الصحيحة مقتض لوجود المصلحة حتّى في حقّ هذا الشخص، فيجب عقلا اختيار الائتمام مع التمكّن منه، فهذا تقييد عقلي في دليل جعل القراءة الناقصة، سواء بالنسبة إلى العاجز المقصّر أم بالنسبة إلى العاجز المعذور، كما أنّه مع عدم التمكّن منه يتعيّن العصيان في حقّ المقصّر مع لزوم الإتيان بالقراءة الناقصة، و في حقّ المعذور يتعيّن القراءة الناقصة بلا عصيان، و استحباب الجماعة بحسب الذات لا ينافي وجوبها بالعارض كما هو واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 122

المسألة الثالثة يجب القراءة على النهج العربي الصحيح
اشارة

من حيث أداء الحروف على وجه يمتاز بعضها عن بعض، و من حيث كيفيّاتها من التشديد و المدّ و الحركات و السكنات، سواء كانت عارضة على أواخر الكلم إعرابا أو بناء، أم على أوائلها.

و تحرير الكلام في المقام أنّ الإخلال تارة بذات الحروف إمّا نقصا، و إمّا تبديلا، و إمّا بكيفيّاتها المقرّرة لها في اللغة.
أمّا الأوّل فلا إشكال في أنّ النقص و لو حرفا واحدا موجب للبطلان،

لعدم الإتيان بالمأمور به و هو الكلمة التامّة.

و أمّا التبديل

فهو على قسمين، قسم سائغ في اللغة، و قسم غير سائغ، فالأوّل كقلب النون الساكنة التي منها التنوين عند وصولها إلى أحد حروف «يرملون» إلى جنس ذلك الحرف، ثمّ إدغامها في ما بعدها، و هذا غير مختصّ بلغة العرب، بل جار في كلّ لغة.

ألا ترى أنّ أهل لسان الفرس لا يتكلّمون بكلمة «أنبار و أنبر» بنحو إبانة النون، و كذلك كلمة «أنور» لو جعلت علما، و كذلك «من مى آيم» و «من رفتم»

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 123

و هكذا البواقي، فلا يكون هذا القلب خروجا عن قانون وضع الكلمة، فلا إشكال في الاجتزاء معه.

إنّما الكلام في ما لو أتى بدون القلب، و الظاهر الحكم بالصحّة أيضا، لما نرى من أنّ أحدا منّا أهل الفرس لو تكلّم بكلمة «أنبار» بإظهار النون بدون قلبها بالميم لا يقال: إنّه غلط في المقال.

إذا عرفت هذا فنحن نقطع أنّ ما مهّده علماء التجويد ليس إلّا متّخذا من هذا الذي سنخه يكون بأيدينا أيضا، غاية الأمر أنّهم أخرجوا المتداول في الألسن في قوالب الضوابط و جعلوها علما، كما هو الحال في علم الفصاحة و البلاغة أو الميزان، و لا نشكّ في أنّ تلك القواعد ليست متّخذة من تعبّد إمّا من الشرع أو من واضع اللغة، لما نرى من ثبوت سنخه في جميع الألسنة و اللغات.

و حيث رأينا أنّ ما بأيدينا ليس على نحو اللزوم، بل على نحو السهولة في الجري على اللسان، و إلّا فليس الجري على خلافه مخالفة للوضع، فاللازم هو الحكم بالصحّة في ما لو قرأ «لم يكن له» في سورة التوحيد بإظهار النون، أو محمّد و آل محمّد صلّى

اللّٰه عليه و آله في الصلوات بإظهار التنوين، حتّى لو فرض أنّا قطعنا بأنّ النبيّ الأكرم صلّى اللّٰه عليه و آله و تلفّظ بهما على نحو القلب لا يجب علينا اتّباعه صلّى اللّٰه عليه و آله في هذه الجهة.

و أمّا القلب الغير السائغ

كتبديل العين بالهمزة أو نحو ذلك فلا إشكال في كونه خروجا عن الوضع و غلطا و لحنا فيكون باطلا. و أمّا تبديل اللام من الألف و اللام إذا دخلت على الحروف الشمسيّة فلا إشكال في أنّ ذلك مجز، و هل هو أيضا مبنيّ على السهولة على اللسان، فلو خالفه و أتى باللام بدون قلب لم يكن غلطا و لحنا أو أنّه من الخروج عن وضع الكلمة، و ليس مثله في لغتنا حتّى نجزم بأحد الطرفين،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 124

و حيث إنّ الموجود في كلماتهم هو الحكم بلزوم المراعاة و عدم الصحّة مع عدمها، فالأحوط عدم تركه.

و أمّا التشديد

فقد عرفت حال ما كان منه يحدث عند إدغام النون الساكنة في حروف يرملون، و عند إدغام اللام الساكنة من الألف و اللام في الحروف الشمسيّة، و أمّا ما كان داخلا في وضع الكلمة، كتشديد «مدّ» فلا إشكال في لزومه و خروج الكلمة بدونه سواء مع التخفيف أو مع التكرار بنحو فكّ الإدغام عن وضع اللغة، فهذا القسم ملحق بنقص الحرف في الحكم.

كما لا إشكال أيضا في تبديل الحركات البنائية

العارضة على أواخر الكلم كفتح نون «إنّ» و الحركات الثابتة لأوائلها، مثل فتح ضاد وراء «ضرب» و كونه موجبا للغلط و اللحن، فكما أنّ لذات الحرف مدخلا في الوضع، كذلك للهيئة الحاصلة لها بهذه الحركات، فالإخلال بها إخلال بقانون الوضع.

إنّما الكلام في الحركات العارضة على الأواخر ممّا يسمّى إعرابا،

فهل يكون تبديلها كنصب الفاعل و رفع المفعول موجبا للغلط أو لا؟

قد يحتمل الثاني من أجل أنّ جوهر الكلمة لا يتغيّر و لا يتبدّل بهذا التغيير كما كان يتغيّر بتبديل سائر الحركات، فإنّ حال هذه الحركات حال الكلمة المستقلّة الموضوعة لمعنى مستقلّ و إن كانت ليست مستقلّة بالتلفّظ و لا مستقلّة بالوضع لمعنى حتّى كوضع الحروف، بل هي علائم على وجود معنى الفاعليّة أو المفعوليّة أو نحو ذلك في المدخولات و باب العلائم غير باب حكاية الألفاظ عن معانيها، و لكنّ الإخلال بها لا يوجب إلّا الإخلال بتلك العلائم أعني: أنّه لم ينصب العلامة على الواقع، بل نصب على خلافه إذا نصب الفاعل و رفع المفعول أو لم ينصب عليه و لا على خلافه إذا رفعهما أو نصبهما معا، و لو سلّم دخالة الإعراب فليس بدخيل في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 125

أصل جوهر الكلمة كحركات أوائلها، و إنّما له الدخل في كيفيّة قرائتها عربيّا و على قانون العربي الصحيح، فخلافه يوجب اندراج القراءة في القراءة الغير الصحيحة، لا خروج الكلمة عن كونها غير الكلمة الكذائيّة.

مثلا لو قال أحد: إنّا أرسلنا، بضمّ همزة «إنّا» و همزة «أرسلنا» و سينها، أو قال: الحمد للّٰه بوضع الخاء المعجمة مكان المهملة، قيل: إنّه ما تكلّم بالقرآن، و أمّا إذا قال: إنّ اللّٰه كان عليم حكيم، برفع ميمي عليم و حكيم، لما قيل بأنّ ما تكلّمه غير قرآن،

بل يقال: إنّه قرآن و لكنّه قرأها قراءة غير صحيحة.

و اتّصاف الكلمات على لسان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و أو على لسان جبرئيل و إن كان بالنحو الفصيح فضلا عن الصحيح، لكنّ التعبّد بالنزول من عند اللّٰه تعالى الذي هو الملاك في صيرورته قرآنا و كلاما منزّلا من عند اللّٰه تعالى لم يثبت إلّا بجواهر الكلمات، و أمّا بهذه الكيفيّات التي هي الطريقة الجارية بين العرب في أداء الكلمات فيمكن عدم التعبّد بالنزول.

ألا ترى أنّه لو كان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله وقف على موضع أو وصل ليس القراءة على خلافه مخرجا للكلام عن القرآنيّة، و هل ذلك إلّا لأنّ الوصل و الوقف ليسا ممّا يكون التعبّد بالنزول ملحوظا فيه، بل هما من خصوصيّات النطق بالكلمات؟

و هكذا يقال بالنسبة إلى الأعراب، فلو فرض أنّه صلّى اللّٰه عليه و آله اختار إعرابا خاصّا، فليس الخروج عنه إلى الأعراب الآخر الصحيح على حسب القواعد النحويّة فضلا عمّا كان غلطا بحسبها مخرجا للكلام عن القرآنيّة، فإنّ ذلك ممّا جرت عادة لسان العرب في أداء الكلمات، غاية الأمر على نحو الشرطيّة في الصحّة لا الكمال، لكن لا بحيث يخلّ خلافه بجوهر الكلمة و تصيّرها خارجة عن القرآنيّة، و لسنا ندّعي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 126

الجزم و الاطمئنان بعدم الدخالة و عدم التعبّد، بل نقول: لا أقلّ من الشكّ.

ألا ترى أنّ المرتكب للخلاف لا يقال في حقّه: ما قرأ القرآن، بل يقال: قرأ القرآن، و لكن قراءة غير صحيحة.

و حينئذ نقول: الذي دلّ عليه الدليل في باب الصلاة هو لزوم أن يكون المقروّ من مصاديق القرآن، فلو قال: الخمد بالخاء المعجمة ما حصل الامتثال، و

أمّا لو قال: الحمد بكسر الدال فلا يقال ما قرأ القرآن، غاية الأمر يقال: قراءته ملحونة، لكنّه قرأ القرآن، و من أين لنا إقامة الدليل على اعتبار كون القراءة أيضا صحيحة، مضافا إلى كون المقروّ قرآنا، و لعلّ نظر سيّدنا الشريف المرتضى علم الهدى قدّس سرّه حيث حكي عنه القول بالصحّة مع اللحن الأعرابي إلى ما ذكرنا.

و الحاصل أنّ كلام السيّد قدّس سرّه ممكن الإرجاع إلى وجه صحيح.

هذا في الغلط الأعرابي، و أولى منه بالجواز ما لو ثبت قراءة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله بطريق التواتر مثلا و بنحو كان بحسب القواعد العربيّة جائز الوجهين أو الوجوه من الإعراب، فالتخطّي من قراءته إلى الوجه الآخر الصحيح أيضا صحيح بناء على ما قلنا من عدم ثبوت التعبّد بالنزول في هذه الخصوصيّات الناشئة من الإعراب، لكن الأمر من هاتين الجهتين- أعني من جهة التخطّي عن الصحيح الأعرابي إلى الغلط، أو عن الصحيح الثابت جريانه على لسان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله إلى الصحيح الغير الثابت أو الثابت عدم جريانه على لسانه صلّى اللّٰه عليه و آله- سهل، بمعنى أنّا نلتزم عملا بترك ذلك، فلا نتكلّم إلّا بالصحيح، و إلّا بالصحيح الذي قرأه صلّى اللّٰه عليه و آله.

[في اختلاف القرّاء]

لكنّ الذي هو العمدة بالبحث في هذا المقام موارد اختلاف القرّاء في نقلهم لقراءته صلّى اللّٰه عليه و آله بعد بعد كون القرآن الواقعي متعدّدا، فلا يكون جميع القراءات السبع متواترا، للزوم التعدّد بناء عليه، و على فرض الاحتمال كيف يمكن تحصيل هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 127

التواتر لنا مع قيام الأمارات على خلافه.

و يشتدّ الإشكال بالنسبة إلى موارد اختلافهم في بنية الكلمة، كيطهرن بالتخفيف و

التشديد، و مالك و ملك، و كفوا بأربعة أنحاء، فهل هنا مخلص عن الاحتياط بالتكرار بأن يقرأ في صلاة واحدة بالكيفيّتين إذا أمكن قصد الذكريّة على تقدير عدم القرآنيّة، و بأن يصلّي صلاتين كلّ منهما بإحدى الكيفيّتين إذا لم يمكن ذلك، كما في «يَطْهُرْنَ» بالتخفيف و التشديد أو لا؟

قد يقال بوجود المخلص و جواز الاكتفاء بالقراءة على طبق إحدى القراءات السبع، لورود الأخبار المستفيضة بالإرجاع إلى ما يقرأ الناس، أو كما تعلّمتم، أو كما علّمتم.

لكنّ الاستدلال بهذه الأخبار محلّ إشكال، و ذلك لأنّ الناظر فيها يكاد يقطع بأنّها ناظرة إلى القراءة التي أودعها الأئمّة صلوات اللّٰه عليهم إلى بعض الرواة بنحو الأسرار، فالنهي في هذه الأخبار راجع إلى إفشاء تلك الأسرار، و بعبارة أخرى:

القراءة المختصّة بهم عليهم السّلام على أنحاء ثلاثة:

الأوّل: ما يرجع إلى الإسقاطات التي أسقطها المخالفون لمكان منافاة الإبقاء لأغراضهم.

و الثاني: ما يرجع إلى التغييرات في الكلمات التي يكون أيضا ناشئا من كون الكلمة الأصليّة منافية لأغراضهم، مثل كلمة «خَيْرَ أُمَّةٍ» حيث ورد أنّها مبدّلة «خير أئمّة».

و الثالث: ما لا يرجع إلى ذلك و لا هذا، و هو ما كان كسائر القراءات، حيث قرأ بعض القرّاء بوجه و قرأ أهل البيت عليهم السّلام بوجه آخر، من دون منافاة لأغراضهم، بل على سبيل اختلاف القراءة الواقعة بين قارئين من السبعة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 128

و حينئذ نقول: لا إشكال في أنّ هذه الأخبار غير ناظرة إلى القسم الأوّل، بل ناظرة إلى كيفيّة قراءة ما هو الموجود في الدفّتين على نحو ما يقرؤه الناس، دون ما يقرؤه الأئمة عليهم السّلام.

و يبعد أن يكون المراد القسم الأخير أيضا بأن يكون ردعا عن قراءة أهل البيت

مع كونها معروفة مشهورة معدودة في عرض سائر القراءات، بل بعض القراءات منتهية إلى قراءة علي عليه السّلام.

فتعيّن أن يكون المقصود هو الردع عن القسم الوسط، لأنّه المناسب للأمر بالكتمان، لكونه من الأسرار المودعة.

و حينئذ فيبقى الأمر على أشكاله بالنسبة إلى ما إذا تردّد أمر الكلمة بين وجهين اختصّ بكلّ منهما قار من القرّاء السبعة المعروفة، و لم يعلم انتساب واحد منهما معيّنا إلى أهل البيت عليهم السّلام، إذ الأخبار المذكورة غير ناظرة إلى هذا المورد حتّى يستفاد منها التخيير في نحو ذلك، فلا محيص عن الاحتياط بالتكرار.

لكن هذا في غير ما وقع في خصوص الحمد من الاختلاف كقراءة مالك و ملك، و قراءة صراط بالصاد و السين، فإنّ شدّة الحاجة إلى تكرار هذه السورة المباركة في كلّ يوم و ليلة أورثت انتساب جميع كلماتها على النحو المرسوم الآن منها بين المسلمين المتّخذ خلفا عن سلف إلى أهل بيت الوحي صلوات اللّٰه عليهم أجمعين انتسابا قطعيّا، حيث كان النبيّ و الأئمّة صلوات اللّٰه عليهم أفصح من نطق بالصاد و الضاد، و من كان كذلك لا يشتبه نطقه أنّه كان بالصاد أو بالسين، و كانت الصلوات الجهريّة منهم صلوات اللّٰه عليهم بمسمع من خلفهم من المصلّين.

فهذا الموجود في أيدي المسلمين هو الذي أخذوه عنهم عليهم السّلام من غير شكّ و لا شبهة، و الشكّ فيه شكّ في مقابلة البديهة كالدغدغة في أنّ ملك أقرب إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 129

الفصاحة من مالك، فإنّ إضافة ملك إلى الزمان شايعة، كما يقال: سلطان. العصر، أو الوقت، و أمّا إضافة مالك إلى الزمان فغير مأنوسة إلّا مع تقدير الأمر بأن يكون التقدير: مالك أمر يوم الدين، و

أمّا الإضافة إلى الزمان باعتبار كونه مملوكا كما يقال: مالك الفرس، فيبعّدها عدم اختصاص مالكيّة اللّٰه تعالى بالزمان، بل يعمّ جميع الأشياء.

و أمّا سائر السور المباركة فموارد اختلاف القرّاء فيها لا بدّ من مراعاة ما هو الحال في اختلاف الطرق العقلائيّة، فإن كان بينها طريق أوثق بحيث يوجب الوثوق العقلائي كان هو المتّبع، و إلّا فاللازم طرح الكلّ، لسقوطها عن الطريقيّة بالنسبة إلى المدلول المطابقي و الرجوع إلى الأصول كما هو الحال في تعارض عامّة الطرق العقلائيّة التي لم يرد فيها تعبّد شرعي، كما ورد في تعارض الروايات الحاكية عن الأحكام.

و حاصل الكلام من أوّل المسألة إلى هنا أنّ الأمر من كثير من الجهات الراجعة إلى القراءة سهل كالإخلال ببعض حروفها بالنقص حيث لا إشكال في عدم كفايته، و إمّا بالتبديل، فبعض أقسامه شائع في جميع الألسنة، مثل تبديل النون الساكنة بحروف يرملون و إدغامها فيه مع الغنّة في خصوص الواو و الباء و بدونها في البواقي، و كذلك بعض الحروف الشديد المخرج بجلب بعض الحروف الضعيف المخرج إلى نفسه كجلب الظاء للذال في: إذ ظلموا، و لا حاجة في تجويز هذا القسم إلى مراجعة العرب، لوجود جميع ذلك في كلّ لسان، كما لا حاجة إلى مراجعتهم في تميّز الحروف، فإنّ الباء مثلا موجود في جميع الألسنة، و هكذا.

و كذلك الحركات، فالكسرة موجودة في كلّ لسان، بل و إشباعها عند الوصول إلى الياء، كما يقال في الفارسيّة: «بيا» بالإشباع، لا «بيا» بدونه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 130

و أمّا وجوب هذا الإشباع كوجوب الإدغام في حروف يرملون بحيث لا يجري بدونهما فغير معلوم، و أولى منه بذلك الإدغام الكبير المراد به إدغام أحد الحرفين المتماثلين

الواقعين في كلمتين المتحركتين بعد إسكان أوّلهما، كسلككم، بل فكّ الإدغام في مثل هذا أقرب بيقين البراءة، كما أنّ المدّ في مثل «وَ لَا الضّٰالِّينَ» ممّا وصل الألف بالحرف المشدّد ربما يكون ممّا يحتاج إليه النطق، إذ لولاه إمّا يصير «ضلّين» بدون الألف أو «ضالين» بدون تشديد اللام، فحفظ كليهما محتاج إلى مدّ في الصوت.

و أمّا في مثل «جاء» فلم يقم دليل على الوجوب، لكن مراعاة الاحتياط في جميع هذه المراتب سهلة و واضحة، كما هو الحال في رعاية الصحّة و المطابقة لقواعد النحو في الإعراب، بل و موافقة القرّاء في ما إذا توافقوا، نظرا إلى ما ربما يورد في كلامهم بطريق الرواية مرسلا من أنّ القراءة سنّة متّبعة، فإنّ كلّ ذلك لا دليل على لزوم رعايته.

لكنّ الاحتياط في مقام العمل يقتضي رعايتها بعد سهولته، إذ أوّلا يمكن أن يقال: لم يثبت التعبّد بالقرآنيّة إلّا بالنسبة إلى بنية الكلمات و ماهيّاتها المتصوّرة بأيّ صورة من الإعراب كانت، كما هو الحال في إسناد ألفاظ الكتب و القصائد إلى أربابها، فإنّ الناطق ربما ينطق بها بطرز القواعد النحويّة، و ربما ينطق على خلافها، و الكلمات على كلّ حال كلمات ذلك الكتاب و تلك القصيدة، و جريان الإعراب الصحيح بل الفرد الخاصّ منه على لسان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أعمّ من وروده بعنوان التعبّد، إذ لعلّه من جهة كونه من أفصح العرب و لا ينطق إلّا بالوجه الأفصح.

و ثانيا: لو سلّمنا التعبّد بالماهيّات متقيّدة بالهيئات الإعرابيّة على النهج الصحيح، لكن من أين يثبت التعبّد بخصوص ذلك الفرد من الصحيح الجاري

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 131

على لسان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، فلعلّ اختياره

صلّى اللّٰه عليه و آله له كان من باب أنّه أحد الأفراد، فإذن لا يلزم علينا الفحص عن القراءات، بل يكفينا العلم بقواعد النحو و رعايتها حين القراءة.

لكن عرفت أنّا نحتاط في العمل و لا نتخطّى عن طريقة القرّاء رعاية لاحتمال ورود التعبّد بخصوص الكيفيّات الخاصّة الإعرابيّة التي ثبت جريانها على لسان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، و هذا الاحتياط أيضا سهل كما تقدّمه، و لكنّ الذي يصعب في هذه المسألة و ينبغي إعمال الوسع فيه فهم الحال بالنسبة إلى موارد تخالف القرّاء إمّا في الإعراب و إمّا في شكل الكلمة و ماهيّتها في غير سورة الحمد كقراءة يطهرن و يطّهرن فهل اللازم في مثله معاملة الاحتياط بالتكرار؟

فيقع الكلام في موارد لا يقبل للذكريّة في شبهة كونه كلاما آدميّا أو أنّ الكلام الآدميّ منصرف إلى المحاورات العرفيّة المرسومة.

أو أنّ لنا في هذه المقامات طريقا إلى إثبات التخيير بين تلك القراءات و يرتفع عنّا كلفة الاحتياط، فالعمدة في الباب هو التكلّم في هذه الجهة، و إلّا فسائر الجهات كما عرفت يسهّل الأمر من حيثها، فإنّ الأخذ بالمتيقّن يقتضي مراعاة كلّ ما يحتمل دخله و إن لم يقم عليه دليل.

جواز القراءة بأيّ من القراءات السبع

و حينئذ فنقول و على اللّٰه التوكّل: قد يتشبّث لإثبات التخيير في القراءة بأيّ من القراءات السبع المعروفة شاء المصلّي بذيل التواتر و أنّ كلّا منها مقطوع الثبوت عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، و لازمة أنّ جبرئيل نزل سبع مرّات في كلّ مرّة بواحدة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 132

من هذه القراءات.

و لكن قد عرفت أنّ دون إثبات هذا التواتر خرط القتاد، إذ لو لم يكن أصل هذا المعنى أعني: تعدّد النزولات مقطوع

الخلاف، فلا أقلّ من عدم إمكان تحصيل التواتر عليه، فلا يبقى إلّا التواتر المنقول.

و قد يتشبّث في إثبات المرام المذكور بذيل الأخبار الواردة بإرجاع الرواة إلى قراءة الناس أو إلى المعلّمين للقراءة، و حيث إنّ المسألة من المهمّات و كثيرة البلوى يجب التعرّض أوّلا لذكر هذه الأخبار، ثمّ النظر في سندها و كيفيّة دلالتها، فنقول و باللّه الاستعانة و منه الهداية إلى سواء السبيل:

منها: ما رواه ثقة الإسلام عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن سالم بن أبي سلمة «قال: قرأ رجل على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: كفّ عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم القائم (صلوات اللّٰه عليه و عجّل فرجه) فإذا قام القائم (عج) قرأ كتاب اللّٰه على حدّه و أخرج المصحف الذي كتبه عليّ عليه السّلام» «1» الحديث.

و منها: ما رواه أيضا عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد، عن محمّد بن سليمان، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن عليه السّلام «قال: قلت له: جعلت فداك، إنّا نسمع الآيات من القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها و لا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم، فهل نأثم؟ فقال عليه السّلام: لا، اقرءوا كما تعلّمتم، فسيجيئكم من يعلّمكم» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 74 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 74 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 133

و منها: ما رواه أيضا عنهم عن سهل عن عليّ بن الحكم عن عبد اللّٰه بن جندب،

عن سفيان بن السمط «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن ترتيل القرآن؟

فقال عليه السّلام: اقرءوا كما علّمتم» «1».

و أمّا سند هذه الروايات، فعبد الرحمن جليل من أصحابنا ثقة ثقة، صه، جش، و سالم بن أبي سلمة، الظاهر أنّه أبو خديجة، بقرينة رواية عبد الرحمن، و أبو خديجة قال في حقّه سيّد الحكماء: الأرجح عندي فيه الصلاح كما رواه «كش» و الثقة، كما حكم به الشيخ رحمه اللّٰه في موضع إن لم يكن الثقة مرّتين، كما نصّ عليه «جش» و قطع به، و ذكره في الحاوي في قسم الثقات و قال: الأرجح عدالته لتساقط قولي الشيخ و تكافئهما، فيبقى توثيق «جش» و شهادة «عل» له بالصلاح، و في المشتركات وصفه بالثقة.

و سهل بن زياد مختلف في توثيقه، لكنّه من مشايخ الإجازة للكتب المشهورة، مع أنّ المشايخ العظام نقلوا عنه كثقة الإسلام و الصدوق و الشيخ قدّس أسرارهم، مع أنّ الشيخ كثيرا ما يذكر ضعف الحديث بجماعة و لم يتّفق في كتبه مرّة أن يطرح الخبر بسهل بن زياد، و يروي عنه علّان خال الكليني و محمّد بن أحمد بن يحيى و أحمد بن أبي عبد الهّٰل.

و محمّد بن سليمان الظاهر أنّه إمّا الديلمي الذي روى عنه أحمد بن أبي عبد اللّٰه و أبوه محمّد بن خالد، و إمّا النوفلي الذي روى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى مع معلوميّة حاله مع الرواة، و أمّا غير هذين فإمّا مقدّم على سهل في الطبقة لكونه من أصحاب الصادق عليه السّلام، و إمّا مؤخّر، لكونه من أصحاب أبي محمّد عليه السّلام.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 74 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص:

134

و عليّ بن الحكم إن كان واحدا- و إن عبّر عنه تارة بعليّ بن الحكم و أضيف إلى أهل الأنبار و اخرى بعليّ بن الحكم بن الزبير مولى النخعي الكوفي، و ثالثة بعليّ بن الحكم الكوفي، و يشهد بالاتّحاد أمارات مذكورة في رجال أبي علي، من أراد فليراجعه- فالأمر سهل، للتصريح في كلام «كش» بأنّه تلميذ ابن أبي عمير، و لقي من أصحاب الصادق عليه السّلام الكثير، و هو مثل ابن فضّال و ابن بكير، و لا يخفى دلالة كلّ ذلك على المدح، مضافا إلى رواية الأجلّاء عنه.

و إن كان متعدّدا كما نسب إلى العلّامة أعلى اللّٰه مقامه، بل قيل دعوى الاشتراك توهّم أصله العلّامة قدّس سرّه في الخلاصة و اقتفاه من تأخّر عنه، انتهى.

فحينئذ نقول: إن كان هذا هو الأنباري فقد تقدّم كلام الكشّي في حقّه، و إن كان ابن الزبير النخعي فيروي عنه محمّد بن إسماعيل الثقة و أحمد بن أبي عبد اللّٰه، و إن كان الكوفي فيروي عنه أحمد بن محمّد، و هو محتمل لابن خالد و لابن عيسى، لكن الظاهر في مثل هذا الإطلاق هو الثاني.

و عبد اللّٰه بن جندب ثقة من أصحاب الكاظم و الرضا عليهما السّلام، و كان وكيلا عنهما و عابدا رفيع المنزلة لديهما، و لمّا مات قام عليّ بن مهزيار مقامه، روى الكشّي أنّ أبا الحسن عليه السّلام أقسم أنّه عنه راض و رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و اللّٰه، و قال عليه السّلام فيه: إنّ عبد اللّٰه بن جندب لمن المخبتين.

و سفيان بن السمط البجلّي الكوفي لم يذكر في حقّه إلّا قول الشيخ أسند عنه بعد عدّه في أصحاب الصادق عليه السّلام، و

اختلف في معنى الكلمة المزبورة و صيغتها أنّها المعلوم أو المجهول، و يستفاد منه على بعض المعاني التوثيق و الاعتماد، من أراد ذلك فليراجع الفوائد المذكورة في أوّل رجال أبي على، و لا يخفى أنّ رواية مثل عبد اللّٰه ابن جندب عنه من أمارات الثقة و الاعتماد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 135

و بالجملة، أظنّ أنّ الخدشة في السند ليس على ما ينبغي، و لا أقلّ من الخبر الأوّل.

و أمّا الدلالة فربما يخدش بأنّها غير مسوقة في مقام هذا الحكم، و إنّما المقصود منها الردع عن مصحف عليّ عليه السّلام و أنّه مكتوم إلى يوم ظهور الحجّة صلوات اللّٰه عليه، و الأخذ بالإطلاق فرع ورودها لأجل تأسيس الحكم بالإرجاع إلى القرّاء، فيقال حينئذ مقتضى الإطلاق الأخذ بقراءة أيّهم شاء المكلّف.

و أمّا إذا كان ورودها لأجل سدّ باب الطمع عن ذلك المصحف الشريف فهذه الجهة أعني: الرجوع إلى القرّاء مغفول عنها نصّا و إثباتا، نعم يعلم بنحو الإجمال أنّها المرجع، و أمّا بنحو الإطلاق أو له شرط فليس بهذا المقام.

و الحقّ أنّ هذه الخدشة في غير المحلّ، بل الظاهر أنّها ناظرة إلى كلا المقامين، أعني: صرف الناس عن المصحف العلويّ صلوات اللّٰه على جامعه و إرجاعهم إلى القراءات المعروفة بين الناس، فالأخذ بإطلاق الكلام من جهة الفقرة الثانية لا بأس به، و تقريبه بعد مقدّمتين:

الاولى: أنّ الأمر تارة يتعلّق بالقراءة للقرآن فهو كالأمر الوارد بالصلاة يجب على المكلّف تعلّم ماهيّة الصلاة و القرآن جزءا و شرطا إمّا بالاجتهاد أو بالتقليد حتّى يفرغ عن عهدة الامتثال.

و اخرى يتعلّق الأمر بقراءة ما يقرؤه الناس، فالتكليف على هذا متوجّه عن القرآن الواقعي إلى ما يقرؤه الناس، فهو المكلّف به

الفعلي، و ليس علينا الفحص و التفتيش عن القرآن الواقعي و لو فرض اليأس و تردّد بين متباينين وجب علينا الاحتياط بالجمع، بل المتّبع هو ما يقرؤه الناس، إذ ليس علينا بعد ذلك عهدة بالنسبة إلى القرآن الواقعي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 136

و حينئذ نقول: نفس هذه الأخبار هذا النّفس، أعني: إنّكم غير مكلّفين بالفحص عن القرآن الواقعي، فلا وجه لسؤالكم عنه، و إنّما عليكم قراءة هذا الذي بأيدي الناس و لا يسأل عنكم إذ وافقتموه عمّا عداه.

الثانية: أنّ صرف التكليف إلى ما يقرؤه الناس يكون بحسب التصوير على نحوين:

الأوّل: على نحو الطريقيّة، كما هو الحال في الأمر بالرجوع إلى الثقات في أخذ الأحكام، و شأن الطريقيّة هو ثبوت التعبّد به عند احتمال الإصابة، دون صورة القطع بالمخالفة كما هو واضح، فلا يفي على هذا البيان هذه الأخبار بإثبات الحجّية في ما إذا علمنا بمخالفة القرّاء للقرآن الواقعي، كما لو علمنا أنّ الصورة الواقعيّة لقوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كانت «خير أئمّة» و لقوله تعالى وَ اجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً كانت «و اجعل لنا من المتّقين إماما» بل المتّبع حينئذ ما علمناه قرآنا واقعيّا.

الثاني: على نحو الموضوعيّة بأن اقتضت المصلحة الموجودة في نفس موافقة المكلّف لقراءة العامّة في حدّ نفسها من غير نظر إلى جهة طريقيّته و كشفه عن الواقع البعث و الأمر نحوها، فجعلت القراءة على وفقهم نازلة منزلة القرآن الواقعي و لو مع القطع بخلافهم للواقع.

و حينئذ نقول: ظاهر الأخبار هو القسم الثاني، أعني: أنّ المصلحة في نفس اتّباع قرائتهم و المعاملة معها معاملة القرآن الواقعي، فلنفس اتّباع القوم سببيّة لإحداث المصلحة، و الدليل على ذلك هو الأمر بالقراءة على نحوهم بعد فرض

السائل التخالف بين ما يقرءونه و بين المصحف الواقعي، فأراد الاطّلاع على ذلك المصحف الشريف، فردعه الإمام عليه السّلام و أحال الاطّلاع عليه إلى ظهور الحجّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 137

صلوات اللّٰه عليه، و قال ما مضمونه: إنّ تكليفكم اليوم القراءة بنحو قراءتهم يعني حتّى في هذه الموارد التي قطعتم تفصيلا بمخالفتها مع القرآن الواقعي، و قد عرفت أنّ شأن الطريقيّة عدم الحجيّة مع العلم بالتخلّف عن ذي الطريق، فلا يبقى إلّا أن يكون هذا الأمر بنحو السببيّة.

و إذا ثبت كونه بنحو السببيّة فنقول: لا إشكال مع التوافق، و أمّا مع التخالف فالباب باب اجتماع الأسباب المتعدّدة، فكلّ قراءة في حيالها سبب تامّ لحدوث المصلحة في اتّباعها، فالمكلّف بالخيار في اختيار أيّها شاء، و اللّٰه العالم بحقيقة الحال.

نعم لو كان الأمر المذكور على نحو الطريقيّة أوجب التخالف سقوط كليهما عن الحجّية، كما هو الأصل في باب تعارض الطرق و الأمارات إلى أن يجي ء التعبّد الشرعي بالتخيير.

و الحاصل أنّ الأصل الأوّلي في باب تعارض الطرق هو التوقّف و الرجوع إلى القواعد و الأصول، دون التخيير، و أمّا في تعارض الأسباب فالأصل الأوّلي العقلي هو التخيير، كما هو الحال في إنقاذ الغريقين.

لا يقال: ليس المقام كإنقاذ الغريقين، لإمكان الجمع بتكرار الصلاة على وفق القراءتين.

لأنّا نقول: نعم، لكن المصلحة قائمة بصرف الوجود، و هو حاصل بموافقة إحداهما، فالمكلّف بالخيار في تعيين تلك الواحدة من بينهما كتخييره في اختيار أيّ فرد شاء من الطبائع المأمور بها باعتبار صرف الوجود.

بقي في المقام مطلب ينبغي أن ينبّه عليه و هو أنّه ذكر في الصافي أنّه اشتهرت الرواية من طريق العامّة عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه «قال:

نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 138

كاف شاف» و قد ادّعى بعضهم تواتر أصل هذا الحديث، إلّا أنّهم اختلفوا في معناه على ما يقرب من أربعين قولا، إلى أن قال: و من طريق الخاصّة ما رواه في الخصال بإسناده عن حمّاد «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ الأحاديث تختلف عنكم، قال: فقال عليه السّلام: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، و أدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه، ثمّ قال عليه السّلام: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب».

إلى أن قال أيضا: و من طريق الخاصّة ما رواه في الخصال بإسناده عن عيسى ابن عبد اللّٰه الهاشمي عن أبيه عن آبائه «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: أتاني آت من اللّٰه عزّ و جلّ فقال: يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: يا ربّ وسّع على أمّتي، فقال: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف» «1» انتهى.

و الكلام تارة في فهم معنى هذا الخبر و ما فرّعه عليه الإمام عليه السّلام في رواية حمّاد من قوله عليه السّلام: و أدنى ما للإمام إلخ.

و اخرى في أنّه حكى في الصافي أيضا عن أصحابنا أنّهم رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام «قال: إنّ اللّٰه تبارك و تعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كلّ قسم منها كاف شاف، و هي أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و مثل و قصص» «2»، فهل المراد بالسبعة الأحرف هذه الأقسام، أو هما متغايران.

و ثالثة: في أنّه حكى في الصافي أيضا عن الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليهما السّلام

«قال: إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد، و لكنّ الاختلاف يجي ء

______________________________

(1) تفسير الصافي: الجزء الأوّل، المقدّمة الثامنة.

(2) الصافي: 1، المقدّمة الثامنة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 139

من قبل الرواة» «1».

و بإسناده عن الفضيل بن يسار «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ الناس يقولون: إنّ القرآن على سبعة أحرف، فقال عليه السّلام: كذبوا أعداء اللّٰه، و لكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد» «2».

فكيف التوفيق بين هذين و الخبرين السابقين المصرّحين بتسليم أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف؟

أمّا الكلام في الجهة الأولى فنقول: أمّا رواية حمّاد فأولى و أسدّ ما يقال في تفسيرها- و اللّٰه العالم- أن يقال: إنّ المراد من السبعة الأحرف هو الظاهر و الباطن، و باطن الباطن و هكذا إلى السبعة، و على هذا يحصل المناسبة في وقوعه جوابا لسؤال الراوي عن اختلاف الروايات و توطئة لقوله عليه السّلام: أدنى ما للإمام.

أمّا الأوّل: فيتّضح بعد بيان الثاني.

و أمّا الثاني: فلأنّ الظاهر مثلا إذا كان عامّا و كان في الباطن أزيد منه الخاصّ، بمعنى أنّه أودع الخاصّ عند الإمام عليه السّلام فهو عليه السّلام إن رأى مصلحة الوقت يفتي بما هو ظاهر القرآن و يستدلّ به، و إن رأى يفتي بما هو مودع عنده من مراده الباطني المخصوص علمه بالإمام عليه السّلام، و هكذا الحال في باطن الباطن إلى السبعة، بل إلى السبعين على حسب ما يستفاد من بعض الأخبار، و قوله عليه السّلام: عقيب هذا البيان: هذا عطاؤنا إلخ يدلّ على عظمة شأن المطلب و أنّه أعطاه مطلبا عظيما و نعمة جسيمة، و هو أيضا يناسب مع هذا المعنى.

و أمّا احتمال أن يكون المراد أنّ في القرآن عامّا

و خاصّا و مطلقا و مقيّدا

______________________________

(1) الصافي: 1، المقدّمة الثامنة.

(2) الصافي: 1، المقدّمة الثامنة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 140

و ناسخا و منسوخا فكذا في أحاديثنا، فيدفعه أنّ الظاهر كون قوله عليه السّلام: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف جوابا للسائل، و على هذا فيكون من قبيل الاستشهاد، و أيضا لا يبقى معنى لتفريع أنّ أدنى ما للإمام عليه السّلام أن يفتي بسبعة وجوه على المطلب المذكور، كما لا يخفى.

و أمّا رواية عيسى بن عبد اللّٰه فحملها على القراءات السبع بعيد، إذ أوّلا أيّ تضييق في قراءة الكلمة بالنصب مثلا أو بهيئة واحدة دون غيرهما حتّى يكون في جوازها بوجه آخر توسعة.

و ثانيا: التعبير عن وجوه القراءة بالإعراب و الهيئة المختلفين بالأحرف لا يخلو عن بعد، فإنّ الظاهر من الحرف هو اللغة.

و حينئذ فالظاهر في تفسير هذه الرواية أيضا- و اللّٰه العالم- أن يقال: إنّ طوائف العرب مختلفة في لهجاتهم عند التكلّم بالكلمة الواحدة، فربّ طائفة يتفوّهون بالكاف مكان الجيم، فيقولون: الحكر، مكان الحجر، و ربّ قوم يتفوّهون بالميم مكان اللام في «ال» كما قال قائلهم: أمن امبرّ امصيام في امسفر، إلى غير ذلك من أنحاء اللهجات، و نظيره ما نجده في الطوائف المختلفة من أهل لغتنا، فبعضهم يتفوّهون بالكسرة مقام الفتحة، و هكذا.

و على هذا فالنبيّ الأكرم صلّى اللّٰه عليه و آله سأل اللّٰه تعالى التوسعة على أمّته بملاحظة أنّه لو كان جميع الطوائف ملزمين بالتفوّه بألفاظ القرآن على حسب لغة الحجاز في لهجاتهم عند أداء الحروف كان شاقّا عليهم، و التوسعة يقتضي الرخصة لأهل كلّ لهجة في التفوّه بما يوافق لهجته، و هذا المعنى في غاية القرب بحسب اللفظ، لكن عيبه أنّه

غير مفتى به، فلا يجوّزون في القراءة الصلاتية مع الاختيار تبديل الحروف حسب اقتضاء اللهجة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 141

و أمّا الكلام في الجهة الثانية فلا إشعار في الخبر بكونه تفسيرا للسبعة الأحرف، فمن الممكن كونهما مطلبين مستقلّين، فأحدهما راجع إلى تقسيم القرآن بحسب المضامين و المطالب المندرجة في الآيات، و الآخر إمّا راجع إلى التقسيم إلى الظهر و البطن في كلّ آية أو إلى الترخيص للقارئ في سبعة لهجات.

و من هنا ظهر الكلام في الجهة الثالثة، فإنّ ما أثبته في الطائفة الاولى هو السبعة الأحرف بالمعنى الذي عرفت، و هو غير ما نفاه في الطائفة الثانية، فإنّهم تخيّلوا أنّ القراءات السبع كلّها قرآن، فردعهم الإمام عليه السّلام عن هذا المعنى الذي تخيّلوه، و قال عليه السّلام: إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد، و لكن الاختلاف يجي ء من قبل الرواة، يعني ليس الاختلاف من عند اللّٰه تعالى كما تخيّله أعداء اللّٰه.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون مراد القائل بتواتر القراءات هو السيرة العمليّة الجارية من المسلمين في عامّة الأعصار و الأمصار في قراءتهم القرآن على اتّباع القرّاء إذ المصاحف الموجودة الآن مأخوذة من السابقة، و هي من الطبقة العليا و هكذا، و هي مرسومة على طبق قراءة القرّاء، و كذا في حال القراءة يراعون قراءة هؤلاء القرّاء بلا ترجيح بينهم، كما هو المتداول الآن، فإنّا نقطع بأنّ هذا ليس شيئا مستحدثا، بل مستمرّ من لدن زمن أئمتنا المعصومين صلوات اللّٰه و سلامه عليهم أجمعين، و هم قد اطّلعوا عليه و سكتوا عن الإنكار و الردع، و هو قرينة قطعيّة على الرضى بذلك، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 142

المسألة الرابعة في حكم من لا يحسن القراءة
اشارة

إمّا

لضيق الوقت و تقصيره في ترك التعلّم، أو لآفة في اللسان، قد عرفت أنّه يجب عليه الائتمام مع التمكّن منه، و كذا اتّباع القارئ أو القراءة من المصحف، و لو لم يقدر على شي ء من هذه الثلاثة ففيه تفصيل، لأنّ من لا يحسن القراءة على قسمين:

أحدهما: من لا يحسنها صحيحة و يحسنها ملحونة، و الثاني: غيره، و الأخير إمّا يعلم بعض فاتحة الكتاب أو لا، و على كلّ حال إمّا يعلم من غير الفاتحة قرآنا أو لا.

لا إشكال في القسم الأوّل، فإنّ مقتضى قاعدة الميسور وجوب الإتيان بما يسمّى عرفا ميسورا للفاتحة، و لا يتوجّه إليه التكليف بالبدل، حتّى أنّه لو علم الفاتحة بتمامها دون السورة فليس مكلّفا بالتعويض لأجل السورة، و حكي عدم الخلاف في عدم التعويض عن السورة من المنتهى، و استظهر من الذكرى.

و أمّا من لا يعلم تمام الفاتحة و يعلم بعضها فإمّا يصدق على البعض المعلوم أنّه قرآن، و إمّا لا يصدق فعلى الأوّل لا إشكال في وجوب قراءته، و هل يجب عليه التعويض عن المجهول أو لا؟ قولان، المشهور الثاني و هو الذي قوّاه شيخنا المرتضى قدّس سرّه في صلاته.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 143

و عليه فهل يجب تكرار ما يعلم بمقدار المجهول أو اختيار البدل من غير الفاتحة من سائر القرآن إن علم، و إلّا فمن الذكر؟ فيه أيضا خلاف، و الذي اختاره شيخنا المرتضى قدّس سرّه هو الإبدال من الغير، إن قرآنا فقرآنا و إن ذكرا فذكرا، مع تقديم القرآن على الذكر.

كما أنّه لو لم يعلم من الفاتحة شيئا وجب عليه القراءة من غيرها إن علمه، و إلّا وجب عليه الذكر، و هذا ممّا لا خلاف فيه

و في كلّ مقام حكم بالتعويض، فهل يجب مساواة العوض مع المعوّض في الآيات أو الحروف، الذي قوّاه شيخنا المرتضى قدّس سرّه الثاني في ما كان العوض قرآنا، و أمّا إذا كان ذكرا فقوّى عدم لزوم المساواة رأسا.

و لا بدّ أوّلا من ذكر ما هو المدرك في الباب ثمّ النظر في ما يستفاد منه.

بيان حقيقة القراءة

فنقول: روى ابن سنان في الصحيح عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه عليه السّلام «قال:

إنّ اللّٰه فرض من الصلاة الركوع و السجود، ألا ترى لو أنّ رجلا دخل في الإسلام لا يحسن أن يقرأ القرآن أجزأه أن يكبّر و يسبّح و يصلّي» «1».

و روي عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه «قال: و إذا قمت إلى الصلاة فإذا كان معك قرآن فاقرأ به و إلّا فاحمد اللّٰه و هلّله و كبّره» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) سنن البيهقي 2: 380.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 144

و في نبويّ عامّي آخر أورده في التذكرة أنّه قال له صلّى اللّٰه عليه و آله رجل: إنّي لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن، فعلّمني ما يجزيني في الصلاة، «قال صلّى اللّٰه عليه و آله: قل: سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه و اللّٰه أكبر و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، قال: هذا اللّٰه، فما لي؟

قال صلّى اللّٰه عليه و آله: قل: اللّٰهمّ اغفر لي و ارحمني و اهدني و ارزقني و عافني» «1».

و عن الذكرى و غيره نحوه بإسقاط لفظ «في الصلاة».

و في نبويّ ثالث أورده في محكيّ المنتهى أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله فقال:

إنّي لا أستطيع أن أحفظ شيئا من القرآن فما ذا أصنع؟ «فقال صلّى اللّٰه عليه و آله له: قل سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه».

و حينئذ فنقول: قد مرّ سابقا في تعيين السورة عند البسملة أنّ قراءة القرآن يتوقّف على كون التلفّظ بالألفاظ النوعيّة بقصد حكاية الألفاظ الشخصيّة المنزلة، لا الحكاية الجزميّة التصديقيّة التي هي مدلول قول القائل: قال اللّٰه تعالى كذا، بل الحكاية التي هي شأن الألفاظ عن معانيها، و المقصود ها هنا الإشارة، و من أراد التفصيل فعليه بمراجعة ما هناك، فكما أنّ القراءة يتوقّف على هذا الجزء القصدي يتوقّف على صدق القرآنيّة على الملفوظ من حيث ذاته و أنّه بأن كان بهيئة خاصّة غير موجودة إلّا في القرآن، إذ الهيئات المشتركة كقولك: سلام عليكم، و قولك:

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم، و قولك: الحمد للّٰه ربّ العالمين لو تلفّظ بها النائم و الغافل أو ارتسمت بحركة الريح مثلا، أو فاعل آخر غير ذي شعور لا يصدق أنّ ذلك الملفوظ قرآن أو ذلك المرسوم كذلك.

نعم لو تلفّظ النائم و الساهي بألفاظ سورة التوحيد تماما أو ارتسمت براسم

______________________________

(1) سنن البيهقي 2: 381.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 145

غير ذي شعور كذلك صدق أنّ هذه الألفاظ ألفاظ قرآنيّة، فيدخل تحت حرمة المسّ، فهذا القسم صدق القرآنيّة عليه ذاتي، فإذا انضمّ إليه قصد الحكاية عند التلفّظ به صدق قراءة القرآن.

و أمّا القسم الأوّل فهو مسلوب عنه اسم القرآنيّة، و لو فرض أنّ كاتبا أراد كتابة الألفاظ القرآنيّة مقطّعة كما لو أراد كتابة كلمة «إن» الموجودة في القرآن فقط، و كذلك كلمة «فرعون» و كذلك كلمة «وَ لَا الضّٰالِّينَ» فلا يصدق أنّه يكتب القرآن، كما أنّ لافظا لو أراد

التلفّظ بهذه المقطّعات فقط بقصد الحكاية لا يصدق أنّه يقرأ القرآن، و لازم ذلك عدم حرمة المسّ بكتابته كذلك.

ألا ترى أنّ كلمة: إنّا أرسلنا، و كلمة: فرعون، و كلمة: بشيرا و نذيرا، و كلمة: و لا الضالّين موجودة كلّها في القرآن فلو تلفّظ اللافظ بها بهذا الترتيب فقال: إنّا أرسلنا فرعون بشيرا و نذيرا و لا الظالّين بقصد حكاية كلّ واحدة منها في موطنها لما صدق عرفا عليه قارئ القرآن، و لا وجه له إلّا أنّ كلّ واحدة من هذه الكلمات وحدها ليست من مختصّات القرآن، لا لأنّ تواليها مضرّ أو عدم كونها كلاما و جملة، إذ شي ء من ذلك غير معتبر في قراءة القرآن.

و لهذا لو قال: سلام عليكم طبتم، كان قرآنا، فلو ضمّ إليه قصد الحكاية صدق عليه قارئ القرآن، و من هنا لو أراد الاحتياط في ردّ الجواب في أثناء الصلاة بردّ الصيغة القرآنيّة فالظاهر لزوم ضمّ كلمة «طِبْتُمْ» إلى قوله «سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ» حتّى يخرج عن الاشتراك.

نعم لو أراد الكاتب أو القائل أن يتمّ الآية أو المقدار الذي يختصّ بالقرآن فعاقه عائق عن التتميم يصدق على ما برز من لسانه أو قلمه أنّه قرآن، و لو كان من المشتركات، فيحرم مسّ المكتوب منه، فهو مثل ما إذا قرض من ورق القرآن مقدار كلمة منه مشتركة، فإنّه لا إشكال في حرمة مسّه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 146

إنّما الكلام في ما إذا أراد الكاتب أو القائل كتابة أو قول المقطّع القرآني المشترك الوجود بينه و بين غيره بوصف المقطّعيّة و عدم الانضمام.

و حينئذ فيتفرّع على ما ذكرنا أنّه لو علم من الفاتحة البسملة و الحمدلة لا يجب عليه قراءتهما، لأنّه داخل في عنوان

من لا يحسن أن يقرأ القرآن و عنوان من ليس معه قرآن، و قد حكم في الصحيحة و النبويّ المتقدّمين في العنوانين بالانتقال إلى الذكر، هذا هو الكلام بحسب الكلّية.

و أمّا ما يتعلّق بمقامنا فنقول: أمّا المتمكّن من الملحون إعرابا أو مادّة على وجه يصدق عليه اسم الحمد عرفا لا إشكال في تكليفه بقراءته كالنمنام و الفأفاء و نحوهما، فإنّه المتمشّي في حقّه من قراءة الحمد، فإذا خوطب بخطاب اقرأ الحمد موجّها له إلى عامّة الناس الذين منهم هذا الأعجمي اللسان كان المستفاد من قراءته الفاتحة هو هذا الذي يتأتّى منه، فإنّه حمد بالنسبة إليه و إن لم يكن كذلك بالنسبة إلى غيره، فاستفادة ذلك ممكنة من الدليل الأوّلي، و يكون غير مشمول للدليل الثانوي الجاعل للعوض.

هذا مضافا إلى الأخبار الخاصّة الواردة بالاجتزاء بهذه القراءة الملحونة في حقّ العاجز مثل رواية مسعدة بن صدقة المرويّة عن قرب الإسناد «قال: سمعت جعفر بن محمّد عليهما السّلام يقول: إنّك قد ترى من المحرّم من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح، و كذلك الأخرس في القراءة في الصلاة و التشهّد و ما أشبه ذلك، فهذا بمنزلة العجم و المحرّم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلّم الفصيح» «1» الحديث.

و المحرّم كمعظّم على ما حكي عن القاموس: يقال: ناقة محرّمة لما لم يخرج بعد عن حالة الصعبيّة، و جلد محرّم لما لم يتمّ دباغته، فالمراد- و اللّٰه العالم- إمّا الرجل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 59 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 147

الذي ليس له عقل و لسان أصلا، أو كانا و لكن مع النقصان. و مثل رواية السكوني

عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله: إنّ الرجل الأعجميّ من أمّتي ليقرأ القرآن بعجمته فترفعه الملائكة على عربيّته» «1».

و في الخبر: «سين بلال شين عند اللّٰه» «2».

فالمستفاد من هذه الأخبار أيضا عدم انتقال تكليف العاجز إلى البدل.

و أمّا العاجز عن القراءة حتّى الملحونة فإن كان قادرا على بعض الفاتحة بمقدار يصدق أنّه من الفاتحة على ما عرفت تفصيله فهل يجب عليه قراءة هذا البعض، و بعدها هل يكتفى به عن البقيّة، أو يجب التعويض؟ و على الثاني هل يجب تكرار ما يعلم من الفاتحة، أو يجب الإبدال من سائر القرآن إن علم، و إلّا فاختيار الذكر بمقدار البقيّة؟

استفادة الحكم من هذه الجهات من الصحيحة و النبويّات الثلاث المتقدّمة في غاية الإشكال، إذ هي مبنيّة على ورودها مورد البيان و إعطاء الضابط في هذا المقام، و الصحيحة غير واردة كذلك، بل هي بمقام بيان أنّ ما فرض اللّٰه أنّه من أجزاء الصلاة هو الركوع و السجود.

و استشهد لهذا المطلوب بقوله عليه السّلام: ألا ترى لو أنّ رجلا دخل في الإسلام إلخ، و المراد أنّ القراءة ممّا يمكن فقد الصلاة إيّاها و ليست كالركوع و السجود من الأركان، فلا يمكن استفادة الضابط من هذا الكلام و أخذ المفهوم منه بأن يقال: إنّ المستفاد منه أنّه لو أحسن شيئا من القرآن يجب عليه ذلك الشي ء، بل المستفاد هو الحكم إجمالا بأنّ من لا يحسن أصلا يجب عليه الذكر مكان القراءة، فيجب الأخذ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(2) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 23 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2،

ص: 148

بالقدر المتيقّن و هو من لا يحسن من الفاتحة و لا من غيرها شيئا، و أمّا من أحسن بعضا من الفاتحة أو شيئا غيرها فالرواية ساكتة عن التعرّض لحكمه، هذا حال الصحيحة.

و أمّا النبويّ صلّى اللّٰه عليه و آله: إذا قمت إلى الصلاة إلخ فمضافا إلى عدم السند له يمكن الخدشة في دلالته من جهة أنّه لا يعلم أنّه أريد بقوله عليه السّلام: إن كان معك قرآن، مطلق القرآن، إذ لعلّ الخطاب كان متوجّها إلى شخص متمكّن من الفاتحة، فالمراد بالقرآن حينئذ هو الفاتحة، و احتمال أنّ المراد هو الجامع و إرادة الخصوصيّة في حقّ المتمكّن استفيدت من الخارج، كقوله: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب، لا يخلو عن برودة.

فالظاهر أنّه للعهد إلى ما يتعارف قراءته في الصلاة، نعم لو كان المفروض كون المخاطب عاجزا عن الفاتحة أو فرض سؤاله عن صورة العجز كان الاستدلال تماما، لكن الشأن في إثباته.

و إذن فيبقى من يحسن بعضا من الفاتحة، و كذا من لا يحسن شيئا منها و يحسن بعضا من غيرها من القرآن غير مستفاد حكمها من الخبرين، فلا بدّ من الرجوع إلى سائر القواعد.

فنقول: أمّا وجوب قراءة البعض من الفاتحة، و كذا من لا يحسن شيئا منها و يحسن بعضا من غيرها من القرآن غير مستفاد حكمها من الخبرين، فلا بدّ من الرجوع إلى سائر القوائد.

فنقول: أمّا وجوب قراءة البعض من الفاتحة في حقّ من يحسنه فالظاهر أنّه موضع وفاق، فيبقى الشكّ بالنسبة إلى تكليفه بالتعويض لما يجهله، و حيث إنّ الشكّ في أصل التكليف يكون المرجع فيه البراءة.

نعم لو أراد الاحتياط يجمع بين تكرار ما يعلم بمقدار المجهول و قراءة غيره من القرآن كذلك

و الذكر كذلك، و أمّا من لا يحسن من الفاتحة شيئا و يحسن من سائر القرآن فحيث إنّ التكليف في حقّه مردّد بين المتبائنين أعني: التعويض من القرآن أو من الذكر فالواجب بمقتضى الاحتياط اللازم هو الجمع بينهما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 149

الموقع الخامس في ما يتعلّق بثالثة المغرب و أخيرتي الرباعيّة.

اشارة

و فيه مسألتان:

[المسألة] الأولى
اشارة

يتخيّر المصلّي في ثالثة المغرب و الأخيرتين من الظهرين و العشاء بين قراءة فاتحة الكتاب و التسبيحات.

و يدلّ على التخيير عدّة روايات:

منها: رواية عليّ بن حنظلة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن الركعتين الأخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال عليه السّلام: إن شئت فاقرأ فاتحة الكتاب، و إن شئت فاذكر اللّٰه فهو سواء، قال: قلت: فأيّ ذلك أفضل؟ فقال عليه السّلام: هما و اللّٰه سواء، إن شئت سبّحت، و إن شئت قرأت» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 150

لكن يقع الكلام في مقامين:

أحدهما: في رفع التعارض بينها و بين خصوص ما دلّ على تعيّن القراءة في ما لو نسي قراءة الأوليين.

و الثاني: في رفع التعارض بين نفس الأخبار الواردة في كلّي المسألة أعمّ من النسيان المذكور و عدمه.

أمّا المقام الأوّل،

فاعلم أنّ ما دلّ على تعيّن القراءة عند نسيان قراءة الأوليين رواية واحدة، و هي: رواية الحسين بن حمّاد عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

قلت له: أسهو عن القراءة في الركعة الأولى؟ قال عليه السّلام: اقرأ في الثانية، قلت: أسهو في الثانية، قال عليه السّلام: اقرأ في الثالثة، قلت: أسهو في صلاتي كلّها، قال عليه السّلام: إذا حفظت الركوع و السجود فقد تمّت صلاتك» «1».

و هذه و إن كانت أخصّ مطلقا بالنسبة إلى أخبار التخيير كما هو واضح، لكنّها في خصوص موردها معارضة بصحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت: الرجل يسهو عن القراءة في الركعتين الأوّلتين فيذكر في الركعتين الأخيرتين أنّه لم يقرأ؟ قال عليه السّلام: أتمّ الركوع و السجود؟ قلت:

نعم، قال عليه السّلام: إنّي أكره

أن أجعل آخر صلاتي أوّلها» «2».

وجه المعارضة أنّ الظاهر من السؤال في هذا الخبر كون السائل متوهّما لزوم القراءة في الأخيرتين عند نسيانها في الأوّلتين، و زوال التخيير الثابت بحسب

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 151

التشريع الأوّلي بملاحظة هذا العارض، و هو أنّه لو اختار التسبيح فيهما في الفرض المذكور لزم خلوّ الصلاة عن فاتحة الكتاب، و قد قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في الخبر المعروف:

«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ففي هذا الفرض يقوم الركعتان الأخيرتان مقام الأوّلتين في أنّه يتعيّن قراءة فاتحة الكتاب مع السورة فيهما بحيث لو تركها عمدا بطلت الصلاة، نعم لو تركها سهوا فلا شي ء كما في الأوّلتين، فأجاب الإمام عليه السّلام عن هذا التوهّم بعد ما سأله عن إتمام الركوع و السجود، فقال: نعم بقوله عليه السّلام: إنّي أكره أن أجعل آخر صلاتي أوّلها.

و المراد و اللّٰه العالم إمّا الجعل بحسب الفتوى، يعني إنّي لا أفتي بصيرورة آخر الصلاة أوّلها في الحكم أي في تعيّن فاتحة الكتاب و السورة، بل هو باق على ما كان قبل هذا النسيان من التخيير، و لم يحدث من قبل النسيان المذكور تغيير في حال الركعتين الأخيرتين.

أو بحسب العمل، يعني إنّي لا أعامل مع الأخيرتين معاملة الأوليين و لا أقرأ فاتحة الكتاب و السورة فيهما بعنوان التعيين و الوظيفة.

و على كلّ تقدير يكون هذا الخبر معارضا لرواية الحسين على فرض اعتبار سندها.

و حينئذ إمّا نحكم بتقديم هذا الخبر لصحّته، و إمّا لأجل موافقته للسنّة و هي عمومات التخيير،

مضافا إلى ضعف سند الرواية على ما قيل و إعراض الأصحاب عن ظاهرها، إذ لم يحك الفتوى به عن أحد سوى الشيخ قدّس سرّه في الخلاف، مع أنّه أيضا لم يثبت، بل ربما نسب إليه أنّه جعله أحوط.

فإن قلت: على فرض الإغماض عن ضعف السند و الإعراض يمكن الجواب عن معارضة الصحيحة المزبورة بعدم المنافاة بينها و بين الرواية، فإنّ مفاد الصحيحة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 152

كراهة جعل آخر الصلاة كأوّلها في الحكم، و هو الإتيان بما هو وظيفة الأوليين من مجموع الحمد و السورة في الأخيرتين على أنّه وظيفتهما، فلا ينافي هذا تعيّن قراءة الفاتحة خاصّة و بدون السورة لأجل رعاية نسيانها في الأوليين كما هو مفاد رواية الحسين، فيتعيّن على هذا تخصيص عمومات التخيير بهذه الرواية، لسلامتها عن المعارضة بهذا التقريب.

قلت: ما ذكر في مقام رفع التعارض بينهما غير صحيح لثلاثة وجوه:

أمّا أوّلا: فلأجل أنّ المذكور في كلتيهما هو السهو عن القراءة في الأوليين، فإن كان المراد بها هو مجموع الحمد و السورة فليكن كذلك في كليهما، و إن كان خصوص الحمد فكذلك، و لا وجه للتفكيك.

و أمّا ثانيا: فعلى هذا التوجيه في الصحيحة يلزم أن يكون الإمام عليه السّلام أجاب السائل بما ليس جوابا عن سؤاله، فإنّه سأل عن الوظيفة في الحال المفروضة، فأجاب الإمام عليه السّلام بأنّي أكره أن أقرأ الحمد و السورة معا في الأخيرتين، و أمّا أنّ الوظيفة ما ذا فهل هي القراءة معيّنا أو التخيير فساكت عنه، و قد كان السؤال عن الوظيفة العمليّة، و هذا الجواب لم يرفع حيرته.

و أمّا ثالثا: فلأجل أنّ الظاهر من قوله عليه السّلام: إنّي أكره أن أجعل آخر صلاتي أوّلها،

أنّ آخر الصلاة بعد طروّ الحالة المذكورة لم يحدث فيه تغيّر حال، بل هو على حاله قبل طروّها و هو التخيير، فيكون معارضا مع الرواية المثبتة لتعيين القراءة بملاحظة طروّها.

و الحاصل أنّ دلالة الصحيحة على بقاء حكم التخيير و عدم زواله بهذا الطارئ ممّا لا ينكر، و قد كان مفاد الرواية زواله و تبدّله بتعيين أحد طرفيه و النسبة هي التباين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 153

هذا مضافا إلى إمكان أن يقال: إنّ رواية الحسين ليست النسبة بينها و بين العمومات إلّا التباين دون العموم و الخصوص المطلقين على تقدير، و لا منافاة لها معها على تقدير آخر.

و توضيحه أنّ قوله عليه السّلام في تلك الرواية بعد السؤال عن سهو القراءة في الركعة الأولى: «اقرأ في الثانية) بعد القطع بأنّ النسيان ليس سببا لإيجاب القراءة في الثانية، بل إنّما يؤتى بالقراءة في الركعة الثانية لأجل كونها وظيفة نفسها، فيرجع حاصل المراد إلى أنّه إن فاتك القراءة في الركعة الأولى فاستحفظ حتّى لا تفوتك في الثانية، فإنّها أيضا محلّ لها، و هذا نظير ما يقال: إن مات ولدك زيد فلا تغتمّ، بل اسأل اللّٰه أن يطيل عمر ولدك الآخر عمرو، فإذا سقط السهو عن الموضوعيّة بالنسبة إلى الركعة الثانية فهكذا الكلام بالنسبة إلى الثالثة.

فالمعنى- و اللّٰه العالم-: و إن فاتك القراءة في الركعتين فلا تغتمّ، إذ لم يفتك محلّها في الركعة الثالثة، و مفاد ذلك أنّ الركعة الثالثة بنفسها محلّ القراءة، لا أنّها صارت محلّا لها بملاحظة السهو، كما أنّ الحال كذلك بالنسبة إلى الركعة الثانية.

و حينئذ نقول: إمّا يحمل العبارة على تعيّن القراءة و عدم إجزاء غيرها في الثالثة كما في الثانية، فالرواية على هذا

التقدير من الأدلّة على تعيين القراءة في الأخيرتين مطلقا، و إمّا يحمل على أفضليّة القراءة و أنّ تعيينها للإرشاد إلى كونها أفضل الفردين للواجب التخييري، فالرواية على هذا من الأدلّة الدالّة على أفضليّة القراءة فيهما مطلقا، و على التقدير الأوّل تكون معارضة مع عمومات التخيير بالتباين، و على الثاني تكون معارضة مع عمومات أفضليّة التسبيح كذلك.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 154

و إمّا يحمل على أنّ ذكر القراءة للإشارة إلى ما هو الوظيفة في الركعة الثالثة، و ذكر القراءة من باب المثال، فالمعنى أنّه: إن فاتك القراءة في الأوليين فاهتمّ حتّى لا يفوتك ما هو الوظيفة في الركعة الثالثة مثل القراءة، و على هذا التقدير لا منافاة لها مع شي ء من عمومات التخيير أو الأفضليّة أصلا كما هو واضح.

فتحقّق أنّ الرواية إن حملناها على موضوعيّة النسيان صارت النسبة بينها و بين عمومات التخيير عموما و خصوصا مطلقا، و لكنّها معارضة بالصحيحة، و إن حملناها على عدم الموضوعيّة للنسيان، فحينئذ ليست النسبة إلّا التباين على تقدير، و لا ينافي بينها و بين تلك العمومات على تقدير آخر.

و على كلّ حال لا يتحقّق من قبل هذه الرواية مانع من الأخذ بتلك العمومات، أمّا على الأوّل و الأخير فواضح، و أمّا على الوسط فلوجود الجمع العرفي حينئذ بينهما، كما علم ممّا سبق، و ذلك لكون العمومات السابقة نصّا في التخيير، و هذه ظاهرة في التعيين، فيصرف عن ظاهرها إلى بيان أحد الأفراد بنصوصيّة تلك، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام و أمنائه الكرام عليهم صلوات اللّٰه الملك العلّام.

و أمّا المقام الثاني، فاعلم أنّ الأخبار على طوائف:
الأولى: ما دلّ على تعيّن التسبيح مطلقا

كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه «قال: عشر ركعات، ركعتان من الظهر و ركعتان من العصر، إلى أن قال

عليه السّلام:

فزاد النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله سبع ركعات هي سنّة ليس فيهنّ قراءة، إنّما هو تسبيح و تهليل و تكبير و دعاء» «1» الحديث.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 155

و صحيحته الثانية عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال عليه السّلام: كان الذي فرض اللّٰه على العباد عشر ركعات و فيهنّ القراءة، و ليس فيهنّ و هم (يعني سهوا) فزاد رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله سبعا و فيهنّ الوهم و ليس فيهنّ قراءة» «1».

و صحيحته الثالثة عنه عليه السّلام أنّه «قال: لا تقرأنّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئا إماما كنت أو غير إمام، قال: قلت: فما أقول فيهما؟ قال عليه السّلام: إن كنت إماما أو وحدك فقل: سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه، ثلاث مرّات تكمله تسع تسبيحات، ثمّ تكبّر و تركع» «2».

و صحيحته الرابعة عنه عليه السّلام «قال عليه السّلام: إذا أدرك الرجل بعض الصلاة و فاته بعض خلف إمام يحتسب بالصلاة خلفه جعل ما أدرك أوّل صلاته إن أدرك من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة ركعتين، وفاته ركعتان قرأ في كلّ ركعة ممّا أدرك خلف الإمام في نفسه بأمّ الكتاب، فإذا سلّم الإمام قام فصلّى الأخيرتين لا يقرأ فيهما، إنّما هو تسبيح و تهليل و دعاء ليس فيهما قراءة، و إن أدرك ركعة قرأ فيها خلف الإمام، فإذا سلّم الإمام قام فقرأ أمّ الكتاب ثمّ قعد فتشهّد، ثمّ قام فصلّى ركعتين ليس فيهما قراءة» «3» هكذا عن الفقيه «4».

و عن التهذيب نحوه، إلّا أنّه «قال: فإذا سلّم الإمام قام فصلّى

ركعتين لا يقرأ فيهما، لأنّ الصلاة إنّما يقرأ فيها في الأوليين في كلّ ركعة بأمّ الكتاب و سورة، و في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 47 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 4.

(4) الفقيه 1: 256- 1162.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 156

الأخيرتين لا يقرأ فيهما، إنّما هو تسبيح و تهليل و دعاء ليس فيهما قراءة» «1».

و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا قمت في الركعتين الأخيرتين لا تقرأ فيهما، فقل: الحمد للّٰه و سبحان اللّٰه و اللّٰه أكبر» «2».

و المرسل المرويّ عن الفقيه و العلل عن الرضا عليه السّلام «إنّما جعل القراءة في الركعتين الأوليين و التسبيح في الأخيرتين للفرق بين ما فرضه اللّٰه من عنده و بين ما فرضه اللّٰه من عند رسوله» «3».

الثانية: ما دلّ على أفضليّة التسبيح مطلقا،

كخبر محمّد بن عمران أنّه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام «فقال: لأيّ علّة صار التسبيح في الركعتين الأخيرتين أفضل من القراءة؟ قال عليه السّلام: إنّما صار التسبيح أفضل من القراءة في الأخيرتين، لأنّ النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله لمّا كان في الأخيرتين ذكر ما رأى من عظمة اللّٰه عزّ و جلّ فدهش، فقال:

سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه و اللّٰه أكبر، فلذلك صار التسبيح أفضل من القراءة» «4».

الثالثة: ما دلّ على مساواة الأمرين مطلقا

مؤكّدا بالحلف في بعضها و هو ما تقدّم في صدر المسألة من رواية عليّ بن حنظلة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

سألته عن الركعتين الأخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال عليه السّلام: إن شئت فاقرأ فاتحة الكتاب، و إن شئت فاذكر اللّٰه، فهو فيه سواء، قال: قلت: فأيّ ذلك أفضل؟

______________________________

(1) التهذيب 3: 45- 158.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 7.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 157

فقال عليه السّلام: هما و اللّٰه سواء، إن شئت سبّحت و إن شئت قرأت» «1».

و من هذا القبيل صحيحة عبيد بن زرارة «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الركعتين الأخيرتين من الظهر؟ قال عليه السّلام: تسبّح و تحمد اللّٰه و تستغفر لذنبك، و إن شئت فاتحة الكتاب، فإنّها تحميد و دعاء» «2».

الرابعة: ما دلّ على أفضليّة القراءة مطلقا،

و هو رواية محمّد بن حكيم «قال:

سألت أبا الحسن عليه السّلام: أيّما أفضل، القراءة في الركعتين الأخيرتين أو التسبيح؟

فقال عليه السّلام: القراءة أفضل» «3».

الخامسة: ما دلّ على تعيّن القراءة للإمام و التسبيح للمأموم و التخيير للمنفرد

كصحيحة معاوية بن عمّار «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين، فقال عليه السّلام: الإمام يقرأ فاتحة الكتاب و من خلفه يسبّح، فإذا كنت وحدك فاقرأ فيهما، و إن شئت فسبّح» «4».

و رواية جميل بن درّاج «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عمّا يقرأ الإمام في الركعتين في آخر الصلاة؟ فقال عليه السّلام: بفاتحة الكتاب، و لا يقرأ الذين خلفه و يقرأ الرجل فيهما إذا صلّى وحده بفاتحة الكتاب» «5» بناء على أنّ قوله عليه السّلام: و يقرأ الرجل إلخ لكونه واقعا عقيب النهي عن القراءة في حقّ المأموم لا ظهور له في أزيد من

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 10.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 158

الرخصة و عدم كونه منهيّا في حقّه.

و صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كنت إماما فاقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب، و إن كنت وحدك فيسعك فعلت أو لم تفعل» «1».

السادسة: ما دلّ على تعيّن التسبيح للإمام و تعيّن القراءة للمأموم،

و هو صحيحة أبي خديجة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كنت إمام قوم فعليك أن تقرأ في الركعتين الأوّلتين، و على الذين خلفك أن يقولوا سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه و اللّٰه أكبر و هم قيام، فإذا كان في الركعتين الأخيرتين

فعلى الذين خلفك أن يقرءوا فاتحة الكتاب، و على الإمام أن يسبّح مثل ما يسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين» «2».

السابعة: ما دلّ على تعيّن القراءة مطلقا،

و هو التوقيع المرويّ عن الاحتياج و كتاب الغيبة للشيخ أنّه كتب إلى القائم عجّل اللّٰه تعالى فرجه الشريف يسأله عن الركعتين الأخيرتين و قد كثرت فيهما الروايات، فبعض يرى أنّ قراءة الحمد وحدها أفضل، و بعض يرى أنّ التسبيح فيهما أفضل، فالفضل لأيّهما لنستعمله؟

فأجاب عليه السّلام: «قد نسخت قراءة أمّ الكتاب في هاتين الركعتين التسبيح، و الذي نسخ التسبيح قول العالم عليه السّلام: كلّ صلاة لا قراءة فيها فهي خداج» «3» الحديث.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 11.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 13.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 14.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 159

هذه جملة ما عثرنا عليه من طوائف الأخبار في الباب.

و الذي أفاده أستاذنا

الاعتماد أطال اللّٰه بقاه في وجه الجمع بينها أنّ ما دلّ على التسوية أو الأفضليّة سواء في جانب القراءة أم التسبيح بملاحظة مفادها الالتزامي الذي هو باختلافها حجّة فيه، حيث إنّ الخبرين المتعارضين يؤخذ بهما في نفي الثالث، و هو هنا رفع تعيين أحد الأمرين و وجوبه التعييني يكون قرينة صارفة لظهور ما دلّ على تعيين القراءة مطلقا و ما دلّ على تعيين التسبيح كذلك، إذ مقتضى الجمع العرفي رفع اليد عن الظاهر بواسطة النصّ، فإذا كان مفاد تلك الطوائف الثلاثة بنحو الصراحة و النصوصيّة إجزاء كلّ من الأمرين، غاية الأمر باختلاف في التعبير إمّا بنحو التسوية و إمّا بنحو تفضيل القراءة، و إمّا بنحو تفضيل التسبيح فهذا المفاد الصريح مأخوذ و يكون قرينة على صرف الظاهر في الطائفتين الأخريين اللذين كلّ منهما ظاهر في تعيين أحد الأمرين بالخصوص بدون شراكة

غيره، فإنّه قابل للحمل على خلاف ظاهره بأن يقال: إنّ المراد من قوله عليه السّلام: ليس فيهنّ قراءة نفي الجعل التعييني كما كان هو الثابت في الركعات التي هي فرض اللّٰه تعالى.

فيكون حاصل المراد- و اللّٰه العالم- أنّها لمكان كونها فرض اللّٰه لا يجتزئ فيها بغير القراءة، و أمّا هذه السبع الركعات فلعدم الاهتمام بها بمثل تلك المثابة يكتفى فيها، قرأت أو لم تقرأ، و ليس من المتحتّم قراءة أمّ الكتاب فيها، بل أجزاء أمّ الكتاب أيضا ليس من باب كونه قرآنا، بل من باب أنّه تحميد و دعاء، كما صرّح بذلك في صحيحة عبيد المتقدّمة.

و هكذا قوله: لا تقرأنّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئا إماما كنت أو غير إمام، قال: قلت: فما أقول فيهما، قال عليه السّلام: إن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 160

كنت إماما أو وحدك فقل: سبحان اللّٰه إلخ.

و هذه الرواية قد صرّح فيها بعدم الفرق بين الإمام و غيره، و الروايات المتقدّمة أيضا سياقها يشهد بعدم الفرق، بمعنى إبائها عن التقييد، فإنّ مقتضاها أنّ ذلك من خواصّ كون هذه الركعات السبع فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، لا فرض اللّٰه تعالى، و من المعلوم إباء هذا المضمون عن التقييد بالإمام مثلا، فهي بالسياق و هذه الرواية بالنصوصيّة يدلّ على أنّ المجعول التعيّني في الركعتين الأخيرتين ليس هو القراءة.

نعم يبقى سؤال أنّ التأكيد بالنون في الرواية الأخيرة ربما يأبى عن الجمع المذكور، إذ لو كان مجرّد النهي أمكن أن يقال: إنّه وارد في مقام توهّم الوجوب، فالمعنى: إن شئت أن لا تقرأ فلا تقرأ، و لست كما في الأوليين ملزما بالقراءة، و أمّا النهي المؤكّد بالنون فلا

يصلح إلّا في مقام يكون في الفعل بأس، إلّا أن يقال: إنّه يصلح مع البأس و لو كان كراهيّا.

بل يمكن أن يقال: إنّها آبية و لو مع قطع النظر عن التأكيد بالنون بملاحظة تعقّبه بالسؤال بقوله: فما أقول فيهما، إذ لو لم يفهم السائل من هذا النهي المنع، بل صرف عدم الإلزام بالفعل لما يحسن منه السؤال المذكور، و إنّما يحسن إذا فهم المنع كما لا يخفى.

فيستفاد من هذا الخبر مضافا إلى أنّ القراءة غير مجعولة تعيينا أنّها مكروهة و مفضولة بالنسبة إلى التسبيح أيضا، فيكون بالنسبة إلى إفادة أصل المرجوحيّة الأعمّ من البالغة مرتبة المنع عن النقيض و غيرها نصّا أو كالنصّ، بحيث يخرج عن قانون المحاورة لو حمل على المساواة، فضلا عن أفضليّة القراءة، فإنّ التعبير عن أحد المتساويين أو الفرد الأفضل بالنهي المؤكّد بالنون غير مأنوس في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 161

المحاورات العرفيّة.

فإذن تكون هذه الرواية معارضة مع ما دلّ على المساواة، و كذا مع ما دلّ على أفضليّة القراءة مطلقا، أو على تعيينها في حقّ الإمام، أو مطلقا كالتوقيع الشريف.

نعم ما دلّ على تعيين التسبيح للإمام و القراءة للمأموم، و هو رواية أبي خديجة، يمكن القول بعدم منافاتها مع تلك الرواية، لإمكان حمل قوله عليه السّلام:

فإذا كان في الركعتين الأخيرتين فعلى الذين خلفك أن يقرءوا فاتحة الكتاب، و على الإمام أن يسبّح على معنى أنّه إذا تحقّق الجماعة في الركعتين الأخيرتين بأن كان المأموم مسبوقا بركعتين و لا حقا بالإمام في الركعتين الأخيرتين فحينئذ على الإمام أن يسبّح كما يسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين من صلاتهم حين ما ينفردون عن الإمام، و على المأمومين أن يقرءوا، لأنّ هاتين الركعتين

أوليان بالنسبة إليهم.

و يشهد لذلك ما رواه الشيخ بإسناده إلى أحمد بن النضر عن رجل عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: قال لي: أيّ شي ء يقول هؤلاء في الرجل إذا فاتته مع الإمام ركعتان؟ قال: يقولون: يقرأ في الركعتين بالحمد و السورة، فقال عليه السّلام: هذا يقلّب صلاته فيجعل أوّلها آخرها، فقلت: فكيف يصنع؟ قال: يقرأ بفاتحة الكتاب في كلّ ركعة» «1».

إذ الظاهر من هذه الرواية أنّ العامّة كانوا يقولون بالذكر في الأوليين في الصورة المفروضة و القراءة في الأخيرتين، و الإمام عليه السّلام ردعهم بقوله عليه السّلام: هذا يقلّب صلاته فيجعل أوّلها آخرها.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 47 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 162

فالرواية السابقة أيضا ناظرة إلى ردع هذا المعنى و أنّ التكليف لا ينقلب بواسطة فوات الركعتين مع الإمام، بل وظيفة الأوليين على حالها و وظيفة الأخيرتين أيضا كذلك.

و بالجملة فهذه الطائفة ممكنة الجمع مع الصحيحة المزبورة، كما أنّ الطائفة الدالّة على أفضليّة التسبيح و الطائفة الدالّة على تعيّنه أيضا غير منافيتين معها.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 162

فيبقى الطائفة الدالّة على تعيّن القراءة مطلقا، و الطائفة الدالّة على أفضليّتها مطلقا، و الطائفة الدالّة على المساواة مطلقا، و الطائفة المفصّلة بين الإمام و المأموم بالأمر بالقراءة للأوّل و التسبيح للثاني كلّها معارضة معها.

مضافا إلى معارضة نفس الطوائف الستّ بعضها مع بعض بحسب المدلول المطابقي.

و المعارضة الأخيرة أعني: ما كان بين نفس تلك الطوائف قابلة للارتفاع، بأن يقال بأنّ الأخبار الفارقة بين فرض اللّٰه و فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله ناظرة إلى بيان المجعول الأوّلي مع

قطع النظر عن طروّ الحالة الثانية، فكما أنّ إثبات القراءة في فرض اللّٰه يكون بلحاظ أصل التشريع و الجعل الأوّلي و طبع الصلاة بما هي هي فلا ينافي سقوطها عن المأموم لعارض الجماعة، فكذلك نفي الجعل في فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله الذي صار معناه بمقتضى صحيحة عبيد بن زرارة أنّ الأصل في فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله هو التسبيح و التحميد و الدعاء، و فاتحة الكتاب أيضا غير خارج عن ذلك.

فيقال: إنّ هذا المعنى إنّما هو بملاحظة طبع الصلاة لو خلّيت و نفسها، فلا ينافي رجحان القراءة لعارض الجماعة في حقّ الإمام.

و على هذا فيحصل التوفيق بين جميع أخبار الباب غير الصحيحة المتقدّمة الناصّة بمساواة الإمام و غيره في النهي عن القراءة بأن يقال: إنّ مطلقات مساواة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 163

الأمرين ناظرة إلى مقام الجعل الأوّلي، و كلّ واحدة من مطلقات أفضليّة التسبيح أو أفضليّة الحمد محمولة على الحكم الثانوي المجعول بملاحظة عارض الجماعة بقرينة التفصيل الواقع في بعض الأخبار بين الإمام و المأموم بالقراءة للأوّل و التسبيح للثاني.

فيكون حاصل الجمع بين الكلّ

أنّ الأمرين بحسب الجعل الأوّلي متساويان، إلّا أنّه خرج عن هذا المقتضى الأوّلي إلى أفضليّة القراءة في حقّ الإمام، و إلى أفضليّة التسبيح في حقّ المأموم لعارض الجماعة، و أمّا المنفرد فباق على المقتضي الأوّلي، فيكون الأمران متساويين في حقّه بحسب الشأنيّة و الفعليّة معا.

لكن هذا كلّه في المعارضة الواقعة بين أخبار الباب مع قطع النظر عن الصحيحة الناهية عن القراءة مع التأكيد بالنون و التنصيص بعدم الفرق بين الإمام و غيره، فإن أمكن حملها على ما لا ينافي المعنى المذكور تعيّن المصير إليه، و إلّا فلا محيص

عن معاملة التعارض.

و الذي أفاده الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه في وجه الجمع احتمال أن تكون هذه الصحيحة أيضا كصحيحة أبي خديجة المتقدّمة ناظرة إلى ردع ما ذهب إليه العامّة في المأموم المسبوق، حيث يعاملون مع الركعتين اللتين يدركهما مع الإمام معاملة الأخيرتين، و مع الركعتين اللتين يتمّهما وحده و في حال انفراده عن الإمام معاملة الأوليين، و قال الإمام عليه السّلام في الخبر المتقدّم أنّ هذا يقلّب أوّل صلاته آخرها، فالنهي و التأكيد بالنون في صحيحة زرارة أيضا لأجل إخراج هذا المذهب الفاسد عن الأذهان.

و حاصل المراد- و اللّٰه العالم- بناء على هذا أنّ الإمام و المأموم المسبوق لا يفترقان في الركعتين الأخيرتين، فكما لا يقرأ الإمام، بل يسبّح في ركعتيه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 164

الأخيرتين فكذلك المأموم المسبوق عند توحّده عن الإمام و إتيانه للركعتين الأخيرتين لا بدّ أن يترك القراءة.

و وجه تعيين التسبيح في الذيل عند سؤاله بقوله: فما أقول فيهما لعلّه لنكتة أن يعتاد عملا بإتيان التسبيح و يخرج عن ذهنه ذلك الرأي السخيف الناشئ من العامّة بالكلّية، و يشهد لهذا قوله عليه السّلام في الجواب عن السؤال الواقع في الذيل:

إن كنت إماما أو وحدك إلخ، حيث إنّه عليه السّلام لم يتعرّض لحكم المأموم، فإنّ سرّه على ما ذكرنا واضح، إذ هو في مقام رفع التمايز بين الإمام و المأموم المسبوق الذي يصير في الركعتين الأخيرتين وحده و منفردا و أنّ كليهما مشتركان في أنّ وظيفتهما التسبيح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 165

المسألة الثانية هل يكفي على تقدير اختيار الذكر الإتيان بالتسبيحات الأربع مرّة واحدة،

أو يجب ثلاث مرّات، أو يكفي الإتيان بحذف التكبيرة ثلاث مرّات، أو يكفي ثلاث سبحان اللّٰه، أو يكفي مطلق الذكر بأيّ صورة كانت؟

فاعلم أنّ الأخبار اختلف

في ذلك، ففي بعضها مطلق الذكر، و هو رواية عليّ بن حنظلة المتقدّمة في أدلّة المساواة المشتملة على قوله عليه السّلام: و إن شئت فاذكر اللّٰه «1».

و في آخر: سبحان اللّٰه ثلاثا، و هو رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: أدنى ما يجزي من القول في الركعتين الأخيرتين ثلاث تسبيحات أن تقول:

سبحان اللّٰه سبحان اللّٰه سبحان اللّٰه» «2».

و في ثالث: الاكتفاء بقول الحمد للّٰه و سبحان اللّٰه و اللّٰه أكبر، و هو صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا قمت في الركعتين الأخيرتين لا تقرأ فيهما،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 166

فقل الحمد للّٰه و سبحان اللّٰه و اللّٰه أكبر» «1».

و في رابع: الاكتفاء بالتسبيحات الأربع بالصورة المعهودة مرّة واحدة، و هو ما رواه ثقة الإسلام قدّس سرّه في الصحيح عن حمّاد بن عيسى عن حريز عن زرارة «قال: قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: ما يجزئ من القول في الركعتين الأخيرتين؟

قال عليه السّلام: أن تقول: سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه و اللّٰه أكبر و تكبّر و تركع» «2».

و في خامس: تعيين سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه ثلاث مرّات، و هو ما رواه الصدوق قدّس سرّه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه «قال:

لا تقرأنّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئا إماما كنت أو غير إمام، قال: قلت: فما أقول فيهما؟ قال عليه السّلام: إذا كنت إماما أو وحدك فقل:

سبحان اللّٰه

و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه ثلاث مرّات تكمله تسع تسبيحات، ثمّ تكبّر و تركع» «3».

قال في الوسائل: و رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب حريز ابن عبد اللّٰه عن زرارة مثله، إلّا أنّه أسقط قوله: تكمله تسع تسبيحات، و قوله:

أو وحدك، و رواه في أوّل السرائر أيضا نقلا من كتاب حريز مثله، إلّا أنّه قال:

فقل: سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه و اللّٰه أكبر ثلاث مرّات، ثمّ تكبّر و تركع.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 7.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 167

أقول: و إن كان مقتضى الجمع بين الجميع هو الاكتفاء بمطلق الذكر كما حكي عن البحار و يحمل الاختلاف على مراتب الفضل، لكن لكون ذلك خلاف المشهور لا يعوّل عليه، بل و كذا على ما اشتمل على غير التسبيحات الأربع، و قد عرفت أنّ المشتمل عليها روايتان كلتاهما صحيحتان رواهما حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام، إحداهما تشتمل على التسبيحات المذكورة و مقتضى إطلاقها الاكتفاء بها مرّة واحدة كما يظهر تقريبه إن شاء اللّٰه تعالى، و الأخرى تشتمل على تلك التسبيحات ثلاثا بناء على نسخة أوّل السرائر و بدون التكبير ثلاثا بناء على نسختي الصدوق و مستطرفات السرائر، و قد حكى القول بمضمون الصحيحة الأولى عن الأشهر بل المشهور بين المتأخّرين و متأخّريهم كما حكي القول بالتسع، كما هو مقتضى النسخة الثانية من الصحيحة الثانية عن حريز و الصدوقين و ابن أبي

عقيل و أبي الصلاح، و حكي القول بالاثنتي عشر كما هو مقتضى النسخة الاولى من الصحيحة الثانية عن صريح النهاية و الاقتصاد و مختصر المصباح و التلخيص و البيان و ظاهر ابن أبي عقيل، و الأوّل هو الأقوى.

فإن قلت: كيف و مقتضى الصناعة تقييد الصحيحة الظاهرة في الاكتفاء بالمرّة بإطلاقها بالصحيحة الثانية المصرّحة بالثلاث، فإنّ النسبة بينهما الإطلاق و التقييد.

لا يقال: إنّ المقيّد قاصر عن التقييد بملاحظة أنّ الأمر الواقع فيها بذلك واقع عقيب قوله عليه السّلام: لا تقرأنّ، المحمول على الكراهة قطعا، فلا دلالة في الأمر المذكور أيضا على الوجوب.

لأنّا نقول: غايته حمله على بيان أفضل فردي الواجب التخييري، و أمّا في مقام تعيين ذلك الفرد و أنّه أيّ شي ء هو فلا ينكر ظهوره في كون ما ذكره هو ذلك الفرد الأفضل دون غيره، و إذن فاللازم حمل تلك الصحيحة الأولى على هذه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 168

قلت: ما ذكر في استظهار الخصوصيّة من الصحيحة الثانية في مقام بيان أفضل الفردين بمعنى نفي الثالث حقّ، و لكن مع ذلك تقييد الصحيحة الأولى بها في غاية الإشكال، و ذلك لأنّه إن كانت تلك الصحيحة واردة في الجواب عن سؤال ما يقال أمكن أن يقال: إنّه في مقام بيان سنخ القول في الأخيرتين، و أمّا عدده فليس في مقامه، و الصحيحة الأخرى بصدد البيان من كلتا الجهتين، و أمّا بعد كون السؤال في الأولى عمّا يجزي من القول في الأخيرتين و معلوم أنّه سؤال من الإجزاء عن كلّ جهة فالصحيحة تصير أظهر في الاكتفاء بالمرّة و خصوصا بملاحظة قوله عليه السّلام: و تكبّر و تركع.

و بالجملة و إن كان مع ذلك لا تخرج الصحيحة عن

كونها مطلقة مع كون الأخرى مقيّدة بناء على نسخة إثبات التكبير، و إلّا فبناء على حذفه فالأمر أوضح، لأنّهما حينئذ من المتباينين و مقتضى الجمع العرفي هو التخيير، و لكن ليس كلّ مطلق و مقيّد يتعيّن فيهما حمل المطلق على المقيّد، بل رفع اليد عن الإطلاق الوارد في مقام البيان، كما عرفته في الصحيحة الأولى في غاية الإشكال، بحيث يمكن أن يقال بترجيح التصرّف في هيئة المقيّد بحملها على الرجحان و الأفضليّة على التصرّف في مادّة المطلق المذكور، و حينئذ فالعمل على الصحيحة الاولى هو الأقوى.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 169

البحث الخامس في الركوع

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 171

و هو واجب في الصلاة إجماعا، و ركن تبطل الصلاة بتركه عمدا و سهوا، و هو ممّا لا إشكال فيه في الجملة.

نعم وقع الخلاف في ما إذا سها عنه إلى أن سجد السجدتين، فذهب الشيخ قدّس سرّه إلى عدم البطلان، بل يحذف السجدتين و يأتي بالركوع و ما بعده إلى آخر الصلاة، و هو قول في الحقيقة بعدم إضرار زيادة السجدتين، لا إنكار ركنيّة الركوع.

و كيف كان فالمشهور ذهبوا إلى البطلان حتّى في ما إذا سها إلى أن سجد واحدة، فهنا مسألتان:

الأولى: حكم ما إذا سها و قد دخل في السجدتين.

و الأخرى: حكم ما إذا تذكّر بعد السجدة الواحدة.

أمّا [المسألة] الأولى

فالأخبار فيها مختلفة، ففي بعضها الحكم بالإعادة و لزوم الاستئناف، و هو عدّة روايات.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 172

منها: ما رواه الشيخ في الصحيح عن رفاعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

سألته عن رجل ينسى أن يركع حتّى يسجد و يقوم؟ قال عليه السّلام: يستقبل» «1».

و منها: عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا أيقن الرجل أنّه ترك ركعة من الصلاة و قد سجد سجدتين و ترك الركوع استأنف الصلاة» «2».

و منها: موثّق إسحاق بن عمّار «قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن الرجل ينسى أن يركع، قال عليه السّلام: يستقبل حتّى يضع كلّ شي ء موضعه» «3».

و منها: خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل نسي أن يركع؟ قال عليه السّلام: عليه الإعادة» «4».

و بعضها صريح في الصحّة و إلقاء السجدتين ثمّ إتيان الركوع و ما بعده، و هو خبر واحد مرويّ في التهذيب و الفقيه و مستطرفات السرائر

عن محمّد بن مسلم، لكن مع اختلاف في التعبير.

ففي الأوّل هكذا: عن أبي جعفر عليه السّلام في رجل شكّ بعد ما سجد أنّه لم يركع «قال عليه السّلام: فإن استيقن فليلق السجدتين اللتين لا ركعة لهما، فيبني على صلاته على التمام، فإن كان لم يستيقن إلّا بعد ما فرغ و انصرف فليتمّ الصلاة بركعة و سجدتين و لا شي ء عليه» «5».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 2.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 4.

(5) التهذيب 2: 149- 585.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 173

و في الثاني: عن أبي جعفر عليه السّلام- على ما في الحدائق- و عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام- على ما في المدارك- في رجل شكّ بعد ما سجد أنّه لم يركع؟ «فقال عليه السّلام: يمضي في صلاته حتّى يستيقن أنّه لم يركع، فإن استيقن أنّه لم يركع فليلق السجدتين اللتين لا ركوع لهما و يبني على صلاته على التمام، و إن كانت لم يستيقن إلّا بعد ما فرغ و انصرف فليقم و ليصلّ ركعة و سجدتين و لا شي ء عليه» «1».

و في الثالث: عن أبي جعفر عليه السّلام «قال في رجل شكّ بعد ما سجد أنّه لم يركع؟

قال عليه السّلام: يمضي على شكّه حتّى يستيقن و لا شي ء عليه، و إن استيقن لم يعتدّ السجدتين اللتين لا ركعة معهما، و يتمّ ما بقي من صلاته و لا سهو عليه» «2».

و السند في رواية الفقيه صحيح على ما قيل، فيبقى الكلام في وجه الجمع، فعن

الشيخ قدّس سرّه حمل الاولى على الركعتين الأوّلتين، و الأخيرة على الأخيرتين، و لعلّه شهادة ما دلّ من الأخبار على أنّه لا سهو في الأوّلتين و ما يؤدّي هذا المضمون.

و لكن فيه أنّ الظاهر كما يظهر بمراجعة الأخبار أنّ المراد بنفي السهو في الأوليين حفظ أعدادهما و عدم قبولهما العلاج الذي ذكروه في الأخيرتين للشكّ في عدد الركعات، فلا ربط لها بما نحن فيه الذي هو سهو في الفعل.

و ربما يجمع بين الطائفتين بحمل كلّ منهما على بيان أحد أفراد الواجب التخييري، فالمكلّف مخيّر بين الاستئناف و حذف السجدتين.

و لكن فيه أنّه لا بدّ من مساعدة العرف على الجمع، لا كونه محتملا عقلا، فقوله عليه السّلام: استأنف الصلاة، أو عليه الإعادة، ظاهر كالصريح في الحكم بالبطلان،

______________________________

(1) الفقيه 1: 228- 1006.

(2) مستطرفات السرائر: 81- 17.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 174

و معلوم أنّه لا معنى للتخيير بين البطلان و الصحّة، و لازم حذف السجدتين و الإتمام هو الصحّة.

نعم هنا احتمال موهوم في غاية الوهم، بحيث يكاد يلحق الكلام من كثرة موهونيّته في أنظار العرف بالمعمّا لو أريد منه، و هو احتمال أن يكون المراد من الاستئناف أنّه يقطع الصلاة أوّلا ثمّ يستأنف، فإنّ الصلاة بنفسها صحيحة غير باطلة، و بالجملة يكاد يطمئنّ النفس ببطلان هذا الجمع و عدم كونه مقبولا عند العرف.

بقي جمع آخر و هو حمل قوله عليه السّلام: يستقبل، على الاستقبال من الوسط، لا من الأوّل حتّى يكون مساوقا مع البطلان، فيكون المقصود منه أيضا ما شرحه الصحيحة من حذف السجدتين و الإتيان بالركوع المنسيّ، و هو أيضا- خصوصا في قوله عليه السّلام: استأنف الصلاة- في مخالفة الظاهر بمكان، بحيث يصحّ دعوى الاطمئنان بخروجه

عن ديدن العرف في المحاورات.

ثمّ بعد عدم جريان شي ء من الوجوه المذكورة في وجه الجمع لو كنّا نجزم بأحد الأمرين: إمّا بمخالفة أخبار البطلان مع العامّة و موافقة الأخبار الأخر معهم، و إمّا بإعراض الأصحاب عن الصحيحة الحاكمة بالصحّة، لكان الأمر سهلا، إذ على الأوّل دخل المقام تحت الأخبار المتعارضة مع كون بعضها مخالفا للعامّة، فيكون هو المتعيّن بالأخذ، و على الثاني كانت الصحيحة ناقصة الحجّية من حيث جهة الصدور، لاختلال أصلها العقلائي الجاري في الجهة بواسطة الإعراض.

لكنّ العمدة عدم الجزم بشي ء من الأمرين، و بذلك يصعب الأمر، فلا محيص عن الاحتياط بإتمام الصلاة بالطريق المذكور ثمّ الإعادة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 175

و أمّا المسألة الثانية

اشارة

فقد عرفت أنّ مقتضى إطلاق بعض الأخبار الأول هو الحكم بالبطلان، فإن تمّ دعوى الانصراف إلى صورة التذكّر بعد السجدتين يرجع في حكم صورة التذكّر بعد الدخول في الاولى إلى مقتضى القواعد و هو الصحّة، إذ لا يلزم من التدارك إلّا زيادة السجدة الواحدة، و هي ليست ركنا، و زيادة الكلام لعلّها يأتي إن شاء اللّٰه تعالى في مبحث الخلل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 176

و الواجب في الركوع أمور:
منها: أن ينحني بقدر ما يمكن وضع يديه على ركبتيه.

أمّا أصل الانحناء فمأخوذ في حقيقته، فلا يحتاج إلى إقامة الدليل، و هل الحدّ الخاصّ الذي عيّنه الشارع له من باب الحقيقة الشرعيّة، أو أنّه أطلقه الشارع من باب الإطلاق على أحد الأفراد؟ لا ثمرة عمليّة مترتّبة على ذلك و إن كان الظاهر من الوجهين هو الأخير.

و أمّا الحد الخاصّ فاعلم أنّ هنا كلاما في أنّه هل يعتبر وصول اليد إلى الركبة فعلا، أو يكفي الانحناء بمقدار يمكن الوصول و لو لم يتحقّق الوصول، و كلاما آخر في تعيين مقداره و أنّه هل المعتبر الانحناء إلى مقدار وصول أطراف الأصابع أو إلى مقدار وصول الراحة.

أمّا الكلام الأوّل فالظاهر من كلام القائل في مقام تحديد القامة، فلأن يصل يده إلى الطاق الرفيع أنّه يتمكّن من ذلك و لو لم يصدر منه هذا العمل خارجا و لو مرّة واحدة، و هذا ظاهر مقام التحديد، و الأخبار الواردة في المقام أيضا ظاهرة في كونها بمقام التحديد للانحناء، فلا يمكن استفادة اعتبار فعليّة الوصول منها، و إن كان ظاهر الصيغة لو خلّيت و نفسها هو الفعليّة، لكن لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر، للورود في مقام التحديد، و هذا ظاهرا واضح لا يحتاج إلى مزيد تأمّل.

و يشهد لذلك موثّقتا عمّار، إحداهما:

عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه «قال: إن نسي الرجل القنوت في شي ء من الصلاة حتّى يركع فقد جازت صلاته و ليس عليه شي ء، و ليس له أن يدعه متعمّدا» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القنوت، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 177

و الأخرى عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل ينسى القنوت في الوتر أو غير الوتر؟ «قال عليه السّلام: ليس عليه شي ء، و قال عليه السّلام: إن ذكره و قد أهوى إلى الركوع قبل أن يضع يديه على الركبتين فليرجع قائما و ليقنت ثمّ يركع، و إن وضع يده على الركبتين فليمض في صلاته» «1».

فإنّ المحصّل منهما أنّ حدّ النسيان الذي لا رجوع معه هو الدخول في الركوع و هو عبارة عن الانحناء بمقدار يضع يده على الركبتين.

و بالجملة، المدّعى أنّ قوله «2» عليهم السّلام: بلّغ بأطراف أصابعك عين الركبة، أو إن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك، و أحبّ إليّ أن تمكن كفّيك من ركبتيك، ظاهرها أنّها في مقام تحديد الركوع الواجب في الصلاة، و حيث إنّ من الضروري عدم مدخليّة الفعليّة في التحديد كان المقصود هو التقدير و الشأنيّة.

نعم يحتمل حمل الأخبار المذكورة على الموضوعيّة لا التحديد، فيكون المقصود أنّ نفس الوضع من المستحبّات في الركوع، و على تقدير وجوبه يكون واجبا آخر محلّه في الركوع، فلا ربط لها بتحديد الركوع الواجب و إن كان يتوقّف تحصيل ذلك المستحبّ أو الواجب على بلوغ الانحناء إلى ذلك الحدّ، لكنّه من باب المقدّميّة، لا للمدخليّة في الركوع الركن.

و على هذا فلو نسي ذلك و أتى بما هو مسمّى عرفا بالركوع و هو مطلق الانحناء

في قبال الاستقامة- ألا ترى أنّه يقال: شيخ راكع بمحض انحناء رأسه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القنوت، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 28 من أبواب الركوع، الحديث 2 و 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 178

و عنقه عن الاعتدال الأوّل و لو يسيرا- فقد أتى بما هو الركن و إنّما نسي المستحبّ أو الواجب الغير الركن.

فينحصر المخلص في الإجماع على أنّ الركوع في الشرع لم يبق على نفس مفاده، بل قيّد بقيد و إن اختلف فيه أنّه ما ذا.

و الحاصل: يلزم على هذا عدم كون الأخبار بصدد ذلك التحديد أصلا، و هو من المستبعد جدّا، و بعد كونه مستبعدا كما يؤيّده فهم الأصحاب أيضا، فإنّ الظاهر أنّ إجماعهم مستند إلى الفهم من الأخبار، فمن الواضح أنّ المناسب بمقام التحديد هو الوجود التقديري لا الفعلي، لعدم مساس الفعليّة بمقام التحديد كما هو واضح.

نعم يبقى حينئذ أنّه لا دليل في الأخبار على استحباب الوضع في نفسه، إذ كلّ ما كان من مثل هذه التعبيرات فهي إشارة إلى تحديد الانحناء، فهنا مقداران من الانحناء، أحدهما حدّ الإجزاء، و الآخر حدّ الاستحباب و الفضل، فالأوّل ما كان ملزوما لوصول الأصابع ابتداء الركبة، و الآخر ما كان ملزوما لتمكين الكفّ من عين الركبة.

أمّا الكلام في مقدار الانحناء فقد عرفت أنّ في بعض الأخبار التعبير عنه بوصول أطراف الأصابع، و في آخر: بلّغ بأطراف أصابعك عين الركبة، و هو محتمل للعين المهملة، و المراد من عين الركبة وسطها، و هو ملازم مع تمكين الراحة و الكفّ من الركبة، و للغين المعجمة، و هو أيضا ملازم لذلك، فإنّ بلوغ جميع الأصابع التي منها الإبهام إلى الركبة يلازم

تجاوز أطراف الأصابع الأربع عن العين و وقوع الكفّ بنحو الاستيلاء عليه.

و هذا بخلاف التعبير الأوّل أعني: وصول جميع الأصابع إلى الركبة، فإنّ الركبة مشتملة على أعلى و وسط و أسفل، و يمتدّ مقدارها تقريبا إلى أربع أصابع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 179

متفرّجات، فإذا وصل جميع الأصابع الخمسة إلى مسمّى الركبة و لو كان جزؤها الأعلى المتّصل بالفخذ فهذا ملازم مع وقوع جزء من الكفّ المتّصل بأصول الأصابع على الجزء الأعلى من الركبة.

و هذا هو الحدّ الأقلّ الذي لا يجزي أقلّ منه، بدليل قوله عليه السّلام «1»: فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك، و أحبّ إليّ أن يمكّن كفّيك من ركبتيك.

فيكون المراد من الحدّ الأحبّ الأفضل هو الانحناء الأزيد الذي يوجب وقوع الراحة بنحو الاستيلاء على الركبة، و هو الذي عبّروا عليهم السّلام عنه ببلوغ أطراف الأصابع عين الركبة.

و إذن فيرتفع الاختلاف عن البين و يظهر أنّ الحقّ هو اعتبار الانحناء إلى مقدار يمكن وصول الراحة.

ثمّ إنّ من الأدلّة على أنّ أمثال هذه التعبيرات للإشارة إلى تحديد مقدار الانحناء ما وقع في صحيحة زرارة الواردة في كيفيّة ركوع المرأة حيث «قال عليه السّلام:

فإذا ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها لئلّا تطأطأ كثيرا فترتفع عجيزتها» «2».

فكأنّه قال عليه السّلام: حدّ ركوعها الانحناء الواصل إلى هذا المقدار الملازم مع إمكان وضع اليدين فوق الركبتين على الفخذين، و ذلك لئلّا يزيد الانحناء فيوجب ارتفاع عجيزتها.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 28 من أبواب الركوع، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 18 من أبواب الركوع، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 180

و هل هذا التعبير ترخيص لها في النقص عن مرتبة الركوع

الأفضل أو عن مرتبة الركوع المجزي في حقّ الرجال؟ الظاهر الأوّل، فإنّ الظاهر أنّ كون حدّ الركوع أمرا واحدا و مرتبة خاصّة لا يتفاوت فيها بين الرجال و النساء كان من المفروغ عنه، و قد بيّن الحدّ المشترك في سائر الأخبار، و إنّما الغرض في هذه الصحيحة بيان مواضع الاختلاف بينهما في الفضل.

و قد عرفت أنّ حدّ الإجزاء وصول أوّل أجزاء الراحة أوّل أجزاء الركبة و أنّ الفضل في تمكين الراحة على الركبة، و لمّا كانت الركبة محلّ جمع العظمين فالتمكين عليها يوجب بحسب الغالب ردّ الركبة إلى الخلف، و هو يوجب زيادة الانحناء و ارتفاع العجيزة.

و أمّا إذا وضعت الأصابع الخمسة على أوّل الركبة مع وقوع معظم الكفّ على الفخذ فالاستقرار لا يقع على الركبة حتّى يوجب الردّ إلى الخلف، فالصحيحة يمكن كونها ناظرة إلى اختيار المرأة هذا الفرد الذي هو المجزي لئلّا يرتفع عجيزتها.

نعم ظاهر الصحيحة كون تمام اليد واقعة على الفخذ، و هو يوجب عدم وقوع شي ء منه و لو أطراف الأصابع على الركبة، و لكن إطلاق معاقد الإجماعات و الفتاوى يجعل القول الأوّل أحوط، فإنّه على تقدير إرادة الأخير لا شبهة في عدم كونه متعيّنا، بل يجوز لها اختيار الانحناء الأزيد، لكون الصحيحة بصدد بيان الفضل في ركوعها، كما يشهد به ملاحظة تمامها.

مضافا إلى أنّ ملاحظة الأخبار المحدّدة لمطلق الركوع شاهدة بأنّها في مقام شرح حقيقة جنس الركوع من أيّ شخص صدر من غير فرق بين الرجال و النساء، و إن كان المخاطب هو الرجل، لكنّه لا يوجب الاختصاص، و إذن فالأحوط لها أن لا تتعدّى عن مقدار الإجزاء في حقّ الرجال و إن كان عدم استحباب تمكين الراحة في حقّها

قدرا متيقّنا على كلّ حال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 181

و منها: الذكر

و لا إشكال في أصل وجوبه، إنّما الكلام في كفاية مطلق ما يسمّى ذكرا و لو كان تكبيرا أو تهليلا أو غير ذلك كما عن بعض الأصحاب قدّس أسرارهم، أو تعيّن التسبيح كما نسب إلى الأكثر، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

و على الأوّل هل يكفي بأيّ قدر كان، أو لا بدّ من كونه بقدر التسبيحات الثلاث، و على الثاني هل يكفي الصغرى و لو واحدة، أو لا يكفي إلّا الكبرى، أو لا بدّ من ثلاث صغريات، أو واحدة كبرى؟ لا بدّ في تحقيق كلّ من هذه الوجوه من الرجوع إلى أخبار أهل الطهارة.

فنقول و على اللّٰه التوكّل و به الاعتصام: إنّ الأخبار الواردة في هذا المقام بين طوائف، ففي بعضها التعرّض للتسبيح بدون التعرّض لغيره، و هذه أيضا بعضها متعرّض لخصوص الكبرى، بل و نفي الصلاة بدونها، و بعضها مشتملة عليها و على الثلاث الصغريات، و في بعضها التعميم و لو حال الاختيار لمطلق الذكر.

فمن القسم الأوّل أعني: ما تعرّض لخصوص التسبيحة الكبرى رواية أبي بكر الحضرمي «قال: قال أبو جعفر عليهما السّلام: أ تدري أيّ شي ء حدّ الركوع و السجود؟ فقلت: لا، قال: سبّح في الركوع ثلاث مرّات: سبحان ربّي العظيم و بحمده، و في السجود: سبحان ربّي الأعلى و بحمده ثلاث مرّات، فمن نقص واحدة نقص ثلث صلاته، و من نقص ثلثين نقص ثلثي صلاته، و من لم يسبّح فلا صلاة له» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب الركوع، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 182

و أوضح منها: خبر هشام بن سالم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه

عليه السّلام عن التسبيح في الركوع و السجود؟ فقال عليه السّلام: تقول في الركوع: سبحان ربّى العظيم، و في السجود: سبحان ربّي الأعلى، الفريضة من ذلك تسبيحة و السنّة ثلاث، و الفضل في السبع» «1».

و من القسم الثاني أعني: ما دلّ على كفاية مطلق التسبيحة و لو الصغرى صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال: قلت له: ما يجزي من القول في الركوع و السجود؟ قال عليه السّلام: ثلاث تسبيحات في ترسّل، و واحدة تامّة تجزي» «2».

و صحيحة معاوية بن عمّار «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أخفّ ما يكون من التسبيح في الصلاة؟ قال عليه السّلام: ثلاث تسبيحات مترسّلا تقول: سبحان اللّٰه سبحان اللّٰه سبحان اللّٰه» «3».

و من القسم الثالث أعني: الدالّ على التعميم لمطلق الذكر اختيارا صحيحة هشام بن سالم سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: «يجزي عنّي أن أقول مكان التسبيح في الركوع و السجود: لا إله إلّا اللّٰه و الحمد للّٰه و اللّٰه أكبر؟ قال عليه السّلام: نعم كلّ هذا ذكر اللّٰه» «4».

و صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت له: أ يجزي عنّي أن أقول مكان التسبيح في الركوع و السجود: لا إله إلّا اللّٰه و الحمد للّٰه و اللّٰه أكبر؟

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الركوع، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الركوع، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب الركوع، الحديث 2.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب الركوع، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 183

قال عليه السّلام: نعم كلّ هذا ذكر» «1».

إذا عرفت ذلك فنقول و على اللّٰه التوكّل و به

الاستعانة: أمّا القسم الأوّل ففي نفسها أمارة الاستحباب موجودة، ألا ترى إلى قوله عليه السّلام في رواية الحضرمي:

من نقص واحدة نقص ثلث صلاته إلخ، فإنّه لا شبهة في كون المراد نقص صلاته من حيث الكمال، لا من حيث الماهيّة، و إلّا فيكفي في انتفاء الماهيّة انتفاء أدنى شي ء من أجزائها، و لا يقبل التبعيض، لأنّها غير متقسّطة على الأجزاء، و كذا المراد بقوله عليه السّلام: من نقص ثنتين نقص ثلثي صلاته.

فإذا كان المراد بهاتين الفقرتين نقصان الكمال لا الأصل و الماهيّة فليكن كذلك المراد بقوله عليه السّلام في الفقرة الأخيرة: و من لم يسبّح فلا صلاة له، يعني من حيث الكمال، لا الأصل، لأنّ الظاهر أنّ النفي في الأخيرة أيضا من سنخ ما نفى في الأوليين، فإذا كان المنفي فيهما الكمال فهو المنفي في الأخيرة، غاية الأمر بنحو البعضيّة في الأوليين، و بنحو الكلّية في الأخيرة.

و إذن فلا حاجة إلى ملاحظة الأخبار المصرّحة بإجزاء الصغريات في حمل هذا القسم على الاستحباب، لما عرفت من عدم دلالتها على أزيد من الاستحباب.

بقي الكلام في النسبة بين القسمين الأخيرين، و لا إشكال في أنّ مقتضى الجمع بينهما كفاية مطلق الذكر، لكن مع ذلك قد يستشكل في ذلك نظرا إلى اشتهار القول بتعيين التسبيح في ما بينهم، حتّى جعله في محكيّ الانتصار من متفرّدات الإماميّة، و عن الغنية و غيره نسبته إلى إجماعهم، و هذا قد يوهن في وجه الصدور في خبري كفاية مطلق الذكر و إن كان السند صحيحا، بل كلّما ازداد صحّة ازداد و هنا، و مجرّد

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب الركوع، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 184

اشتهار القول به بين

المتأخّرين لا يجدي شيئا.

لكن إعراض الأصحاب بحيث يوجب الوهن في جهة الروايتين لم يثبت، لقوّة احتمال أن يكون ذلك لأجل فهمهم في مقام الجمع، لا لخدشة في السند أو جهته، كما وقع ذلك في مسألتي انفعال البئر و منجّزات المريض، فالأخذ بأخبار مطلق الذكر لا يخلو عن قوّة، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام.

ثمّ إنّ ما ذكرنا لا ينافي تقيّد التسبيح في صورة اختياره بثلاثة صغريات أو واحدة تامّة، بمعنى أنّه لا يكفي واحدة صغيرة أو ثنتان صغيرتان اختيارا، فإنّ غاية مفاد الروايتين الأخيرتين جواز تبديل جنس القول و أنّه يكفي مطلق الذكر، و أمّا بحسب الكمّ و المقدار فلا ينافي اعتبار حدّ خاصّ، و قد عرفت في القسم الثاني اعتبار التثليث في صورة اختيار الصغيرة في الأجزاء.

نعم في صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام «قال: سألته عن الركوع و السجود كم يجزي فيه من التسبيح؟ فقال عليه السّلام: ثلاث، و يجزيك واحدة إذا أمكنت جبهتك من الأرض» «1».

و في صحيحته الأخرى أيضا عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يسجد، كم يجزيه من التسبيح في ركوعه و سجوده؟ فقال عليه السّلام: ثلاث، و تجزيه واحدة» «2».

و ظاهرهما كفاية الواحدة الصغيرة في حال الاختيار، فلا يجامع مع ما مرّ من كون أقلّ حدّ الإجزاء ثلاث صغريات، و دفع المنافاة بأحد وجهين:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الركوع، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الركوع، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 185

إمّا حمل الهيئة في الأخبار المتقدّمة على الاستحباب، فالمقصود بيان حدّ الإجزاء في مقام إدراك الفضل، لا الوجوب، و هذا في مقام بيان

حدّ الإجزاء بالنسبة إلى امتثال الوجوب، و إمّا حمل التسبيح في هاتين الصحيحتين على الكبرى حتّى يطابق مع ما مرّ من قوله في خبر هشام: الفريضة من ذلك تسبيحة و السنّة ثلاث.

و أمّا حمل الثلاث على الصغريات و الواحدة على الكبرى فبعيد غايته، إذ الخبر يكاد يكون صريحا في اتّحاد سنخ ما فرض فيه التثليث و الوحدة، فينحصر الأمر في الاحتمالين الأوّلين، و لا يخفى أظهريّة الثاني منهما.

فإن قلت: يمكن حفظ ظهور الهيئة في الأخبار المتقدّمة في الوجوب، غاية الأمر يتصرّف في ظهورها في التعيينيّة فيقال: إنّ الثلاث الصغريات واجب مخيّر، و كذا الواحدة الصغرى.

قلت: التخيير بين الأقلّ و الأكثر التدريجيين محال، إلّا إذا قيّد الأقلّ بكونه بشرط لا، فحينئذ يخرج عن الأقلّ و الأكثر و يصير من باب المتباينين، و حمل الصحيحتين على هذا القسم أيضا خلاف الظاهر جدّا، فإنّه إذا قيل: يجزيك ثلاث و يجزيك واحدة إذا كان ذات الواحد كافية لا مع وصف الوحدة.

و بالجملة أظهر الاحتمالات و لو بعد ملاحظة ما مرّ من أنّ الواحدة الكبرى فرض اللّٰه و الثلاث الكبريات فرض الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله هو الحمل على التسبيحة الكبرى.

و لعلّه يؤيّد هذا أيضا قوله عليه السّلام في إحدى الصحيحتين: و يجزيك واحدة إذا أمكنت جبهتك من الأرض، فكان فيه إشعارا بأنّ جعل الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله للثنتين الكبريات إنّما هو بملاحظة الواحدة الكبرى التي هي فرض اللّٰه حتّى يقع في حال استقرار البدن، فلو حصل اضطراب إمّا من جانب الهويّ أو من طرف الرفع من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 186

الركوع كان ذلك في التسبيحتين الأخيرتين و كانت تسبيحة واحدة واقعة في حال الاستقرار،

فإذا أراد الاكتفاء بالواحدة الكبرى فلا بدّ أن يلاحظ تحصيل وصف الاستقرار في هذه الواحدة.

ثمّ بناء على كفاية مطلق الذكر هل يكتفى بمسمّاه أو لا بدّ من كونه بمقدار التسبيح، و قد عرفت أنّ أقلّه ثلاث صغريات أو واحدة كبرى، و هي أيضا مشتملة على ثلاثة أفراد من ثناء اللّٰه جلّ ذكره، و تمجيده تعالى، أعني التسبيح و التعظيم و التحميد، فلو اختار ذكرا آخر لا بدّ أن يراعي هذا القدر، فلا يكفي أن يقول:

لا إله إلّا اللّٰه، إلّا إذا ضمّ معه الحمد للّٰه و اللّٰه أكبر مثلا، أو يكرّر واحدة من هذه ثلاث دفعات؟

فلا يخفى أنّ الدليل الدالّ على كفاية مطلق الذكر ليس في مقام الإطلاق من هذه الجهة، فإنّ قوله عليه السّلام: نعم كلّ هذا ذكر إنّما هو في مقام كفاية هذا القول مقام التسبيح، و أمّا كمّا فليس في مقامه.

نعم إن حملنا قول السائل: يجزي عنّي أن أقول مكان التسبيح في الركوع و السجود: لا إله إلّا اللّٰه و الحمد للّٰه و اللّٰه أكبر على معنى أنّه هل يكفي كلّ واحد من هذه الأذكار الثلاثة كان الرواية ظاهرة في عدم اعتبار التثليث، و لكن هذا الحمل خلاف الظاهر كما لا يخفى.

و منها: الطمأنينة فيه بقدر المسمّى
و هي سكون الأعضاء في هيئة الراكع

باتّفاق علمائنا، كما في المعتبر و المنتهى، و بإجماعهم كما في جامع المقاصد، و عن الناصريّات و الغنية.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 187

و استدلّ له

بأنّه المنقول من فعل النبيّ و الأئمّة عليه و عليهم السّلام.

و بما رواه في الذكرى مرسلا من أنّ رجلا دخل المسجد و رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله جالس في ناحية المسجد فصلّى، ثمّ جاء فسلّم عليه، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: و عليك السّلام، ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ، فرجع فصلّى، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله له مثل ذلك، فقال الرجل في الثالثة: علّمني يا رسول اللّٰه، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثمّ استقبل القبلة فكبّر، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعا ثمّ ارفع رأسك حتّى تعدل قائما ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجدا، ثمّ ارفع حتّى تستوي قائما، ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلّها» «1».

و خبر بكير بن محمّد الأزدي المرويّ عن قرب الإسناد للحميري عن الصادق عليه السّلام: «إذا ركع فليتمكّن» «2».

و مصحّحة زرارة «قال: بينا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلّي فلم يتمّ ركوعه و لا سجوده، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا و هكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني» «3».

و رواية عبد اللّٰه بن ميمون القدّاح المرويّ عن محاسن البرقي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: أبصر عليّ بن أبي طالب عليه السّلام رجلا ينقر صلاته، فقال عليه السّلام: منذ كم صلّيت بهذه الصلاة، فقال له الرجل: منذ كذا و كذا، فقال عليه السّلام:

مثلك عند

اللّٰه كمثل الغراب إذا ما نقر، لو متّ متّ على غير ملّة أبي القاسم

______________________________

(1) الذكرى: المسألة الأولى من مسائل الركوع.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 14.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب الركوع، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 188

محمّد صلّى اللّٰه عليه و آله، ثمّ قال عليه السّلام: أسرق الناس من سرق من صلاته» «1».

و النبويّ المرويّ عن الذكرى «لا تجزي صلاة الرجل حتّى يقيم ظهره في الركوع و السجود» «2».

لكن لا يخفى أنّ غاية ما يستفاد من هذه الأخبار اعتبار الاستقرار في الركوع في الجملة في مقابل عدمه رأسا الصادق معه عنوان كونه نقرا كنقر الغراب، و أمّا احتمال ركنيّتها فهو و إن كان موافقا للأصل من جهة الإبطال بالنقيصة و لو سهوا، لكنّه مناف لعموم قوله عليه السّلام: لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة.

إلّا أن يقال: إنّ المنافاة إنّما يكون مع الركنيّة المستقلّة، و أمّا بمعنى شرطيّتها أو شطريّتها في الركوع الذي هو الركن فلا ينافي العموم المذكور، و بعبارة أخرى:

بعد العلم باعتبار الطمأنينة بالقدر المذكور و العلم بأنّها ليس بركن مستقلّا نشكّ في أنّها هل هي قيد للركن الذي هو الركوع أو قيد للصلاة في عرض الركوع، غاية الأمر يعتبر في حال الركوع كالذكر الواجب حاله.

و يظهر الثمر في فرعين:

الأوّل: في ما لو سها عنها و تذكّر في حال الانتصاب من الركوع، فعلى تقدير القيديّة للركوع يجب عليه العود، إذ لم يأت بالركوع الصلاتي بعد و محلّه باق، و على تقدير القيديّة للصلاة يجب عليه المضيّ إلى السجود، لأنّ إتيانه ثانيا بالركوع يوجب زيادة الركن.

و الثاني: في ما لو سها عنه و تذكّر

بعد ما دخل في السجدة الثانية، فعلى

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 2.

(2) الذكرى: المسألة الرابعة من مسائل الركوع، و كنز العمّال 4: 97.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 189

تقدير القيديّة للركوع يحكم بالبطلان، لنقيصة الركن و هو الركوع المقيّد مع عدم إمكان تداركه، لاستلزامه زيادة السجدتين، و على تقدير القيديّة للصلاة يحكم بالصحّة كما هو واضح.

و التكلّم في هذه المسألة تارة في صحّة التمسّك بإطلاق دليل الاعتبار و عدم محكوميّته بدليل لا تعاد، و عدمها.

و بعبارة أخرى: نتكلّم في أنّه هل للدليل المذكور إطلاق يمكن التمسّك به لإثبات القيديّة حتّى في حال السهو الملازم مع كونها قيدا للركوع، أو لا يمكن التمسّك به.

و اخرى: في أنّ مقتضى الأصل العملي العقلي أو الشرعي ما ذا؟

فنقول و على اللّٰه التوكّل و به الاستعانة في جميع الأمور: قد يقال: إنّ التمسّك بإطلاق دليل وجوب الطمأنينة بالنسبة إلى إتيانه لحال السهو غير جائز، لأنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، إذ بعد القطع الخارجي المستفاد من حديث لا تعاد بأنّ كلّ قيد كان راجعا إلى الصلاة فهو معفوّ أو مرفوع بالنسبة إلى حال السهو، و المفروض الشكّ في كون الطمأنينة هل اعتبر في الصلاة أو في الركوع، و كون الدليل مجملا بالنسبة إلى ذلك فلا محالة لا يجوز التمسّك بحديث لا تعاد لرفع القيديّة، و لا بإطلاق دليل الاعتبار لإثبات القيديّة.

أمّا الأوّل: فللشكّ في أنّه من مصاديق المستثنى في حديث لا تعاد، أو من أفراد المستثنى منه.

و أمّا الثاني: فلما قرّر في الأصول من عدم جواز التمسّك بالعامّ في ما شكّ من مصاديقه في انطباق عنوان الخاصّ عليه، و عنوان الخاصّ في

المقام القيود الراجعة إلى الصلاة، هذا ما قد يقال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 190

و الحقّ خلافه، بيانه أنّه من المقرّر في الأصول أيضا أنّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة له فردان، أحدهما ممنوع، و الآخر جائز. إمّا الجائز فهو ما إذا احتملنا أنّ المتكلّم بالعموم قد ساق العموم بعد استقصاء الأفراد و العلم بعدم انطباق عنوان الخاصّ على واحد منها، كما هو الحال في ما إذا شككنا في وجود المصلحة أو المفسدة في فرد من أفراد العامّ، فإنّ استقصاء حال الأفراد من هذه الجهة في الحكيم أو من جهة الشكّ في تعلّق الغرض في مطلق المتكلّمين من وظيفة المتكلّم.

و أمّا الممنوع فهو ما إذا شككنا في انطباق عنوان خاصّ ليس من وظيفة المتكلّم استقصاء حال الأفراد من جهته، و لو فرض كونه عالما بالحال فإنّما هو من جهة كونه عالما بالغيب، لا من جهة كونه متكلّما بهذا الكلام، كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق، فإنّه ليس من شأنه بما هو متكلّم بهذين الكلامين الاستقصاء لحال العلماء، بل هو و المخاطب على حدّ سواء، و لو فرض علمه بذلك فهو من جهة أخرى من علمه بالغيب.

إذا عرفت هذا فنقول: مقامنا من قبيل الأوّل، فإنّ اعتبار القيد قيدا في الصلاة أو في الركوع من شأن الشارع، و رفع الجهل من هذه الجهة يكون من وظيفته، و الشبهة من جهته شبهة حكميّة يرجع فيها إلى الشارع، فالاستقصاء محتمل و غير خارج عن وظيفته، فيكون التمسّك بالإطلاق بلا مانع.

فإن قلت: كيف يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات القيديّة في حال السهو ثمّ استكشاف كونه قيدا للركوع مع كون الخطاب موجّها إلى الذاكر، و أيضا لا معنى

للأخذ بإطلاق الحكم بالنسبة إلى حالتي وجود المتعلّق و عدمه، و المقصود في المقام ذلك.

قلت: المقصود التمسّك بإطلاق المادّة و أنّ المطلوب الصلاتي قائم بالمقيّد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 191

بالاطمئنان بمقدار الذكر حتّى في حقّ الساهي، كما نقول في حقّ النائم، و قد قرّر تفصيل ذلك في الأصول، هذا هو الكلام بحسب الدليل.

و أمّا التكلّم في الأصل العملي العقلي فاعلم أنّه البراءة بناء على ما هو التحقيق في دوران الأمر بين المطلق و المقيّد، بمعنى أنّا نعلم بتقيّد الصلاة بهذا القيد في حال العمد، و نشكّ فيه في حال السهو، فالأصل البراءة عنه في حال السهو.

لكنّ التمسّك به تارة يكون في الفرع الأوّل من الفرعين المتقدّمين أعني: ما إذا سها و تذكّر بعد رفع الرأس عن الركوع، و اخرى يكون في الفرع الثاني منهما و هو ما لو سها و تذكّر بعد الدخول في السجدة الثانية.

فإن كان في الثاني فحاله حال سائر موارد الدوران بين الإطلاق و التقييد في باب الصلاة عند رفع اليد عن القيد المشكوك أو الجزء كذلك و الدخول في الركن المتأخّر، حيث إنّه قد يستشكل بثبوت العلم الإجمالي حينئذ بوجوب أحد الأمرين، إمّا إتمام الصلاة، و إمّا لزوم الإعادة، و لكنّا قد أجبنا عنه في محلّه، و ليس المقصود ها هنا التعرّض له.

و إن كان في الأوّل فهو محلّ إشكال، بل منع، لأنّ العلم الإجمالي حينئذ حاصل بأنّ إتيان الركوع ثانيا إمّا واجب و إمّا ممنوع، و العلم الإجمالي بذلك إذا كان في التكاليف النفسيّة فالمرجع هو التخيير، لعدم إمكان الموافقة القطعيّة، و حصول الموافقة الاحتماليّة على أيّ تقدير.

و أمّا في مثل المقام ممّا إذا كان في الوضعيّات حيث

نعلم بأنّ الركوع إمّا جزء و إمّا مانع للمركّب الصلاتي فلا بدّ فيه من الاحتياط بأن يأتي ببقيّة هذه الصلاة إمّا مع الركوع أو بدونه ثمّ الإعادة.

لا يقال: المفروض حصول العلم الإجمالي في شخص هذه الصلاة، و التمكّن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 192

من الاحتياط غير حاصل في هذا الشخص، و إنّما يكون حاصلا بالنسبة إلى الكلّي، و هو غير مورد للعلم الإجمالي.

لأنّا نقول: منشأ الشكّ في الشخص أيضا هو الشكّ في الكلّي، بمعنى أنّا نشكّ في كلّي الصلاة إذا ابتليت بهذه الواقعة، بل يكون الركوع الثاني جزءا لها أو مانعا، غاية الأمر الابتلاء بهذا العلم يكون دائما في أثناء الصلاة الشخصيّة، فيلزم علينا الخروج عن عهدته. ثمّ هذا في الطمأنينة بمقدار المسمّى.

و من هنا يظهر الحال في الطمأنينة بمقدار الذكر الواجب، فإنّه و إن لم يكن هذا التحديد مدلولا لدليل، و لكنّه لا أقلّ من كونه محتملا، كيف و قد ادّعى بعض الأعاظم الإجماع على ذلك، و في بعض كلماتهم دعوى عدم الخلاف، و في محكيّ المنتهى: يجب الطمأنينة في الركوع بقدر الذكر الواجب، إلى أن قال: و هو قول علمائنا أجمع.

و هذه العبائر و إن لم تكن صريحة في اشتراط ذلك في الركوع، إلّا أنّه ليس لنا طريق إلى الجزم بالعدم أيضا.

و بعبارة اخرى: إنّا نحتمل كون الطمأنينة بمقدار الذكر، و لو انفكّت عن الذكر، معتبرا مستقلّا، و نحتمل عدمه، و إنّما الواجب هو الطمأنينة حال الذكر تبعا له.

ثمّ على تقدير الاعتبار أيضا يكون محلّا للاحتمالين المذكورين، أعني:

القيديّة للصلاة أو الركوع، فالعلم الإجمالي المذكور لا يرتفع غائلته على هذا أيضا.

و حينئذ نقول: المخلص عن العلم المذكور هو الرجوع إلى الأصل الشرعي الموجب

لانحلاله، و هو إمّا البراءة الشرعيّة المستفادة من حديث الرفع بناء على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة و تعميمه لمطلق الآثار، فنقول: قيديّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 193

الطمأنينة بمقدار الذكر بناء على الشكّ في أصل القيديّة مرفوعة بمقتضى الحديث.

نعم لا يجوز التمسّك بذلك بالنسبة إلى أصل الطمأنينة و مسمّاها، لأنّ المفروض علمنا بأصل الاعتبار و شكّنا في أنّه قيد للصلاة أو للركوع، فالحديث بالنسبة إلى رفع القيديّة عن كلّ من الأمرين متعارض، و بالجملة بعد جريان الأصل في الفرض الأوّل تصير الصلاة مطلقة عن القيد المذكور في مرحلة الظاهر، فيأتي ببقيّة الصلاة.

و إمّا الاستصحاب، أعني: استصحاب وجوب الركوع الثابت قبل تحقّق الركوع المسهى عن طمأنينته بمقدار الذكر.

و لا يرد على هذا الاستصحاب ما أورد على نظيره في مبحث الأقلّ و الأكثر، حيث تمسّك القائل بالاشتغال بأصالة بقاء التكليف بالصلاة بعد الإتيان بها بلا سورة مثلا، فأوردوا عليه بأنّ الوجوب الاستصحابي ليس حاله بأقوى من الواقعي المقطوع، فإذا فرضنا أنّ الثاني لا يوجب عقلا علينا أزيد من الإتيان بالمهملة، فهكذا الحال بالنسبة إلى الثاني.

فهذا الإيراد غير وارد هنا، لأنّ الاستصحاب ها هنا يوجب الإتيان بالركوع مع الطمأنينة، لأنّ المفروض وجوب الطمأنينة في حال العمد، و الشكّ إنّما هو في حال السهو.

و بالجملة يفيد الاستصحاب ها هنا في إتيان القيد المشكوك ها هنا و إن لم يفد في المبحث المذكور، و عليه يكون الواجب في ما نحن فيه الإتيان بالركوع ثمّ إتمام الصلاة و ينحلّ العلم المذكور.

و لكن يرد على الاستصحاب المذكور إشكال آخر و هو أنّ احتمال التقييد إذا كان في الموضوعات الخارجيّة التي هي متعلّقات للأفعال، كما إذا شكّ في الماء بعد

كتاب

الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 194

زوال تغيّره من قبل نفسه أنّه هل صار طاهرا أو باق على النجاسة فلا إشكال في جريان الاستصحاب، لبقاء الموضوع العرفي، و أمّا إذا كان محلّ القيد المحتمل نفس الفعل الذي وقع موردا للتكليف كما إذا طرأ العجز عن جزء من أجزاء المركّب المأمور به فشككنا في بقاء التكليف بالخالي عنه و ارتفاعه فليس لنا التمسّك بالاستصحاب، لأنّ الفعل الكلّي المقيّد مغاير عرفا مع الكلّي الخالي عن القيد.

و هذا بخلاف ما إذا كان مصبّ القيد هو الفرد، فإنّ الشخص الخارجي لا يتعدّد موضوعه و هذيّته العرفيّة بوجود وصف فيه ثمّ زواله.

و ما نحن فيه من قبيل الثاني، فإنّا نشكّ في قول الشارع: اركعوا مع الراكعين هل هو الركوع المطلق أو المقيّد، و هما موضوعان عرفا متغايران.

فنقول: الوجوب الذي نجعله متيقّنا سابقا هل كان متعلّقا بالمطلق أو بالمقيّد، و المفروض أنّه مشكوك من الأوّل على كلّ من التقديرين.

نعم قد تقرّر منّا في الأصول جريان الأصل بالنسبة إلى المهملة حيث إنّ التكليف بأيّ من المطلقة أو المقيّدة تعلّق، فلا محالة قد تعلّق بالمهملة، لعدم انفكاك المقسم عن أقسامه.

و لا يرد عليه أنّ استصحاب الأحكام لا بدّ من انتهائه إلى جعل المماثل للحكم المستصحب، و لا معنى للجعل بالنسبة إلى المهملة بين القسمين، و الجعل بالنسبة إلى أحد القسمين ممكن، لكنّه يخرج عن المماثلة.

وجه عدم الورود ما تقرّر في الأصول أيضا من أنّا لا نلتزم بالمماثلة، بل ننظر إلى وجود العمل لليقين السابق، و لا شكّ أنّ التكليف بالمهملة المنتزع من أحد القسمين له عمل، فمفاد الاستصحاب هو إلزام العمل المذكور في اللاحق.

و لكن يرد عليه أيضا مثل ما يرد على استصحاب الأمر

بالصلاة من عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 195

نفعه، لإتيان القيد المشكوك، إذ عمل المهملة ليس إلّا الإتيان بفرد منها و لو كان فاقدا للقيد المشكوك، هذا.

فالحقّ انحصار الأصل الشرعي في البراءة الشرعيّة بالنسبة إلى اعتبار قيد الطمأنينة بمقدار الذكر.

و أمّا اعتبارها في مسمّى الركوع في مقابل النقر كنقر الغراب الذي قد عرفت دلالة الأخبار المتقدّمة عليه فيمكن الذهاب إلى عدم قيديّته للركوع بإطلاق الأخبار الواردة في مقام تحديد الركوع المتعرّضة لما يعتبر في الركوع من الواجبات و المستحبّات، مثل انفراج ما بين القدمين و انفراج الأصابع، و تقدّم اليد اليمنى في الوضع على الركبة اليمنى على اليسرى في الوضع على اليسرى، فإنّ الإنسان يكاد يطمئنّ بأنّ هذه الأخبار مع هذه المبالغة التامّة في بيان تحديد الركوع من المستبعد جدّا أن يكون قد أهمل فيها ذكر قيد الطمأنينة مع كونه من الواجبات و ذكر فيها المستحبّات المذكورة، فهذا آية عدم الدخل في الركوع بما هو ركوع، نعم هو معتبر في الركوع كسائر ما له دخل في حاله، كالطهارة و الاستقبال و الذكر و نحو ذلك، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

في سقوط الطمأنينة عن المريض

و لو كان مريضا لا يتمكّن من الطمأنينة فلا إشكال في سقوطها عنه، إذ الصلاة لا تترك بحال، حتّى لو فرضناها قيدا للركوع، إذ ليس حاله بأقوى من نفس الركوع، فكما يسقط عند العذر نفس الركوع فكذا قيده، و هذا لا إشكال فيه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 196

دوران الأمر بين الركوع قائما بلا طمأنينة أو جالسا معها

إنّما الإشكال في ما إذا دار الأمر بين الركوع قائما بلا طمأنينة أو جالسا معها، فهل القاعدة يقتضي تقديم أيّهما؟

الذي قوّاه شيخنا الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه ترجيح الأوّل، بيانه أنّا فهمنا من استدلال الإمام عليه السّلام بأنّه نفي الحرج لرفع قيديّة المماسّة للبشرة في مسح الوضوء، حيث قال في رواية عبد الأعلى: «هذا و أشباهه يعرف من كتاب اللّٰه، مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، امسح على المرارة» «1» أنّه كلّما كان المقيّد أو المركّب المأمور به معجوزا عنه، لكن بسبب العجز عن واحد من قيوده أو أجزائه، فالمرفوع بسبب العجز ذلك الجزء أو القيد لا غيره، و لا المجموع المركّب أو المقيّد.

و حينئذ نقول في ما نحن فيه إنّ الشارع نوّع المكلّفين في تكليفهم الصلاتي إلى نوعين: القادر على القيام و العاجز عنه، فأوجب على القادرين عليه الصلاة القياميّة، و على العاجزين عنه الجلوسيّة، و هذا الشخص المفروض في ما نحن فيه لا شكّ أنّه من قسم القادرين على القيام، فهو مكلّف بالصلاة الواقع قراءتها و ركوعها في حال القيام و لكن مع الطمأنينة، و هذا المقيّد قد حصل العجز عنه بواسطة العجز عن قيده، فمقتضى الاستدلال المذكور التمسّك هنا بقاعدة الميسور لرفع ذلك القيد مع بقاء البقيّة بحالها، لا الانتقال إلى الركوع الجلوسي مع الطمأنينة، لأنّه خلاف وظيفته، حيث قد فرضنا كونه

قادرا على القيام، و المفروض كون

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 197

الوظيفة في حقّه القيام في حال الركوع لا الجلوس، فهو غير قادر على الطمأنينة في الركوع الذي هو وظيفته و إن كان متمكّنا منها في الركوع الخارج عن وظيفته.

فإن قلت: لنا قلب الدليل بأن نقول: هذا الشخص قادر على الطمأنينة، و لكنّه مع حفظها غير قادر على القيام، فإنّ العجز عن كلّ من الأمرين لا يصحّ بقول مطلق، لفرض التمكّن من كلّ منهما منفردا عن الآخر، فكما يصحّ أن يقال: هو قادر على القيام و عاجز في حاله عن الطمأنينة، كذلك يصحّ أن يقال: هو قادر على الطمأنينة و عاجز في حالها عن القيام، فكما يوجب الأوّل دخوله في صنف من وظيفته الركوع القيامي، يوجب الثاني دخوله في نوع من وظيفته الركوع الجلوسي، فلا مرجّح لأحدهما على الآخر.

قلت: نعم هذا الشخص لا يصدق عليه العجز عن القيام بقول مطلق، بل يصدق القدرة عليه كذلك، و الحال بالنسبة إلى الطمأنينة أيضا كذلك، لكن الأوّل يوجب عليه الركوع القيامي لتعليقه في الأدلّة على القدرة عليه بقول مطلق المفروض صدقها في المقام.

و أمّا دليل الطمأنينة فلم يوجبها بقول مطلق على القادر عليها في عرض دليل اعتبار القيام، بل اعتبرها في حال الركوع المختلف بحسب أحوال الأشخاص، فمن كان وظيفته القيام كان اعتبار الطمأنينة بالنسبة إليه في الركوع القيامي، فكأنّه ورد بهذه الصورة: ليكن ركوعك القيامي مع الطمأنينة.

و لعلّ هذا هو السرّ في إطلاق فتوى المحقّق قدّس سرّه سقوط الطمأنينة عن المريض الذي لا يتمكّن منها، فإنّها بإطلاقها شاملة لمحلّ الفرض.

و من هنا يظهر أنّ مقتضى القاعدة

أيضا هو الانتقال إلى الإيماء قائما بدلا عن الركوع كذلك عند العجز عنه و لو فرض تمكّنه من الركوع جالسا، و بعبارة أخرى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 198

عند دوران الأمر بين حفظ القيام و بين حفظ الركوع، و لا يجوز له الانتقال إلى الركوع الجلوسي كما أفتى بذلك في نجاة العباد.

[و منها:] رفع الرأس من الركوع

و منها: رفع الرأس منه بلا خلاف على الظاهر، بل عن غير واحد دعوى الإجماع، و يشهد له جملة من الأخبار، مضافا إلى الأخبار الحاكية لفعل النبيّ و بعض الأئمة صلوات اللّٰه عليه و عليهم.

ففي النبويّ المتقدّم المرويّ عن الذكرى: «ثمّ ارفع رأسك حتّى تعتدل قائما» «1».

و في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «و إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك حتّى ترجع مفاصلك» «2».

و في خبره الآخر عنه عليه السّلام أيضا: «قال: إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك، فإنّه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه» «3». و لا إشكال في دلالتها على أصل الوجوب.

و أمّا القول بالركنيّة كما حكي عن الشيخ في الخلاف فلعلّ مستنده الخبر الأخير الظاهر في نفي الحقيقة بدون إقامة الصلب، و لكن لا يخفى حكومة حديث

______________________________

(1) الذكرى: المسألة الاولى من مسائل الركوع.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب الركوع، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب الركوع، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 199

لا تعاد الحاكم بعدم بطلان الصلاة بالسهو عن غير الخمسة المستثناة على هذا الخبر و ما يشبهه كما ورد نحوه في فاتحة الكتاب.

و منها: الطمأنينة في الانتصاب

بلا خلاف على الظاهر، بل عن غير واحد دعوى الإجماع، و هو أن يعتدل قائما و يسكن و لو يسيرا، و استدلّ عليه بعد الإجماع بقوله عليه السّلام في خبر أبي بصير المتقدّم: «إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك حتّى ترجع مفاصلك» «1».

و في خبره الأخير: «فأقم صلبك، فإنّه لا صلاة لمن لم يقم صلبه» «2».

و في النبويّ المتقدّم: «ثمّ ارفع رأسك حتّى تعتدل قائما» «3».

و قد يستشكل في دلالتها بأنّ من الممكن

حصول الاعتدال و الإقامة بدون بقائه في الزمان و لو يسيرا، فإنّ هذا العنوان من العناوين الآنيّة الحصول التي لا يحويها زمان مثل الفصل و الوصل.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال بأنّه إذا أضيف ذلك إلى زمان كان قبل، أو حدّ الاعتدال و استقامة الصلب في زمان رفع الرأس من الركوع فالعرف يفهم منه إطالته بمقدار يقع مظروفا للزمان، و ما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّه مفاد قوله عليه السّلام: إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك، فإنّه بمنزلة قولنا: أوجده في وقت رفع الرأس و في زمانه، فتدبّر.

______________________________

(1) تقدّم قريبا.

(2) تقدّم قريبا.

(3) تقدّم قريبا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 200

فروع

الأوّل [لو دار الأمر بين القيام في جزء سابق و بينه في الجزء اللاحق]
اشارة

قد عرفت حال دوران الأمر بين الركوع القيامي مضطربا و الجلوس مطمئنّا، و أنّ مقتضى تنويع المكلّف تقديم الأوّل، و كذا الحال في الدوران بين القيام موميا للركوع و الجلوس راكعا.

فاعلم أنّه ليس مثل ذلك ما لو دار الأمر بين القيام في جزء سابق و بينه في الجزء اللاحق، كما لو قدر على القيام زمانا لا يسع القراءة و الركوع و إن صرّح الجواهر بتقديم القراءة و الجلوس للركوع.

و حكي عن المبسوط و النهاية و السرائر و المهذّب و الوسيلة و الجامع تقديم الركوع على القراءة، بل نسبه في الأوّل إلى رواية أصحابنا.

و أورد عليه في الجواهر بأنّه مخالف لمقتضى الترتيب، و الرواية لم تصل إلينا، و التعليل بأنّه أهمّ لأنّه ركن مع أنّه اعتبار لا يصحّ لأن يكون مدركا لحكم شرعي، انتهى موضع الحاجة من كلامه قدّس سرّه.

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: يمكن أن يقال بالفرق بين هذا الفرع و الفرعين المتقدّمين، فإنّك عرفت تقوية ترجيح القيام و الركوع مضطربا على الجلوس و الركوع

مستقرّا، و كذلك تقديم القيام و الإيماء على الجلوس مع الإتيان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 201

بحقيقة الركوع.

و أمّا في هذا الفرع أعني: دوران الأمر بين القيام في القراءة مثلا و الجلوس في حال الركوع أو العكس، و كذا بين القيام في الركعة الاولى و الجلوس في الثانية أو العكس، فليس لنا ترجيح القيام للجزء المتقدّم و اختيار الجلوس في المتأخّر بمحض اعتبار الشارع التدرّج و الترتيب بين الجزءين بعد تساويهما في الوجوب و فعليّته، و كذلك فعليّة القدرة عليهما، فإنّ تدرّجهما في الوجود لا يمنع عن تقارنهما في الوجوب و القدرة، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور حقيقة، و لا يشترط في فعليّة القدرة على شي ء إمكان إيجاده في زمان تحقّق القدرة، فإنّا لا نشكّ في كوننا قادرين على الكون على السطح فعلا، مع أنّه نحتاج إلى صعود الدرج، و ليس حكمنا بثبوت القدرة بعد صعودنا على الدرجة الأخيرة المتّصلة بالسطح، بل يصحّ الحكم و لو قبل النصب فضلا عن الصعود كما هو واضح.

و إذن فمجرّد اعتبار الترتيب بين الوجودين لا يمنع صحّة إضافة القدرة على وجه الفعليّة بدون التعليق إلى الشي ء الثاني المرتّب، بل يصحّ النسبة إليه كما يصحّ بالنسبة إلى الشي ء المرتّب عليه على وجه سواء، و كذا يتساويان في الوجوب الشرعي، هذا حال نفس إيجاب الجزءين في الصلاة.

و حينئذ نقول: إذا اعتبر الشارع على القادر على إتيان الجزءين في حال القيام أن يأتي بهما كذلك، و المفروض أنّه غير قادر على الجمع بينهما قائما، و إنّما يقدر على الإتيان بواحد قائما و بالآخر جالسا فترجيح القيام للجزء السابق ترجيح بلا مرجّح.

نعم حكى أستاذنا العلّامة عن بعض معاصريه الذهاب إلى أنّ المقدور بالواسطة

غير مقدور، و إنّما المقدور هو الواسطة، و لهذا ذهب إلى أنّ المقدّمات

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 202

المتدرّجة في الوجود لا بدّ من أن يتّصف كلّ واحدة واحدة بالوجوب النفسي على حسب تدرّجها في الوجود، و كذا أجزاء المركّب المتدرّج الوجود مثل الصلاة، و بالجملة، كلّما كان الوجود متدرّجا، فالوجوب أيضا مثله.

فعلى هذا المذاق لا إشكال في تقديم القيام للجزء الأوّل، لأنّ الجزء الثاني غير واجب فعلا، و إنّما يصير واجبا بعد فعل الجزء الأوّل، و المفروض أنّ التكليف بالجزء الأوّل قسّم المكلّف إلى القادر على القيام و غيره، لكن بعد ما لم نذهب إلى هذا المذاق و قلنا بأنّ المقدور بالواسطة فعلا مقدور و إن كان وجوده متأخّرا و لهذا نقول:

يتحقّق التكليف به فعلا.

فهنا واجبان مطلقان فعليّان قد اشترط في كلّ منهما إيجاد متعلّقهما في حال القيام على القادر، و الشخص المفروض قادر على القيام بالنسبة إلى كلّ منهما منفردا، و غير قادر منضمّا.

فمقتضى القاعدة الأوّليّة سقوط التكليف رأسا، للعجز عن المكلّف به، و بعد محكوميّتها بالقاعدة الثانوية الواردة في باب الصلاة من أنّها لا تسقط بحال، بل لا بدّ من إسقاط ما عجز عنه المكلّف و الإتيان بالباقي يصير الأمر في المقام مردّدا بين الأمرين بلا مرجّح في البين.

فإن قلت: لا إشكال في اعتبار الترتيب على جميع الأجزاء السابقة التي منها القيام، فالركوع كما أنّه مرتّب على القراءة، كذلك على القيام حالها، و لا شكّ أنّ المكلّف غير قادر على الركوع القيامي المرتّب على القراءة القياميّة متعيّنا، و متمكّن من القراءة القياميّة، فيتعيّن عليه تقديمها.

قلت: مضافا إلى أنّ العجز غير حاصل متعيّنا بالنسبة إلى ذات القيام الثاني، بل بالنسبة إلى وصفه

و هو ترتّبه على القيام الأوّل، فيتعيّن هو للسقوط، و إذا سقط

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 203

الترتيب بين القيامين عاد المحذور و هو عدم المرجّح في البين، يرد على هذا الكلام أنّ القيام في الأدلّة لم يعتبر في كلّ جزء جزء على حدة، و بعبارة أخرى في جزئيّة الجزء، بل اعتبر في الصلاة في عرض سائر الأجزاء، فالأجزاء إنّما هي ذات القراءة و ذات الركوع إلى آخر أخواتهما، و الترتيب معتبر بين هذه الذوات، و كذا القيام لوحظ قيدا في الصلاة مقارنا لهذه الذوات المرتّبة من دون ملاحظة الترتيب بين القيامات.

و بعبارة أخرى: لم يلحظ القيام أشياء عديدة و قيامات متعدّدة، بل شيئا واحدا مستمرّا باستمرار الصلاة، فإذا دار الأمر بين حصوله في الجزء السابق أو اللاحق لم يكن هنا مرجّح لأحدهما، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

فإن قلت: سلّمنا ذلك، و لكن نقول: القدرة حين العمل جعلت شرطا شرعيّا، كما أنّ التكليف بالصلاة مشروط بالقدرة في الوقت، كنفس الوقت، ففي ما نحن فيه التكليف بالقيام حال الركوع مشروط بالقدرة في ذلك الزمان، أعني: زمان وقوع الركوع، فللمكلّف رفع هذا الشرط و سلبه عن نفسه، كما يصحّ له سلب عنوان الحاضر إلى المسافر، فبالنسبة إلى القراءة الشرط موجود، فيجب الإتيان بها مع القيام، و بذلك ينتفي موضوع التكليف بالقيام بالنسبة إلى الركوع، و أمّا العكس فتفويت للواجب الفعلي، لتحصيل شرط الواجب الغير الفعلي، و من المعلوم عدم جوازه.

قلت: قد حقّقنا في بعض المباحث السابقة أنّ القيود على قسمين: قسم راجع إلى الطلب مثل القدرة و العجز، و قسم غير راجع إليه، و لا محالة راجع إلى المادّة مثل الحضر و السفر.

ففي القسم الثاني لا

محيص عن تقييد المادّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 204

و أمّا الأوّل فإن كان متّصلا كما لو قال: افعل كذا إن قدرت عليه فاللفظ يصير مجملا من حيث تردّد الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة و الطلب، أو إلى المادّة و المطلوب، و إن كان منفصلا كما لو قال: افعل كذا، ثمّ قال منفصلا: ذلك تكليف القادر و كما في ما نحن فيه، حيث ورد اعتبار القيام في دليل منفصل عن دليل تخصيصه بالقادر و تعيين الجلوس للعاجز.

فإذن مقتضى ظهور إطلاق المادّة في الدليل الأوّل و الشكّ في تقييده بالدليل الثاني لاحتمال كونه في مقام تقييد الطلب هو عدم كون القدرة في المقام و أمثاله قيدا شرعيّا، و مقتضاه عدم جواز تفويتها، لاستلزامه تفويت المطلوب المطلق للمولى، و يلزم من ذلك حصول الدوران في مسألتنا بين مطلوبين مطلقين للمولى مع عدم إحراز الأهميّة في شي ء من الجانبين، غير أنّ أحدهما أخذ مترتّبا في الوجود على الآخر، و أيّ فرق بينه و بين ما إذا فرضا عرضيين كمسألة إنقاذ الغريقين الذي لم يقدر إلّا على أحدهما، فكما يحكم العقل فيه بالتخيير فليحكم في المترتّبين.

كلام لبعض الأعاظم في المقام

و لبعض الأعاظم قدّس سرّه في المقام كلام ينبغي التعرّض له، قال قدّس سرّه بعد تقويته إلحاق المقام بالمتزاحمين الذين يجب فيهما رعاية الترجيح إن كان، و إلّا فالتخيير ما لفظه:

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّه يكفي في ترجيح الأوّل في مثل الفرض عدم ثبوت أهميّة الثاني في نظر الآمر، إذ لا استقلال للعقل بجواز تركه مقدّمة لامتثال الأمر بالثاني ما لم يثبت أهمّيته لدى الآمر، و الفرق بين الواجبين المتزاحمين الذين اتّحد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 205

زمانهما، حيث يستقلّ العقل

بالتخيير بينهما ما لم يثبت أهمّية أحدهما هو أنّ كلّا منهما في حدّ ذاته مقدور يجب الإتيان به إطاعة لأمره ما لم يشتغل بضدّه الآخر الذي يمتنع معه إطاعة هذا الأمر، و متى اشتغل بكلّ منهما قاصدا به إطاعة أمره يصير عاجزا عن فعل الآخر، فيقبح مؤاخذته على تركه، كما أنّه يقبح مؤاخذته على ترجيح المأتيّ به على المتروك بعد أن لم يثبت لديه أهميّته شرعا.

و لتمام التحقيق في ذلك و بيان أنّ مجرّد احتمال الأهميّة غير مانع عن حكم العقل بالتخيير في مثل المقام الذي نشأ الحكم بالتخيير من قبل مزاحمة الواجبين المنجّزين لظاهر دليلهما مقام آخر.

و أمّا مع الترتّب في الوجود فليس فعل الثاني بنفسه مؤثّرا في صيرورة الأوّل غير مقدور، لتأخّره عنه في الرتبة، فالمانع عن فعل الأوّل في وقته ليس إلّا إرادة فعل الثاني الذي يمتنع حصوله مع الأوّل، فليس له عند تركه للأوّل مقدّمة لامتثال الأمر بالثاني أن يعلّله بعدم قدرته عليه في وقته، فإنّه حال مطلوبيّته لم يعجز عن فعله أصلا، و لكنّه تركه مع قدرته عليه مقدّمة للواجب الآخر الذي لا يقدر عليه إلّا على تقدير ترك الأوّل، فله الاعتذار بهذا لا بالعجز.

فيتوجّه عليه حينئذ سؤال الترجيح الموجب لمخالفة الأمر المنجّز مقدّمة لإطاعة الأمر المعلّق، و العقل لا يجزم بجوازه ما لم يثبت لديه مرجّح شرعي، فالأقوى في المقام هو ما عرفت من تقديم القيام حال القراءة، إذ لم يتعلّق العجز به و لم يثبت أهميّة غيره أي القيام للركوع كي يستقلّ العقل بجواز تركه مقدّمة، انتهى موضع الحاجة من كلامه، رفع في الخلد أعلامه.

و فيه أنّ العجز عن الجمع بين مطلوبين مطلقين ثابت في كلتا الصورتين من

غير انتظار شي ء، و لهذا لا يصحّ تكليفه بالجمع و لا عقابه على تركهما لو تركهما، فإذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 206

ارتفع التكليف بالجمع و بقي بالنسبة إلى الواحد و المفروض مساواتهما في المطلوبيّة فتعيين أحدهما بلا معيّن قبيح، فلا محيص عن التخيير من غير فرق في جريان هذا البيان بين العرضيين و المترتّبين في الوجود كما لا يخفى.

هذا و لكنّ الالتزام ببقاء إطلاق المادّة في ما نحن فيه و عدم تقييده بالقدرة الخاصّة و هي المقارنة لوقت العمل لازمة القول بالتخيير حتّى في مثل ما إذا دار الأمر بين القيام في واحدة من الصلاتين إمّا الظهر و إمّا العصر، بل بناء على ما هو التحقيق من كون الواجب المشروط الذي نعلم بحصول شرطه في ما يأتي كالمطلق بحسب الآثار، يلزم ذلك أيضا في ما لو دار بين القيام إمّا في العصر، و إمّا في المغرب.

و كذا يلزم في من نذر الحجّ ماشيا فعجز عن المشي زائدا على أربع فراسخ مثلا تخييره بين الركوب في أوّل المسافة و المشي بالمقدار المذكور في آخرها و العكس، و الالتزام بذلك في جميع هذه الفروع و نظائرها لا يخلو عن شي ء.

و كذلك القول بتقييد المادّة بالقدرة الخاصّة لازمة جواز سلب الإنسان القدرة من نفسه اختيارا و عدم إثمه بذلك و كونه كجعل نفسه مسافرا، و هذا أيضا ممّا لا يرتضيه الوجدان، فكلّ من طرفي المسألة له لازم غير مرضيّ.

و إذن فيمكن أن يقال في المطلوبات الضمنيّة كأجزاء المركّب المأمور به عند العجز عن واحد منها: ليس لنا إطلاق مادّة يقتضي الإتيان بالناقص حتّى يدور الأمر على حسبه بين الإتيان به بأيّ كيفيّة من الكيفيّتين أعني برعاية

القيام في الجزء المتقدّم أو في المتأخّر، لأنّ كلّا منهما خارج عن مقتضى الأدلّة الأوّليّة الجاعلة للأجزاء و الشرائط الصلاتيّة، بل مقتضى تلك الأدلّة سقوط التكليف عن هذا المكلّف بالمرّة، لعدم قدرته على المركّب بواسطة العجز عن بعض أجزائه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 207

و لو لا على التعيين.

فالحاصل: ليس هنا مقام الأخذ بإطلاق المادّة و ملاحظة قاعدة التزاحم، بل اللازم حينئذ مراعاة الدستور الواصل من الشارع في صورة العجز، فإن كان ظاهر الدليل الوارد في مقام الدستور الثانوي هو اعتبار القدرة و العجز بالنسبة إلى حال العمل، فليس لنا تقديم الجزء الثاني و الإتيان بالأوّل قاعدا، لأنّ القدرة بالنسبة إلى الجزء الأوّل حاليّة، و بالنسبة إلى الثاني سابقة، و هي ليست بموضوعة للعجل الثانوي حسب الفرض، فالموضوع للجعل الثانوي بالنسبة إلى الجزء الأوّل محقّق، و بالنسبة إلى الثاني غير محقّق.

و على هذا فنقول: تحصيل العجز اختيارا محرّم، لكونه مقتضى إطلاق المادّة في الدستور الأوّلي، و أمّا بعد العصيان أو حصول العجز لا عن اختيار فهنا دستور ثانوي من الشرع، و اللازم اتّباع دليله، فإن اعتبرت القدرة في هذا الدليل بالأعمّ من السابقة و المقارنة حصل التزاحم في مفروضنا، و أمّا إن اعتبرت القدرة المقارنة فلا موقع للتزاحم.

و لا يخفى أنّ قوله عليه السّلام: المستطيع يقوم و العاجز يقعد، ظاهره الاستطاعة الحاصلة حين العمل، و كذا العجز الحاصل حينه.

فإن قلت: لم لا تجعل هذا الدليل مقيّدا لإطلاق المادّة في إطلاقات اعتبار القيام من مثل قوله عليه السّلام: لا صلاة لمن لم يقم صلبه، مع أنّ ظاهره تقييد أصل المطلوب الصلاتي بحال الاستطاعة الخاصّة، و معه لا يبقى مورد للإطلاق في سائر الأدلّة.

قلت: لا منافاة

بين هذا الدليل و ذلك الإطلاق، لأنّه متعرّض للدستور الثانوي، و ذلك الإطلاق للأولى و القرينة على كونه بصدد الدستور الثانوي تعرّضه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 208

للتفصيل بين القدرة و العجز، فإنّ العجز إذا كان موضوعا لحكم فلا يخفى أنّه دستور ثانوي غير مربوط بالحكم الأوّلي، فكذلك القدرة التي جعلت عدلا له، فكأنّه قيل:

دستورك الأوّلي الإتيان بالأجزاء و الشرائط الخاصّة، ثمّ إذا صرت في مقام امتثال ذلك التكليف فدستورك رعاية القدرة و العجز الحاليين بالنسبة إلى كلّ الأجزاء أو بعضها، و لا أقلّ من الاحتمال و الإجمال.

و إذن فاللازم حصول الإثم بسلب القدرة كما مرّ و لزوم تقديم الجزء الأوّل برعاية القيام حاله لكونه واجدا للشرط و هو القدرة المقارنة حاله، دون الجزء الثاني، لأنّ القدرة بالنسبة إليه متقدّمة لا مقارنة، و حفظ القدرة المتقدّمة إلى أن تصير مقارنة من قبيل حفظ الموضوع الذي ليس بلازم عقلا مع كونه مفوّتا للواجب المنجّز الفعلي.

الفرق بين قيد القدرة و سائر العناوين
اشارة

و حاصل الكلام أنّ لنا دعويين:

[الدعوى] الاولى:

أنّه إذا ورد دليلان موضوع أحدهما ذات المركّب من عدّة أمور، و موضوع الآخر تنويع المكلّف إلى القادر و العاجز بالنسبة إلى ذلك المركّب و تخصيص كلّ منهما بوظيفة خاصّة به فهذا الدليل الثاني ليس حاله كحال الدليل المنوّع إلى غير هذين العنوانين مثل عنواني الحضر و السفر، حيث يجعلهما في عرض الدليل الأوّل و مقيّدا لمادّته، بل يجعل الدليل المنوّع المذكور في الرتبة المتأخّرة و ناظرا إلى دستور مقام امتثال ذلك التكليف الأوّلي بالمركّب التامّ، و التقييد فرع العرضيّة، و لا أقلّ من احتمال ذلك ها هنا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 209

فإطلاق المادّة بالنسبة إلى الأوّل بحاله من دون ورود مقيّد في رتبته، و هذا الاستظهار لما بين عنواني القدرة و العجز و سائر العناوين من الفرق، حيث لا يستظهر ذلك في سائرها، بل المستظهر هو العرضيّة، و فيهما تستظهر الطوليّة، أو نحتمل احتمالا مساويا.

و الدعوى الثانية

بعد حمل الدليل المتعرّض لحالتي القدرة و العجز على المرتبة المتأخّرة عن الدليل الأوّلي نقول: ليس الملحوظ خصوص القدرة و العجز بالنسبة إلى تمام العمل من أوّله إلى آخره حتّى يكون حكم صورة قدرته مثلا على القيام في نصف الصلاة و عجزه عنه في نصفه الآخر غير مستفاد منه، بل الملحوظ الأعمّ من ذلك و من القدرة و العجز المتحقّقين في الأبعاض، فإنّ المصلّي ما دام في الصلاة يسمّى مصلّيا و يقال في حقّه: إنّه يصلّي، فإذا قيل: القادر يصلّي قائما و العاجز يصلّي جالسا، فكما يفهم منه العجز و القدرة المستوعبان، فكذا ما كان في بعض العمل.

و بعد هاتين الدعويين نقول: إطلاق المادّة في الدليل الأوّلي بحاله، و يترتّب عليه آثاره من عدم جواز سلب القدرة عن

بعض أجزاء المركّب اختيارا، و كذا عدم جواز البدار إلى عمل المضطرّ إلّا مع اليأس عن زوال العذر إلى آخر الوقت، نعم إطلاق الهيئة فيه ساقطة لدى العجز لا بواسطة هذا الدليل، بل بحكم العقل، و مع ذلك يجب تقديم القيام للجزء الأوّل، لما تقدّم من استفادة القدرة المقارنة و العجز كذلك من الدليل المتعرّض لإصلاح حال الدليل الأوّلي في مرحلة الامتثال.

فإن قلت: ما الفرق بين عنواني السفر و الحضر و بين عنواني القدرة و العجز، حيث لا نجعلهما دستورا لمقام الامتثال، بل قيدين للمطلوب الأوّلي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 210

قلت: قد ذكرنا سابقا أنّا لا نحتمل في مثل ذينك العنوانين رجوعهما إلى الهيئة، فيتعيّن كونهما راجعين إلى المادّة، و أمّا في القدرة و العجز فهنا احتمالان:

الأوّل: رجوعهما إلى تقييد المادّة.

و الثاني: كونهما ناظرين إلى دستور ثانوي متأخّر عن الأوّلي و مجعول بملاحظته، نظير الأحكام الظاهريّة بالنسبة إلى الواقعيّة، فإذا كان الأمران محتملين في عرض واحد و المفروض كونهما منفصلين عن إطلاق دليل اعتبار الجزء أو الشرط كان إطلاق المادّة في الدليل المذكور باقيا بحاله، فيترتّب الثمرة على الإطلاق المذكور من حرمة سلب القدرة، و على الدليل الثانوي من تقديم القيام للجزء الأوّل في مسألتنا كما تقدّم تقريبه، و اللّٰه تعالى هو العالم بحقائق أحكامه، فافهم و اغتنم، فإنّ شرح هذه المطالب مختصّ ببحث شيخنا الأستاذ العلّامة و من فوائده الخاصّة به، أدام اللّٰه أنفاسه القدسيّة علينا و على جميع المحصّلين بمحمّد و آله الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 211

الفرع الثاني لو تجدّد القدرة للعاجز عن القيام في أثناء الصلاة
اشارة

فلا يخلو إمّا يكون ذلك قبل القراءة أو في أثنائها، أو بعد إتمامها، و قبل الركوع أو بعده قبل

الطمأنينة، أو بعده و بعدها و قبل الذكر الواجب، أو بعد إكمال الذكر و قبل الرفع أو بعده قبل الطمأنينة أو بعده و بعدها.

لا إشكال في أنّه ينتقل إلى القيام في جميع هذه الصور و يكون صلاته ملفّقة من القيام و القعود، كما أنّه في العكس أعني تجدّد العجز بعد القدرة في الأثناء في جميع الصور المذكورة ينتقل إلى القعود و يصير صلاته أيضا ملفّقة من الأمرين، لكن

الإشكال يقع في بعض الكيفيّات.
منها: لو ارتفع العجز في حال الركوع قبل الطمأنينة أو بعدها و قبل الذكر

فهل يجب عليه القيام متقوّسا لحفظ الطمأنينة في الركوع القيامي أو الذكر كذلك، أو يكفي الإتيان بالأمرين في ركوعه الجلوسي ثمّ انتصابه من ركوعه الجلوسي قائما؟ الظاهر جواز الثاني، بل و عدم خلوّ الأوّل لو اختاره عن الإشكال.

أمّا جواز الثاني فلأجل أنّه لا دليل على اعتبار القيام الركوعي مستقلّا للطمأنينة أو الذكر، و إنّما المسلّم اعتبار ذلك في الركوع الصلاتي و اعتبار القيام فيه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 212

و المفروض سقوط القيام فيه هنا، لوقوعه حال العجز عن القيام، فالطمأنينة و الذكر لو وقعا وقعا في الركوع الصلاتي.

نعم لو فرض تقييد الركوع بالأمرين فما كان خاليا عنهما غير ركوع معتبر في الصلاة، فاللازم انتصابه من رأس و استئناف الركوع عن الانتصاب القيامي، لكنّه أيضا خلاف المستفاد من الأدلّة و قد تقدّم.

و أمّا وجه إشكال الأوّل فهو أنّه حينما يمرّ عن الانحناء الذي دون الركوع القيامي و فوق الجلوسي خارج عن الحدّين فيكون الركوع القيامي حادثا بعد الانعدام، و يكون فيه شبهة زيادة الركوع.

و منها: لو ارتفع عن الركوع جلوسا فقدر و لمّا يطمئنّ

فهل يجب عليه القيام لتحصيل الاطمئنان المعتبر في رفع الرأس من الركوع؟ قد يقال: نعم، حيث إنّه يجب عليه أمران، أحدهما: رفع الرأس، و قد حصل، و الثاني: الاعتدال مع الاطمئنان، و المفروض عدم حصوله بعد، فيجب، و يحتمل هنا أيضا ما تقدّم في ذكر الركوع و طمأنينته من الاكتفاء بإيجادهما حال الجلوس بأن يقال: الاعتدال و الطمأنينة أخذا وصفين للرفع، لا مستقلّين، فكلّ رفع احتسب للصلاة وجب توصيفه بالأمرين، و هو هنا الرفع الجلوسي دون القيامي، فتدبّر.

و منها: لو تجدّد القدرة في أثناء القراءة

بحيث كان الانتقال إلى القيام مفوّتا للموالاة المعتبرة في القراءة بين كلماتها و بين آياتها، حيث إنّها معتبرة بأزيد من الموالاة المعتبرة في نفس أفعال الصلاة التي ينافيها الفصل الطويل، و أمّا الموالاة في القراءة فينافيها الفصل الأقلّ من ذلك، فهل يجب عليه إتمام القراءة جالسا حفظا للموالاة في القراءة الشخصيّة أو قطعها و القيام ثمّ استئناف القراءة من رأس؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 213

قد يحتمل الأوّل، نظرا إلى أنّ المشروع بحسب الأدلّة إمّا الصلاة قائما، و إمّا جالسا، و أمّا الصلاة بين حدّي القيام و الجلوس أعني: في حال النهوض إلى القيام كما في مسألتنا، أو في حال الهويّ إلى الجلوس كما في عكسها فليس مشروعيّتها مستفادة من الأدلّة، بل ظاهرها عدمها.

و إذن فنقول: هذا الشخص إمّا قادر و إمّا عاجز، فعلى الأوّل تكليفه الصلاة قائما، و على الثاني الصلاة جالسا، فليس له الصلاة في حال النهوض، و إذا دار أمره بين الأمرين نقول: يتعيّن عليه اختيار الجلوس بمقدار تتميم الآية أو القراءة، لأنّه غير متمكّن من حفظ الموالاة قائما و متمكّن منه جالسا.

و لكنّ الظاهر هو الثاني، إذ أوّلا: لا دليل على وجوب إتمام

الجزء، و إنّما المسلّم وجوب إتمام الكلّ، فإبطال أصل الصلاة محرّم و إتمامها واجب، و أمّا إبطال القراءة الشخصيّة فما الدليل على حرمته.

و ثانيا: سلّمنا وجوب الإتمام في الجزء أيضا فيجب الموالاة في القراءة الشخصيّة، لكن حفظها غير ممكن هنا لا قائما و لا جالسا.

أمّا قائما فواضح، و أمّا جالسا، فلأنّه ليس لوجوب الموالاة في القراءة الشخصيّة على تقدير تسليمه إطلاق ناظر إلى الحالات حتّى يجوز لنا بملاحظة مراعاتها الجلوس مع القدرة على القيام، بل غايته الإطلاق الذاتي و أنّها من حيث هي واجبة في هذا الحال.

فإذا فرضنا أنّ دليل تعيين الوظيفة للقادر في القيام يجعل القراءة الجلوسيّة خارجة عن الوظيفة الصلاتيّة فاتّصالها غير نافع بحال الموالاة المذكورة، فلا محيص عن اختيار القيام ثمّ استئناف القراءة من رأس.

لا يقال: كما أنّ دليل الموالاة الشخصيّة على تسليمها ليس له إطلاق أحوالي،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 214

كذلك دليل اعتبار القيام، فما الترجيح؟

لأنّا نقول: نعم دليل كلّ جزء أو شرط ليس له إلّا إطلاق ذاتي غير شامل لحال توقّفه على ترك الآخر، لكنّا نقول: إنّ الموالاة في القراءة من أوصافها و يكون وجوبها فرع وجوب أصل القراءة، و مقتضى تعيين الوظيفة للقادر في الصلاة القياميّة عدم مشروعيّة هذه القراءة الجلوسيّة من القادر و كون الإتيان بها كالإتيان بالأقوال الأخر التي لا يمكن احتسابها جزءا من الصلاة.

و الحاصل أنّ دليل القيام يكون واردا على دليل الموالاة الشخصيّة، لأنّ دليل الموالاة إنّما يثبتها في فرض كون القراءة وظيفة صلاتيّة، و دليل القيام يسلب عنها هذا العنوان و يثبته للقراءة القياميّة بعد تجدّد القدرة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 215

الفرع الثالث إذا كان كالراكع خلقة أو لعارض،
اشارة

فإن تمكّن من الانتصاب و لو بالاعتماد على شي ء وجب

للقراءة و للركوع و للرفع منه، و إن لم يتمكّن فإن تمكّن في بعض الحالات وجب، و إن لم يتمكّن أصلا فإن تمكّن من الأقرب إلى الانتصاب تعيّن هو، و إن لم يتمكّن من الارتفاع عن حاله أصلا فتارة يكون انحناءه بالغا حدّ أوّل الركوع بحيث لو انحنى أزيد منه لا يخرج عن حدّ الركوع، و اخرى يكون في أقصى مرتبة الركوع أو في أوّلها، لكن لا يمكنه الانحناء الزائد عن حاله.

فإن فرضناه غير بالغ حدّ الأقصى و متمكّنا من الانحناء الزائد فلا إشكال في اكتفائه بهيئته للقيام، بل يمكن دعوى صدق القيام عليه حقيقة بدعوى أنّ القيام مقابل للجلوس و النوم، و بعبارة أخرى: يكون عبارة عن الاعتماد على القدمين مع انتصاب الرجلين.

و أمّا انتصاب الظهر فأمر زائد خارج عن حقيقته و هو واجب آخر في حقّ المتمكّن، و لو فرض أنّه قد أخذ في مفهومه انتصاب فلا إشكال في أنّ المفهوم منه بالنسبة إلى هذا الشخص هذا المعنى، فلو أمره أحد بالقيام لا يقول: لا أتمكّن منه.

و أمّا الركوع فإن قلنا بأنّه عبارة عن نفس الهيئة الخاصّة و ليس من قبيل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 216

الفعل فالمأمور به حينئذ إبقائها و عدم تبديلها بالأضداد مع النيّة القلبيّة بكونها ركوعا، و إن قلنا: إنّه عبارة عن فعل الانحناء فلا إشكال أيضا في أنّ ركوعه بزيادة الانحناء عن الحدّ الذي هو عليه.

ألا ترى لو قال له أحد: اركع تعظيما للأمير، لا يقول: إنّي لا أتمكّن من الركوع، بل يخفض ظهره يسيرا بعنوان التعظيم، فإذا كان المأمور به في الصلاة هو الركوع التعظيمي فيكون هذا مصداقه بالنسبة إلى هذا الشخص.

إنّما الإشكال في الفرض الآخر

و هو من كان انحنائه بالغا أقصى حدّ الركوع، فهل ركوعه أيضا الانحناء الزائد يسيرا، أو تبديل تكليفه إلى الإيماء، لعدم تمشّي الركوع منه؟

توضيح المقام يحتاج إلى تمهيد مقدّمات:
الاولى: إنّه ليس لنا حالة واسطة بين القيام و القعود،

بل كلّما ارتفع عن حالة القعود و خرج عن حدّه دخل في حدّ القيام، و يشهد بذلك موارد إطلاقات القيام عند العرف، حيث يرون القيام شيئا و انتصاب الظهر شيئا آخر زائدا عليه لا داخلا في مفهومه، و يرون تحقّقه في حقّ الراكع على وجه الحقيقة، غاية الأمر أنّ هذا الفرد مخصوص باسم خاصّ و هو الركوع، فهو قسم القيام لا قسيمه.

و لا ينافي هذا ما سبق منّا من إنكار القراءة في حال النهوض أو الهويّ مستندا إلى خروجه عن كلتا الوظيفتين المستفادتين من الأخبار أعني: الصلاة القياميّة و الجلوسيّة، فإنّ ذلك الإنكار مستند إلى عدم قرار البدن في حالتي النهوض و الهويّ كجسم الطائر في حال الطيران، حيث حنّه ليس في محلّ معيّن من المسافة، بل ما دام طائرا يكون بين الحدّين، فهكذا الشخص في حالتي النهوض أو الهويّ.

الثانية: إنّه يعتبر في الركوع الصلاتي وقوعه عن قصد التعظيم

و إن كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 217

لا دخل له في صدق مفهومه، نعم له دخل في صدق مفهوم السجود، فما كان هناك محقّقا للماهيّة يكون قيدا هنا للمطلوبيّة، غاية الأمر تارة يقصد ذلك تفصيلا، و اخرى إجمالا، كما إذا قصد إتيانه امتثالا للأمر الوارد به من الشارع، فإنّه قصد لذلك العنوان إجمالا، فإنّ الركوع المأمور به شرعا هو ما كان صادرا بعنوان التعظيم.

الثالثة: إنّه يعتبر إحداث الركوع

و لا يكفي إبقاء ما كان منه حادثا، كما إذا ركع بقصد أخذ شي ء من الأرض ثمّ قصد بإبقاء ركوعه تعظيم المولى، و هذا بخلاف الحال في القيام المأمور به في الصلاة، فإنّه لو كان قائما لداع نفساني يجوز له إبقاؤه لتكبيرة الإحرام.

الرابعة: إنّ من بلغ حدّ أقصى الركوع الصلاتي يتحقّق منه مسمّى الركوع التعظيمي حقيقة عند العرف،

ألا ترى أنّ الشخص المذكور يخفض ظهره أزيد من هيئة الحاصلة في محضر السلاطين و الأمراء و يحتسب ذلك منه تعظيما حقيقة لا تجوّزا، إلّا أنّه مع صدقه العرفي كذلك خارج عن الحدّ الذي أمر به الشارع، فكما أنّ ما قبل أوّل حدّ الركوع الشرعي غير مجز في الصلاة و إن كان ركوعا حقيقة، فكذلك ما تجاوز عن الأقصى أيضا يكون بهذا المنوال.

إذا تمهّدت هذه المقدّمات فنقول:

أمّا البالغ حدّ أقصى الركوع الغير المتمكّن من الرفع و لو إلى أوّل حدّ الركوع الشرعي و لو بمعونة عصا و نحوه لا إشكال حسب ما مضى من المقدّمة الاولى في تكليفه القيامي، فإنّ ما هو موجود فيه مصداق حقيقي للقيام، و إنّما المنتفي في حقّه انتصاب الظهر و هو ساقط مع العجز.

فلا يستشكل بأنّ هذا الشخص غير قادر على القيام فلا بدّ أن يجلس للقراءة، و لا موقع للرجوع إلى قاعدة الميسور بعد تعيين الأخبار وظيفة العاجز عن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 218

القيام في الجلوس، فإنّك عرفت أنّ هذا الشخص قادر على القيام، فلا ينتقل إلى الجلوس، هذا حال قراءته.

و أمّا ركوعه فمقتضى المقدّمة الأخيرة عدم تمشيه منه بالحدّ الذي اعتبر فيه شرعا، لأنّه إن وقف بهذه الحالة و ضمّ قصد التعظيم لم يتحقّق منه إحداث الركوع، و إنّما تحقّق إحداث القصد، و قد كان المعتبر هو الأوّل، و إن تجاوز عنها و ضمّ القصد صدق عليه إحداث الانحناء التعظيمي و إن كان لم يصدق إحداث أصل الانحناء، بل يصدق أنّه صار من مرتبة من الانحناء إلى مرتبة اخرى منه، و لكن خرج عن الحدّ الشرعي، فلا بدّ أن ينتقل إلى البدل و هو الإيماء بالرأس، و إن أراد

الاحتياط يأتي بالإيماء و ذكر الركوع، و يأتي أيضا بالانحناء المتجاوز عن الأقصى و بالذكر أيضا بقصد رجاء المطلوبيّة و الاحتياط.

و أمّا من لم يبلغ انحناؤه إلى الحدّ الأقصى فحال قيامه للقراءة قد مضى، و أمّا حال ركوعه فمقتضى ما تقدّم كفاءة انحنائه أزيد ممّا فيه بقصد التعظيم، فإنّه بضميمة هذه الخصوصيّة أعني الركوع التعظيمي يصدق في حقّه الإحداث، و المفروض عدم خروجه بذلك عن الحدّ المعتبر شرعا، فليس له الانتقال إلى البدل و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 219

الفرع الرابع لو نسي الركوع حتّى سجد
اشارة

فالمشهور بطلان صلاته، و ذهب الشيخ إلى أنّه إذا كان ذلك في الركعتين الأخيرتين من الرباعيّة أسقط السجدة و قام فركع و أتمّ صلاته، و قد مرّ الكلام في المسألة في صورة نسيان الركوع إلى أن سجد السجدتين، و المقصود هنا التعرّض لشقّها الآخر و هو النسيان إلى أن سجد سجدة واحدة.

كيفيّة اعتبار الترتيب بين أجزاء الصلاة

و لا بأس بالتعرّض أوّلا لبيان كيفيّة اعتبار الترتيب بين أجزاء الصلاة التي منها الركوع، حيث اعتبر ترتّب السجود عليه و أنّ اللازم على كلّ نحو متصوّر منه ما ذا، ثمّ النظر في الأدلّة الخاصّة بالمسألة.

فنقول و على اللّٰه التوكّل و بأذيال آل العباد صلوات اللّٰه عليهم التشبّث و التوسّل: إنّه قد يقال: إنّ المتصوّر بحسب مقام الثبوت من اعتبار الترتيب بين أجزاء المركّب المأمور اثنان لا ثالث لهما.

الأوّل: أن يعتبر في عرض سائر الأجزاء في نفس المأمور، فالمأمور به كما أنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 220

ملتئم من الحمد و السورة و الركوع، كذلك من الترتيب بين هذه الأجزاء المعتبرة فيه، فلو قدّم السورة على الحمد فقد أتى بالسورة التي هي جزء، و كذلك الحمد الذي هو جزء، و إنّما أخلّ بالجزء الثالث الذي هو تقديم الحمد على السورة.

و لازم هذا الوجه أنّه إذا صدر خلاف الترتيب سهوا كان مشمولا لحديث لا تعاد المخصّص لجزئيّة غير الخمسة المستثناة بغير حال السهو، و المفروض عدم كون الترتيب من جملة الخمسة و لا من قيودها، من غير فرق بين دخوله في ركن متأخّر، كما إذا قدّم السورة على الحمد و تذكّر بعد الركوع و بين عدمه، كما لو تذكّر في المثال قبل الركوع، فإنّه بعد فرض حصول ذات السورة و الحمد بوصف الجزئيّة

للصلاة فقد مضى محلّ الترتيب المنسي، و لا يمكن ثانيا تداركه.

و الثاني: أن يعتبر قيدا في نفس الأجزاء، فالسورة ليست بذاتها جزءا، بل المقيّدة بترتّبها على الحمد، و كذلك الحمد ليس الجزئيّة لمطلقها، و لازم هذا الوجه أنّه لو أخلّ بالترتيب سهوا أتى بالجزء المنسيّ ترتيبه و ما بعده، من غير فرق أيضا بين الصورتين، لأنّه بعد الدخول في الركن مثل الركوع أيضا لو عاد و أتى بالسورة مثلا ثمّ بالركوع لا يوجب زيادة الركن، لأنّ الركوع الذي وقع أوّلا كان صورة ركوع لا ركوعا صلاتيّا، لفقدانه قيد الترتيب المعتبر فيه.

و يؤيّد هذا الوجه، بل يدلّ عليه ما ورد من إلقاء السجدتين عند نسيان الركوع و التذكّر بعدهما، هذا.

و لكنّ المفتي به عندهم لا ينطبق على شي ء من الوجهين المذكورين، فإنّهم رضوان اللّٰه عليهم يفرّقون بين حكم الصورتين، أعني: صورة الدخول في الركن و عدمه بإمكان التدارك و بقاء المحلّ مع عدم الدخول و مضيّ المحلّ و عدم إمكان العود، لزيادة الركن مع الدخول، و لا يعلم وجه لما ذكروه ينطبق على القاعدة، فإنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 221

اعتبار الترتيب بين الأجزاء من الأركان و غيرها على نسق واحد، و ليس في الأركان قيدا للعمل و في غيرها قيدا في الواجب.

و الذي تفصّى به شيخنا الأستاذ دام بقاه عن هذا الإشكال هو اختيار وجه ثالث و هو أن يقال: إنّ الأجزاء اعتبرت في المركّب في لحاظ الترتيب لا بقيده، نظير ما يقال في مبحث مقدّمة الواجب من الوجوب تعلّق بها في لحاظ الإيصال لا بقيد الإيصال، و ما يقال في مسألة استعمال اللفظ في أكثر من معنى من أنّ الواضع وضع الألفاظ للمعاني

في حال الوحدة، لا بقيد الوحدة، و كما يمكن أن يقال: إنّ اعتبار داعي الأمر في العبادة يكون في لحاظ داعويّة الأمر لا بقيدها.

معنى قصد الإيصال في المقدّمة الواجب

و تفصيل هذا الإجمال أنّه وقع الخلاف في مقدّمة الواجب على القول بالوجوب في أنّ الوجوب هل تعلّق بالمقيّد منها بعنوان الإيصال، أو بذاتها بدون هذا القيد؟ فذهب المشهور إلى الثاني، و طعن بعضهم على القائل باعتبار قيد الإيصال بأنّه مستلزم لمحاذير عقليّة فصّلت في محلّها، و أنّه من مخالفة الوجدان بمثابة تضحك منه الثكلى، و طعن القائل باعتبار الإيصال على المشهور بأنّ اللازم من مذهبكم جواز أن يدخل في الأرض المغصوبة معتذرا بأنّه في طريق إنقاذ النفس المحترمة، ثمّ نام هناك من دون ترتّب الإنقاذ على هذا التصرّف، و هذا ممّا يبكي العريس. فتحصّل أنّ كلّا من طرفي المسألة بحيث يلزم منه محذور بديهي.

و لهذا وقع التصالح بينهما في كلام بعض المحقّقين المحشّين للمعالم بأنّ الواجب هو ذات المقدّمة، لكن في لحاظ الإيصال لا لقيده، و المقصود أنّه تارة: يكون هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 222

التقييد ملحوظا بعنوانه و بالمعنى الاسمي، كأن يقول: أطلب النصب الموصل إلى الكون على السطح، و هذا ممّا يترتّب عليه التوالي الفاسدة.

و اخرى: يكون ملحوظة بإطلاقها، و هذا أيضا خلاف الوجدان.

و ثالثة: يلاحظ كلّ قدم قدم، لكن في حال تواصلها و تسلسلها في الوجود إلى أن يتّصل سلسلتها إلى فعل المأمور به، فإذا نظر إلى المقدّمة و الحال أنّها في ذهنه متلبّسة بهذا التركيب و الشكل انقدح في نفسه المطلوبيّة و لا يحتاج إلى التقييد، لأنّه في هذا اللحاظ يرى القيد حاصلا، فالتقييد غير محتاج إليه.

و أمّا إذا تبدّل صورتها في الذهن بحالة

انفكاك كلّ واحدة عن الآخر أو عن المأمور به فلا يرى مطلوبيّة من نفسه، و هذا معنى التقييد، فإنّ المطلوبيّة يدور مدار وجوده و عدمه، و لكن ليس تقييدا اصطلاحيّا أعني ملحوظا بعنوانه و بالمعنى الاسمي، بل التقيّد الواقعي اللحاظي، و بعبارة أخرى ما هو بالحمل الشائع تقيّد، لا التقيّد بمفهومه.

و لعلّ هذا أيضا مراد المحقّق القمّي قدّس سرّه حيث قال: إنّ الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني في حال الوحدة لا تقيّدها، و جعل الاستعمال في الأكثر من الواحد استعمالا في غير ما وضع له.

و لا يرد عليه الإشكال بأنّ مجرّد صدور الوضع حال الوحدة إن رجع إلى التقييد كان باردا و خلاف ما نرى بالوجدان في أوضاعنا الصادرة منّا، و إن لم يرجع إليه لا يوجب تخلّفه صيرورة الاستعمال في غير ما وضع له.

و دفع الإشكال بمثل ما مرّ من أنّه و إن لم يلحظ المعنى مقيّدا، و بعبارة أخرى:

لم يشترط الاستعمال في المعنى عند الوحدة، لكن إنشائه وقع على المعنى في لحاظ الوحدة، فإنّه حين الوضع لم يتعلّق نظره باثنين، بل بالحيوان المفترس مثلا منفكّا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 223

عن الرجل الشجاع، و هذه الصورة الذهنيّة غير الصورة الأخرى، أعني: ملاحظته مجتمعا مع الرجل الشجاع، فإذا كان الموضوع له المعنى بتلك الصورة فلا وجه لسرايته إليه بالصورة الأخرى.

و يمكن دفع الإشكالات الواردة في تصوير اعتبار داعي الأمر في المأمور به من الدور و غيره أيضا بهذا الوجه، فإنّ الأمر إيجاد بالعناية و تحصيل للفعل من جوارح العبد، و في هذه الجهة و كيفيّة التأثير حاله حال العلل التكوينيّة، فكما أنّ العلّة التكوينيّة لا يعقل أن يؤثّر في الطبيعة المطلقة من حيث التسبّب

عنها و عن غيرها، بل لا محالة في الحصّة المضيّقة بتسبّبها منها، فكذا الحال في العلّة التشريعيّة التي هي إيجاد بالعناية، فهو في هذا النظر لا يرى تفكيكا بين الأمر و الفعل في الخارج، و لا يرى الفعل المتسبّب من غير هذا السبب، فلا حاجة له إلى التقييد، لكون القيد حاصلا في هذا النظر، و على هذا يكون الأصل في الأوامر هو التعبّديّة إلى أن يعلم من الخارج عدم مدخليّة هذا القيد اللّبّي في الغرض.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى ما نحن فيه فنقول: إنّ الآمر تعلّق أمره بذوات الأجزاء التي اعتبر المأمور به ملتئما منها، لكنّها في ذهنه متّصفة بوصف ترتّبها في الوجود من أوّلها إلى آخرها، بحيث لو تبدّلت عنها هذه الصورة الذهنيّة بنقشة اخرى على خلاف ذلك الترتيب لا يرى في نفسه مطلوبيّة لها، فذوات الأجزاء اعتبرت جزءا للمركّب، لكن في لحاظ الترتيب لا بقيد الترتيب.

و حينئذ نقول: إذا سها عن الترتيب في غير الأركان و لمّا يدخل في الركن فالمأتيّ به غير مطابق مع النقشة التي بها صارت الأجزاء مأمورا بها، فيكون غير مجزية، و المفروض عدم زيادة الركن لو عاد و تدارك، فيجب عليه ذلك.

و أمّا بعد ما دخل في الركن فمقتضى القاعدة الأوّليّة أيضا عدم الإجزاء بجميع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 224

ما أتى به على خلاف الترتيب الذي منه ذلك الركن، فإنّه صورة الركن و ليس بركن حقيقة، فلا يلزم زيادة الركن الصلاتي لو عاد و تدارك، لكن منعنا و عارضنا الإجماع القائم على أنّ زيادة الركن و لو كان صوريّا بمعنى أن يكون فاقدا للنقشة الذهنيّة الموجودة في ذهن الآمر، لا بمعنى أن يكون فاقدا لما اعتبر

فيه بعنوان القيديّة مبطلة، فلو عاد و ندارك يلزم بطلان الصلاة من حيث هذه الزيادة و لو لم يعده فبطلان صلاته لو كان مستندا إلى نقص الترتيب الذي وقع سهوا و هو خلاف حديث لا تعاد المخصّص للجزئيّة بغير حال السهو.

فإن قلت: لا حاجة إلى هذا البسط و التفصيل، إذ رجع حاصل ما قلت إلى أنّ الوجه في عدم العود و التدارك بعد الدخول إنّما هو الإجماع القائم على أنّ زيادة الركوع و لو صورة مبطلة، و إلّا فعلى حسب القاعدة المحلّ باق، و لمّا ينقض، و إذا رجع الأمر إلى التمسّك بالإجماع فأيّ فرق بين أن نقول باعتبار الترتيب في الأجزاء بنحو ما ذكرت من اعتبار لحاظه و بين اعتباره فيها بنحو التقييد بالمعنى الاسمي، و ما وجه التحاشي من الثاني و اختيار الأوّل بعد عدم إمكان إتمام المطلب على كلّ حال على طبق القاعدة بدون الحاجة إلى التماس دليل من خارجها؟

قلت: الفرق أنّا نرى عدم إجماعهم، بل إجماعهم على العكس بالنسبة إلى الزيادة الصوريّة في الركوع إذا كانت فاقدة لبعض الشرائط المعتبرة قيدا، مثل أن يأتي بصورة الركوع لا بقصد التعظيم الصلاتي، بل بقصد آخر من حكّ البدن أو أخذ شي ء من الأرض و نحو ذلك، فلو كان الإجماع قائما على مطلق إبطال الزيادة الصوريّة لكان اللازم الحكم بالبطلان في مثل هذا المثال، و من المسلّم بينهم عدمه.

فإن قلت: التمسّك بحديث لا تعاد محلّ إشكال في صورة نسيان السورة و التذكّر في الركوع، من حيث إنّ الركوع وقع أيضا ناقصا لنقصان قيده، و هو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 225

وقوعه عقيب السورة، فاللازم الحكم بالبطلان بمقتضى الاستثناء في الحديث.

قلت: لنا نقيصة و

زيادة و وقوع في غير المحلّ، و العرف في أمثال المقام شاهد بأنّ الركوع في المثال من قبيل الثالث، فيقولون: إنّ الركوع ليست زيادة و لا ناقصة، و إنّما وقع النقصان من ناحية السورة، فالركوع هو الركوع الصلاتي، لكن كان حقّه أن يقع قبله السورة، فالنقص من ناحيتها لا من ناحيته.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنرجع إلى مقتضى الأخبار الخاصّة فنقول و على اللّٰه التوكّل: قد عرفت في أوّل مبحث الركوع صحيح رفاعة «1»، و موثّق إسحاق «2»، و خبر أبي بصير «3» و السؤال في الأوّل عن نسيان الركوع حتّى يسجد و يقوم، و في الثاني و الثالث عن نسيانه مطلقا و الجواب في الأوّل و الثاني بالاستقبال، و في الثالث بالإعادة، و ظاهرها كما لا يخفى هو الحكم بالبطلان، حتّى لو تذكّر في السجدة الواحدة، و قد عرفت أيضا ما يعارضها من صحيح محمّد بن مسلم على اختلاف نسخته الحاكم بإلقاء السجدتين و البناء على صلاته على التمام، و قد أفتى بمضمونه أيضا بعض الأصحاب رضوان اللّٰه عليه.

لكن في بعض نسخة في ذيل الرواية شي ء مخالف للإجماع و هو قوله:

و إن لم يستيقن إلّا بعد ما فرغ و انصرف فليقم و ليصلّ ركعة و سجدتين و لا شي ء عليه، لأنّ المراد بقرينة قوله: «ليصلّ» هو السجدتان للصلاة، لا سجدتا السهو، و إلّا لم يصحّ إطلاق قوله عليه السّلام: «ليصلّ» فإنّ الكلام في قوّة قوله عليه السّلام: «ليصلّ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 226

ركعة

و ليصلّ سجدتين» و اشتمال الرواية على مخالف الإجماع و إن لم يضرّ بحجّيّة سائر فقرأته و إن هو إلّا كالعامّ المخصّص، فإنّ دليل الحجّية قد خرج عنه هذه الفقرة و بقي الباقي تحته، لكن هذا في الحجّية الذاتيّة، و لا ينافي أن نجعله من الموهنات عند التعارض، بمعنى أن يرجّح الخبر المعارض الخالي عن هذا الموهن على المشتمل عليه كما في مقامنا، فإنّ الأخبار السابقة مع الخبر المذكور متعارضة و لا جمع عرفي بينها.

و حمل الاستئناف و الاستقبال على إعادة نصف الصلاة أو ربعها أو نحو ذلك، و بعبارة أخرى: على الإعادة من موضع النسيان بعيد غايته، و ليس بجمع مقبول عند العرف.

و إذن فيتعيّن الأخذ بسائر الأخبار بناء على التعدّي في باب المرجّحات من المرجّحات المنصوصة إلى مطلق المزيّة الموجودة في أحد الخبرين.

و حينئذ نقول: لا مساس ظاهرا لتلك الأخبار بمسألتنا و هي التذكّر في السجدة الواحدة، لأنّها بين ما ذكر فيه اسم السجود، لكن اقترن بما لا يصلح عمومه للسجدة الواحدة، و هو قوله: حتّى يسجد و يقوم، و بين مطلق لنسيان أن يركع، و ظاهره هو النسيان الرأسي و عدم التذكّر إلّا بعد الفراغ، و لا أقلّ من الشكّ، فلا دليل على البطلان بالنسبة إلى السجدة الواحدة، و مقتضى القاعدة بقاء المحلّ للتدارك، لعدم استلزامه إلّا لزيادة سجدة واحدة، و هي غير موجبة للبطلان، لعدم كونها من الأركان، و لكن لم يظهر الفتوى بالصحّة من أحد، و إذن فالاحتياط بالإتيان ثمّ الإعادة ممّا لا ينبغي تركه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 227

الفرع الخامس لو انحنى بقصد الركوع فنسي في الأثناء و هوى إلى السجود فللمسألة صور:
اشارة

الاولى: أن يكون النسيان قبل الوصول إلى حدّ الركوع و التذكّر بعد التجاوز عن حدّه حتّى الأقصى منه.

و الثانية:

هذه الصورة، لكن مع التذكّر قبل التجاوز عن الأقصى.

الثالثة: أن يكون النسيان بعد الوصول إلى حدّ الركوع و التذكّر بعد التجاوز عن الأقصى.

و الرابعة: هذه الصورة، لكن مع التذكّر قبل التجاوز عن الأقصى، و ذلك بأن يكون قصده الإجمالي للركوع باقيا إلى حدّ أوّل الركوع، ثمّ ذهل و هوى بقصد السجود فالتفت عند الوصول إلى أقصى حدّه.

أمّا الصورة الاولى:

فلا إشكال لو قام منتصبا ثمّ يهوي بقصد الركوع، لعدم استلزامه زيادة الركوع و هو واضح، و لا زيادة القيام المتّصل بالركوع، فإنّ القيام المتّصل بالركوع لا دليل عليه سوى الإجماع، و الظاهر من كلماتهم إرادة القيام الذي لم يتخلّل بينه و بين الركوع الشرعي الصلاتي شي ء خارجيّ، لا سكون و لا أمر خارج عن الركوع، و لهذا نقل شيخنا الأستاذ طاب ثراه أنّه كان يواظب على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 228

اتّصال ركوعه بالقيام سريعا لئلّا يتخلّل سكون في أثناء الهويّ فينفصل الركوع الشرعي عن القيام، و من المعلوم في مسألتنا أنّ القيام الأوّل قد انفصل عن الركوع الشرعي، فلا عبرة به.

نعم لو فسّرناه بالأعمّ منه و من المتّصل بالركوع العرفي تعيّن في مسألتنا القيام منحنيا بهيئة الركوع إلى محلّ النسيان ثمّ الهويّ منه إلى المحلّ الشرعي، لحصول القيام المتّصل بناء على هذا التفسير، و أمّا على الأوّل فلو فعل هكذا لا يكون مجزيا، لإخلاله بالقيام المذكور.

و من هنا يظهر الحال في الصورة الثانية،

فإنّ الحكم فيها أيضا مبنيّ على التفسيرين المذكورين للقيام المتّصل بالركوع، فعلى التفسير بالمتّصل بالركوع الشرعي يجب الانتصاب قائما، ثمّ الهويّ بقصد الركوع، و على التفسير الآخر يجب الانحناء متقوّسا إلى حدّ النسيان، و لا يجوز الانتصاب، لاستلزامه زيادة القيام المتّصل بالركوع الذي عدّ من الأركان و إن كان لا يلزم زيادة الركوع.

و أمّا الصورة الثالثة:

و هي ما إذا نسي بعد الوصول إلى حدّ الركوع و تذكّر بعد التجاوز عن أقصاه إلى قرب السجود.

فالتكلّم فيها يبتني على ذكر مقدّمة و هي أنّه لا إشكال في اعتبار القصد في الركوع الشرعي، لا بمعنى قصد الأمر، بل بمعنى قصد الخضوع الذي هو المعتبر في ماهيّة السجود عرفا، و يتحقّق و لو مع الحرمة، كما في سجود الصنم أو سجود الحائض في الصلاة، غاية الأمر عدم اعتباره في الركوع في ماهيّته بمعنى عدم توقّف تحقّق ماهيّته على حصوله بقصد الخضوع، بل يتحقّق و لو كان لأجل وضع شي ء على الأرض أو رفعه مثلا، كما يتحقّق بقصد التعظيم، و لكنّ المعتبر منه في الصلاة هو خصوص ما كان بالقصد المذكور.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 229

و لهذا لو أتى بركوعين، أحدهما لا بقصد التعظيم فليس هذا بزيادة ركوع، و أمّا إذا أتى بالاثنين كليهما بقصد الخضوع و إن كان مشرّعا في أحدهما و محرّما كان من زيادته.

كما لا إشكال أيضا في اعتبار الأحداث في الركوع الصلاتي، فإبقاء الانحناء لا يكفي في الفراغ عن عهدة الركوع الصلاتي.

و كما أنّ من انحنى لغير غرض الخضوع ثمّ تبدّل قصده بعد الوصول إلى الحدّ الشرعي إلى قصد الخضوع لا يحتسب بركوعه هذا، كذلك من هوى إلى مقدار بغير قصد الخضوع ثمّ تبدّل من الوسط إلى

القصد المذكور إلى أن يبلغ الحدّ الشرعي كان غير كاف أيضا، لأنّ معنى الأحداث في حقّ القادر إحداث الهيئة الانحنائيّة من الهيئة القياميّة بقصد الخضوع، فإذا حدّده الشرع بالحدّ الخاصّ فاللازم وقوعها من الهيئة القياميّة إلى ذلك الحدّ بالقصد المذكور حتّى يتحقّق عنوان الإحداث، و إلّا لا يقال: إنّه ركع، بل إمّا يقال: زاد في انحنائه، أو يقال: بقي على انحنائه.

و بالجملة، لا إشكال في اعتبار القيدين المذكورين في الركوع المعتبر في الصلاة.

و هل هنا قيد ثالث معتبر في ماهيّته و هو الانتهاء إلى الحدّ و الانقطاع إلى غاية، فلو لم ينقطع، بل اتّصل هويّه حتّى خرّ على الأرض لا يصدق في حقّه اسم الركوع، بل اسم الهويّ، و لا نعني من الانقطاع حصول استقرار له في حالة انقطاع الهويّ، بل و لو كان عند الانقطاع متزلزلا أو ارتفع بلا مهلة.

فالذي يظهر من شيخ الجواهر قدّس سرّه تقوية عدم الاعتبار، فجعل صورة النسيان بعد الوصول إلى حدّ الركوع من باب نسيان الذكر و الطمأنينة، و الذي قوّاه بعض الأعاظم اعتباره، و لهذا حكم بالانتصاب.

و لا إشكال في الحكم بناء على اختيار كلّ من الشقّين، بمعنى أنّا لو قلنا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 230

باعتبار الانتهاء و الانقطاع في مفهوم الركوع فلا إشكال في أنّ الحكم في المسألة المذكورة هو العود إلى الانتصاب، كما كان هو الحال في الصورتين المتقدّمتين بناء على أحد الوجهين، لأنّ ما وقع منه في الخارج مركّب من قطعتين من الهويّ، إحداهما و إن كان واقعا بقصد الخضوع، و لكن ليس منتهيا، و الآخر و إن كانت منتهية، لكن ما وقعت بالقصد و تجاوزت عن الحدّ، فالمركّب من هاتين القطعتين أيضا

ليس بركوع معتبر.

فالقيام لم يتّصل بالركوع المعتبر بناء على أحد الوجهين في الصورتين المتقدّمتين، فيجب عليه الانتصاب قائما و الإتيان بالركوع المستأنف.

و لو قلنا بعدم اعتبار الانتهاء في مفهومه فلا بدّ أن يقال بأنّ النسيان في المسألة المذكورة قد تعلّق بالذكر و الطمأنينة، و أمّا الركوع فقد وقع في محلّه، لأنّ المفروض بقاء القصد إلى وصول الحدّ الشرعي، فالمنسيّ واجب آخر غير الركوع، و لا يوجب السهو عنه البطلان، و ليس محلّ التدارك باقيا، لأنّه إن عاد منحنيا إلى الحدّ الشرعي فليس هذا ركوعا مبدوّا به من القيام، بل بدأ به من حالة الهويّ القريب من السجود، و قد جعل محلّ الذكر و الطمأنينة شرعا هو الركوع الذي حصل و نشأ عن حالة القيام.

ألا ترى أنّ أحدا لو مضى من قم إلى بلدة كاشان يقال: إنّه جاء من قم، و أمّا إذا مضى من حوالي البلدة إلى بلدة أصفهان، ثمّ رجع منها إلى بلدة كاشان فلا يقال: إنّه جاء من قم، بل يقال: جاء من أصفهان، فإن كان الواجب لمن جاء من قم إلى كاشان إيجاد ذكر مخصوص فلا يجب على هذا الشخص.

فكذا في المقام، بل نقول في المقام بأنّه لا يجب عليه رفع الرأس الواجب من الركوع، لأنّ الانتصاب عقيب الركوع ليس واجبا مستقلّا، بل صار واجبا بمقتضى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 231

الأدلّة بعنوان كونه رفعا للرأس من الركوع، و لا يسمّى لهذا الذي انحنى إلى قرب السجود إذا صار مستقيما أنّه رفع رأسه من الركوع.

هذا هو الكلام بناء على اختيار كلّ من الشقّين.

و أمّا الكلام في أنّ المختار منهما ما ذا، فالإنصاف عدم الجزم بشي ء من الطرفين، لا بعدم الاعتبار كما

قوّاه شيخ الجواهر قدّس سرّه، و لا بوجوده كما اختاره بعض الأعاظم قدّس سرّه.

و إذن فالمرجع هو الأصل العملي، و هو في أمثال المقام من دوران الأمر بين الإطلاق و التقييد المفهومي هو البراءة كما حقّق في الأصول.

و أمّا الصورة الرابعة:

و هي ما إذا كان النسيان بعد الوصول إلى أوّل حدّ الركوع و التذكّر عند الوصول إلى أقصاه، فلا إشكال في جريان الوجهين المتقدّمين في الصورة الثالثة هنا أيضا، بمعنى أنّه لو قلنا باعتبار الانتهاء، فاللازم أن ينتصب قائما، لأنّ ما صدر منه خارجا ليس بركوع، لعدم تحقّق الانتهاء في قطعة منه و عدم تحقّق القصد في قطعة اخرى.

و أمّا إن قلنا بعدم الاعتبار كما هو مقتضى الأصل فيمكن القول هنا بوجوب الرجوع إلى الحدّ الأوّل الذي منه طرأ النسيان ثمّ الإتيان بالذكر الواجب مع الطمأنينة هناك، ثمّ رفع الرأس منه إلى الانتصاب.

و ذلك بدعوى أنّ العرف هنا يتناقض في المقال، فيقول بوجوب الرجوع و عدم الاكتفاء بإتيان الذكر في المحلّ الأقصى، و هذا يكشف عن اعتداده بهذا القدر و يحسبه زائدا على مقدار الركوع المأتيّ به بقصد الخضوع، و يقول أيضا بأنّ الشخص بعد رجوعه إلى المحلّ الأوّل يكون ركوعه ركوعا ناشئا من القيام، و هذا يكشف عن عدم اعتداده بذلك القدر اليسير و يحسبه كالعدم، و إلّا كان اللازم أن يقول: إنّه جاء

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 232

من هذا الهويّ اليسير لا من القيام.

ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بذكر خاصّ إذا خرج من البلدة حتّى وصل إلى رأس القدم العشرين، فسهى العبد و مشى واحدا و عشرين، لا يأتي بالذكر في ذلك القدم الواحد و العشرين، بل يرجع إلى القدم العشرين

و يأتي به، و أمّا لو سئل عنه: إنّك ممّ جئت؟ لا يقول: من القدم الواحد و العشرين، بل يقول:

من البلدة.

و هذا بخلاف ما إذا سها و مشى خمسين قدما مثلا، فإنّه إذا عاد إلى القدم العشرين يقول: جئت من تلك الناحية، و ليس إطلاقه الأوّل في المثال الأوّل مبنيّا على المسامحة التي يراها مسامحة كما في باب الدوران، بل يحسبه مصداقا حقيقيّا و دقّيا عنده، و الميزان في الأحكام الشرعيّة هو ما يتفاهمه العرف من الخطابات اللفظيّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 233

الفرع السادس هل التخيير في ذكر الركوع من باب الأقلّ و الأكثر أو لا؟
اشارة

قد عرفت إجزاء التسبيحة الكبرى مرّة واحدة و جواز الإتيان مرّتين أو ثلاثا، فهل التخيير هنا بين الأقلّ و الأكثر، أو أنّ الواجب هو الأقلّ و الزائد عليه يكون مستحبّا؟ ثمّ على الثاني هل له الاختيار في تعيين الواجب في أيّ منهما شاء، أو يتعيّن في الأوّل قهرا؟

فهنا مقامان:

[المقام] الأوّل:

لا إشكال في أنّ التخيير بين ذاتي الأقلّ و الأكثر بلا دخل قيد في طرف الأقلّ أصلا من المحالات، فإنّ الأقلّ بعد فرض كونه قائما بتمام الغرض الداعي إلى الإيجاب بلا دخل شي ء آخر، فإذا حصل فقد سقط الطلب، فلا يعقل بقاؤه مع ذلك حتّى يمتثل بالأكثر.

نعم يمكن دخل قيد في جانب الأقلّ مفقود مع وجود الأكثر، كقيد الوحدة، بأن يكون الغرض قائما إمّا بالواحد و إمّا بالثلاث مثلا، فلو أتى بالاثنين لما حصل من الغرض شي ء، و كقيد القصد، فيكون طرف التخيير هو الأقلّ المقصود و الأكثر كذلك.

و لا يخفى أنّ مقتضى الأدلّة عدم اعتبار قيد غير ذات التسبيحة الواحدة،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 234

و إذن فيتعيّن كونها الواجب على التعيين و كون الزائدة مستحبّة كذلك.

المقام الثاني:

بعد فرض كون صرف وجود التسبيحة واجبة و هي متحقّقة بالمرّة الاولى فلا مجال لتعيينها في الثانية أو الثالثة، لأنّ معنى ذلك تعيين الصرف في الوجود الثاني أو الثالث، و هو من المحالات، نعم يمكن أن يكون هنا عنوان للواجب لا يتحقّق إلّا بالقصد، و كذلك للمستحبّ، كما هو الحال في الظهرين، فحينئذ يدور الاتّصاف بالوجوب مدار القصد، فإن قصد الاولى كانت هي الواجبة، و إن قصد غيرها فكذلك.

و لا يخفى أنّ هذا أيضا خلاف مقتضى الأدلّة، فالمتعيّن بحسبها عدم اختيار التعيين في غير الأوّل و حصول التعيّن في المرّة الأولى قهرا، سواء عيّنها أم لا، و تعيّن البقيّة للاستحباب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 235

البحث السادس في السجود

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 237

و لا إشكال في أصل وجوبه، إنّما الكلام في تحقّق حقيقته و هو من جهات:

[الجهة] الاولى: لا إشكال في اعتبار معنى الخضوع في مفهومه،

و الظاهر أنّه ليس مرادفا للخضوع، إذ كلّ فرد من الخضوع لا يسمّى سجودا، بل المراد أقصى الخضوع الغير الممكن فوقه، و هو في كلّ شي ء بحسبه، ففي الإنسان غاية خضوعه الانكباب بوجهه على الأرض.

[الجهة] الثانية: هل لخصوص الجبهة من الوجه مدخل في مفهوم السجود،

فلا يتحقّق بوضع الخدّ أو الذقن و نحوهما من سائر أجزاء الوجه، أو أنّ كلّ ذلك داخل في مفهومه، و إنّما وجب في الصلاة خصوص وضع الجبهة من باب واجب آخر؟

[الجهة] الثالثة: هل لخصوص الأرض أو ما أنبتته مدخل في مفهومه،

بحيث لو وضع الجبهة على الخارج عن العنوانين ما كان سجودا، أو يكفي الوضع على مطلق وجه الأرض، غاية الأمر وجوب أحد الأمرين في الصلاة من باب القيد الزائد عن مفهومه؟

و لا إشكال لو جزمنا بأحد الطرفين في كلتا الجهتين، و لو شككنا فالمرجع هو البراءة، لرجوع الشكّ إلى مدخليّة القيد الزائد، أعني: خصوص الجبهة أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 238

خصوص الأرض أو ما أنبتته الأرض، و المحقّق في محلّه الرجوع إلى البراءة في الشكّ المذكور، نعم هذا بالنسبة إلى التكليف الإيجابي.

و أمّا بالنسبة إلى التكليف التحريمي المتعلّق بالسجود لغير اللّٰه فمقتضى الأصل رعاية القيود المحتملة، بمعنى أنّه لا نحكم بالحرمة إلّا في الجامع للقيدين المحتملين، و أمّا الفاقد لهما أو لأحدهما فمقتضى الأصل براءة الذمّة من التكليف بتركه.

فلو فرض ابتلاء المكلّف بكلا التكليفين في مورد، كما إذا كان في أحد البقاع المتبرّكة للمعصومين صلوات اللّٰه عليهم و قد وجب عليه سجود التلاوة فإنّه يحدث له حينئذ علم إجمالي إمّا بحرمة السجود الفاقد للقيدين أو لأحدهما تعظيما لصاحب البقعة عليه السّلام، لأنّه سجود لغير اللّٰه تعالى، و إمّا بترك الواجب الفعلي أعني: سجود التلاوة، لأنّه إن كان القيدان معتبرين و كذا أحدهما لزم الثاني، و إلّا فالأوّل كما هو واضح، و حينئذ يجب عليه رعاية الاحتياط، لمكان هذا العلم الإجمالي.

و يجب في كلّ ركعة من الفريضة سجدتان، و هما معا من الأركان يبطل الصلاة بزيادتهما عمدا و سهوا، و كذا بنقيصتهما بأن

لا يأتي بشي ء منهما رأسا عمدا و سهوا، و أمّا السجدة الواحدة فزيادتها و نقيصتها عمدا يوجبان البطلان، بخلاف ما إذا كانتا سهوا، و تحقيق هذه الأحكام يأتي في مبحث الخلل إن شاء اللّٰه تعالى.

و ها هنا إشكال معروف و هو أنّ الركن على ما فسّره الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم عبارة عمّا يوجب كلّ من زيادته و نقيصته البطلان، عمدا كان أو سهوا، و لا ينطبق هذا التفسير على المقام، لأنّ الأمر لا يخلو من حالين، إمّا بجعل الركن مجموع السجدتين من حيث هما مجموع، و إمّا نجعله الطبيعة الصادقة على الواحدة و الثنتين.

فإن جعلناه الأوّل يلزم حصول نقيصة الركن بنقصان السجدة الواحدة، لأنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 239

ترك المجموع كما يتحقّق بترك تمام أبعاضه، كذلك يحصل بترك بعضها.

و إن جعلناه الثاني يلزم حصول زيادته بزيادة السجدة الواحدة.

و هذا الإشكال كما ترى إنّما يرد على كلمات الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم في تفسيرهم للركن بما ذكر، و إلّا فبحسب الأخبار حيث إنّها خالية عن ذكر الركن و تفسيره فلا إشكال، فإنّ الدليل إذا قام على المراتب المسطورة فنحن نأخذ به، سواء اندرج تحت اسم الركن أم لا، و لهذا لا ثمرة عمليّة لهذا الإشكال.

فإن قلت: يمكن الجواب من طرف الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم بأن يقال: إنّ المراد من نقيصة الركن تركه الرأسي، لا الأعمّ منه و من تركه بترك بعض أبعاضه.

قلت: كلّا، و إلّا فاللازم الحكم بالصحّة في ما لو ترك بعض الهويّ للركوع و أتى ببعضه سهوا، و لا يقولون به، بل يجعلونه من نقيصة الركوع، كما يجعلون ترك الهويّ رأسا أيضا منها.

و الذي أجال به شيخنا الأستاذ دام ظلّه عن الإشكال هو

أن يقال: إنّ الركن عبارة عن مشاكل كلّ ما كان مقوّما فعليّا للصلاة و عمودا حاليّا لها، فإذا أتى بسجدة و سها عن اخرى فالعمود الفعلي هو هذه السجدة الواحدة، فتصير هي المتّصفة بالركنيّة، فلا يصدق نقيصة الركن على نقص السجدة الثانية.

و أمّا إذا أتى بسجدتين معا فهما حينئذ يشتركان في العموديّة الفعليّة للصلاة، نظير العمود الظاهري للبناء و الخيمة، فإنّه ما دام متّحدا كان هو ما به القوام، فإذا انضمّ بجنبه آخر كانا معا عمودين فعلا، و حينئذ فلو زاد سجدة ثالثة لا يصدق أنّه زاد الركن، لأنّ الركن الفعلي هو السجدتان بوصف الانضمام، و الواحدة غير مشاكلة معهما.

و كيف كان فواجبات السجود أمور:

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 240

منها: وضع المساجد السبعة على الأرض
اشارة

و هي الجبهة و الكفّان و الركبتان و الإبهامان من الرجلين.

و هل إرغام الأنف واجب أيضا كما حكي عن بعض الأصحاب، أو مستحبّ كما ادّعى عدم الخلاف، بل عن بعض دعوى الإجماع عليه، منشأ ذلك اختلاف الأخبار.

ففي صحيحة حمّاد: «و وضع الأنف على الأرض سنّة و هو الإرغام» «1».

و في صحيحة زرارة: «و ترغم بأنفك إرغاما، إلى أن قال: و أمّا الإرغام بالأنف فسنّة من النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله» «2».

و موثّقة عمّار عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام «قال: قال عليّ عليه السّلام: لا تجزي صلاة لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين» «3».

و مرسلة ابن المغيرة «قال: أخبرني من سمع أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: لا صلاة لمن لم يصب أنفه ما يصيب جبينه» «4».

و ظاهر هذين الخبرين هو الوجوب، و لا ينافيه إطلاق السنّة في الصحيحتين المتقدّمتين، لشيوع إطلاقها على الواجب الذي فرضه النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في مقابل فرض اللّٰه تعالى، كما ورد في القراءة و في الركعتين الأخيرتين من الرباعيّة و ثالثة المغرب، إلّا أنّها معارضة بخبر محمّد بن مصادف «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 241

إنّما السجود على الجبهة، و ليس على الأنف سجود» «1».

و حمله على إرادة نفي السجود و حمل ما تقدّم على إرادة كونه واجبا مستقلّا في السجود

خارجا عن عنوانه كوجوب كون المسجد ممّا يصحّ عليه السجود، حيث إنّه واجب شرطا في السجود و ليس بسجود فكذا هذا، يبعّده أمران:

الأوّل: صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

السجود على سبعة أعظم: الجبهة و اليدين و الركبتين و الإبهامين من الرجلين، و ترغم بأنفك إرغاما، أمّا الفرض فهذه السبعة، و أمّا الإرغام بالأنف فسنّة من النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله» «2».

فإنّ ظاهره حصر الفرق بين المواضع السبعة و الأنف في أنّها الفرض و هذه السنّة، فلو كان للإرغام عنوان مستقلّ غير السجود لكان الفرق في أمرين، أحدهما في ما ذكره عليه السّلام، و الثاني في أنّها السجود، و هذا غير سجود.

و الثاني: المناسبة العرفيّة الحاصلة بين الإرغام و المذلّة، فبضميمته يصير ذلّ السجود أكمل، و هو بخلاف الوضع على ما يصحّ السجود، فإنّه لا يفهم العرف مناسبته مع السجود و الخضوع.

و بالجملة، فإذا جعل الشارع الإرغام مشروعا فالمفهوم منه عرفا كونه تكميلا للسجود و ملحوظا فيه هذا العنوان، لا عنوان آخر أجنبيّ عنه، و إذن فيدور الأمر بين كونه سجودا مستحبّا أو سجودا واجبا، و حيث إنّ الثاني مخالف مع خبر ابن مصادف الناصّ في نفي الوجوب تعيّن الأوّل، و حينئذ فيحمل قوله: لا صلاة لمن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 242

لم يصب إلخ على نفي الكمال كما في كثير من أمثاله.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 242

و يشهد لما ذكرنا أنّ التعرّض لكون

السبعة فرض ذكرها اللّٰه في كتابه فقال:

وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ فَلٰا تَدْعُوا مَعَ اللّٰهِ أَحَداً «1» و كون الإرغام سنّة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله يبعد كونه بلا فائدة في مقام العمل منظورة ترتّبها، كما كان كذلك في عدد الركعات، حيث إنّ المقصود عدم قبول فرض اللّٰه للوهم و قبول فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله له، فلو كان في المقام مجرّد كون تلك فرضا من اللّٰه و هذا من النبيّ بدون اختلاف في أثر عملي أصلا كان بعيدا غايته.

فإن قلت: لعلّ الفائدة يحصل في مقام السهو، بمعنى أنّ السهو عن السجود على الجبهة مضرّ، لكونه فرض اللّٰه، و أمّا السهو عن الإرغام فلا بأس به.

قلت أوّلا: إنّ السهو الذي لا يغتفر في الأركان هو الترك الرأسي الحاصل بانتفاء الذات، و أمّا إذا تحقّق ذات الركن و انتفى قيد من قيوده المعتبر فيه شرعا فليس هذا داخلا في السهو عن الركن الغير المغتفر.

و ثانيا: سلّمنا أنّ ترك الركن يعمّ تركه بترك قيده، و لكن ليس هذا الأثر محلّ نظر في هذا الخبر، لأنّه ليس في مقام بيان حكم السهو، بل بصدد بيان حدّ السجود و أجزائه، فلا يناسب في هذا المقام ذكر الفرضيّة و السنّية بملاحظة ظهور في غير الأثر المقصود إثباته.

و الحاصل أنّ الظاهر كون المراد هنا بالفرضيّة الإيجابيّة، و بالسنّية الاستحبابيّة.

بقي الكلام في تحديد المواضع المذكورة و المقدار الواجب من السجود عليها.

______________________________

(1) الجنّ: 18.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 243

تحديد الجبهة

أمّا الجبهة فالظاهر أنّها مرادفة لما يقال له في الفارسيّة «پيشانى» و هو عبارة عن الموضع المسطّح الواقع فيما بين قصاص الشعر و الحاجب، فالطرفان المائلان إلى الصدغين من الحاجبين لا

يسمّى ما بينهما و بين القصاص بهذا الاسم، بل يسمّى جبينا على ما في كلماتهم في تفسير الجبين، و يدلّ عليه جعلهم الجبين معطوفا على الجبهة فيقولون: الجبهة و الجبينان.

و يدلّ على توسعة معنى الجبهة بمعنى كونه تمام مقدار المسطّح الواقع فوق الحاجبين لا خصوص المسامت منه للطرف الأعلى للأنف إلى الناصية كما توهمه بعض عبائر أهل اللغة قولهم: «أجبه» للرجل الواسع الجبهة، فإنّه لو كانت الجبهة عبارة عن الخطّ الموهوم الذي أحد طرفيه متّصل بالناصية و الآخر بطرفي الحاجبين المتّصلين بالطرف الأعلى من الأنف لم يفرض فيه توسعة.

و بالجملة، لا إشكال بحسب الظاهر في كلا الأمرين أعني: خروج الجبينين بالمعنى الذي ذكر عن حدّ الجبهة و كون تمام الداخل في الحدّ داخلا في مسمّاها بحسب العرف.

و أمّا بحسب الأخبار الواردة في المقام فلا بدّ أوّلا من التيمّن بذكرها، ثمّ النظر في أنّه هل يستفاد منها التخطئة في المفهوم العرفي أو لا؟

فنقول: منها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: سألته عن حدّ السجود؟

قال عليه السّلام: ما بين قصاص الشعر إلى موضع الحاجب ما وضعت منه أجزأك» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب السجود، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 244

و منها: الصحيح عن أحدهما عليهما السّلام «قال: قلت له: الرجل يسجد و عليه قلنسوة أو عمامة؟ فقال عليه السّلام: إذا مسّ جبهته الأرض فيما بين حاجبه و قصاص شعره فقد أجزأ عنه» «1».

و منها: الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: الجبهة كلّها ما بين قصاص شعر الرأس إلى الحاجبين موضع السجود، فأيّها سقط من ذلك إلى الأرض أجزأك مقدار الدرهم أو مقدار طرف الأنملة» «2».

و منها: خبر عمّار

الساباطي عن الصادق عليه السّلام «قال: ما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف مسجد، فما أصاب الأرض منه أجزأك» «3».

و منها: خبر يزيد عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: الجبهة إلى الأنف أيّ ذلك أصبت به الأرض في السجود أجزأك، و السجود عليه كلّه أفضل» «4».

هذه جملة الأخبار التي عثرت عليها في هذا المقام، و قد عرفت أنّه وقع التعبير فيها تارة بما بين القصاص إلى موضع الحاجب، و اخرى بما بين الحاجب إلى القصاص، و ثالثة بما بين القصاص إلى الحاجبين، و رابعة بما بين القصاص إلى طرف الأنف.

و يجمع بينها بحملها على إرادة عدم لزوم الاستيعاب و عدم كونها بمقام تحديد حدّ الجبهة و إيكاله إلى الفهم العرفي، لوضوحه و عدم احتياجه إلى البيان، و إنّما

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب السجود، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب السجود، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب السجود، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب السجود، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 245

المحتاج إليه بيان أنّ اللازم استيعابها، أو كفاية مقدار المسمّى منها، فإذا فرضنا ورود الكلّ بصدد الثاني بعد الفراغ عن المسمّى العرفي، فكلّ ما يذكر في هذا المقام محمول على المثال.

فواحد يذكر ما بين القصاص و الحاجبين، و آخر ما بينه و بين طرف الأنف، و هما منطبقان ظاهرا على الخطّ المتّصل من طرفي الحاجبين إلى الناصية، أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فلأنّه الظاهر من تثنية الحاجبين، فإنّ الظاهر منه عرفا إرادة البينيّة للقصاص و مجموع الحاجبين لا أحدهما، و هو منحصر في ما بين القصاص و طرف الأنف، لكن

حيث إنّ المقصود بذكر ذلك المثاليّة للجبهة العرفيّة في مقام عدم لزوم الاستيعاب لا يفهم منه التقييد.

و يؤيّد هذا الاحتمال اشتمال كلّ الأخبار المذكورة على لفظ الأجزاء المستعمل في هذا المقام، أعني مقام توهّم لزوم الزيادة و الاستيعاب.

و حاصل ما ذكرنا أنّ محلّ ابتلاء السائلين حيث كان السؤال عن الطول بواسطة سقوط مقدار من العمامة و الچفية العربيّة و تغطيته مقدارا من فوق الجبهة فصار ذلك سببا لبيان الأئمّة صلوات اللّٰه عليهم أنّ ذلك لا يضرّ بموضع السجود بواسطة توسعته و امتداده إلى طرف الأنف، فكلّما سقط من ذلك شي ء يبقى من موضع السجود، إذ الغالب عدم تغطية أمثال ما ذكر لتمام الجبهة حتّى طرف الأنف منها، فهذا سرّ كونهم عليهم السّلام بصدد بيان التوسعة الطوليّة و عدم التعرّض للعرض.

هذا بالنسبة إلى خبري التحديد بطرف الأنف أو بالأنف.

و أمّا موضع الحاجب و الحاجبين فيمكن إرجاعهما أيضا إلى هذا المعنى، فيراد من موضع الحاجب النقطة المسامتة للحاجبين الخالية عن الشعر، و هو ما بينهما، و يراد من الحاجبين أيضا ما فوق الأنف، إذ هو مجمع طرفيهما، فجميع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 246

الأخبار على هذا بمضمون واحد بلا اختلاف بينها.

فلا يرد على إطلاق قوله عليه السّلام: ما بين قصاص الشعر إلى موضع الحاجب إلخ أنّه صادق حتّى بالنسبة إلى الطرفين المنحدبين من الحاجب إلى سمت الصدغين، مع كونه خارجا عن الجبهة، حتّى نحتاج في إخراجه إلى التمسّك بالإجماع، فجميع الأخبار بصدد تحديد السجود من حيث الطول.

و يؤيّد ذلك أنّه لم يرد في شي ء منها السؤال عن تحديد الجبهة و لا ورد خبر ابتداء في هذا المعنى، و ليس إلّا لكونه أمرا واضحا غير محتاج إلى

السؤال، فالسؤال إنّما هو عن حدّ السجود، و المسئول عنه في هذه الجهة أيضا هو حدّه بحسب الطول، لأنّه مورد الابتلاء كما ذكرنا فذكر ما بين القصاص إلى الأنف إنّما هو على سبيل المثال لا التحديد.

و إذن فلا موجب لرفع اليد عن الإطلاقات الجاعلة لمطلق الجبهة من المساجد السبعة المقتضية لكفاية كلّ ما يصدق عليه ذلك الاسم.

هذا هو الكلام في مقام التحديد.

المقدار الواجب من السجود هو المسمّى عرفا لا مقدار الدرهم

و أمّا بيان أنّ اللازم هل الاستيعاب، أو مقدار خاصّ، أو يدور الأمر مدار صدق المسمّى عرفا؟

الظاهر الثالث، أخذا بالإطلاقات مع عدم ما يصلح للتقييد، بل صراحة جملة من الأخبار بعدم لزوم الاستيعاب و أنّ السجود على الكلّ أفضل، فلا إشكال في عدم لزوم الاستيعاب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 247

و أمّا احتمال لزوم مقدار خاصّ كمقدار الدرهم كما ينسب إلى بعض نظرا إلى التصريح به في الصحيحة المتقدّمة، ففيه مضافا إلى التصريح بطرف الأنملة و هو أقلّ منه أنّ المتبادر من أمثال هذا التعبير عرفا عدم فهم التحديد، بل بيان عدم التحديد و أنّه يكفي أيّا ما كان، كما صرّحت به سائر الأخبار، فهذا الخبر أيضا مؤيّد لما فيها.

ألا ترى أنّك تقول في مقام عدم التحديد لماء الغسل للنجاسة: إنّه يكفي بمقدار الذرّة، و ليس المراد خصوص الذرّة، و من هذا القبيل أيضا ما ورد في غسل البول عن القضيب من أنّه يكفي مثلا ما على الحشفة، فليس المقصود خصوص هذا المقدار، بل الإشارة إلى عدم التحديد.

ثمّ لو فرض الشكّ فلا أقلّ من الإجمال، فيبقى سائر الإطلاقات محكّما سالما عن التقييد، هذا تمام الكلام في الجبهة.

تحديد الكفّ

و أمّا الكفّان فقد ورد التعبير عنهما باليدين في بعض الأخبار، و بالكفّين في آخر، و الظاهر اتّحاد المراد بهما، بمعنى أنّ استعمال اليد في أمثال المقام لا ينسبق منه إلى الذهن إلّا مقدار الكفّ لا فوقه.

ألا ترى أنّه لو قال أحد: ضربت بيدي، لا يفهم منه إلّا الضرب بالكفّ دون المرفق و الساعد و الذراع، فكذا إذا قيل: اسجد على يديك لا يفهم منه عرفا إلّا الكفّان.

ثمّ على فرض الإطلاق يكون ما وقع فيه التعبير بالكفّين شاهدا

على التقييد، و حينئذ هل المراد بالكفّين خصوص ما فوق الأشاجع و هو ما يعبّر عنه بالراحة، أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 248

الأعمّ منه و من الأصابع؟ الظاهر من إطلاقه العرفي هو الثاني، فإنّ الظاهر امتداده عرفا من الزند إلى رءوس الأصابع، لا انتهائه بالأشاجع، و على فرض الشكّ يكفي إطلاق اليد في التعميم للراحة و الأصابع، هذا.

و لكن في الخبر المرويّ عن العيّاشي في تفسيره عن مولانا أبي جعفر الجواد عليه السّلام أنّه سأله المعتصم عن السارق من أيّ موضع يجب أن يقطع؟ «فقال عليه السّلام: إنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكفّ، قال: و ما الحجّة في ذلك؟ قال عليه السّلام: قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: السجود على سبعة أعضاء، الوجه و اليدين و الركبتين و الرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرافق لم يبق له يد يسجد عليها و قال اللّٰه تبارك و تعالى أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ يعني بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، فلا تدعوا مع اللّٰه أحدا، و ما كان للّٰه لا يقطع» «1».

و ظاهره أنّ وصف المسجديّة ثابت للكفّ بمعنى ما فوق الأشاجع دون ما دونه، و لهذا يقطع من الأشاجع، لأنّه ليس من اللّٰه تعالى، و أمّا ما فوقه فهو من اللّٰه تعالى، و ما كان من اللّٰه فلا يقطع.

و على هذا فلو كان السند في درجة الاعتبار فبحسب الدلالة لا عيب فيه، فيصلح لتقييد المطلقات، لكنّ العمدة عدم الركون من حيث السند خصوصا مع إعراض الأصحاب عنه.

و يمكن أن يقال: إنّ الرواية ذات وجهين:

الأوّل: ما ذكره و عليه يتعيّن تقييد المطلقات لو فرض عدم ضعف السند، و

الثاني: ما يلائم المطلقات، و هو أن يكون المراد أنّ هذا السطح قد اجتمع فيه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحدود و التعزيرات، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 249

حقّان، حقّ للّٰه و حقّ للنّاس، فحقّ الناس يمكن استيفائه بقطع الأصابع و بقطع مفصل الزند، و لكنّ الثاني يوجب فوات موضوع حقّ اللّٰه و كون الشخص بلا مسجد رأسا، فبملاحظة الجمع بين الحقّين وجب أن يقطع من مفصل الأصابع حتّى يبقى الكفّ للمسجديّة.

و أمّا في قطع الرجل اليسرى الواجب في المرّة الثانية فقد تجاوز اللّٰه سبحانه عن حقّه، فلهذا أوجب القطع من وسط القدم، فيبقى بلا مسجد.

و الحاصل أنّ هذا المعنى محتمل في الرواية إمّا مساويا للاحتمال الأوّل، و إمّا مع ظهور الأوّل في الجملة، و على الأوّل فاللازم الإجمال، و لا يسري من المنفصل إلى المنفصل، و على الثاني يبعد تقييد المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان بهذا الخبر مع هذا الظهور القابل للإنكار.

بقي الكلام في مقدار ما يجب وضعه هل هو تمام الكفّ بنحو الاستيعاب، أو يكفي و لو رءوس الأصابع، أو أصل الزند؟ يمكن أن يقال: إنّ المنساق إلى الذهن من إطلاق: ضع كفّك على الأرض بمناسبة الحكم و الموضوع هو وقوع الكفّ بمعنى الراحة، بمعنى أنّه المتعارف في مقام اعتماد البدن، فلا يعتمدون على رءوس الأصابع، بل و لا على مجموع الأصابع مبسوطة، بل و لا عليها مضمومة إلى الكفّ.

ألا ترى أنّ الساقط من الشاهق بحسب طبعه يضع يده مفروشة لا مضمومة، فإنّ أسهل الأنحاء و أقربها إلى الاستراحة و البعد عن الأذى هو افتراش الكفّ بواسطة استحكامه، دون الأصابع، فهذا الأمر الطبعي و المناسبة الطبعيّة

ربما يوجب انصراف هذا المعنى إلى الذهن من نحو وضع يده، أو ضع يدك على الأرض.

و من هنا لا يبعد القول بالاكتفاء بوضع الراحة في السجود و لو كانت أصابعه غير ملاصقة إلى الأرض.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 250

و هل يجب تمام الراحة أو المقدار المعتدّ به منها؟ لا يبعد الثاني الذي يصلح في مقام استراحة البدن وضع ثقل البدن عليه بحيث لا يخرج عن المتعارف في مقام الوضع على الأرض، هذا، و لكن لا يخفى أنّ مقتضى الاحتياط رعاية وضع المجموع حتّى الأصابع.

و قد يقال بكفاية مسمّى السجود على الكفّين أيضا كالجبهة، فلا يعتبر فيهما أيضا الاستيعاب، و يحكى ذلك عن المشهور، بل عن الفوائد المليّة و المقاصد العليّة دعوى الإجماع، و في الحدائق نسبته إلى ظاهر كلام الأصحاب إلّا العلّامة، حيث إنّه مع تصريحه في أكثر كتبه بهذا الحكم تردّد في المنتهى فقال: هل يجب استيعاب جميع الكفّ بالسجود؟ عندي فيه تردّد، و الحمل على الجبهة يحتاج إلى دليل، لورود النصّ في خصوص الجبهة، فالتعدّي بالاجتزاء بالبعض يحتاج إلى دليل، انتهى.

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه على رءوس العباد: نظر المشهور إلى إطلاق اليد و الكفّ و أنّ صدق الاسم غير منوط بالاستيعاب، فيكون الحكم في الجبهة أيضا على طبق القاعدة و لو لم يرد نصّ بكفاية مقدار الدرهم أو طرف الأنملة، و نظر العلّامة إلى أنّ الاسم و إن كان صادقا على البعض فيقال: الجبهة على بعضها و الكفّ على بعضه، إلّا أنّه خلاف المنصرف عند إضافة بعض الأفعال إليه.

ألا ترى أنّ الكفّ الخضيب لا يطلق بمجرّد خضاب رءوس الأصابع أو بعض من الراحة، بل يتوقّف على خضاب جميع ما دون الزند

ظهرا و بطنا، و كذا الحال في إضافة الوضع على الأرض إلى الجبهة و الكفّ، غاية الأمر أنّ وضع الظهر لا يكتفى به هنا، لعدم التعارف.

و أمّا البطن فيجب فيه الاستيعاب بمقتضى القاعدة إلى أن يظهر الخلاف، و قد ظهر في الجبهة لوجود النصّ، و لم يظهر هنا، و القياس ممنوع، هذا ما يمكن أن يقال

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 251

من الاستدلال للطرفين.

و لكن للنظر في كليهما مجال، أمّا الأوّل، فلأنّ إطلاق اسم اليد على أبعاضه و إن كان مسلّما، لكن بواسطة خصوصيّة المقام يمكن انقلاب الظهور و تحقّق الانصراف إلى بعض مخصوص.

ألا ترى أنّ اليد مع صدقه على جميع ما دون الكتف إلى رءوس الأصابع لو قيل: اغسل يدك بعد الغذاء، لا يفهم منه غسل المرفق، بل المفهوم غسل مجموع ما دون الزند حتّى الظهر، و كذا في الأمر بخضاب اليد، و لو قيل: اضرب فلانا بيدك، كان المتبادر بواسطة التعارف المقامي خصوص الضرب بالباطن من ما دون الزند دون الظهر و دون ما فوقه.

و من هذا القبيل ما نحن فيه، فإذا قيل: ضع يديك على الأرض فالمتعارف في مقام إلقاء ثقل البدن على اليدين ليس هو الإلقاء على المرفق أو ما فوقه، بل يختصّ بما دون الزند، و ليس أيضا الإلقاء على ظهر الكفّ، بل على البطن و لا على المسمّى و لا على الأصابع فقط، و لا على الراحة فقط، بل على المجموع من الراحة و الأصابع.

و أمّا الثاني، فلأنّ هذا المعنى لا ينطبق على الاستيعاب الذي احتمله العلّامة قدّس سرّه، فإنّ الظاهر أنّه أراد الاستيعاب الذي يضرّ به رفع بعض من إصبع واحدة أيضا، فضلا عن الزائد عنه، نعم

لم يرد الاستيعاب الحقيقي المستلزم لوصول جميع الخلل و الفرج الواقعة بين الأصابع أو الراحة، لكونه مقطوع العدم، فالمقصود هو الاستيعاب العرفي في مقابل هذا المعنى، و أمّا إذا رفع إصبعا واحدة فليس داخلا في الاستيعاب و لو بالمسامحة العرفيّة.

و الذي نحن نقول هو المعنى الذي يكون متوسّطا بين ما ذكره المشهور و الاستيعاب الذي احتمله العلّامة، فإنّه لا ينافي ما ذكرنا رفع إصبع واحدة، فإنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 252

غير خارج عن المتعارف في مقام إلقاء الثقل.

لا يقال: لعلّ نظر المشهور ليس إلى الإطلاق حتّى يرد عليه ما ذكرت من المناسبة المقاميّة الدالّة على التقييد، بل نظرهم إلى ما يستفاد من أخبار الجبهة، حيث جعل التوسعة فيها متفرّعة على مسجديّة كلّها، حيث قال عليه السّلام: الجبهة كلّها موضع السجود، فأيّما سقط من ذلك إلى الأرض إلخ، فيعلم من ذلك أنّه كلّما كان وصف المسجديّة ثابتا لمجموع ذي أبعاض يصحّ الاكتفاء ببعض أبعاضه.

لأنّا نقول: ليس مفاد قوله عليه السّلام: الجبهة كلّها موضع السجود، أنّ هذه القطعة من حيث المجموع كذلك، بل المراد أنّ كلّ جزء جزء منها كذلك، و بعبارة أخرى:

ليس المراد الكلّ المجموعي، بل الاستغراقي، فيكون حكما خاصّا بمورده، و لا يتعدّى عنه إلى غيره.

لا يقال: يمكن الاستدلال على عدم الاستيعاب بالخبر المرويّ في تفسير العيّاشي عن مولانا الجواد عليه السّلام حيث علّل وجوب كون القطع من مفصل الأصابع، لا من مفصل الزند أو المرفق بقوله عليه السّلام: «فإذا قطعت اليدين دون المرفق لم يبق له يد يسجد عليها» «1». و مفاده أنّه مع القطع من مفصل الأصابع يبقى له يد يسجد عليها، و لا يكون ذلك إلّا مع عدم الاستيعاب و

كفاية الراحة فقط بدون ضمّ الأصابع.

لأنّا نقول: قد ذكرنا سابقا أنّه من باب الجمع بين الحقّين و العدل و القسط كما في درهم الودعي حيث يحكم بالتنصيف لأجل الجمع بين الحقّين، فكذا ها هنا ينصّف الكفّ الذي بتمامه مورد حقّ اللّٰه تعالى بقطع نصفه لحقّ الناس و إبقاء نصفه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحدود و التعزيرات، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 253

الآخر لرعاية حقّ اللّٰه تعالى، و بالجملة، لا دلالة في الرواية على أزيد من هذا المعنى، و هو غير شاهد على عدم الاستيعاب.

و أمّا الركبتان فلا حاجة لنا في فهم مفهومهما إلى الرجوع إلى اللغويّين، إذ نقطع بأنّ ما نقوله بالفارسيّة (زانو) يقول له العرب: الركبة، و الظاهر أنّه ليس خصوص العظم النابت، بل هو و أطرافه جميعا مسمّى بالركبة، و كما أنّ هذا مفهوم الركبة، كذلك عندنا بالفارسيّة وضع الركبة و طرحها على الأرض، فيقال له:

(زانو زمين انداختن) و هو مفهوم مبيّن، فلا حاجة إلى الفحص عن أهل اللغة من هذا الحيث أيضا، فإنّا نعلم أنّه لا يعتبر فيه الاستيعاب، بل لعلّه من المتعذّر أو المعسّر، بل يكفي إيصال الزاوية السفلى منها إلى الأرض.

و أمّا الإبهامان فهما أيضا بحسب المفهوم مبيّنان لا إجمال فيهما، فإنّهما عبارتان عن تمام الإصبعين ظهرا و بطنا و طرفا، كما أنّ السجود عليهما أيضا له أنحاء ثلاثة، فتارة بوضع الظهر، و اخرى بوضع البطن، و ثالثة بوضع الطرف، و مقتضى الإطلاق كفاية الكلّ، لعدم ورود ما يصلح للتقييد، و ما ورد في تعليم مولانا الصادق عليه السّلام لحمّاد من أنّه عليه السّلام سجد على أنامل إبهامي الرجلين، قاصر عن إفادة الوجوب

كما لا يخفى، و ليس هنا مرسوم متعارف حتّى يوجب صرف الإطلاق إليه، و على فرض الشكّ فالمرجع البراءة.

و منها: أن ينحني للسجود حتّى يساوي موضع جبهة موقفه، إلّا أن يكون علوّا يسيرا بمقدار لبنة لا أزيد، و المستند في هذا الحكم ما رواه عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن السجود على الأرض المرتفع؟ فقال عليه السّلام: إذا كان موضع جبهتك مرتفعا عن موضع بدنك قدر لبنة فلا بأس» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب السجود، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 254

و قد يناقش في سندها بوجود النهدي، و هو مشترك بين جماعة، منهم من لم يثبت توثيقه، لكن فيه أنّ الظاهر أنّ الموجود في هذا السند هو الهيثم بن أبي مسروق، بقرينة رواية محمّد بن عليّ بن محبوب عنه، و الهيثم المذكور ممدوح في الرجال و يروي عنه جماعة من الأجلّاء كمحمّد بن الحسن الصفّار و سعد بن عبد اللّٰه و محمّد بن أحمد بن يحيى، فالخدشة من جهة السند لا محلّ لها.

و قدّر العلماء رضوان اللّٰه عليهم اللبنة بمقدار أربع أصابع مضمومة، و الظاهر أنّه بحسب المتعارف في ذلك الزمان كما يشاهد في الأبنية القديمة، و أمّا أنّ لفظة «بدنك» بالباء الموحّدة و النون، أو باليائين التحتانيين فالظاهر هو الأوّل و أنّ الثاني من قلم النسّاخ، و الشاهد عليه أمارات:

منها: مرسلة الكليني قال رحمه اللّٰه: و في حديث آخر في السجود على الأرض المرتفعة قال: إذا كان موضع جبهتك مرتفعا عن رجليك قدر لبنة فلا بأس «1»، فإنّ الظاهر أنّه إشارة إلى هذه الرواية.

و منها: أنّ الظاهر كون المقصود تعيين مقدار الانحناء

اللازم في السجود، و لا يخفى أنّه بعد مساواة مواضع الجبهة و الركبتين و الإبهامين لا يتفاوت الحال بين انخفاض موضع اليدين أو ارتفاعهما أو مساواتهما، فإنّه لا يختلف مقدار الانحناء في جميع هذه الصور.

و منها: أنّ السؤال إنّما هو عن السجود على الأرض المرتفعة، لا النقطة المرتفعة في الأرض المستوية، و لا يخفى أنّه بحسب الغالب إذا كانت الأرض في موضع الجبهة مرتفعة، فكذلك تكون مرتفعة بالنسبة إلى موضع اليدين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب السجود، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 255

إذا عرفت ذلك فنقول: لا إشكال في دلالة الرواية بحسب مفهوم الشرط و بحسب مقام التحديد كليهما في المنع عن الأزيد من مقدار اللبنة، و قد يقال: إنّ الاستدلال بحسب مقام التحديد فقط لا بمفهوم الشرط، لأنّ الشرطيّة مسوقة لتحقّق الموضوع، و لكن الحقّ أنّه بحسب كليهما تامّ.

أمّا التحديد فواضح، و أمّا مفهوم الشرط فلأنّ المفهوم من الشرط في أمثال المقام أنّه إذا لم يكن أزيد من مقدار لبنة فلا بأس، فالمفهوم أنّه إذا كان أزيد منه ففيه بأس، و إذن فالرواية وافية سندا و دلالة بإثبات الحكم المذكور.

إلّا أنّها معارضة بصحيحة عبد اللّٰه بن سنان «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن موضع جبهة الساجد أ يكون أرفع من مقامه؟ فقال عليه السّلام: لا، و لكن ليكن مستويا» «1».

و قد يقال في مقام الجمع بحمل الثانية على الاستواء العرفي الغير المضرّ في صدقه العلوّ اليسير و لو بمقدار اللبنة، فالمراد بالنفي أيضا نفي العلوّ في مقابل هذا الاستواء، و هو منحصر في ما زاد عن مقدار اللبنة.

و فيه أنّ الارتفاع التسنيمي و لو سلّمنا أنّه بمقدار اللبنة

لا يراه العرف ارتفاعا، و لكن لا شبهة في أنّ الارتفاع التسريحي و لو بمقدار اللبنة أيضا محسوب من الارتفاع، و قد فرض السائل أيضا الارتفاع، و أجاب الإمام عليه السّلام بنفيه على الإطلاق و إثبات الاستواء، و هو دالّ بظاهره على نفي العلوّ بمقدار اللبنة أيضا، فينافي الخبر الأوّل.

و لكنّ الجمع ممكن بحمل الثاني على الاستحباب، و يشهد له أيضا رواية

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب السجود، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 256

أبي بصير «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يرفع موضع جبهته في المسجد، فقال عليه السّلام: إنّي أحبّ أن أضع وجهي في موضع قدمي و كرهه» «1» هذا.

بقي الكلام في متن الرواية الاولى من حيث إنّ المراد بموضع البدن الذي اعتبر عدم علوّ موضع الجبهة عنه بأزيد من لبنة ما هو، و كيف يمكن تطبيقه على فتوى الفقهاء حيث عبّروا مكانه بالموقف، فاعتبروا عدم العلوّ الزائد عن مقدار اللبنة بين موضع الجبهة و الموقف، فإنّ الموقف عبارة عن محلّ استقرار البدن في حال القيام، و هو موضع القدمين.

و لكن قرينة المقام تشهد بعدم إرادة هذا المعنى في الرواية، بل المراد إمّا موضع استقرار البدن حال السجود و هو موضع الإبهامين و الركبتين و الكفّين، فيلزم اعتبار الاستواء و عدم العلوّ بالمقدار المذكور بين جميع المساجد السبعة، و هو خلاف ما قالوه.

و إمّا موضع استقراره حال الجلوس، فيلزم اعتبار المساواة في موضع الركبتين و الإبهامين مع موضع الجبهة، و هو أيضا خلاف ما قالوه من اختصاص ذلك بموضع القدم مع موضع الجبهة و إن كان موضع اليدين و الركبتين عاليا أو سافلا.

و يمكن أن يقال:

إنّ الظاهر كون المقصود من هذا التحديد تحديد الانحناء السجودي، و من المقطوع عدم المدخليّة في ازدياد الانحناء أو قلّته، لعلوّ موضع الركبتين أو اليدين أو انخفاضهما، بل المعيار كلّه هو موضعا الجبهة و القدمين، فمتى كانا متساويين حصل المرتبة الخاصّة من الانحناء، و متى كانا مختلفين اختلف

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب السجود، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 257

الانحناء كثرة و قلّة، فبهذه المناسبة المقاميّة يقال: إنّ المراد بموضع البدن موضع القدمين.

و منه يعلم أنّ العبرة بموضعهما حال السجود، لا حال القيام، فلو كان واقفا حال القيام على موضع منخفض، و في حال السجود انتقل إلى الموضع المتساوي مع موضع الجبهة صحّت صلاته.

لا يقال: لو أدخل مشط قدمه الذي هو أزيد من لبنة في مكان منخفض لم يتفاوت في مقدار انحنائه بعد كون محلّ الركبتين، بل و أصل القدمين مساويا مع محلّ الجبهة.

لأنّا نقول: هذا النزاع موضوعي، إذ بعد ما فهمنا أنّ المناط تحديد الانحناء نعلم أنّ كلّ ما له مدخل في ذلك يجب، و كلّ ما لا دخل له فغير واجب، و النزاع الموضوعي و أنّ الدخيل تساوي الركبتين مع الجبهة أو أصل القدمين معها أو الإبهامين معها خارج عن عهدة المقام، مع أنّ الظاهر كون الدخل لموضع الإبهامين، إذ لارتفاع المشطين مدخل في ارتفاع العجز الموجب لازدياد الانحناء و لو فرض انخفاض محلّ الركبتين، كما أنّ لانحطاطهما مدخلا في انحطاطه الموجب لقلّة الانحناء و لو فرض مساواة الركبتين بل و أصل القدم مع الجبهة.

فرع- لو وضع جبهته على موضع مرتفع بأزيد من لبنة:
اشارة

لو وضع جبهته على موضع مرتفع بأزيد من لبنة فهل يجب عليه الجرّ، أو جاز له الرفع، و هكذا الكلام لو وضعها على

النجس أو على ما لا يصحّ السجود عليه، لكونه خارجا من أجزاء الأرض و نباتها.

و التكلّم تارة على حسب ما يقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن النصّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 258

الخاصّ، و اخرى في ما يقال بملاحظته.

أمّا مقتضى القاعدة

فاعلم أنّ مقتضاها التفصيل بين ما إذا كان ما فقد من القيود المقدّمة لحقيقة السجدة عرفا أو شرعا بحيث لا يتحقّق تلك الحقيقة بغير ذلك القيد، و بين ما إذا لم يكن كذلك بل معتبرا في حال السجدة و خارجا عن حقيقتها و زائدا عليها دخيلا في الصلاة شطرا أو شرطا.

فإن كان من قبيل الأوّل و المفروض انتفائه في الوضع الأوّل، فلا يلزم من رفع الرأس زيادة سجدة، لما هو الفرض من تقوّم حقيقة السجدة بذلك الأمر المفقود، و لا إشكال في هذا.

إنّما الكلام في أنّه هل يجوز الجرّ في هذه الصورة، أو يتعيّن الرفع؟

الظاهر الأوّل، لعدم موجب للثاني سوى تخيّل اعتبار كون الوضع من أوّل وجوده معنونا بعنوان السجدة، و في هذا المقام تحقّق أوّلا غير معنون، ثمّ يجعل معنونا، لكنّه ممّا لا دليل على اعتباره، و إنّما اللازم إيجاد هذا العنوان، سواء كان بإيجاد الذات و الوصف العنواني دفعة، أم بإيجاد الذات أوّلا و توصيفها بالوصف ثانيا.

و إن كان من قبيل الثاني فاللازم هو الجرّ، و لا يجوز الرفع، لاستلزامه زيادة السجدة، لفرض تحقّقها بالوضع الأوّل، و الخطأ إنّما تعلّق بأمر آخر زائد على حقيقتها و إن كان شرطا أو شطرا في الصلاة حالها، و متى شكّ في القيد أنّه من أيّ القسمين فلا إشكال في جواز الجرّ، لأنّه المتيقّن على كلّ تقدير، كما أنّ مقتضى أصالة البراءة جواز الرفع أيضا، هذا بحسب القاعدة.

و أمّا الأخبار فهي مختصّة بما إذا وضع الجبهة على الموضع المرتفع، و أمّا ما إذا وضع على النجس، أو على ما ليس بأرض و لا نباتها فخال عن النصّ الخاصّ، و في الفرض الأوّل اختلفت النصوص.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 259

ففي بعضها الأمر بالرفع، و هو خبر الحسين بن

حمّاد «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أسجد فيقع جبهتي على الموضع المرتفع؟ فقال عليه السّلام: ارفع رأسك ثمّ ضعه» «1».

و في آخر النهي عن الرفع و الأمر بالجرّ، و هو صحيحة معاوية بن عمّار «قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: إذا وضعت جبهتك على نبكة فلا ترفعها، و لكن جرّها» «2». و النبكة بالنون و الباء الموحّدة المفتوحتين واحدة النبك و هي أكمة محدّدة الرأس، و قيل: النباك التلال الصغار.

و رواية أخرى للحسين بن حمّاد أيضا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت له عليه السّلام: أضع وجهي على حجر أو على موضع مرتفع، أحوّل وجهي إلى مكان مستو؟ فقال عليه السّلام: نعم جرّ وجهك على الأرض من غير أن ترفعه» «3».

و الأحسن أن يقال في مقام الجمع بحمل الأمر بالرفع على كونه لمجرّد الرخصة، لكونه واردا عقيب توهّم الحظر، و الأمر بالجرّ على الاستحباب و الأفضليّة، فالأمران كلاهما جائز، إلّا أنّ الأفضل منهما اختيار الجرّ، و هذا هو المفتي به عند الأصحاب من غير خلاف يعرف على ما نسبه الحدائق إليهم رضوان اللّٰه عليهم، خلافا لصاحب المدارك قدّس سرّه حيث اختار وجوب الجرّ أخذا بظاهر خبر معاوية ابن عمّار، لصحّته، و طرحا لخبر الحسين، لضعفه، و لكنّه بعد المجبوريّة بالعمل لا وجه له.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب السجود، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب السجود، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب السجود، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 260

و أمّا في صورة الوضع على النجس أو على ما ليس بأرض و لا نبات

فاختار فيها صاحب الحدائق أيضا جواز الرفع، نظرا إلى بطلان الوضع الأوّل و عدم صيرورتها امتثالا للأمر بالسجدة، فلا يقع الثاني

تكرارا للسجود المأمور به، و لكنّه خلاف ما ينسب إلى الأصحاب من الفتوى بوجوب الجرّ.

و قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة أنّه لو أحرز أنّ الفائت قيد للسجود الصلاتي و أنّ ما وقع ليس امتثالا له جاز الرفع، لعدم كون الثاني تكرارا للسجود الصلاتي، و إن أحرز أنّ الفائت اعتبر قيدا للصلاة، غاية الأمر محلّه السجود وجب الجرّ إن أمكن لتحصيله، و أمّا الرفع فهو مستلزم للزيادة العمديّة للسجود.

و حينئذ فإن أمكن الجرّ وجب، و إلّا بنى على اغتفار السهو عن ذلك الفائت و أنّ دليل الاغتفار يشمل الشرائط، أو يخصّ الأجزاء، فعلى الأوّل يحكم بالصحّة فينتصب جالسا، و على الثاني يحكم ببطلان الصلاة، هذا مع إحراز أحد الطرفين.

و أمّا لو شكّ في مورد بعد القطع بوجوبه في السجود في أنّه هل اعتبر قيدا في السجود أو في الصلاة في هذا المحلّ، فلا إشكال في جواز الجرّ، للقطع بالصحّة معه على كلّ تقدير، و إنّما الإشكال في الرفع.

فقد يقال بجوازه أيضا، لأنّا نقطع بامتثال تكليف السجود، سواء كان مطلقا أم مقيّدا، إذ لو كان مطلقا فقد امتثلناه بالمرّة الاولى، و إن كان مقيّدا فقد امتثلناه بالثانية، و كذلك نقطع بتحصيل ذلك القيد الواجب، نعم يحتمل حصول الزيادة بهذه المرّة الثانية، و هو أيضا مدفوع بأصالة عدم تحقّق الزيادة، فحال صورة الشكّ حال صورة إحراز الدخالة في السجود.

و لكنّ الحقّ أن يقال بلزوم الاحتياط بالاقتصاد على الجرّ، لأنّ المقام من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 261

موارد الشكّ في مقام الامتثال بعد القطع بثبوت التكليف، و معلوم أنّه مجرى الاشتغال، فإنّا نعلم بأنّا مكلّفون بوضع الجبهة على الطاهر مثلا في ضمن السجود الصلاتي، و نشكّ في أنّ

السجود الصلاتي هل اعتبر صرف الوجود بلا قيد حتّى يكون حاصلا بالمرّة الاولى، و على هذا التقدير يكون الوضع على الطاهر في المرّة الثانية وضعا حاصلا في غير السجود، و قد كان الواجب إيجاده في ضمنه، أو اعتبر مقيّدا بقيد طهارة المحلّ حتّى يكون غير حاصل بالمرّة الاولى و حاصلا بالثانية، و على هذا التقدير يكون وضع الجبهة في المرّة الثانية امتثالا للتكليف المعلوم، لأنّه وضع حاصل في ضمن السجود.

فنحن إذا تردّدنا بين هذين الاحتمالين فكيف يصحّ لنا القناعة بمثله في مقام امتثال ما علمناه من التكليف بإيجاد الوضع على الطاهر في ضمن السجود؟ فإنّا عالمون بهذه الجهة، غاية الأمر الشكّ في أنّه اعتبر قيدا للسجود أو للصلاة، و أمّا أنّ المعتبر كون محلّه السجود الصلاتي فغير مشكوك، و هذا المعنى غير محرز مع الرفع و محرز مع الجرّ كما هو واضح.

و يمكن أن نختار طريق آخر لوجوب الجرّ و عدم جواز الرفع في صورة الشكّ و هو أن نتمسّك بإطلاق دليل جزئيّة السجود للصلاة، فإنّا إذا شككنا في أنّ هذا الدليل هل قيّد بطهارة المحلّ مثلا بأن يكون جزئيّة السجود مقيّدة بهذا القيد أو لا، صحّ لنا رفع هذا الشكّ بإطلاق دليل الجزئيّة و أنّ ذلك الأمر واجب مستقلّ في الصلاة كالحمد و السورة لا ربط له بهذا الجزء، غاية الأمر أخذ فيه كونه مأتيّا في حال السجود، فيستكشف بذلك أنّه قيد للصلاة، و قد عرفت أنّه مع إحراز عدم الدخالة في السجود يجب الجرّ.

لا يقال: هذا الإطلاق معارض بإطلاق دليل الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 262

لأنّا نقول: دليل الصلاة أوّلا نقطع بتقييده، لأنّ قيد القيد قيد، و ثانيا:

لا إطلاق له، سواء قلنا

بالوضع للصحيح أم للأعمّ، إذ لا تظهر الثمرة بينهما في الأصل اللفظي، و إنّما تظهر في العقلي، فإنّه على الأوّل هو الاشتغال على الأصحّ، و على الثاني هو البراءة على ما هو التحقيق في الأقلّ و الأكثر.

و وجه عدم الأصل اللفظي عدم ورود أدلّة الصلاة إلّا في مقام الإهمال كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هذا بالنسبة إلى غير علوّ المسجد بأزيد من المقدار المغتفر.

و أمّا العلوّ المذكور فيمكن القول فيه بالدخالة في تحديد حقيقة السجود شرعا، و بعبارة أخرى كونه داخلا في مفهومه شرعا، لا معتبرا في كونه مأمورا به.

بيان ذلك أن يقال: إنّ الانتهاء إلى حدّ معتبر في مفهوم السجود عرفا كما قوّاه بعض في الركوع و قد تقدّم في بحثه، و هذا الحدّ كما يتحقّق عند العرف بمقدار اللبنة، كذلك بأزيد منه، و أمّا الشارع فلم يعتبر بالأزيد فالسجود عند الشارع عبارة عن الانحناء المنتهي بهذا الحدّ، فالمنتهي بما فوقه سجود عرفا، و ليس بسجود شرعا، نظير تحديد السفر شرعا بثمانية فراسخ، بحيث لو نقص منها و لو يسيرا و لو قدر شعيرة لم يتحقّق عنوان السفر الشرعي و إن كان سفرا عند العرف.

فالشارع تصرّف في العنوان، لا أنّه أضاف إليه قيدا في مرحلة الأمر و الطلب، فيكون جواز الرفع في العلوّ الأزيد من اللبنة على حسب القاعدة.

و من هنا ينقّح مطلب آخر و هو أنّ المستثنى في لا تعاد هو نفس السجود و الركوع، أعني نفس الانحناءين المنتهيين إلى الغايتين الشرعيّتين، فإنّهما السجود و الركوع عند الشارع، و ليس مجموع ما اعتبر في طلبهما و الأمر بهما بجعل الألف

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 263

و اللام فيهما للعهد، فإنّه خلاف الظاهر، بل

الظاهر نفسهما دون شرائطهما، فلو فرض تحقّق السجود ذاتا و السهو عن بعض الأمور المعتبرة فيه كوضع سائر المواضع غير الجبهة كان داخلا في المستثنى منه، و ليس ذلك المسهى بركن حتّى يوجب البطلان، بل الركن نفس هذا المحدود الخاصّ، و هو الذي يوجب البطلان نقصه و زيادته و لو سهوا.

و يتفرّع عليه أنّا و لو فرض علمنا بدخالة تلك الأمور الأخر غير عدم العلوّ الأزيد من اللبنة في السجود لا في الصلاة صحّ القول بعدم جواز الرفع لو وقعت جبهته على فاقد القيد إذا كان السجود بالحدّ المعتبر الشرعي، أعني زائدا عن مقدار اللبنة في العلوّ عن موضع الجبهة، فإنّ السجود الركني قد تحقّق، فلو أراد الرفع لزم زيادة الركن فضلا عمّا إذا علمنا أنّه قيد في الصلاة أو شككنا في أنّه قيد لها أو للسجود، فلا حاجة لنا إلى التشبّث بذيل قاعدة الاحتياط أو أصالة الإطلاق المتقدّمتين آنفا.

نعم هذا كلّه بناء على القول بأنّ الانتهاء إلى غاية معتبر في مفهوم السجود، و أمّا لو لنا بعدمه و أنّ الحدّ أمر خارج عن مفهومه كالخطّ، حيث إنّ مفهومه صادق على حال ارتسامه و عدم انتهائه، كما يصدق عليه بعد الانقطاع فالحدود كالذرع و نصفه و نحوهما خارجة عن حقيقته و مفهومه، فلو فرض تقييد الأمر بالخطّ بكونه مقدار ذرع كان قيدا في المأمور به، لا في المفهوم.

و هذا بخلاف ما لو قلنا: إنّ مفهوم الخطّ عبارة عن الذي انتهى إلى الحدّ و انقطع، فإنّه لو أمر بالخطّ و قال في مقام شرحه: إنّه ما كان بحدّ الذرع فهم منه أنّ ما عداه ليس بخطّ عنده و إن كان خطّا عند غيره.

و بالجملة: فلو قلنا

بهذا في مقامنا لا محيص عن القول بأنّ المستثنى في حديث

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 264

لا تعاد هو السجود و الركوع المأمور بهما على نحو أمر بهما مع جميع القيود المعتبرة فيهما، للإجماع على أنّ زيادة السجود الغير البالغ إلى حدّ اللبنة غير مضرّة، فيجي ء الحاجة إلى قاعدة الاحتياط و أصالة الإطلاق المتقدّمتين في سائر المقامات غير مسألة علوّ الجبهة بأزيد من اللبنة عند الشكّ في اعتبار الأمر المفقود في السجود أو الصلاة، كما أنّه مع إحراز القيديّة للصلاة لا إشكال في عدم جواز الرفع، لكن مع ذلك يصحّ القول في هذه المسألة أعني: مسألة العلوّ بأزيد من اللبنة بجواز الرفع على القاعدة، لأنّ الحدّ و إن كان حسب الفرض خارجا عن المفهوم، لكنّه شي ء من سنخ السجود و ليس كالأمور الأخر، فيمكن استظهار كونه قيدا في السجود لا في الصلاة.

فلو فرضنا الشكّ في قول الشارع: لا يجوز السجود على غير الأرض و ما أنبتته الأرض، فلا نشكّ في ظهور قوله عليه السّلام: و ليكن موضع جبهتك في السجود غير أرفع عن لبنة عن موضع قدمك في أنّه تقييد للسجود لا للصلاة.

ثمّ هذا إذا أمكن الجرّ، و أمّا لو لم يمكن فهل يسقط اشتراط الشرط الفائت لعدم إمكان تداركه، أو يحكم ببطلان الصلاة، لأنّ مقتضى إطلاق الشرطيّة عدم اختصاصها بحال الالتفات و الاختيار، فإن جاز لزم فوت الشرط المذكور، و إن عاد لزم زيادة السجود عمدا، و قد قوّاه شيخنا المرتضى قدّس سرّه.

لكن استشكل عليه شيخنا الأستاذ دام ظلّه بأنّه قدّس سرّه إن جعل الفاقد للشرط من السجود الواقع في المستثنى فاللازم الحكم باغتفار الشرط، و إن كان شرطا للسجود و كونه داخلا

في المستثنى منه، و إن جعل السجود المستثنى خصوص الجامع للأجزاء و الشرائط فإطلاق الشرطيّة صحيح، و لكن لا معنى لعدم جواز الرفع معلّلا بحصول الزيادة للسجود.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 265

إذا ارتفعت الجبهة عن المسجد قهرا

و لا بأس بالتعرّض لحال فرع مبتلى به، و هو ما إذا ارتفعت الجبهة عن المسجد قهرا و بغير اختياره، و تفصيل الكلام فيه أنّه تارة يكون مضطرّا في الوقوع الثانوي، و اخرى مختارا في الإبقاء و العود، فعلى الأوّل لا كلام في أنّ هذا الوقوع الثانوي ليس سجودا ثانويّا، لاحتياجه إلى القصد، و المفروض عدم اقترانه به.

و هل هو عود للسجدة الأولى أو فعل لغو وقع قهرا؟ و تظهر الثمرة في وجوب الذكر و الطمأنينة على الأوّل و عدمه على الثاني.

و على الثاني يبتني الكلام فيه على القول بأنّ الوقوع الثانوي هل هو عود للسجدة الأولى عند الاضطرار أو لا، فعلى الأوّل يجب تحصيله في حال الاختيار للتمكّن من تحصيل الذكر و الطمأنينة في محلّهما، و على الثاني لا يجب، و على كلّ حال لا وجه للتفصيل بين وقوعه مضطرّا أو مختارا في الحكم بالوحدة مع الأوّل و بالتعدّد مع الثاني، إذ لا مدخليّة للاضطرار و الاختيار في الاثنينيّة و الوحدة.

و على هذا فإن تردّدنا بين الأمرين أعني: كون الوقوع ثانيا عودا أو شيئا أجنبيّا فلا إشكال في طريق الاحتياط في صورة الوقوع الاضطراري، لأنّه يأتي حينئذ بالذكر و الطمأنينة بقصد الاحتياط و الرجاء، لأنّه إمّا سجود فوقعا في محلّهما، و إمّا لا سجود فلا يضرّ الإتيان بهما بقصد الرجاء كما هو واضح.

إنّما الكلام في صورة الاختياريّة، فإنّ أمره دائر بين الوجوب و التحريم الوضعيّين، لأنّه إمّا واجب إن كان عودا،

و إمّا مانع إن كان غيره، لأنّه إذا أتى به بقصد عود السجود الأوّل و كان واقعا غير العود كان سجودا زائدا، و المفروض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 266

وقوعه عن عمد، و هو من الموانع، و إذن فالاحتياط اللازم في حقّه هو الإتيان بالصلاة بأحد النحوين ثمّ الاستئناف من رأس.

و يمكن استظهار الوجه الأوّل أعني كونه عودا من الخبر المرويّ عن الاحتجاج و كتاب الغيبة للشيخ قدّس سرّه عن محمّد بن أحمد بن داود القمّي «قال: كتب محمّد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري إلى الناحية المقدّسة (عج) يسأل عن المصلّي يكون في صلاة الليل في ظلمة فإذا سجد يغلط بالسجّادة و يضع جبهته على مسح أو نطع فإذا رفع رأسه وجد السجّادة هل يعتدّ بهذه السجدة أم لا يعتدّ بها؟

فوقّع عليه السّلام: ما لم يستو جالسا فلا شي ء عليه في رفع رأسه لطلب الخمرة» «1».

و هذه الرواية لا تصلح دليلا للقول بالرفع في المسألة المتقدّمة أعني: من وضع جبهته على ما لا يصحّ، حيث اخترنا وجوب الجرّ، و اختار صاحب الحدائق قدّس سرّه جواز الرفع، و ذلك لأنّ الرواية مصرّحة بأنّ الاستواء جالسا لا يجوز، و بغير الاستواء يجوز، و معلوم أنّه لا فرق عند القائل المذكور بين الاستواء و غيره.

فالرواية ناطقة بأنّ الاستواء لإيجابه ازدياد السجود غير جائز، و أمّا غيره، و الظاهر أنّ المراد به عدم الخروج عن حدّ صدق اسم السجود، فحيث لا يوجب الازدياد فلا بأس، فكيف يشهد الرواية لمن يذهب إلى أنّ السجود الثاني ليس بزيادة، لعدم الاعتداد بالسجدة الاولى مع تنصيصها بالاعتداد بها، و لهذا قال: ما لم يستو إلخ الذي مفاده أنّ الاستواء غير جائز.

و

بالجملة، فالرواية ظاهرة في أنّ العود إلى السجدة تتميم لها و ليس شيئا مستأنفا، و لم يعلم إعراض الأصحاب عن مضمونها أيضا، فلا بأس بالقول به، و عليه فلا بأس بمثل ذلك اختيارا أيضا، لتحصيل الأسهل أو الأفضل، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب السجود، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 267

و منها: الذكر، و قد مرّ تفصيله في الركوع، فإنّ الكلام فيه هو الكلام بعينه، إلّا أنّه يبدّل هنا كلمة العظيم في التسبيحة الكبرى بكلمة الأعلى، و بقيّة الكلام كما تقدّم حرفا بحرف، فلا حاجة إلى التطويل.

[و منها:] الطمأنينة في السجدة

و منها: الطمأنينة بمقدار الذكر الواجب.

و قد يستدلّ عليه بقوله عليه السّلام: «و تجزيك واحدة إذا أمكنت جبهتك من الأرض» «1».

و الحقّ عدم الدلالة، فإنّ الطمأنينة التي يكون المدّعى في المقام إثباتها استقرار جميع أعضاء البدن حال الذكر، و الرواية لا تدلّ إلّا على تمكين خصوص الجبهة و لو مع تزلزل غيرها، فالعمدة هو الإجماع.

و لكن يقع الكلام في أنّ الطمأنينة مضافا إلى شرطيّتها للذكر هل يكون شرطا للسجدة أيضا أو لا؟ و تظهر الثمرة في ما إذا عجز عن الذكر رأسا و قلنا بسقوطه عنه، فعلى القول الأوّل لا يجب عليه المكث بمقدار الذكر، و على الثاني يجب.

و الظاهر أنّ المرجع في هذا الشكّ هو البراءة، لكونه في التكليف الزائد، إذ نقطع بالشرطيّة بالنسبة إلى الذكر كما في سائر أقوال الصلاة، حيث إنّ الإجماع قائم على اشتراط الطمأنينة في جميعها، و إنّما نشكّ في أنّه مضافا إليه هل لها شرطيّة في السجدة أيضا أو لا، و من المعلوم أنّ المرجع حينئذ البراءة بناء على ما هو التحقيق في الأقلّ و الأكثر.

______________________________

(1)

الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الركوع، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 268

و منها: الجلوس بعد السجدة الأولى مطمئنّا، و المخالف هم المخالفون، حيث إنّ المحكيّ عن أبي حنيفة أنّ القدر الذي يجب أن يرفع ما يقع عليه اسم الرفع، و لو رفع بمقدار ما يدخل السيف بين وجهه و بين الأرض أجزأه. و ربما قالوا: الرفع لا يجب أصلا، فلو سجد و لم يرفع حتّى حفر تحت جبهته حفيرة فحطّ جبهته إليها أجزأه.

و أمّا علماؤنا فظاهرهم وجوب رفع الرأس معتدلا لأجل نفسه، لا للمقدّميّة للتعدّد بين السجدتين.

و كيف كان تدلّ عليه صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «و إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك حتّى ترجع مفاصلك، و إذا سجدت فاقعد مثل ذلك، و إذا كنت في الركعة الاولى و الثانية فرفعت رأسك من السجود فاستتمّ جالسا حتّى ترجع مفاصلك» «1».

و دلالتها على المطلب واضحة، إلّا أنّه لم يعلم وجه التقييد بقوله عليه السّلام: و إذا كنت في الركعة الاولى و الثانية إلخ، فإنّه حكم سار في جميع الركعات و لا اختصاص له بالأوليين.

و لعلّ العامّة كانوا يفرّقون بين الاولى و غيرها، فالغرض الإشارة إلى ردّهم، و ذكر الثانية من باب المثال، و وجه تخصيصها بالذكر اشتمال الصلوات كلّها عليها دون الثالثة و الرابعة، فالمقصود أنّه لا فرق بين الاولى و الركعة الأخرى في هذا الحكم، و اللّٰه العالم.

و منها: وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه

من الأرض و ما نبت منها غير المأكول و الملبوس على ما مرّ في بحث المكان.

و منها: طهارة موضع الجبهة،

و قد مرّ أيضا تفصيله في ذلك البحث.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 269

مسائل

الأولى يشترط مباشرة الجبهة لما يصحّ السجود عليه،

فلو كان هناك مانع أو حائل عليه أو عليها وجب رفعه، و الدليل عليه كونه داخلا في مفهوم السجود على الأرض و وضع الجبهة عليها.

و لو شكّ في وجود الحاجب فهل يجري أصالة العدم فلا يعتدّ بهذا الشكّ و لا يجب البحث عنه؟ الظاهر عدم جريانه بمعنى الاستصحاب، لكونه مثبتا، كما في باب الوضوء، فإنّه لا يثبت بأصالة عدم الحاجب هنا عنوان إلصاق الجبهة، كما لا يثبت بها هناك عنوان إيصال الماء للبشرة، و كما في استصحاب بقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين الذين أحدهما نجس و الآخر طاهر، فإنّه لا يثبت السراية و التأثير، و المفروض ثبوت الأثر لهذا العنوان، غاية الفرق أنّ هذا استصحاب أمر وجودي و مقامنا استصحاب أمر عدمي، هذا لو أريد بهذا الأصل الاستصحاب.

و أمّا لو أريد به الأصل العقلائي بدعوى أنّ بناء العقلاء في كليّة الحادثات على عدم تحقّقها كما في أصالة عدم القرينة و عدم التخصيص و أصالة عدم السهو و النسيان، و على هذا فالمثبت منه أيضا حجّة كما في أصالة عدم القرينة.

ففيه أنّ ثبوت البناء في جميع موارد الشكّ في وجود الحاجب و عدمه، حتّى في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 270

ما كان في معرض الوجود في غاية الإشكال، بل ممنوع، مثلا لو كان شغل أحد التعجين، فاحتمل وجود بعض أجزاء العجين على جبهته فلا نسلّم أنّ بناء العقلاء على عدم الاعتناء.

نعم لو كان تاجرا أو طالبا للعلم مثلا فاحتمل مثل ذلك أمكن أن يقال بوجود البناء، و هذا و إن

كان مقارنا غالبا مع الاطمئنان و الظنّ الشخصي بالعدم، لكن لا يبعد أنّ الميزان هو الظنّ النوعي و لو انفكّ عن الشخصي، و لعلّه المراد من عبارة حاشية شيخنا المرتضى قدّس سرّه على نجاة العباد حيث أفتى بوجوب الفحص في الشكّ في وجود الحاجب إلّا مع غلبة الظنّ بالعدم، هذا كلّه في الحاجب الذي من غير سنخ الأرض.

و أمّا لو لصق بجبهته الطين مثلا، فهل يجب إزالته للسجود أو لا؟

ربما يقال بالثاني، نظرا إلى أنّ الواجب عليه السجود مع لصوق جبهته بالأرض، و هذا حاصل هنا، و أمّا لزوم كون اللصوق حادثا مقارنا لحدوث السجود فلا دليل عليه، و مقتضى الأصل البراءة.

و يؤيّده تعليل استثناء المأكول و الملبوس عن جواز السجود على نبات الأرض بأنّهما مورد توجّه أهل الدنيا، فلا ينبغي للساجد الذي هو في عبادة اللّٰه تعالى وضع الجبهة على ما هو معبود أهل الدنيا، فإنّ مقتضاه أيضا أنّ الاعتبار بالأعمّ من الوجود الحدوثي و البقائي من السابق لحصول هذه العلّة، و هو عدم الوقوع على معبود أهل الدنيا في كليهما.

إلّا أن يقال بظهور الأمر بالسجود واضعا جبهته على الأرض في كون القيد حادثا بحدوث الذات و عدم كفاية بقائه من السابق.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ هذا التبادر من جهة غلبة الوجود حيث إنّ الغالب في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 271

من أراد السجود مع الوضع على الأرض أنّه يحدثهما في زمان واحد، و لكن ليس بحدّ يورث ظهور اللفظ، و لا أقلّ من عدم الجزم بوصوله إلى مرتبة الظهور و الانصراف الذي صار بمنزلة القيد اللفظي، فإنّه مع عدم الجزم أيضا يكون المرجع هو الأصل العملي، و حيث إنّ المورد من دوران

الأمر بين الإطلاق و التقييد بني على الخلاف فيه، و حيث إنّ الحقّ هو البراءة كان مقتضاها في المقام هو الحكم بالصحّة، فيكون التعليل المذكور صالحا للتأييد، و إن كان لو فرض الجزم بالظهور المذكور فليس ذلك إلّا حكمة لا يجوز رفع اليد بسببها عن الظهور المستقرّ، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 272

الثانية من بجبهته ما يمنع عن وضعها على الأرض

كالدمل إذا لم يستغرق جبهته، يحتفر حفيرة مثلا ليقع السليم من جبهته على الأرض، و إن لم يمكن وضع شي ء من الجبهة فالمشهور الانتقال إلى أحد الجبينين، و إن لم يمكن ذلك أيضا فإلى الذقن.

و لكن لم يوجد على هذا الترتيب دليل من الأخبار، و إنّما المتحقّق صرف الشهرة المحقّقة و الاجتماعات المنقولة.

و أمّا الأخبار فبين ما لا يستفاد منه إلّا الانتقال من موضع من الجبهة إلى موضع آخر منها غير متعارف وضعه في السجود، و بين ما حكم بالانتقال إلى الذقن من ابتداء الأمر، و ليس في شي ء منها إشارة إلى الانتقال إلى أحد الجبينين فضلا عن ترتيبه على الجبهة، و لا بأس بالتيمّن بذكرها، فنقول و على اللّٰه الاتّكال في كلّ حال:

منها: ما رواه الشيخ في الموثّق عن إسحاق بن عمّار عن بعض أصحابه عن مصادف «قال: خرج فيّ دمل، فكنت أسجد على جانب، فرأى أبو عبد اللّٰه عليه السّلام أثره، فقال عليه السّلام: ما هذا، فقلت: لا أستطيع أن أسجد من أجل الدمل، فإنّما أسجد منحرفا، فقال عليه السّلام لي: لا تفعل، و لكن احفر حفيرة و اجعل الدمل في الحفيرة حتّى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 273

تقع جبهتك على الأرض» «1».

و يستفاد من الرواية بحسب أسلوب العبارة تقريره عليه السّلام للراوي، حيث

اعتقد الجانب مسجدا، فلم يقل له أخطأت في اعتقاده مسجدا، و إنّما خطّأه في اعتقاده أنّه لا يستطيع السجود على الجبهة، فنبّهه على هذا العلاج الذي كان غافلا عنه و لم يخطّئه في اعتقاده المسجديّة للجانب.

ألا ترى أنّه لو قال أحد: إنّي لا أستطيع السجود على جبهتي لمكان الدمل فأسجد على اذني، فاسلوب الجواب يقتضي أن يقال له: قد أخطأت في مقامين، أحدهما: اعتقادك أنّك لا تستطيع و الحال أنّ حفر الحفيرة ممكن، و الآخر: زعمك أنّ الإذن من المساجد، فإذا اقتصر في الجواب على الشقّ الأوّل علم تقريره في الشقّ الثاني، و معنى هذا أنّ الطرف مسجد لك، هذا.

و لكنّك خبير بأنّ الاستدلال بهذا الوجه مبنيّ على كون المراد من الجبهة تمامها، فيكون المراد من الجانب هو الجبين.

و يمكن أن يقال: إنّ المراد من الجبهة ليس تمامها، بل خصوص ما تعارف السجود عليه منها، و هو ما بين العينين منها، و على هذا فيكون المراد من الجانب أحد طرفيه من الجبهة.

نعم لا بدّ حينئذ من حمل قوله عليه السّلام: لا تفعل على الإرشاد إلى الفرد الأفضل، و يستكشف منه أفضليّة السجود على ما بين العينين من السجود على أحد الجانبين.

و بالجملة، فلا يستفاد بناء على هذا الاحتمال في الرواية تقرير مسجديّة الجبين

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 12 من أبواب السجود، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 274

الذي يستلزم السجود عليه انحراف الوجه عن القبلة.

و منها: ما رواه الثقة الجليل عليّ بن إبراهيم في كتابه في الموثّق عن أبيه عن الصباح عن إسحاق بن عمّار «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: رجل بين عينيه قرحة لا يستطيع أن يسجد عليها، قال عليه

السّلام: يسجد ما بين طرف شعره، فإن لم يقدر سجد على حاجبه الأيمن، فإن لم يقدر فعلى حاجبه الأيسر، فإن لم يقدر فعلى ذقنه، فقلت: على ذقنه؟ قال عليه السّلام: نعم، أما تقرأ كتاب اللّٰه عزّ و جلّ:

يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً» «1».

و هذه الرواية أيضا لا يستفاد منها إلّا العدول عن الأفضل إلى غيره عند تعذّر الأفضل، لا عن المسجد إلى ما ليس بمسجد حال الاختيار، نعم الفقرة الأخيرة يكون عدولا إلى ما ليس بمسجد اختياري، و ذلك لأنّ السائل فرض القرحة بين العينين و عدم الاستطاعة من السجدة عليها، فعيّن عليه السّلام له ما بين طرف الشعر، و إلّا فالحاجب الأيمن، و إلّا فالأيسر، و لا يخفى دخول كلّ ذلك في الجبهة عند العرف، فإنّ القصاص داخل في الجبهة و كذا الحاجبان، فليس في الرواية من هذه الجهة حكم بالسجود على غير الجبهة العرفيّة، نعم هو غير الجبهة التي يتعارف السجود عليها و هو ما يحاذي الأنف منها.

و بالجملة، فالرواية كالرواية الأولى ساكتة عن اسم الجبينين.

و منها: ما رواه في الكافي عن عليّ بن محمّد بإسناده «قال: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عمّن بجبهته علّة لا يقدر على السجود عليها، قال عليه السّلام: يضع ذقنه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 12 من أبواب السجود، الحديث 3، و الآية في سورة الإسراء: 107.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 275

على الأرض، إنّ اللّٰه تبارك و تعالى يقول يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً» «1».

و هذه الرواية كما ترى متّحدة المفاد مع الروايتين المتقدّمتين على ما عرفت من عدم دلالتهما على الجبينين، بل الاولى غير متعرّضة لغير الجبهة العرفيّة، و الثانية متعرّضة بعدها للذقن مثل هذه الرواية، و إطلاقها شامل

لما تمكّن من السجود على أحد الجبينين و ما لم يتمكّن.

و منها: ما عن كتاب الفقه الرضوي عليه السّلام «قال: فإن كان في جبهتك علّة لا تقدر على السجود أو دمل فاحفر حفيرة، فإذا سجدت فاجعل الدمل فيها، و إن كان على جبهتك علّة لا تقدر على السجود من أجلها فاسجد على قرنك الأيمن، فإن تعذّر عليه فعلى قرنك الأيسر، فإنّ تعذّر عليه فاسجد على ظهر كفّك، فإن لم تقدر عليه فاسجد على ذقنك، لقول اللّٰه تبارك و تعالى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذٰا يُتْلىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً إلى قوله تعالى وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» «2».

و التعبير بالقرن في هذه الرواية أيضا محتمل الانطباق على ما ذكرنا من العظم النابت في طرفي الجبهة الذي يكون الجبين من ورائه، محاذيا لطرف الحاجب المتمائل إلى السفل، فلا يكون الترتيب أيضا إلّا بين الأفضل و غيره.

نعم زاد فيها السجود على ظهر الكفّ أيضا و هو من المساجد الاضطراريّة عند تعذّر المسجد الاختياري، فمن الممكن أنّه إذا تعذّر أو تعسّر السجود على الأرض و ما نبت منها لأجل إيذائهما الجبهة جاز له السجود على ظهر الكفّ،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 12 من أبواب السجود، الحديث 2.

(2) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب السجود، الحديث 1. و الآية في سورة الإسراء: 107.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 276

لكونه لينا لا يوجب الأذى.

فعلم أنّ شيئا من أخبار الباب لا يستفاد منه حكم الجبينين، فانحصر مدركه في الإجماعات المنقولة، و هي قد ثبت في الأصول عدم حجّيتها.

و حينئذ فإن أراد الاحتياط في مقام العمل أتى بسجدتين بعنوان الرجاء و الاحتياط، إحداهما على أحد الجبينين، و الأخرى على الذقن

إن لم يمكن وضع كليهما معا في سجدة واحدة، كما أنّه يجوز أيضا جرّ وجهه من السجدة الاولى و وضع الذقن أو أحد الجبينين، و ليس الرفع و الوضع مستلزما لزيادة السجدة إذا كان مأتيّا به بعنوان الاحتياط و الرجاء، كما أنّ القصد المعتبر في السجود أيضا حاصل بذلك، فإنّه يكفيه القصد الإجمالي إلى ما كان من أحد هذين الفعلين هو السجود المأمور به واقعا في علم اللّٰه تعالى.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 277

الثالثة و من الأمور التي قيل بوجوبها: الجلوس بعد السجدة الثانية مطمئنّا،

و هي جلسة الاستراحة، و نسب القول بوجوبه إلى سيّدنا المرتضى قدّس سرّه.

و استدلّ له بما رواه الشيخ عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا رفعت رأسك من السجدة الثانية في الركعة الأولى حين تريد أن تقوم فاستو جالسا ثمّ قم» «1».

و اعترضه في المدارك بأنّه معارض بما رواه الشيخ عن زرارة «قال: رأيت أبا جعفر و أبا عبد اللّٰه عليهما السّلام إذا رفعا رأسيهما من السجدة الثانية نهضا و لم يجلسا» «2» قال: و السندان متقاربان، انتهى.

و ربما تحمل هذه الرواية على التقيّة، لما رواه الشيخ في التهذيب عن الأصبغ بن نباتة «قال: كان أمير المؤمنين إذا رفع رأسه من السجود قعد حتّى يطمئنّ، ثمّ يقوم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، كان من قبلك أبو بكر و عمر إذا رفعوا رءوسهم

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 278

نهضوا أي على صدور أقدامهم كما ينهض الإبل، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّما يفعل ذلك أهل الجفاء من الناس، إنّما هذا من توقير الصلاة» «1».

و ما رواه

زيد النرسي في كتابه، «قال: سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول: إذا رفعت رأسك من آخر سجدتك في الصلاة قبل أن تقوم فاجلس جلسة، ثمّ بادر بركبتيك إلى الأرض قبل يديك و ابسط يديك بسطا و اتّك عليهما، ثمّ قم، فإنّ ذلك وقار المؤمن الخاشع لربّه، و لا تطش من سجودك مبادرا إلى القيام كما يطيش هؤلاء الأقشاب في صلاتهم» «2».

و ما رواه الصدوق في الخصال بسند معتبر عن أبي بصير و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام «قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: اجلسوا في الركعتين حتّى تسكن جوار حكم، ثمّ قوموا، إنّ ذلك من فعلنا» «3».

و عورض أيضا دليل الوجوب بما رواه الشيخ في التهذيب عن رحيم «قال:

قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: جعلت فداك، أراك إذا صلّيت رفعت رأسك من السجود في الركعة الاولى و الثالثة و تستوي جالسا، ثمّ تقوم، فنصنع كما تصنع؟

قال عليه السّلام: لا تنظروا إلى ما أصنع أنا، اصنعوا ما تؤمرون» «4».

و أجيب عنه أيضا بالحمل على التقيّة، إذ لا شبهة في مرجوحيّة ترك الجلوس، فلم يكن أمرهم عليهم السّلام به و إلزامهم في هذا الخبر بموافقة ذلك الأمر إلّا لأجل التقيّة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 5.

(2) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 2.

(3) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 279

و حينئذ فيشكل صرف ما كان ظاهره الوجوب عن ظاهره لذلك، و لكن إطلاق الأمر به رعاية للتقيّة مع عدم مسيس الحاجة

إليها إلّا أحيانا، و كذا عدم تعارفه و اشتهاره في عصر الرضا صلوات اللّٰه عليه بين من يأتمر بأوامره من أقوى الشواهد على أنّه ليس من المهمّات التي لا يجوز الإخلال بها بلا ضرورة ملجئة إليه، بل هو من الآداب التي ينبغي رعايتها مهما أمكن، هذا ما يقال في هذا المقام في توجيه الأخبار المذكورة.

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه على رءوس العباد: إنّ الحمل على التقيّة معناه طرح السند، و هو متأخّر رتبة عن الجمع الدلالي، فلو كان بين الخبرين جمع عرفي فلا وجه للحمل المذكور، فإنّه في الحقيقة ليس بجمع، بل طرح.

و حينئذ فنقول: ظاهر الأمر في الخبر الأوّل و إن كان هو الوجوب، إلّا أنّ فعل الإمامين عليهما السّلام الذي حكاه زرارة نصّ في جواز الترك، بل لعلّ ظاهر العبارة كون ذلك صادرا منهما عليهما غير مرّة، فإنّه ظاهر قوله: إذا رفعا رأسهما إلخ، إذ لا يقال مثل هذه العبارة إلّا في مورد تكرار العمل كثيرا، فكيف يكون مثل ذلك للتقيّة؟

و أيضا فإنّ العامّة لم يكن الجلوس عندهم محظورا، غاية الأمر كانوا لا يرون بتركه بأسا، لا أنّهم جعلوه سنّة، و لا يكون مجرّد فعل أبي بكر و عمر من باب الاتّفاق موجبا لكونه سنّة عندهم.

و كذا يبعّد حمل الخبر الأخير على التقيّة إطلاق قوله عليه السّلام: اصنعوا كما تؤمرون، مع أنّ التقيّة ليست مبتلى بها إلّا أحيانا، هذا لو أريد تقيّة السائل، و إن أريد تقيّة الإمام عليه السّلام فينافيه فعله عليه السّلام، فإنّه كان في عمله مخالفا لهم، فكيف راعى التقيّة في الفتوى؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 280

و بالجملة، الحمل على التقيّة مضافا إلى عدم المورد له يأبى عنه المقام

أيضا.

فالأحسن حمل الأمر في الخبر الأوّل على الفضل و الاستحباب، و لا ينافيه رواية زرارة الحاكية المشتملة على قوله: إذا رفعا رأسهما، لإمكان حمله على رؤية ذلك منهما دفعة، غاية الأمر أنّه خلاف الظاهر، و لا بأس به بعد ذلك الحثّ الأكيد الذي ورد في الأخبار برعاية الجلسة المذكورة المانع عن إبقاء هذا الظاهر بحاله.

و يشهد للاستحباب أيضا التعليل بالتوقير و عدم الطيش و أنّه وقار المؤمن الخاشع لربّه و أنّه من فعلنا، فإنّ هذه الألسنة لسان الاستحباب كما لا يخفى.

و لا ينافيه إطلاق الجفاء على تركه في قوله عليه السّلام: إنّما يفعل ذلك أهل الجفاء من الناس، فإنّ إطلاق الجفاء في ترك المستحبّات كثير في الأخبار، كما ورد في ترك زيارة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و غيره ممّا يظهر للمتتبّع، و إذن فالقول بالاستحباب لا يخلو عن قوّة.

و أمّا قول الرضا صلوات اللّٰه عليه: لا تنظروا إلى ما أصنع أنا، اصنعوا كما تؤمرون، فليس المراد به ما ذكروه من التقيّة، بل المراد منه أنّ وظيفتكم أن تستفيدوا الإيجاب من لفظي و قولي و أمري، لا أن تستفيدوه من عملي، فإنّ السائل لمّا رأى مواظبته عليه السّلام على هذا العمل توهّم الوجوب، فلهذا سأله عليه السّلام: إنّا أيضا نصنع كما تصنع؟ فأجابه عليه السّلام بقوله: لا تنظروا إلى ما أصنع أنا، و إذن فلا منافاة له مع الاستحباب أصلا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 281

الرابعة لا بأس بالسجود على غير الأرض و شبهها مثل الفراش في حال التقيّة،
اشارة

و لا يجب التفصّي عنها بالذهاب إلى مكان آخر، نعم لو كان في ذلك المكان مندوحة بأن يصلّي على البارية أو نحوها ممّا يصحّ السجود عليه وجب اختيارها، فهاهنا دعويان:

الأولى: صحّة الصلاة الفاقدة للشرط أو الواجدة للمانع إذا

كانت لتقيّة و إجزائها عن الأمر الصلاتي، لا صرف المعذوريّة مع بقاء التكليف بحاله بحيث متى زال العذر اقتضى الإعادة في الوقت و القضاء في خارجه.

و الثانية: توسعة الأمر في هذا الباب على خلاف سائر الأعذار، حيث يدور الأمر فيها مدار الحاجة و الضرورة الغير المتمكّن عنها التفصّي و لو بتأخير العمل إلى آخر الوقت، و أمّا هنا فمتى تحقّقت التقيّة و لو كانت في أوّل الوقت جاز العمل بمقتضاها و لا يجب الصبر إلى آخر الوقت، لرجاء زوالها، بل أو القطع به.

أمّا الدعوى الاولى فلها طريقان:
الأوّل:

دعوى اختصاص الأدلّة الأوّلية المتضمّنة لجعل الشي ء شرطا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 282

أو مانعا و لو لضمّ البعض إلى بعض بصورة التمكّن من فعله و تركه بحيث كان مقتضاها نفي الشرطيّة عند الاضطرار إلى الترك، و نفي المانعيّة عند الاضطرار إلى الفعل، فيكون أحد أفراد الاضطرار التقيّة التي منشؤها الخوف على نفسه أو غيرها، بحيث يصدق عليه بعد ملاحظة تكليفه بحفظ النفس و دفع الضرر أنّه ملجأ و غير متمكّن من تحصيل ذلك الشرط أو ترك ذلك المانع، فتكون صلاته بذلك صحيحة.

و على هذا يشكل الأمر في موارد قام الدليل على الشرطيّة أو المانعيّة المطلقتين كما لو اقتضى التقيّة مثلا الصلاة بالتيمّم على التراب النجس، فإنّ أصل الطهارة بالأعمّ من المائيّة و الترابيّة من الشرائط المطلقة الغير المختصّة بحال الاختيار، و قد لزم فوتها في المثال.

و الطريق الثاني

- و هو أعمّ نفعا، لنفعه في مثل المثال من الشرائط المطلقة أيضا-: دعوى أنّ المستفاد من أدلّة الترخيص الوارد من الشارع في مورد الشرط و المانع في مقام التقيّة أمّا عموما و إمّا خصوصا بعد ملاحظة عدم تحقّق تكليف نفسي في الموردين حتّى يرجع الترخيص المذكور إلى رفعه، بل الثابت مجرّد الإيجاب الوضعي في الشرط، و المنع الوضعي في المانع، أنّ الشارع أسقط ذلك الشرط عن الشرطيّة، و ذلك المانع عن المانعيّة، فالترخيص في هذا المقام عبارة عن رفع ما كان فيه من الوضع، كما كان المراد به في مقامات التكليفات النفسيّة رفع ما كان فيها من تلك التكاليف.

و أمّا ما يدلّ عليه: فما رواه ثقة الإسلام عن الثقة الجليل عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن إسماعيل الجعفي و

معمّر بن يحيى بن سالم و محمّد بن مسلم و زرارة «قالوا: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: التقيّة في كلّ شي ء

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 283

يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّٰه له» «1».

بتقريب أنّ الحلّية عبارة عن رفع المنع، ففي ما إذا كان المنع نفسيّا كان رفعه مفيدا أثر الإباحة و عدم الحرج في الفعل، و في ما كان غيريّا فرفعه عبارة عن صحّة العمل الواجد له، و كذلك حال الترك الممنوع، فالحلّية هنا للأعمّ من الحلّية التكليفيّة و الوضعيّة، و قد استعملت كثيرا في الأخبار في موارد الوضع كما لا يخفى على المتتبّع.

نعم قوله عليه السّلام: ما من شي ء إلّا و قد أحلّه اللّٰه عند الضرورة، يمكن أن يقال بعدم ظهوره إلّا في التكليف.

و الفرق بينه و بين الخبر السابق أنّ المتعارف في التقيّة اتّفاقها في أجزاء العبادة و شرائطها، و اتّفاقها في التكاليف النفسيّة في غاية القلّة، فلو حملنا الخبر على الحلّية التكليفيّة لزم تقييده بالفرد النادر، و هو ممّا نقطع بخلافه، مع وروده بصورة العموم و الكلّية، فهذا شاهد صدق على إرادة الحلّية بالمعنى الأعمّ و هو المطلوب.

و على هذا فلا يختصّ بباب دون باب، بل يجري في عامّة العبادات الصادرة على وجه التقيّة إمّا في شرطها أو في جزئها، فيحكم بالصحّة في الجميع، فالإفطار عن تقيّة في الصوم حاله حال الأكل عن سهو، و في الحقيقة ليس بإفطار، نعم إذا كان الضرورة الداعية إلى الأكل غير التقيّة مثل المرض و نحوه، فحينئذ يسمّى إفطارا معذورا فيه، و أمّا مع التقيّة فيكون كالأكل السهوي.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الباب 25 من أبواب الأمر و

النهي، الحديث 2، و فيه «معمّر بن يحيى بن سالم» بدل «معمّر بن سالم».

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 284

فإن قلت: لا يخلو إمّا أن يكون التقيّة تتأدّى بترك الصلاة، و إمّا لا تتأدّى إلّا بفعلها متكتّفا مثلا و لا تتأدّى بالترك.

فعلى الأوّل: لو اختار الفعل فهو بعد هذا الاختيار و إن كان مضطرّا، لكنّه بالاختيار لقدرته على الترك و أداء التقيّة بذلك على حسب الفرض، و لا تصير صلاته بمجرّد ذلك مورد الرخصة من جهة التقيّة.

و على الثاني: فغاية ما يستفاد من أدلّة التقيّة أنّه مأذون و مرخّص في إتيان الصلاة الباطلة، و ليست حالها بأولى من شرب الخمر الذي سوّغه التقيّة، و أين هذا من إسقاطها الإعادة و القضاء، بل الأمر بالصلاة الصحيحة على حالها.

قلت أوّلا: يكفينا الإيجاب الجزئي، فافرض انحصار رخصة التقيّة بالفرض الثاني، أعني ما إذا ألجأه التقيّة إلى الفعل مع التكتّف، و لكن نقول:

ليست الصلاة الباطلة محرّمة نفسا كشرب الخمر حتّى يرجع ترخيصها إلى الإذن التكليفي، بل ممنوعة وضعا، فالرخصة فيها معناها رفع هذا المنع الوضعي، و معناه الإجزاء عن الأمر الواقعي، فعلم أنّ قياس المقام بالمحرّم النفسي كشرب الخمر مع الفارق.

و ثانيا: نقول في الفرض الأوّل الذي يمكن أداء التقيّة بوجهين، ترك الصلاة و فعلها متكتّفا، إنّه لا إشكال في كونه مضطرّا بعد اختيار الفعل، فيكون موضوعا لأخبار التقيّة، فيكون المنع الوضعي مرتفعا.

نعم يبقى أنّ إطلاق مادّة الصلاة التامّة يقتضي بقاء مطلوبيّتها حتّى بالنسبة إليه، فيكون عاصيا من جهة تفويت المصلحة المطلقة اللازمة الاستيفاء.

لكن هذا أيضا أوّلا لا يضرّ بمرامنا من الإجزاء عن الأوامر الأوّلية بمعنى إسقاط الإعادة و القضاء، و ثانيا: بعد ملاحظة الترغيبات و التحريضات في الأخبار

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 285

بإلقاء النفس في معارض التقيّة و محاضرهم و مجامعهم و العبادة معهم بصورة عبادتهم- كما يأتي شرحه إن شاء اللّٰه تعالى في المقام الآتي- نعلم أنّ المصلحة الأوّلية القائمة بالصلاة التامّة قد أخذ في موضوعها عدم الابتلاء بالتقيّة كما أخذ في موضوع الصلاة الرباعيّة عنوان الحضر بحيث يجوز تبديل العنوان إلى العنوان المقتضي للصلاة الفاقدة اختيارا.

و يدلّ على الإجزاء أيضا ما رواه في أصول الكافي بسنده عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه «قال: التقيّة في كلّ شي ء إلّا في شرب المسكر و المسح على الخفّين» «1».

فإنّ استثناء المسح على الخفّين مع عدم ثبوت منع فيه إلّا من حيث الوضع دليل على عموم المستثنى منه، أعني: قوله عليه السّلام: كلّ شي ء، للممنوعات النفسيّة و الغيريّة، و معلوم أنّ ثبوت التقيّة في كلّ ممنوع بمعنى رفع المنع الثابت فيه، و هو مفيد للصحّة في الممنوع الوضعي، فيدلّ على رفع مانعيّة التكتّف في الصلاة و صحّة الوضوء بالنبيذ، و كذا غسل الرجلين فيه.

[و أمّا الدعوى الثانية:] إجزاء العمل بالتقيّة و عدم وجوب الإعادة و القضاء

و أمّا الدعوى الثانية: و هي توسعة الأمر في هذا الباب و ثبوت الإجزاء و لو مع عدم استيعابه لجميع الوقت أو إمكان ترك الصلاة رأسا، بل و ثبوت المندوحة في ذلك الزمان الذي توقع فيه العمل إمّا بالذهاب إلى مكان آخر

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 25 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 5، نقلا بالمضمون.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 286

ليس فيه من يتّقي منه، و إمّا بالتمكّن من إزعاجه من مكانه حتّى يعمل بلا تقيّة، و إمّا بالتمكّن من العمل على طبق الواقع مع إظهاره صورة أنّه يوافقهم، كأن يضع إحدى يديه في قرب

الأخرى بحيث يتوهّم الرائي أنّه متكتّف بواسطة تغطيتهما بالثوب.

فالظاهر الجزم باعتبار عدم النحو الأخير، فإنّ المفروض فيه إمكان الجمع بين غرض التقيّة من إظهار الموافقة معهم و إتيان الواقع، فلا داعي إلى إتيانه على وفق مذهبهم مع ذلك كما هو واضح، و ليس هذا أيضا مشمولا للأخبار.

بقي الكلام في غيره من سائر الأنحاء حتّى ما إذا كان العذر مستوعبا لجميع الوقت، سواء كان التفصّي بترك الصلاة رأسا ممكنا أم لا، إذ لا كلام في وجوب التقيّة حفظا لنفسه، لكن كونه مجزيا يحتاج إلى إقامة دليل.

نعم في خصوص باب الصلاة قام الدليل في هذه الصورة، و هو قولهم عليهم السّلام:

لا تترك الصلاة بحال، لكنّ المقصود إقامته في عامّة العبادات و في عامّة الأحوال حتّى في ما إذا تمكّن من الإتيان في مكان خال منهم، أو في ذلك المكان بنحو الإزعاج، فالمطلوب في هذا المقام إثبات الدليل على الإجزاء في جميع هذه الصور، إذ لقائل أن يقول: سلّمنا أنّ إظهار الموافقة معهم و لو مع المندوحة أمر مرغوب مستحسن، لكن أين هو من صيرورته مصداقا لأمثال أوامر العبادة؟

حكم التقيّة في الموضوعات كالحكم بثبوت الهلال

ثمّ لا بدّ من عموم ذلك الدليل حتّى بالنسبة إلى موارد الاختلاف الموضوعي، كحكم حاكمهم بثبوت هلال ذي الحجّة بالبيّنة العادلة عندهم إذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 287

لم يثبت عند الشيعة، فإنّه لو لا الدليل لا بدّ من إعادة الحجّ في القابل، لأنّه أتى بالوقوفين في غير موقعهما.

و بالجملة، المطلوب إثبات الإيجاب الكلّي في هذا المقام، كما كان المهمّ في المقام المتقدّم إثبات الإيجاب الجزئي، فإن ثبت الدليل العامّ فهو، و إلّا فلا بدّ من الوقوف في كلّ جزئي جزئي من الموارد على اتّباع النصّ الموجود فيه

إن كان، كما ورد في خصوص ردّ الشعر في الوضوء، حيث إنّ ظاهر الرواية هو الترخيص فيه بمعنى رفع مانعيّته، لكنّه لا دخل له بمسح الخفّ أو غسل الرجل مثلا، فضلا عن باب الصلاة أو الصوم أو الوقوفين أو غير ذلك.

و حينئذ نقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ الدليل العامّ على الإجزاء النافع لجميع العبادات و الأبواب و لجميع أنحاء العذر من المستوعب و غيره مع المندوحة في غير المستوعب و عدمها، لكن لا بنحو الذي تقدّم أنّه غير مستفاد من الأخبار، و هو إتيان العمل في محضر منهم بنحو يرى أنّه يوافقهم و الحال أنّه موافق الحقّ، هو الأخبار الكثيرة الدالّة على امتنان اللّٰه تعالى و تفضّله على المؤمنين بإعطاء الرخصة لهم في أن يظهروا لهم الموافقة في الأعمال مع التديّن في السرّ بالدين الحقّ.

جواز تحصيل الاضطرار و التقيّة المداراتيّة

فيستفاد من هذه الطائفة من الأخبار أنّ إيجاد عنوان الاضطرار و اللابدّية لنفسه يكون مجوزا، بل مندوبا مستحسنا بأن يعمل العمل في معارض التقيّة مع إمكان إتيانه مختفيا بتبديل المكان أو إزعاج الشخص أو تأخير الوقت، فضلا عن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 288

إمكان تركه رأسا، ثمّ بعد تحصيل الاضطرار لنفسه و مشغوليّته بالعمل يدخل تحت الإخلال المستفاد من طائفة أخرى من الأخبار الدالّة على أنّ التقيّة في موضوع الاضطرار و اللابدّية مشرّعة و رافعة للمنع الوضعي الثابت لولاها.

أمّا الطائفة الثانية فقد تقدّم جملة منها.

و أمّا الأولى فهي كثيرة. منها: ما رواه في الوسائل عن عليّ بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم و المتشابه نقلا من تفسير النعماني بإسناده عن عليّ عليه السّلام «قال: و أمّا الرخصة، التي صاحبها فيها بالخيار، فإنّ اللّٰه نهى المؤمن أن يتّخذ الكافر

وليّا، ثمّ منّ عليه بإطلاق الرخصة له عند التقيّة في الظاهر أن يصوم بصيامه و يفطر بإفطاره و يصلّي بصلاته و يعمل بعمله و يظهر له استعمال ذلك موسّعا عليه فيه، و عليه أن يدين اللّٰه تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأمّة» «1» الخبر.

و قوله عليه السّلام: و عليه أن يدين اللّٰه تعالى إلخ ليس يراد به إيجاب الإعادة أو القضاء في الباطن لعمله الذي أتى به في الظاهر حتّى ينافي مع الإحلال و رفع المنع المستفاد من الطائفة الأخرى، بل المراد أنّه في الباطن يكون على عقيدته و ديانته من موالاة الأئمة الهادين و الخلفاء الراشدين سلام اللّٰه عليهم أجمعين، و إن كان في الظاهر يظهر أنّه منهم و يعمل مثل عملهم.

و الحاصل أنّ عمل جانحته لا بدّ أن لا يوافق مع عمل جارحته، و أين هذا من إيجاب الإعادة و القضاء، و هو مفاد قول مولانا الباقر عليه السّلام في خبر أبي بصير:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 29 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 20، و راجع رسالة المحكم و المتشابه: 36.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 289

«خالطوهم بالبرانيّة، و خالفوهم بالجوانيّة إذا كانت الإمرة صبيانيّة» «1».

و منها: ما رواه فيه عن ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في رسالته عليه السّلام إلى أصحابه «قال عليه السّلام: و عليكم بمجاملة أهل الباطل، تحمّلوا الضيم منهم، و إيّاكم و مماظتهم، دينوا في ما بينكم و بينهم إذا أنتم جالستموهم و خالطتموهم و نازعتموهم الكلام بالتقيّة التي أمركم اللّٰه أن تأخذوا بها في ما بينكم و بينهم» «2».

و منها: ما رواه الحسن

بن محمّد الطوسي قدّس سرّهما بإسناده عن الصادق عليه السّلام «قال: قال عليه السّلام: عليكم بالتقيّة، فإنّه ليس منّا من لم يجعلها شعاره و دثاره مع من يأمنه لتكون سجيّته مع من يحذره» «3».

و منها: ما رواه ثقة الإسلام بسنده عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قال عليه السّلام:

ما بلغت تقيّة أحد تقيّة أصحاب الكهف أن كانوا ليشهدون الأعياد و يشدّون الزنانير فأعطاهم اللّٰه أجرهم مرّتين» «4».

و منها: ما رواه فخّار بن معد الموسوي في كتاب الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب عليه السّلام بإسناده عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث «إنّ جبرئيل نزل على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقال: يا محمّد إنّ ربّك يقرئك السّلام و يقول لك: إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان و أظهروا الشرك، فأتاهم اللّٰه أجرهم مرّتين، و إنّ أبا طالب

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 26 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 13.

(3) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 24.

(4) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 29 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 15.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 290

أسرّ الإيمان و أظهر الشرك، فآتاه اللّٰه أجره مرّتين، و ما خرج من الدنيا حتّى أتته البشارة من اللّٰه بالجنّة» «1».

و منها: ما رواه ثقة الإسلام بسنده عن هشام الكندي «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: إيّاكم أن تعملوا عملا نعيّر به، فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا، و لا تكونوا علينا شينا، صلّوا

في عشائرهم، و عوّدوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم، و لا يسبقونكم إلى شي ء من الخير، فأنتم أولى به منهم، و اللّٰه ما عبد اللّٰه بشي ء أحبّ إليه من الخبإ، قلت: و ما الخبإ؟

قال عليه السّلام: التقيّة» «2».

هذه ما عثرت عليه من أخبار هذا المجال، و لعلّ المتتبّع يعثر على أزيد من ذلك، و من أراد فليراجع الوسائل في أبواب الأمر بالمعروف، و المستفاد من مجموعها محبوبيّة الخلطة و المجامعة مع المخالفين و الحضور في محاضرهم، و إظهار الموافقة معهم قولا و فعلا.

و بعبارة أخرى: تحصيل عنوان الاضطرار في حقّ نفسه بأن يحضر معهم في عبادتهم حتّى يضطرّ بإتيانها بصورة ما يأتونه، فيصير مجرى الطائفة الأخرى الدالّة على الإحلال في حقّ المضطرّ و من ليس له بدّ، هذا.

و لكن ربما يعارض هذه بأخبار أخر دالّة على اعتبار عدم المندوحة حال العمل، بل و لو بترك الصلاة رأسا، أو بالصبر إلى زمان آخر، و لكن لا بدّ من رفع اليد عن الظهور الثاني، كما ذكره شيخنا المرتضى قدّس سرّه في رسالته المعمولة في التقيّة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 29 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 17.

(2) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 26 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 291

بواسطة القطع بأنّ الصلاة لا تترك بحال و صراحة بعض الأخبار بعدم اعتبار استيعاب العذر لمجموع الوقت المضروب للعمل، فيبقى الأخذ بالظهور الأوّل أعني:

اعتبار عدم المندوحة في الجزء الذي يعمل العمل فيه من الوقت بعدم إمكان تبديل المكان أو إزعاج الإنسان الذي يتّقى منه فمع إمكان ذلك لا موقع للتقيّة و لا يشرع العمل الموافق لها.

و أظهر شي ء في

هذا الباب رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن إبراهيم ابن شيبة «قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السّلام عن الصلاة خلف من يتولّى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو يرى المسح على الخفّين أو خلف من يحرّم المسح على الخفّين و هو يمسح، فكتب عليه السّلام: إن جامعك و إيّاهم موضع لا تجد بدّا من الصلاة معهم فأذّن لنفسك و أقم معهم، فإن سبقك إلى القراءة فسبّح» «1».

حيث إنّ مقتضى التقييد بقوله عليه السّلام: لا تجد بدّا إلخ عدم المشروعيّة مع وجدان الحيلة بأيّ طريق أمكن، فموضوع المشروعيّة عدم إمكان الاحتيال من كلّ وجه، و لكن قد عرفت أنّه بهذا العموم حتّى بترك الصلاة رأسا، أو بالصبر عن أوّل الوقت إلى جزء آخر مقطوع بخلافه من سائر الأخبار، فيبقى اعتبار عدم إمكان الحيلة في ذلك الحين و لو بالتبديل المكاني و نحوه.

و لكن حمل الرواية على إرادة خصوص هذا الفرد من المفهوم ليس بأولى من أن يقال: إنّ المراد هو المضطريّة مع حفظ عدم تغيير المسلك و كونه مصلّيا في المسجد في وقته المعتاد له إذا كان في أصحابه، فإنّه مع حفظ ذلك أيضا له حالتان:

الاولى: أن يكون مضطرّا إلى المماشاة مع العامّة لخوفه الضرر على نفسه مثلا في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 292

صورة الترك، لكونهم ذوي شوكة و سطوة و استيلاء على المؤمنين، و الثانية: عكس ذلك، بأن يكونوا في حال الابتذال و الذلّة غير مخوف منهم إيذاء و إضرار.

فالرواية يشترط في جواز إيجاد الصلاة على وجه التقيّة كونهم من القسم الأوّل حتّى يصير المكلّف مع محفوظيّة حاله

و عدم تغيير وضعه مضطرّا و داخلا في من لا بدّ و لا محيص له عن المماشاة و المداراة و إعمال العمل بصورة عملهم، و حينئذ أيضا يراعي في صلاته وظيفة المنفرد فيؤذّن في نفسه و يقيم و يقرأ كذلك، فإن أدّى ذلك إلى وقوع شي ء كان مانعا في صلاة الفرادى لو لا التقيّة مثل قطع الفاتحة عند خوف فوت اللحوق بركوع الإمام مثلا، فهذا ممّا حلّله التقيّة في هذه الصلاة و رفعت منعه الوضعي الثابت لولاها، فيكون بذلك صلاته صلاة فرادى صحيحة و إن كان بحسب الفضل و الثواب ربما يكون أفضل من الجماعة الصحيحة و كالاقتداء برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في الصفّ الأوّل.

و من هنا تقدر على هذا الجواب في كلّ رواية تشتمل على لفظة لا بدّ، أو الضرورة، أو الاضطرار، فإنّ الجواب عن الكلّ ما ذكرنا، و هو أنّه إذا فرض كونه في صورة المجامعة معهم مضطرّا و لا بدّ له من العمل مثل عملهم فقد رخّص له الأخبار إيجاد هذه المجامعة حتّى يحصل ذلك الاضطرار، و مع تحقّق الاضطرار فالأخبار ناطقة بصحّة العمل و صيرورته مصداقا للامتثال للأوامر الواقعيّة الأوّليّة، هذا.

و أمّا ما عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر الثاني صلوات اللّٰه عليه:

«لا تصلّوا خلف ناصب و لا كرامة، إلّا أن تخافوا على أنفسكم أن تشهروا و يشار إليكم، فصلّوا في بيوتكم، ثمّ صلّوا معهم و اجعلوا صلاتكم معهم تطوّعا» «1»

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 293

فلا ينافي ما ذكرناه من الإجزاء في التقيّة عن المخالفين، لإمكان اختصاص الحكم المزبور أعني: الصحّة و الإجزاء بخصوص التقيّة

عمّن عدا النصاب من سائر المخالفين و كون الحثّ و التحريص في حضور الجماعات المنعقدة أيضا مخصوصا بسائر أصنافهم ممّن عدا النصّاب، و أمّا النصّاب فحكمهم في ذلك حكم سائر الكفّار في أنّه ليس المخالفة و المراودة الصورية و الحضور في جماعاتهم مرغوبة أوّلا، و على فرض تحقّق الإلجاء و الخوف على النفس مثلا الداعي إلى التقيّة منهم فلا إشكال في وجوب التقيّة كالتقيّة عن سائر الكفّار، بل عن فسقة الشيعة، كما كان هو الحال في تقيّة أصحبا الكهف و مؤمن آل فرعون و سيّدنا أبي طالب عليه السّلام.

و لكن من الواضح عدم جريان حكم التقيّة عن المخالفين على التقيّة عن هؤلاء، فلو دعت التقيّة منهم إلى الصلاة بكيفيّة باطلة بحيث توقّف حفظ النفس مثلا عليها فلا إشكال في وجوبها، و لكن لا شبهة في عدم إجزائها عن الصلاة الصحيحة، فالخبر شاهد على كون النصّاب أيضا حالهم كذلك، فلا ينافي ما ذكرنا في سائر أصناف المخالفين.

و قوله: «لا كرامة» يعني ليسوا بقابلين للإكرام و معدودين من الإنسان و لفظة «كراميّة» مكانها الظاهر كونها تصحيفا.

و أمّا ما عن الفقه الرضوي من المرسل عن العالم عليه السّلام «قال: و لا تصلّ خلف أحد إلّا خلف رجلين، أحدهما من تثق به و بدينه و ورعه، و آخر من تتّقي سيفه و سوطه و شرّه و بوائقه و شيعته، فصلّ خلفه على سبيل التقيّة و المداراة، و أذّن لنفسك و أقم و اقرأ فيها، فإنّه غير مؤتمن به» «1».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 294

فالظاهر إرادة كون الرجل المتّقى منه ذا سطوة و شوكة بحيث يليق أن

يخاف منه، و ليس المراد به وجود الخوف و الضرر في ترك الصلاة الشخصيّة خلفه و ترتّب المضارّ المذكورة على تركها، بل إذا كان الرجل بتلك الصفة فالصلاة خلفه مرخّص فيها، و لو لم يترتّب على تركها ضرر، و المقصود نفي الصلاة خلف من ليس بتلك الصفة و لا يخشى من سطوته، فلا رخصة في الصلاة خلفه.

و بالجملة، هذه الرواية أيضا متّحد المفاد مع رواية إبراهيم بن شيبة و إن كانت إرادة ذلك فيها خلاف الظاهر منها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 295

الخامسة إذا نسي السجدتين أو إحداهما و تذكّر قبل الدخول في الركوع

وجب العود إليها، و إن كان بعد الركوع مضى إن كان المنسي واحدة و قضاها بعد السّلام، و تبطل الصلاة إن كان اثنتين، و إن كان في الركعة الأخيرة يرجع ما لم يسلّم، كلّ هذه ممّا لا كلام فيه بحسب الأدلّة ظاهرا، و ربما يأتي الكلام فيها مفصّلا.

إنّما الكلام في ما إذا تذكّر نسيان السجدة الأخيرة بعد السّلام، فالمشهور الحكم ببطلان الصلاة إن كان المنسيّ اثنتين، و القضاء إن كان واحدة.

و ربما يوجّه ما ذكروا بما ورد من كون آخر الصلاة التسليم، و ما ورد من كون تحليلها التسليم، و لازم المحلّلية عدم لحوق ما بعده بما قبله، و لا ينتقض بما إذا سلّم في الثالثة مثلا سهوا، حيث إنّ المحلّ قابل للحوق الرابعة، فإنّ هذا إنّما يرد لو قيل بكون جنس التسليم في أيّ محلّ وقع و بأيّ كيفيّة صدر محلّلا.

و لكنّا لا نقول به، بل نقول: إنّ محمول المحلّلية و الآخريّة يردان معا على موضوع واحد هو التسليم الذي وقع بعد تحقّق ما به قوام بنية الصلاة، فإذا كان في الصلاة الرباعيّة و قد سلّم في الثالثة مثلا فليس هذا

التسليم آخرا، بل وقع في غير المحلّ، و أمّا إذا أتى بأربع ركعات و إن نقص السجدتين من الأخيرة،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 296

فإنّ قوام الركعة عرفا بركوعها، فسلّم، يصدق أنّ هذا التسليم واقع في الآخر، فيكون محلّلا.

و بالجملة، متى تحقّق عرفا اسم الفراغ من الصلاة فالسلام حينئذ متّصف بوصف المحلّليّة، و متى تحقّق هذا الوصف فاللازم عدم بقاء المحلّ للتدارك، فيتعيّن البطلان في نسيان السجدتين و القضاء في السجدة الواحدة.

و لكن يرد على هذا الوجه ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن الأعمش عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: لا يقال في التشهّد الأوّل: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين، لأنّ تحليل الصلاة هو التسليم، فإذا قلت هذا فقد سلّمت» «1».

هذا مضافا إلى أنّه ليس صرف الفراغ و انتهاء العمل موجبا لعدم قابليّة المحلّ لتدارك ما فات، كما هو الحال في سائر الأعمال المركّبة لو فرض الإتيان بجزئها الآخر و حصل الفراغ منها، فإنّه مع عدم فوات الموالاة لو تذكّر فوات بعض أجزائها يعود و يتداركه، و المحلّ الذي لا يبقى إنّما هو المحلّ الذي يعتبر التجاوز منه في قاعدتي الشكّ بعد التجاوز و الشكّ بعد الفراغ، فإنّه مع تحقّق الفراغ عرفا لا يبقى محلّ للعود إلى المشكوك، كما لو شكّ بين الثلاث و الأربع بعد التسليم.

و أمّا المحلّ الذي يحكم بتلافي المسهي مع بقائه و بالاغتفار في غير الركن و بطلان الصلاة في الركن مع مضيّه فلا ينافيه صدق الفراغ عرفا.

و ليس المراد بمحلّلية التسليم أيضا أنّ من أثره كونه ما به يتحقّق الفراغ، فإنّ هذا شأن كلّ جزء أخير للمركّبات، بل المقصود أنّ المصلّي كما يدخل في

حريم

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 12 من أبواب التشهّد، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 297

الصلاة بالتكبير فيحرم عليه المنافيات، كذلك يدخل في الحلّ بالتسليم، فيصير تلك المحرّمات عليه محلّلة، و الخروج عن حريم الصلاة أمر زائد عن مجرّد الفراغ عن عمل الصلاة.

و حينئذ فمن الممكن كون هذا الأثر قد جعله الشارع من خواصّ التسليم في أيّ مكان حصل، و لا ربط له بكونه آخرا.

و لكن هذا المعنى يرد عليه ورود الأخبار الكثيرة في أنّ ناسي الركعة أو الركعتين إذا تذكّر يبنى على صلاته و يأتي بما نقص، و لو كان التسليم من أثره الوضعي الإحلال و الإخراج عن حريم الصلاة لما صحّ ذلك.

و يمكن أن يقال: إنّ دلالة الأدلّة الأوّليّة على ثبوت هذا الأثر الوضعي للتسليم و إن كانت غير قابلة للإنكار، و لكنّها محكومة بحديث لا تعاد، كما في سائر الآثار الوضعيّة الثابتة بحسب أدلّتها الأوّلية لذات الشي ء مثل المانعيّة لكلام الآدميين، فكما يحكم بمقتضى الحديث باختصاص المانعيّة بحال الذكر، كذلك يقال باختصاص هذا الأثر للتسليم في حال الذكر أيضا، فالتسليم الصادر عن سهو و لو في المنشأ غير موضوع للأثر المذكور. فلا منافاة له مع الأخبار الواردة في ناسي الركعة، و لا مع الخبر المتقدّم الدالّ على إثبات وصف التحليل لقول: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين في التشهّد الأوّل، لأنّ مورده التعمّد في قول ذلك، و لازم ذلك في مسألتنا القول بصحّة الصلاة حتّى في نسيان السجدتين إذا تذكّر قبل المنافي سهوا و عمدا، و ذلك لبقاء محلّ التدارك، فيأتي بالسجدتين أو بالسجدة الواحدة بعنوان التدارك، ثمّ يأتي بالتشهّد و التسليم، ثمّ بسجدتي السهو لزيادة التشهّد و التسليم

الصادرين منه قبل ذلك سهوا.

و لكن لمّا كان المشهور، بل ادّعى بعض عليه الإجماع هو ما ذكرنا من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 298

البطلان في نسيان السجدتين و القضاء في السجدة الواحدة، فلو أراد الاحتياط يأتي بالسجدة الواحدة بعنوان الاحتياط و عدم قصد الأدائيّة و القضائيّة، و كذا يأتي بالتشهّد و التسليم احتياطا، ثمّ بسجدتي السهو بقصد ما في الذمّة، و في صورة نسيان السجدتين يحتاط بإعادة الصلاة بعد إتيانهما مع التشهّد و السّلام و سجدتي السهو.

فإن قلت: كيف يمكن القول بالصحّة في نسيان السجدتين، و مقتضى لا تعاد إلخ البطلان به؟

قلت: كلّا، ليس مقتضى لا تعاد، البطلان بمحض النسيان، بل مع فوت محلّ التدارك، و المدّعى في المقام عدم فوته بالتسليم السهوي.

فإن قلت: اللازم الحكم بكون الحدث الواقع بعد هذا التسليم داخلا في الصلاة، لأنّ الفرض عدم إيجابه أثر التحليل و الخروج من الصلاة، فقد أحدث في الصلاة و هو موجب للبطلان حتّى في ما إذا نسي السجدة الواحدة أو التشهّد الأخير.

قلت: لا يخلو الحال إمّا نقول باعتبار الطهارة شرطا في الصلاة حتّى في أكوانها المتخلّلة بين أفعالها، فالمحدث غير مصلّ، لفقدانه شرط الصلاة، و إمّا نقول بكون الحدث قاطعا، بمعنى أنّه يمنع من ربط ما بعده بما قبله، و على كلّ من هذين التقديرين لا يلزم بطلان الصلاة كما هو واضح، إلّا في صورة نسيان السجدتين، لأنّ اللازم في صورة نسيان الواحدة ليس إلّا خلوّ الصلاة من سجدة واحدة، لعدم إمكان تلافيها، إمّا لعدم كون الشخص مصلّيا، و إمّا لوجود القاطع، و قد دلّت النصوص المستفيضة بأنّ الصلاة لا تعاد من نسيان سجدة واحدة، بل يكتفى بقضائها بعد الصلاة مع سجدتي السهو.

كتاب

الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 299

و الحاصل: ليس شأن الحدث المذكور بعد فرض عدم مخرجيّة التسليم السهوي و كون الشخص باقيا في الصلاة إلّا أحد الأمرين المذكورين، أمّا إعدام الشرط، و إمّا إحداث القاطع، و شي ء منهما غير مقتض لبطلان الصلاة بواسطة تلك النصوص الخاصّة الواردة في نسيان السجدة الواحدة.

و أمّا دعوى أنّ من شأن الحدث الصادر من الشخص الذي أتى بجميع أجزاء صلاته حتّى التسليم، إلّا أنّه فات منه سجدة واحدة في الركعة الأخيرة، و أوجب ذلك وقوع تسليمه في غير المحلّ، و عدم اتّصافه بوصف المحلّلية لذلك هو الإبطال لأصل صلاته، فلم يقم عليها دليل، بل مجرّد دعوى بلا بيّنة و شاهد، و لا يصير حاله كحال من أحدث قبل التسليم بدعوى أنّ السّلام في غير المحلّ كلا سلام، فكما أنّ الحدث الصادر قبل أصل التسليم موجب للبطلان على ما يظهر التسالم منهم عليه، فكذا هذا.

و ذلك لأنّ الأخبار المذكورة جعلت هذا السّلام الواقع في غير المحلّ بواسطة نسيان السجدة كالسلام في المحلّ، و قنعت مكان فعل السجدة بقضائها خارج الصلاة مع سجدتي السهو، فهذه الصلاة صلاة مشتملة على التسليم بحكم هذه الأخبار، لا خالية عنه، فلا يقاس بالصلاة الخالية عنه.

و من هنا يظهر الحال في نسيان التشهّد الأخير حتّى سلّم، فإنّ الحكم قبل صدور الحدث و نحوه هو الإتيان به تداركا لا قضاء، و بعده الإتيان به قضاء، و المحكيّ عن ابن إدريس في هذه الصورة القول ببطلان الصلاة لو أحدث بعد التسليم، و مقتضاه القول به في نسيان السجدة الواحدة من الركعة الأخيرة أيضا.

قال في ما حكى عنه في الحدائق: لو تخلّل الحدث بين الصلاة و التشهّد الأوّل

كتاب الصلاة (للأراكي)،

ج 2، ص: 300

لم تبطل الصلاة، لخروجه منها بالتسليم، و لو تخلّل بينها و بين التشهّد الثاني بطلت صلاته، لأنّ قضيّة السّلام الصحيح أن يكون بعد التشهّد، فوقوعه قبل كلا سلام، فيكون حدثه قد صادف الصلاة.

و اعترضه المحقّق في المعتبر فقال بعد نقل كلامه: و ليس بوجه، لأنّ التسليم مع السهو مشروع، فيقع موضعه، و يقضي التشهّد، لما روى حكم بن حكيم عن الصادق عليه السّلام في رجل نسي ركعة أو سجدة أو الشي ء منها، ثمّ تذكّر بعد ذلك «قال عليه السّلام: يقضي ذلك بعينه، قلت: أ يعيد الصلاة؟ قال عليه السّلام: لا» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب الخلل، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 301

السادسة قد صرّح الأصحاب على ما في الحدائق بكراهة الإقعاء في جلوس الصلاة،

إلّا أنّه وقع الخلاف في حكمه و كيفيّته، فالمشهور بين الأصحاب هو الحكم فيه بالكراهة، بل ادّعى الشيخ في الخلاف عليه الإجماع، و نقل القول بالكراهة المحقّق في المعتبر عن معاوية بن عمّار و محمّد بن مسلم من القدماء، و نقل عن الشيخ في المبسوط و المرتضى رضوان اللّٰه عليهما أنّهما ذهبا إلى عدم الكراهة، انتهى.

و العمدة ذكر الأخبار الواردة في المقام، ثمّ التكلّم في ما يستظهر منها، فنقول و على اللّٰه التوكّل و بأذيال أصحاب الكساء صلوات اللّٰه و سلامه عليهم أجمعين التوسّل:

منها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: لا تقع بين السجدتين إقعاء» «1».

و منها: ما رواه الحلبي عنه عليه السّلام «قال: لا بأس بالإقعاء في الصلاة بين

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب السجود، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 302

السجدتين» «1».

و منها: ما رواه في التهذيب في الصحيح على ما في

الحدائق عن معاوية بن عمّار و محمّد بن مسلم و الحلبي «قالوا: لا تقع في الصلاة بين السجدتين كإقعاء الكلب» «2».

و منها: ما رواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار عن عمرو بن جميع «قال:

قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: لا بأس بالإقعاء في الصلاة بين السجدتين و بين الركعة الاولى و الثانية، و بين الركعة الثالثة و الرابعة، و إذا أجلسك الإمام في موضع يجب أن تقوم فيه تتجافى، و لا يجوز الإقعاء في موضع التشهّدين إلّا من علّة، لأنّ المقعي ليس بجالس، إنّما جلس بعضه على بعض، و الإقعاء أن يضع الرجل أليتيه على عقبيه في تشهّده» «3» الحديث.

و منها: ما رواه ابن إدريس قدّس سرّه في مستطرفات السرائر نقلا عن حريز عن زرارة «قال: قال أبو جعفر عليهما السّلام: لا بأس بالإقعاء في ما بين السجدتين، و لا ينبغي الإقعاء في التشهّدين، إنّما التشهّد في الجلوس و ليس المقعي بجالس» «4».

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ ها هنا مقامين:

الأوّل: في كيفيّة الجمع بين الأخبار و رفع التعارض عمّا بينها.

و الثاني: في تفسير الإقعاء و الاختلاف الواقع فيه بين الفقهاء و اللغويين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب السجود، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب السجود، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب السجود، الحديث 6.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب التشهّد، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 303

أمّا المقام الأوّل فقد عرفت أنّ الموجود في الأخبار ثلاث طوائف:

النهي المعارض بلا بأس، و هو في الإقعاء بين السجدتين، و النهي الخالص عن المعارض، و هو في التشهّدين، و اللابأس الخالي عن مزاحمة النهي، و هو في

جلسة الاستراحة.

فقد يقال بحمل روايات النهي على الإقعاء المنقول عن أهل اللغة، و هو الجلوس على الأليتين ناصبا فخذيه واضعا يديه على الأرض، مثل إقعاء الكلب، بقرينة رواية المشايخ الثلاثة المصرّحة بكون المنهيّ ما كان كإقعاء الكلب، و روايات الجواز على الإقعاء بالمعنى الذي عند الفقهاء بقرينة رواية عمرو بن جميع المصرّحة بتفسيره، هذا بالنسبة إلى الجلوس بين السجدتين.

و أمّا التشهّد فظاهر روايتي معاني الأخبار و السرائر هو المنع عن الإقعاء، و ليس لهاتين الروايتين بالنسبة إلى التشهّد معارض، بل في بعض الأخبار ما يؤيّدهما، مثل قوله عليه السّلام في صحيحة زرارة الدالّة على النهي عن العقود على قدميه و أنّه يتأذّى بذلك، و لا يكون قاعدا على الأرض، و إنّما قعد بعضه على بعض، فلا يصبر للتشهّد و الدعاء.

و فيه أنّ التفسير في رواية عمرو بن جميع ظاهر في كونه تفسيرا للإقعاء الأعمّ من كونه متعلّقا للنهي أو للجواز، فحمله على تفسير خصوص ما كان موردا للجواز ممّا لا وجه له.

و أمّا قرينيّة قوله في رواية المشايخ: «كإقعاء الكلب» على إرادة المعنى اللغوي أيضا فيه ما سيأتي.

و يمكن أن يقال: إنّ هنا معنى واحدا صادقا على كلّ واحد من إقعاء الإنسان و الكلب بنحو الاشتراك، و هو عبارة عن عدم الاعتماد في حال الجلوس على جميع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 304

الأسافل من الاست و الساقين و الفخذين على وجه التساوي، بل كان الاعتماد على بعضها.

و حينئذ فمصداق هذا المعنى منحصر في الكلب بافتراش فخذيه و انتصاب يديه، و في الإنسان يمكن بنحوين، أحدهما: ما ذكره الفقهاء، و الثاني: ما ذكره أهل اللغة، و لكن الثاني ليس مناسبا لحال الصلاة، لصعوبته، بخلاف الأوّل،

بل يكون هو أسهل من غيره.

و على هذا فيقال: الأخبار محمولة على الجامع بين النحوين، و لا ينافيه قوله:

كإقعاء الكلب، إذ المقصود هو التشبيه في أصل الفعل، لا في كيفيّته كما يقال: لا أقرّ إقرار العبيد، و لا التعليل بأنّ المقعي ليس بجالس، إنّما جلس بعضه على بعض، لتحقّق ذلك في كليهما، أمّا في معنى الفقهاء فواضح، و أمّا في النحو الآخر فلأنّ الاعتماد على اليدين، فكأنّه جلس بعضه و هو النصف الأعلى من بدنه على بعضه و هو اليدان، و أمّا نفي الجلوس فباعتبار أنّه ليس بمتمكّن في الجلوس، بل على هيئة من يكون مستعجلا للقيام، فالمقصود أنّه ليس جلوسا تمكّنيا و إن كان جلوسا مطلقا، هذا في تفسير الفقهاء.

و أمّا في النحو الآخر فالمقصود نفي الكامل من الجلوس، و أمّا عدم الصبر للدعاء و التأذّي فوجودهما في كلا القسمين واضح.

و بالجملة، حمل الأخبار في طرفي الرخصة و المنع على الجامع بين القسمين ممّا لا تأباه تلك الأخبار.

و أمّا تفسيره في ذيل خبر المعاني في كلمات الفقهاء فلعلّه لأجل أنّ هذا القسم منه غالبا يقع محلّا للابتلاء بالنسبة إلى شخص المصلّي، فإنّ هذه الهيئة أنسب بحال من ينتقل من السجود إلى الجلوس، ثمّ يريد الانتقال ثانيا إلى السجود أو إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 305

القيام، كما هو المشاهد من ديدن المستعجلين، و أمّا النحو الآخر فبعيد الصدور منه، و يكون خارجا عن مورد ابتلائه بحسب الغالب.

و إذن فنقول: هذا المعنى مكروه في ما بين السجدتين، و أغلظ كراهة في حال التشهّدين، و لا كراهة فيه في جلسة الاستراحة، أمّا الأخير فلوجود دليل الرخصة فيه مع سلامته عن معارضة دليل المنع كما يعلم

بمراجعة الأخبار المتقدّمة.

و أمّا أصل الكراهة في التشهّدين مع سلامة دليل المنع فيه عن دليل الرخصة فلوجود أمارات الكراهة في نفس دليل المنع من التعليلات المتقدّمة المناسبة مع الكراهة كما لا يخفى.

و أمّا وجه أغلظيّتها فللجمع بين الرخصة في ما بين السجدتين مع المنع عنه في التشهّدين في الخبر المتقدّم، و بحسب التعليلات المتقدّمة أيضا وجهه ظاهر، حيث إنّ امتداد الجلوس فيه أزيد عمّا بين السجدتين، فلهذا يكون الجلوس المذكور الموجب للأذيّة و عدم الطاقة للدعاء أشدّ كراهة منه في ما بين السجدتين الذي لا يكون الامتداد فيه بهذا القدر.

و منه يظهر وجه الترخيص في جلسة الاستراحة حيث إنّها ليست في الركعة الاولى و الثالثة محلّا لدعاء أو تشهّد.

و من هنا يعلم دفع إشكال ربما يورد في المقام و هو أنّه ما وجه تقييد مورد النهي بما بين السجدتين في بعض الأخبار مع تعميمه لحال التشهّد، بل هو آكد و أشدّ كراهة.

فإنّه يقال في دفعه: إنّ النظر في هذا التقييد إلى الاحتراز عمّا بعد السجدة الثانية في ما إذا خلى عن التشهّد، فالمقصود بيان الفرق بين السجدة الاولى و الثانية في أنّ ما بعد الاولى يحتاج إلى أزيد من الجلوس المحتاج في ما بعد الثانية، و حيث إنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 306

الجلوس المذكور لا يناسب الطول فلا يناسب في ما بعد الاولى دون الثانية.

فالمراد بالإقعاء في كلام اللغويين عبارة عن الجلوس على الأليتين مع رفع الساقين و التساند إلى الظهر بأن يضع يديه على الأرض التي وراء ظهره و يعتمد عليهما.

و في تفسير الفقهاء عبارة عن الجلوس على العقبين مع وضع صدورهما على الأرض، و خلوّ بعض الكلمات من التقييد الأخير لا

يضرّ بعد كونه مفهوما من أوّل الكلام، فإنّه بدون وضع الصدور بل وضع ظهورهما على الأرض ليس الجلوس على خصوص العقبين، بل على تمام القدمين كما لا يخفى، بل عمدته على باطنهما.

و قد عرفت السرّ في اختلاف الفقهاء عامّة من الخاصّة و العامّة مع اللغويين في تفسيره و أنّ من الممكن كون المعنى واحدا في الإنسان و الكلب، و هو تخصيص الاعتماد بخصوص الأليتين على خلاف وضع المتعارف في الجلوس من كونه على تمام الساقين و الفخذين و القدمين، و هو في الإنسان يتمشّى بنحوين، و في الكلب بنحو واحد، لكنّ المبتلى به من القسمين المناسب بحال المصلّي الجالس بين السجدتين أو بين السجود و القيام هو ما ذكره الفقهاء، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور، فالأحوط في مقام الاجتناب عن الكراهة اجتناب القسمين معا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 307

خاتمة في سائر السجدات

اشارة

فاعلم أنّها بين واجب و مندوب، فمن الأوّل سجدتا السهو، و يأتي بيانها و بيان أحكامها إن شاء اللّٰه تعالى في مبحث الخلل، و منه السجدات القرآنيّة في العزائم الأربع، الم تنزيل، و فصّلت، و النجم، و اقرأ باسم ربّك.

و اعلم أنّ تمام السجدات القرآنيّة من الواجبة و المندوبة خمس عشرة، و قد دلّت الأخبار الكثيرة على الوجوب في العزائم الأربع، و أمّا الاستحباب في أحد عشر موضعا آخر فممّا ادّعي عليه الإجماع و مقطوع به- على ما في المدارك- في كلام الأصحاب، و المهمّ الآن التكلّم في مواضع:

السجدة في العزائم
الأوّل: لا إشكال في وجوب السجدة في العزائم الأربع

على القارئ و المستمع، لأنّهما المتيقّن من أخبار المسألة، و أمّا السامع بدون الإنصات فقد اختلفت فيه الأنظار، فذهب الشيخ قدّس سرّه إلى عدم الوجوب عليه، و قال ابن إدريس: يجب عليه، و المنشأ اختلاف الأخبار.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 308

فممّا يدلّ على الثاني خبر أبي بصير «قال: إذا قرأ شي ء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد و إن كنت على غير وضوء، و إن كنت جنبا، و إن كانت المرأة لا تصلّي، و سائر القرآن أنت فيه بالخيار، إن شئت سجدت، و إن شئت لم تسجد» «1».

و الأخبار الحاكمة بالسجدة على السامع كثيرة.

و تقريب الاستدلال يحتاج إلى مقدّمة و هي أنّ الأفعال الاختياريّة التي يصحّ جعلها موردا للتكليف على صنفين، أحدهما ما كان قوّة الفاعل في نفسها معمولة كالضرب و نحوه، حيث إنّه يصدر من قوّة الضارب، و الآخر ما يكون قوّة الفاعل فيه مصروفة في مقدّماته دون نفسه، و منه الرؤية بالعين، فإنّها ليست بصادرة عن قوّة الرائي و إن كان متمكّنا من فتح العين و من إثبات المرئي في مقابله حتّى يقع رؤيته

عليه، و كذلك متمكّن من إيجاد المانع، فالاختياريّة في هذا القسم إنّما هو بواسطة اختياريّة المقدّمات و الموانع، و هذا واضح.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا أضيف الفعل الذي من القسم الأوّل إلى الفاعل المختار كأن قيل: ضرب زيد، فالمتبادر منه هو الحصول عن قوّة و اختيار، لا عن سهو و قهر.

و أمّا إذا أضيف القسم الثاني كأن قيل: رأى زيد كذا، أو سمع كذا، فالمتبادر المذكور في هذا القسم ممنوع لو لم نقل بأنّ المتبادر هو الحصول القهري بلا سبق إعمال قدرة و اختيار.

و حينئذ فإذا قيل: من سمع آية السجدة يسجد، فحمله على صورة الاستماع

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 309

دون السماع القهري خلاف الظاهر، مضافا إلى إمكان كونه حملا على الفرد النادر.

و لكن يعارض هذا الظاهر صحيحة ابن سنان «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل سمع السجدة تقرأ؟ قال عليه السّلام: لا يسجد إلّا أن يكون منصتا لقراءته مستمعا لها، أو تصلّي بصلاته، فإمّا أن يكون يصلّي في ناحية و أنت تصلّي في ناحية أخرى، فلا تسجد إذا سمعت» «1». و دلالتها على عدم الوجوب واضحة بالغة حدّ الصراحة.

و المناقشة فيها باشتمالها على قراءة العزيمة في صلاة الجماعة مع اختصاص الجماعة بالفريضة، و عدم مشروعيّة العزيمة في الفريضة، يمكن الجواب عنها بإمكان حملها على صورة الاقتداء بالمخالفين، فتكون التقيّة هي الرافعة للمنع الوضعي الثابت للسجود لولاها، على ما تقدّم تفصيل الكلام في حكم التقيّة قبيل ذلك، هذا بحسب الدلالة.

و أمّا السند، [فربما يخدش فيه باشتماله على محمّد بن عيسى العبيدي، و ذكر ابن بابويه عن ابن الوليد أنّه

قال:] «2» فليس فيه إلّا محمّد بن عيسى عن يونس، و جلالة قدر يونس واضحة، و هو الذي ورد قولهم عليهم السّلام: خذ معالم دينك من يونس بن عبد الرحمن.

و أمّا محمّد بن عيسى الراوي عن يونس فهو و إن حكى الصدوق قدّس سرّه عن شيخه ابن الوليد أنّه قال: ما تفرّد به محمّد بن عيسى من كتب يونس و حديثه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 43 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 1.

(2) ما بين المعقوفتين زائد ظاهرا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 310

لا يعتمد عليه، و صار ذلك سببا لتضعيف الشيخ قدّس سرّه إيّاه في الفهرست، إلّا أنّ الشيخ الصدوق بعد حكاية هذا عن شيخه قال: و رأيت أصحابنا ينكرون هذا القول و يقولون: من مثل أبي جعفر محمّد بن عيسى؟

و قال الكشّي قدّس سرّه: قال القتيبي: كان الفضل بن شاذان يحبّ العبيدي و يثني عليه و يمدحه و يميل إليه و يقول: ليس في أقرانه مثله.

و في الخلاصة: الأقوى عندي قبول روايته.

و في الوجيزة: ثقة.

و إذن فالرواية غير قابلة للخدشة لا دلالة، و لا متنا، و لا سندا.

و حينئذ نقول: مقتضى الجمع بينها و بين ما تقدّم من الأوامر الظاهرة في الوجوب بالنسبة إلى السامع أحد أمرين: إمّا التصرّف في مادّة تلك الأخبار بحمل السماع فيها على الاستماع الذي عرفت بعده، بل و استلزامه تقييد المطلق بغير الغالب، و إمّا التصرّف في متنها بحملها على الفضل و الرجحان، و الثاني أولى، فيكون الأقوى حينئذ هو الحكم بالاستحباب كما قوّاه الشيخ قدّس سرّه.

الثاني: هل السجدة عند القراءة أو الاستماع واجبة فورا، أو بالتراخي؟

لا بدّ من تمهيد مقال لتوضيح الحال، و هو أن يقال: إنّ القضايا الشرطيّة المشتملة على تعليق الطلب على شي ء مثل

قولك: إن جاءك زيد فأكرمه، أو إذا أذّن المؤذّنون فصلّ، أو إذا زالت الشمس فصلّ، و أمثال ذلك و إن كانت القيد بحسب ظاهر القضيّة راجعا إلى الهيئة، بمعنى أنّ الأمر مقيّد بحصول الشرط، لا إلى المادّة، إلّا أنّ المنساق و المتبادر العرفي منها كون زمان المأمور به أيضا إمّا متّحدا مع زمان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 311

الشرط، أو متّصلا به، و هذا هو المتبادر من الإطلاق.

نعم للمتكلّم أن يوقّته بوقت خاصّ، كأن يقول: إذا جاءك زيد فصلّ عند الأسبوع الآتي بعد مجيئه مثلا، و لكن لو لم يوقّت فالقضيّة ظاهرة في الاتّحاد أو الاتّصال، فلا يقال: إنّ القيد راجع إلى الهيئة، و مقتضاه أنّ الأمر و الإيجاب يكون بعد حصوله، و أمّا أنّ الواجب ظرفه ما ذا فليس القضيّة في مقام تعرّضه، بل هو كما إذا صدر الأمر بلا تعليق، فكما أنّ الأمر المنجّز ليس فيه تعرّض لزمان الفعل، فكذا هذا عند تحقّق المعلّق عليه.

إذا عرفت [ذلك] فنقول: إنّ قول الشارع: إذا قرأت أو استمعت آية السجدة فاسجد، يستفاد منه الفوريّة على حسب ما ذكرنا، فلا نحتاج إلى التشبّث بذيل الإجماع في إثبات الفور بعد وجود الظهور اللفظي.

الثالث: هل يتكرّر السجود بتكرّر سببه

إمّا بفردين من نوع واحد، و إمّا بفردين من نوعين، أو لا يتكرّر، بل يكفي إتيان سجدة واحدة عقيب الجميع؟ المسألة مبتنية على مسألة تداخل الأسباب و المسبّبات، و هي و إن قرّرت في الأصول و حقّق هناك أنّ الأصل ما لم يقم الدليل الخاصّ على خلافه هو التداخل و جواز الاكتفاء بمسبّب واحد عقيب الأسباب المتعدّدة و لو من أنواع متفاوتة، لكن لا بأس بالإشارة إليه ها هنا.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ

مدّعى القائلين بأصالة عدم التداخل و لزوم التعدّد يبتني على إثبات مقدّمتين:

الاولى: أنّ السبب هو الطبيعة السارية من الشرط، لا الصرف الغير القابل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 312

للتكرار، فيكون السببيّة منبسطة على الأفراد، بحيث يكون كلّ فرد فرد من الشرط سببا مستقلّا للجزاء.

و الثانية: أنّ المسبّب أيضا طبيعة قابلة للتكرار، لا صرف الوجود، ضرورة أنّه بفقدان كلّ واحدة من هاتين المقدّمتين لا يبقى مجال للقول بالتكرار، كما أنّه مع تماميّتهما لا مجال لإنكاره.

أمّا الأوّل: فلأنّه إذا كان الصرف الغير القابل للتكرار في طرف الشرط سببا، كما إذا قيل: إذا رأيت ميّتا فقل: الحمد للّٰه الذي لم يجعلني من السواد المحترم، حيث إنّ الظاهر عدم تفاوت المعنى المقصود بالشرط برؤية الأموات الكثيرة أو ميّت واحد، فالسبب غير متكرّر، فلا وجه لتكرّر المسبّب، كما أنّه إذا كان المسبّب كذلك فمن الواضح عدم الوجه لتكرّره أيضا و لو مع تكرّر الأسباب، كما لو تكرّر الأسباب و اجتمعت على قتل زيد.

و أمّا الثاني، فلأنّ كون كلّ من طبيعتي السبب و المسبّب قابلتين للتكرّر، فلا وجه لعدم التكرّر، و هل هو إلّا تخلّف المسبّب عن سببه؟

و حينئذ نقول: أمّا المقدّمة الأولى فيمكن الجزم بظهور الطبيعة السارية في خصوص باب الأسباب و لو بواسطة غلبة ذلك في الأسباب العرفيّة و عدم تحقّق سببيّة الصرف عندهم.

و أمّا الثانية، فهي و إن كانت سالمة عن الإشكال بأنّ المسبّب إذا كان هو الوجوب فاللازم من تكرّره شدّته، لا تكرّر الواجب، لما ذكره شيخنا المرتضى قدّس سرّه في الجواب عنه في كتاب طهارته في مسألة منزوحات البئر بما حاصله أنّ المسبّب ليس هو الوجوب، بل هو الوجود، فالشرط يقتضي لوجود الجزاء، و الأمر

إنّما نشأ من قبل هذا الاقتضاء، فهو متعلّق بإعطاء المقتضي- بالكسر- مقتضاه، إلّا أنّها مع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 313

ذلك مخدوشة بأنّ الظاهر من الطبيعة الواقعة تلو الأمر هو اعتبارها بنحو الوجود الصرف المعرّى عن القلّة و الكثرة و الوحدة و التعدّد، بحيث يكون هذه المفاهيم خارجة عن مفهومه، كخروج الزيديّة و العمرويّة عن مفهوم الإنسان.

و توضيح المقام أنّ الطبيعة بعد ما لم يكن من حيث هي إلّا هي و لا تقبل شيئا من الأعراض الذهنيّة أو الخارجيّة حتّى هذا العرض أعني قولنا: ليست إلّا هي، فلا بدّ من اعتبار وجود معها في قبول الإعراض إمّا ذهني و إمّا خارجي، و هذا الوجود المعتبر يكون على أربعة أنحاء:

الأوّل: اعتبار الوجود مقيّدا بقيد الوحدة.

و الثاني: مقيّدا بقيد الكثرة.

و الثالث: مطلقا و بلا قيد، بأن كان الملحوظ حقيقة الوجود، و لازم كون الشي ء عارضا على الطبيعة باعتبار حقيقة الوجود هو عدم انفكاكه عنها في الخارج، كما في حرارة النار و برودة الماء و حلّية البيع.

و الرابع: اعتباره لا بنحو التقييد بخصوصيّة إمّا خاصّة و إمّا عامّة، و لا بنحو الإطلاق و السريان، بل ينتزع عن جميع الوجودات معنى واحد يكون قهري الانطباق على أوّل الوجودات، و يكون ما بعده من الوجودات لواحق و طوارئ بالنسبة إليه.

فوجود الزيد المتأخّر مثلا عارض بالنسبة إليه، و من المعلوم مغايرة العارض مع المعروض، فالمطلوب غير منطبق عليه.

بخلاف النحو الثالث، فإنّ وجود الزيد أيضا كوجود العمرو المتحقّق أوّلا وجود المطلوب، فالمطلوب يتكرّر الوجود، و لا محالة يتكرّر العرض العارض عليه، سواء كان من سنخ الأعراض الخارجيّة، أم من سنخ الطلب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 314

و الإرادة و مباديه

من الحبّ و الشوق.

ألا ترى تكرّر معروض الحرارة و البرودة بتكرّر وجود الماء و النار، و لا محالة يتكرّر العرضان المذكوران، و هكذا حبّ الإنسان للجاه و المال يتكرّر بتكرّر وجودهما، و لكنّه لا يتكرّر المطلوب على النحو الرابع، بل هو أبدا شي ء واحد، و الوجود الثاني و الثالث و الرابع إلى آخر الأفراد كلّها معدود بالنسبة إليه طارئا و عارضا، و من المعلوم أنّ المعروض غير منطبق على عارضه، و لا يتكرّر بتكرّره، و لا محالة ينقطع تكرّر العرض أيضا على الوجود الأوّل، لانقطاع المعروض عليه و عدم كون الوجود البعد نفس المعروض، بل وصفه و عارضه.

ألا ترى أنّه يقال بكثرة الأفراد: إنّ الطبيعة صارت متكثّرة، و كذلك بقلّتها يقال: صارت الطبيعة قليلة، فالذي نجعله معروضا للقلّة و الكثرة و الوحدة و التعدّد هو هذا المعنى من الوجود، و إلّا فلا يتّصف شي ء من الوجودات الخاصّة بالكثرة و القلّة أو الوحدة أو التعدّد، و حينئذ فما هو معروض التعدّد و التكرّر غير التعدّد و التكرّر لا محالة و خارج من سنخهما.

و لا يذهب عليك أنّ هذا المعنى الذي نسمّيه بصرف الوجود ليس له أثر في كلمات الحكماء و لا في كلمات غيرهم، و لكنّه أمر يساعد عليه الوجدان، و لا محيص عن القول به، فإنّ متعلّق عرض الأمر لو فرض أنّه حقيقة وجود الطبيعة بلا تقيّد بقيد أصلا من زمان أو حال أو وحدة أو كثرة، فلا محالة يجب تعدّده بتعدّد وجودها في الخارج كما في سائر الأعراض التي يعرضها بهذا الاعتبار، و لا ينفكّ عنها خارجا، فإنّ الانفكاك الخارجي لا محالة يكون لأجل أحد أمرين:

إمّا عدم كون الوجود المنفكّ عنه مصداقا للطبيعة، و

إمّا تقييد الطبيعة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 315

المعروضة بخصوصيّة مفقودة في هذا المصداق، و كلاهما مخالف للفرض من كون الموجود مصداق الطبيعة و كون الطبيعة بوصف الإطلاق و السريان بلا تقييد بخصوصيّة لا خاصّة و لا عامّة.

إذا عرفت ذلك نعود إلى حكم مسألتنا و نقول: و إن كانت طبيعة السبب قابلة للتكرّر و يكون كلّ فرد فرد من القراءة و الاستماع لآية السجدة سببا مستقلّا بمقتضى القاعدة الجارية في عامّة باب الأسباب، المؤيّدة هنا بالنصّ الخاصّ أيضا، الوارد في من يتعلّم القرآن، حيث حكم بأنّه يجب على كلّ من المعلّم و المتعلّم متى قرأ آية السجدة سجدة التلاوة، و المسبّب لهذه الأسباب العديدة أيضا على ما أفادنا شيخنا المرتضى قدّس سرّه وجود السجدة، لا وجوبها، إلّا أنّه لمّا كان السجدة التي هي مسبّب معروضة للأمر على ما هو الحال في متعلّق سائر الأوامر بالنحو الرابع الغير القابل للتكرار مع إطلاق الطبيعة المسبّبة و عدم تقييدها في كلّ سبب بقيد خاصّ به، مثل الإتيان بها بعنوان ذلك السبب، كما في ردّ السّلام، حيث إنّ اقتضاء التسليمات العديدة ليس لصرف ردّ السّلام على وجه الإطلاق، بل خصوص الرّد إلى المسلّم.

و مفروض مقامنا عدم أخذ مثل هذا التقييد في السجدة المسبّبة، بل مقتضى الكلّ هو السجدة المطلقة من كلّ جهة بنحو صرف الوجود، فحال هذه الأسباب في التأثير لهذا المسبّب بعينه مثل حال إيراد السهم على بطن زيد و ضرب العمود على رأسه، حيث إنّ كلا منهما سبب مستقلّ في حدّ ذاته لقتله، و لكن إذا اجتمعا صارا منضمّين في التأثير، لعدم قابليّة المحلّ لمسبّبين، كما أنّه لو تقدّم أحدهما كان الثاني لغوا.

نعم في ما نحن

فيه لو وجد الفردان متعاقبين كان كما لو وجدا دفعة في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 316

الاشتراك في التأثير.

نعم إذا تخلّل وجود السجدة بين فردين من القراءة أو الاستماع وجب تكريرها عقيب الثاني، و إلّا لزم انعزال الثاني عن الأثر رأسا، لعدم إمكان شركته مع المتقدّم في السجود المتقدّم عليه وجودا.

مضافا إلى أنّ مقتضى ظاهر القضيّة اعتبار تأخّر الجزاء عن وجود الشرط، فالمسبّب ليس مطلق السجود، بل السجود المقيّد بكونه بعد القراءة، و السجود المتقدّم فاقد لهذه الخصوصيّة، فلا يقبل للمسبّبية بالنسبة إلى القراءة المتأخّرة.

و هنا فروع:

(1): هل السبب تمام الآية أو بعضها، أو خصوص لفظ السجدة؟ الظاهر الأوّل.

(2): هل الملفّق من القراءة و الاستماع حكمه حكم القراءة أو الاستماع الخالصين؟ الظاهر الأوّل، كما في الإناء الملفّق من النقدين.

(3): لو قرأ جماعة دفعة واحدة و بصوت واحد آية السجدة، فهل يجب على المستمع سجود واحد باعتبار أنّ الاستماع واحد و إن كان الأصوات متعدّدة، كما إذا كانت الرؤية واحدة و المرئيّ متعدّدا، أو سجودات بعدد القراءات؟ الظاهر الأوّل.

الرابع: يعتبر في السجود بعد تحقّق مسمّاه- مضافا إلى النيّة- إباحة المكان،

و أمّا سائر الشرائط المعتبرة في السجود الصلاتي من الطهارة و الاستقبال و الستر و صفات الساتر و غير ذلك، فالحكم الكلّي فيها أنّ الأخبار الدالّة على وجوب سجدة التلاوة الخالية عن ذكر تلك الشروط، بل المشتمل بعضها على التصريح

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 317

بعدم بعضها، مثل الطهارة عن الحدث الأصغر، بل و عن حدث الجنابة لا يخلو إمّا أن يكون إطلاقها واردا مورد البيان، و إمّا لا، فعلى الأوّل يكون المرجع في نفي كلّ ما شككنا فيه ذلك الإطلاق، و على الثاني يكون المرجع أصالة البراءة على ما هو المختار في الأقلّ و

الأكثر.

إلّا أنّ هنا بعضا من القيود أمكن أن يقال باعتبارها في هذه السجدة أيضا.

أحدها: اعتبار عدم علوّ موضع الجبهة عن الموقف، فإنّ الظاهر أنّه تحديد للانحناء المعتبر في مفهوم السجدة عند الشارع، فالغير البالغ هذا الحدّ مسلوب عنه الاسم شرعا و إن صدق عليه عرفا، فحاله حال الانحناء الخاصّ المعتبر في الركوع الشرعي، مع أنّ الركوع العرفي متحقّق بما دونه، فلو أوجب الشارع في غير الصلاة عنوان الركوع كان المتبادر ما حدّده له من الانحناء الخاصّ، و كذلك في السجود.

و الثاني: اعتبار كون موضع السجود ممّا يصحّ السجود عليه من الأرض و نباتها، فإنّه يمكن الاستئناس لاعتباره في المقام بالتعليل الوارد في بعض تلك الأخبار لمنع السجود على المأكول و الملبوس من نبات الأرض بأنّهما معبود أهل الدنيا، و الساجد في سجوده في عبادة اللّٰه عزّ و جلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته على معبود أهل الدنيا.

و هنا قيد ثالث اختلف فيه الأخبار، و هو طهارة المرأة عن حدث الحيض، فيستفاد من بعض الأخبار التصريح بعدم اعتبارها و أنّ السجود المذكور يجب على الحائض كما يجب على الجنب و من كان على غير وضوء «1».

و يستفاد من بعض آخر الاعتبار و أنّه لا يجب على الحائض، مثل صحيحة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 318

عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن الحائض هل يقرأ القرآن و يسجد سجدة إذا سمعت السجدة؟ قال عليه السّلام: تقرأ و لا تسجد» «1».

و قد يقال: إنّ مقتضى الجمع بينها و بين التصريح المتقدّم في الخبر المشار إليه المتقدّم حمل الأمر

على الاستحباب، و هذا النهي على الرخصة في الترك.

و فيه أنّ هذه الرواية آبية عن هذا الحمل، حيث إنّ السائل إنّما سأل عن أصل جواز قراءة غير العزائم و عن السجدة التي تسمعها من العزائم بعد مفروغيّة حرمة قراءة العزائم عليها عنده، و الجواب بقوله عليه السّلام: تقرأ، بعد هذا السؤال إنّما هو مفيد لأصل الجواز، فلا بدّ أن يكون قوله: و لا تسجد، مفيدا لنفي أصل الجواز.

و بالجملة، فالرواية مع ما دلّ على الثبوت متعارضان يجب الرجوع فيهما إلى المرجّحات، و الموجود منها في المقام مخالفة العامّة في جانب ما اشتمل على إثبات السجدة، لموافقة النهي، لما حكي عن أكثر الجمهور من القول باشتراط الطهارة من الحدثين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 36 من أبواب الحيض، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 319

البحث السابع في التشهّد

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 321

و هو واجب في الثنائيّة مرّة، و في الثلاثيّة و الرباعيّة مرّتين بلا خلاف بيننا على الظاهر، بل صرّح غير واحد بأنّه قول علمائنا أجمع، و إن كان يوهم الخلاف بعض الأخبار الذي وقع فيه التصريح بأنّه سنّة، حيث يظهر منه كون التشهّد مستحبّا و إن كان ورد التعبير بالسنّة في بعض الواجبات، و لكنّه في ذيل أخبار عدم الإعادة بالسهو و أنّه من خواصّ ما وجب بالسنّة في مقابل ما وجب بالقرآن.

و أمّا هنا فيستشعر، بل يستظهر من الخبر إرادة الاستحباب و عدم كونه من الواجبات، حيث علّل تماميّة الصلاة لو أحدث بعد ما يرفع رأسه من السجود الأخير بقوله عليه السّلام: «إنّما التشهّد سنّة في الصلاة، فيتوضّأ و يجلس مكانه أو مكانا نظيفا فيتشهّد» «1».

اللّٰهمّ إلّا أن يحمل السنّة هنا أيضا على الوجوب

المستفاد من السنّة و يقال بأنّ الحدث القهري أيضا كالسهوي غير مبطل إذا وقع قبل هذا الواجب، كما حكي الفتوى بذلك عن الصدوق قدّس سرّه، فإن أمكن الحمل على ذلك فهو، و إلّا فلا محيص عن

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 321

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب التشهّد، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 322

الطرح، لمخالفته إجماع الأصحاب، و يكفي في طرح الخبر إعراضهم عن العمل و لو لم يصل حدّ الإجماع فضلا عمّا وصل.

و مثل ذلك الحال في ما دلّ من الأخبار على كفاية مجرّد: الحمد للّٰه و أنّه لو كان كما يقولون واجبا على الناس هلكوا «1».

و في آخر بعد السؤال عن أيّ شي ء أقول في التشهّد و القنوت؟ فقال عليه السّلام:

«بأحسن ما علمت، فإنّه لو كان موقتا لهلك الناس» «2».

و ما دلّ على كفاية الشهادة الواحدة، و هي الشهادة بالوحدانيّة في التشهّد الأوّل و لزوم الشهادتين في الثاني، كالصحيح عن زرارة «قال: قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: ما يجزي من القول في التشهّد في الركعتين الأوليين؟ قال عليه السّلام:

أن تقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه وحده لا شريك له، قلت: فما يجزي في الركعتين الأخيرتين؟ فقال عليه السّلام: الشهادتان» «3».

فإنّ الإجماع المذكور يوجب القطع بمطروحيّتهما لو لم يقبلا الحمل على نفي وجوب الزيادات المذكورة في التشهّدين.

و ربما يؤيّده أنّ مجرّد الشهادتين ليس وجوبهما موجبا لهلاكة الناس، إذ ما من مسلم إلّا و يتمكّن من التلفّظ بهما، فالمناسب إرادة تلك الزيادات، لكونها كثيرة شاقّا على الناس خصوصا العوام حفظها و إتيانها.

و حينئذ فالمقصود في صحيح زرارة أيضا سؤالا و

جوابا هو تعيين ما لا يجزي

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب التشهّد، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب التشهّد، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب التشهّد، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 323

أقلّ منه، و بعبارة أخرى تعيين الواجب عن المندوب من ذلك التشهّد الطولاني المشتمل على الزيادات، فأجاب عليه السّلام بقوله: أن يقول: أشهد إلخ، يعني أن تبدأ بهذه الكلمة إشارة إلى أنّ ما تقدّمها غير واجب.

و أمّا ما يلحقها من الشهادة بالرسالة فعدم ذكره من باب الإيكال على الوضوح، حيث إنّ السؤال كان عن لزوم ما زاد على الشهادتين بعد الفراغ عن لزومها، و لهذا اقتصر في التشهّد الأخير بذكر الشهادتين أيضا.

و بالجملة فإن صحّ هذا الحمل في هذه الأخبار أيضا، و إلّا فالمتّجه طرحها، لعدم العمل بها بين الطائفة قدّس سرّهم.

و إذن فلا شبهة في أصل وجوب التشهّد و لا في لزوم اشتماله على الشهادتين، سواء الأوّل أم الثاني.

و أمّا إضافة الصلاة على النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله فالظاهر تحقّق الإجماع على الوجوب أيضا و إن كان إثباته من سائر الأدلّة التي تمسّكوا بها من الأخبار و غيرها في غاية الإشكال، بل ممنوعا، مثل ما دلّ على أنّ تماميّة الصلاة بالصلاة على النبيّ، كما أنّ تمام الصوم بإعطاء الزكاة، و لا صلاة له إذا ترك الصلاة على النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، فإنّ مثل هذا التعبير يناسب الاستحباب كما لا يخفى.

و أوهن منه التمسّك بقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ الآية بتقريب أنّه بعد القطع بعدم الوجوب في غير الصلاة يبقى الوجوب فيها مرادا من ظاهر الأمر، فإنّ

من المتعيّن حمل الأمر في أمثال هذه المقامات على الاستحباب.

و مثل ذلك التمسّك بالأخبار المشتملة على الصلاة مع بعض الإضافات الأخر المقطوع باستحبابها، فإنّ ذكر الشي ء في تلو المستحبّات يوهن الدلالة على الوجوب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 324

هذا مضافا إلى وجود الأخبار الأخر الدالّة على عدم وجوب و كفاية الشهادتين، بحيث لو كنّا و مقتضى الجمع لتعيّن القول بالاستحباب، و لكنّ العمدة ما عرفت من تحقّق إجماع الإماميّة على الوجوب، فما ينافيه إن كان قابلا للتوجيه فهو، و إلّا تعيّن الطرح و ردّ علمه إلى أهله.

تنبيه: المشهور استحباب الصلاة على النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله عند ذكره للمتكلّم و السامع،

لا الوجوب، بل عن المحقّق في المعتبر و العلّامة في المنتهى دعوى الإجماع عليه، و في الذخيرة: لم أطّلع على مصرّح بالوجوب من الأصحاب.

و حينئذ فإن ورد في بعض الأخبار ما يدلّ بظاهره على الوجوب كالأمر به كلّما ذكرته صلّى اللّٰه عليه و آله أو ذكره ذاكر عندك في الأذان أو غيره، و كالدعاء على من تركه بدخول النار، و بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «أبعده اللّٰه» فلا محيص عن حمله على شدّة الاستحباب، فإنّ كثرة الابتلاء في اليوم و الليلة مرّات عديدة لكلّ مكلّف مع اشتهار القول بعدم الوجوب ممّا لا يجتمعان مع الوجوب، فالاشتهار المذكور آية عدم إرادة الظاهر من تلك الأخبار، هذا.

بقي الكلام في صورة التشهّد الواجب و أنّه هل يتعيّن صورة خاصّة و هي قول: «أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله» أو يكفي بأيّ صورة مشتملة على الشهادة بالوحدانيّة و الرسالة و لو مثل قول: أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه و أنّ محمّد صلّى اللّٰه عليه و آله سيّد رسله؟

مجمل الكلام

في المقام أنّه لو أحرز كون المطلقات الدالّة على إيجاب الشهادتين في مقام البيان، لكان الأولى بل المتعيّن في مقام الجمع بينها و بين المقيّدات المتعرّضة للصورة الخاصّة حمل تلك المقيّدات على بيان أفضل الأفراد، و ذلك لبعد حمل المطلق الوارد في مقام البيان على المقيّد المنفصل المتأخّر عنه و خصوصا في هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 325

المقام الذي يكون التشهّد محلّا للابتلاء في كلّ يوم و ليلة مرّات عديدة.

و هذا بخلاف التصرّف في هيئة المقيّد بحمله على الرجحان و الفضيلة، فإنّه ليس بتلك المكانة من البعد، بل في غاية من القرب، إلّا أنّ ورود المطلقات المذكورة في مقام البيان محلّ منع، كما تقدّمت الإشارة إليه و أنّ المقصود بها الإشارة إلى المعهود في الأذهان من الصورة الخاصّة، و المقصود نفي وجوب سائر الملحقات و الإضافات المذكورة في التشهّد الطولاني، هذا حال المطلقات.

و أمّا المقيّد فهنا رواية صحيحة ظاهرة في تعيين الصورة المشهورة، و هي رواية محمّد بن مسلم «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: التشهّد في الصلاة؟

قال عليه السّلام: مرّتين، قال: فقلت: كيف مرّتين؟ قال عليه السّلام: إذا استويت جالسا فقل:

أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، ثمّ تنصرف» «1».

و لا مناقشة في دلالتها إلّا اشتمالها على الانصراف عقيب التشهّد و عدم الأمر بالصلاة و التسليم مع كونهما واجبين.

و يمكن أن يقال: إنّ المراد بالانصراف هو إيجاد سببه الشرعي و هو التسليم، و يؤيّده وقوعه موردا للأمر و حمل الانصراف في بعض الأخبار على التسليم، و أمّا عدم ذكر الصلاة فهو أمر مشترك في غالب أخبار الباب، و يمكن كونه إيكالا

على وضوح وجوبها، و لا يعارض هذه الصحيحة في ظهور تعيين هذه الصورة إلّا روايتان:

إحداهما: خبر عليّ بن جعفر المرويّ عن كتاب قرب الإسناد عن أخيه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب التشهّد، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 326

موسى عليه السّلام «قال: سألته عن رجل ترك التشهّد حتّى سلّم؟ قال عليه السّلام: إن ذكرها قبل أن يسلّم فليتشهّد و عليه سجدتا السهو، و إن ذكر أنّه قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه، أو بسم اللّٰه أجزأه في صلاته، و إن لم يتكلّم بقليل و لا كثير حتّى سلّم أعاد الصلاة» «1».

و الثانية: خبر الحسن بن الجهم «قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل صلّى الظهر و العصر فأحدث حين جلس في الرابعة؟ قال عليه السّلام: إن كان قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه و أنّ محمّدا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فلا يعيد، و إن كان لم يتشهّد قبل أن يحدث فليعد» «2».

أمّا الاولى فليست في مقام تحديد التشهّد، بل المقصود أنّه لو تذكّر ذلك إمّا أنّه يتيقّن بإتيان البقيّة على الكيفيّة، أو يشكّ، فيكون محكوما بالإتيان بقاعدة التجاوز، لا أنّه تذكّر القول المذكور بدون التلفّظ بغيره، كيف و إلّا فاللازم الاكتفاء بمجرّد قول بسم اللّٰه، و هو مقطوع الخلاف.

و أمّا الثانية و إن كان يظهر منها تطبيق التشهّد على القول المذكور، إلّا أنّ ما سيقت لأجله من التفصيل بين ما قبل التشهّد و ما بعده بعدم الإعادة في الثاني و لزومها في الأوّل، و إذن فلا يبعد القول بتعيّن ما تضمّنته صحيحة محمّد بن مسلم، كما هو المشهور الآن.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من

أبواب التشهّد، الحديث 8.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 327

البحث الثامن في التسليم

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 329

اعلم أنّه اختلفت كلمات الأخيار في وجوب التسليم في الصلاة و ندبه،

و المنشأ اختلاف الأخبار.

فممّا استدلّ به على الوجوب ما ورد في الأخبار المستفيضة لو لم نقل متواترة من أنّ تحليل الصلاة التسليم.

و فيه أنّ دلالة ذلك على الجزئيّة محلّ منع، بل غايته جعل التسليم رافعا للمنع الوضعي و موجبا لعدم قدح المنافيات في الصلاة، و هذا المعنى يجامع مع الخروج عن المركّب المأمور به بدون التسليم.

نعم لو قلنا بأنّ حفظ الصلاة عن ورود ما ينافيها واجب وجب التسليم من باب المقدّمة لهذا التكليف النفسي، و أين هو من الوجوب الغيري و الجزئيّة للصلاة، و إن قلنا بعدم وجوب الحفظ فلا يثبت حينئذ استحباب التسليم فضلا عن وجوبه.

و الحقّ الاستدلال على الوجوب ببعض الأخبار الأخر المتفرّقة في الأبواب المتفرّقة المشتملة على الأمر بالتسليم الظاهر في الوجوب، و ما اشتمل على السؤال عن علّة وجوبه الظاهر في المفروغيّة عن وجوبه و ما اشتمل على أنّ آخر الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 330

أو اختتامها التسليم، فإنّ آخر الشي ء داخل فيه كأوّله.

و إذن فالعمدة هو النظر في المعارضات و ملاحظة ما يقتضيه الجمع، فنقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ منها المستفيضة المشتملة على أنّ النوم الواقع قبل التسليم و كذا الحدث و الالتفات الفاحش الواقعان قبله غير مضرّة بالصلاة، بتعبير أنّه قد تمّت الصلاة أو مضت.

و لكن فيه- مضافا إلى ما يأتي إن شاء اللّٰه تعالى- أنّه في نفس هذه الأخبار أمارة الوجوب قائمة و هو الأمر بالتسليم إذا كان مع إمام فوجد في بطنه أذى، و كذا إن كان رعافا، فإنّه غسله، ثمّ رجع فسلّم.

و منها: المستفيضة الحاكمة بمضيّ الصلاة أو الانصراف بالفراغ من الشهادتين على ما في بعضها،

أو التشهّد على ما في آخر.

و فيه أيضا- مضافا إلى ما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى- أنّ فيها الأمر بالتسليم إن كان مستعجلا في أمر يخاف أن يفوته، و أمّا الانصراف فقد عرفت أنّه يمكن إرادة التسليم منه، كما يشهد به خبر كهمس عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن الركعتين الأوليين إذا جلست للتشهّد، فقلت و أنا جالس: السّلام عليك أيّها النبيّ و رحمة اللّٰه و بركاته، انصراف هو؟ قال: لا، و لكن إذا قلت: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين، فهو الانصراف» «1».

و في صحيحة الحلبي: «و إن قلت: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين، فقد انصرفت» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب التسليم، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب التسليم، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 331

و الحقّ في المقام على ما أفاده شيخنا الأستاذ دام ظلّه على رءوس الأنام أنّ مقتضى الجمع بين ما دلّ على وجوب التسليم و كونه محلّلا للمحرّمات قبله، و ما دلّ على مضيّ الصلاة بتمام التشهّد، و ما دلّ على عدم إضرار الحدث الواقع قبل السّلام منضمّا إلى ما دلّ على أنّ الحدث الواقع في أثناء الصلاة مبطل لها، هو كون السّلام حدّا للصلاة و الصلاة محدودة بها، و حدّ الشي ء خارج عنه كالنقطة عن الخطّ، لا بمعنى كونه واجبا مستقلا، بل بمعنى جزئيّته للمركّب المأمور به و ارتباطه بسائر الأجزاء في تعلّق الأمر و أجنبيّته عن الأجزاء الصلاتيّة بما هي صلاة و مناجاة مع اللّٰه تعالى، نظير التوديع المرسوم إتيانه في آخر المجلس عقيب تمام المحاورة بين السيّد و عبده، فإنّه ليس من سنخ تلك

المحاورة، و لكنّه شرط و أدب واجب للحضور في محضر السيّد، بحيث لولاه بطل ما تقدّمه.

فهنا أيضا الصلاة عبارة عن الأقوال و الأفعال من أوّل التكبيرة، و ينتهي بالتشهّد، و أمّا السّلام فبمنزلة التوديع و ليس مجانسا لتلك الأجزاء، و على هذا فما دام لم يأت بالسلام لم يفرغ عن المأمور به، لأنّ بعض أجزائه السّلام، نعم هو بعد التشهّد فارغ من الصلاة و بقي توديعه مع ربّه.

و هذا مناسب مع قوله عليه السّلام لمن عرضه أذى في بطنه و هو خلف إمام يطيل في التشهّد فيسلّم و ينصرف و يدع الإمام «1».

و في آخر إذا فرغ من التشهّد فقد مضت صلاته، فإن كان مستعجلا في أمر يخاف فوته فسلّم و انصرف أجزأه «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 64 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب التسليم، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 332

و في ثالث: و إن كان مع إمام فوجد في بطنه أذى فسلّم في نفسه و قام فقد تمّت صلاته «1».

و مناسب أيضا مع أخبار دلّت على عدم إضرار الحدث الواقع قبل التسليم معلّلا بأنّ الصلاة قد تمّت أو مضت، و ذلك لأنّ الحدث الذي مبطل سهوا كان أم عمدا إنّما هو في ما إذا وقع في أثناء الصلاة، و هذا خارج عنها بالفرض.

نعم حيث بقي السّلام المحلّل فالإتيان بالمنافيات عمدا محرّم عليه، بل و كذا بعضها سهوا أيضا كإلحاق الخامسة أو السكوت الطويل، فهذه الأخبار جعلت الحدث بعد التشهّد بمنزلة التكلّم، حيث إنّ عمده مبطل دون غيره، و من هذه الجهة مناسب مع أخبار حصر التحليل في السّلام.

نعم يبقى المنافاة مع ما دلّ على

كون السّلام آخر الصلاة أو ختمها به، حيث إنّ ظاهره كون السّلام داخلا في الصلاة و جزءا لها، و نحن قلنا بخروجه عنها و دخوله في المأمور به، و لكن إطلاق آخر الشي ء و أوّله على حدّية الخارجين عنه غير خارج عن الطريقة المأنوسة في المحاورة.

و إن شئت قلت: الأمر دائر بين أمور أهونها ما ذكرنا.

الأوّل: حمل قوله: إذا فرغ من الشهادتين فقد مضت صلاته، على إرادة التشهّد الطويل، و هو مشتمل على: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين، و المراد في قوله: سلّم و انصرف هو السّلام الأخير.

و الثاني: حمله على إرادة مضيّ معظم الصلاة.

و الثالث: ما احتملناه سابقا في الرواية الواردة في من أحدث بعد ما يرفع

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب التسليم، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 333

رأسه من السجود الأخير حيث قال عليه السّلام: قد تمّت صلاته و إنّما التشهّد سنّة.

و حاصله الفرق في الحدث القهري الواقع بين الصلاة بين ما إذا كان الأجزاء الباقية من الصلاة فرض اللّٰه و من الأركان، كالركوع و السجدتين، و بين ما إذا فهم وجوبه من السنّة كالتشهّد، فالبطلان مختصّ بالأوّل دون الثاني، لأنّ القسم الأوّل مطلوب على كلّ [حال] و لم يجاوز عنه الشارع، و إتيانه غير ممكن، لتخلّل الحدث و مانعيّته لنظم ما يليه مع ما سبقه، بخلاف القسم الثاني، فإنّه قد جاوز عنه الشارع و اكتفى بما تقدّم، فيكون هذا الحدث القهري غير مضرّ و إن وقع بين الصلاة.

لكنّ الأخير مع عدم تماميّته في ما دلّ على مضيّ الصلاة بالفراغ من التشهّد بدون تخلّل حدث الظاهر أنّه غير مفتى به، بمعنى أنّ الظاهر تحقّق الإجماع على

أنّ الحدث الواقع في ما بين أجزاء الصلاة مبطل لها، سواء كان من قبيل التشهّد و السجدة الأخيرة أم من غيرها.

و الحملان الأوّلان في مخالفة الظاهر بمكان بعد خلوّ ما ذكرنا عن مخالفة شي ء من الظواهر غير حمل الآخر على الحدّ الخارج عن المحدود، و هو أيضا معنى مأنوس في المحاورة، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

و أمّا احتمال الحمل على الاستحباب ففيه أنّه مضافا إلى مخالفته لظاهر ما دلّ على الوجوب خلاف أخبار حصر التحليل في التسليم، و معناه بقاء حرمة المنافيات إلى ما بعد السّلام، و بناء على الاستحباب يلزم جواز ارتكابها بعد الفراغ من التشهّد.

ثمّ لا يخفى أنّ الأصل في أمثال المسألة هو البراءة على ما هو الحقّ في دوران الأمر بين الأقلّ و الأكثر، إلّا أنّه ربما يجعل الأصل مساعدا لجانب الوجوب و هو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 334

استصحاب بقاء حرمة المنافيات و استصحاب بقاء كون الشخص مصلّيا و في أثناء الصلاة.

و فيه على التقرير الأوّل أنّه مشكوك الموضوع، لأنّ حرمة المنافيات مقيّدة بكونه بين الصلاة، و المفروض الشكّ في ذلك، لاحتمال كونه خارجا عن الصلاة، لأنّ الفرض احتمال الاستحباب، و معناه الخروج عن الصلاة بالتشهّد.

و على الثاني أنّ الشبهة مفهوميّة، و قد تقرّر عدم حجّية الاستصحاب في ما كان الشبهة في صرف المفهوم مع تبيّن الحال خارجا، كما في الشبهة في مفهوم الغروب أنّه الاستتار أو الذهاب، فإنّه لا شكّ لنا في الخارج، إذ نقطع بإتيان ما عدي السّلام، و بعدم إتيان السّلام و إنّما نشكّ في انطباق المركّب الصلاتي على ما عدي التسليم أو على ما يشمله أيضا، و كذا في انطباق عنوان الحريم الصلاتي على الأقلّ الخالي

منه أو الأكثر المشتمل عليه، و كلّ من هذين شبهة في المفهوم كالشبهة الغروبيّة، و الحقّ فيها عدم جريان الاستصحاب، كما قرّر في محلّه.

بقي الكلام في صيغة التسليم

لا إشكال في جواز الاكتفاء بكلّ من الصيغتين المعروفتين، أعني: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين، و السّلام عليكم و رحمة اللّٰه و بركاته.

أمّا الثانية: فلكونها قدرا متيقّنا من أدلّة اعتبار التسليم و محلّليته لو لم يكن منصرفا إليها.

و أمّا الأولى: فلما تقدّم في روايتي العيون و الخصال من التصريح بكونها مصداقا للسلام المحلّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 335

و إذن فيتخيّر المكلّف بين الصيغتين، نعم هذا مع اكتفاء المكلّف بإحداهما، و أمّا لو جمع بينهما فإن قدّم الاولى فلا إشكال في أصل المشروعيّة، للتصريح به في التشهّد الطويل، مضافا إلى كونه معلوما من ضرورة المذهب.

إنّما الكلام في تصويره، و المتصوّر فيه أمور أربعة:

الأوّل: أن تكون الصيغة الأولى مصداقا، و الثانية من باب تبديل الامتثال.

و الثاني: أن تكون الأولى محلّلة، و كانت الثانية أيضا جزءا للصلاة.

و الثالث: هذا الفرض مع كون الثانية مستحبّا مستقلّا كالتعقيب.

و الرابع: أن تكون الأولى محلّلة و بها يحصل الخروج من الصلاة، و أمّا المركّب المأمور به فكان تتميمه بالسلام الثاني بأن كان هو جزء من فرد المأمور به، لا من مقوّمات أصل الطبيعة.

ثمّ المتعيّن من هذه الأنحاء هو الأخير، لكون كلّ واحد ممّا قبله مقطوع البطلان.

أمّا الأوّل، فلأنّه إنّما يتصوّر في ما إذا كان الغرض الداعي إلى الأمر باقيا، و لمّا يحصل، و بمقتضى الأخبار الغرض ها هنا ليس إلّا التحليل أعني: سدّ باب الصلاة من أن يرد عليه الإفساد من قبل المنافيات، و هو قد حصل قهرا بواسطة السّلام الأوّل، و تقسيطه على السلامين

بحيث كان كلّ منهما مؤثّرا في بعض منه أيضا خلاف الفرض من كون كلّ منهما تامّا في الأثر.

نعم اشتراكهما بمعنى استناد الأثر إلى المجموع بحيث سقط كلّ واحد عن الاستقلال ممكن في صورة عرضيّة السببين، و أين هو من محلّ الفرض من كونهما مترتّبين في الوجود، و معه يستحيل استناد الأثر إلّا إلى الأوّل من غير استناد شي ء منه إلى الثاني.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 336

و الحاصل أنّ التخيير بين ذاتي الأقلّ و الأكثر بحيث لم يفرض لغير الذات دخل في التأثير أصلا حتّى لا يرجع إلى التباين كما يستحيل في باب الطلب، كذلك يستحيل في باب التأثير في أثر كالتحليل و غيره، و لهذا يستحيل اجتماع العلّتين التامّتين الطوليّتين على معلول واحد.

و أمّا الثاني، فخلاف الفرض من حصول الخروج عن الصلاة بالأولى، بحيث كلّما يقع من المنافيات يقع خارجا من الصلاة، فلا يجتمع الخروج مع الدخول، و مقتضى الجزئيّة هو الثاني.

و أمّا الثالث، فيمكن القطع بخلافه و أنّه ليس حال السّلام الأخير كحال التعقيب بحيث كان مستقلّا عن المأمور به الصلاتي، لا جزء للطبيعة و لا للفرد.

فيتعيّن الوجه الرابع، و هو كونه خارجا عن الصلاة، و لكنّه داخل في المأمور به، بمعنى كونه من مقوّمات الفرد الكامل، لا أصل الطبيعة، فيكون السّلام الثاني جزء للمحلّل بذاته، لا بوصف كونه محلّلا، بمعنى أنّ السّلام الطويل المركّب من السلامين مطلوب واحد، و لكن التحليل يحصل بجزئه الأوّل.

فالتسليم أشبه شي ء بالدهليز للدار، حيث إنّ الدهليز قد يكون قصيرا، و قد يكون طويلا، و في صورة الطويل يحلّ الممنوعات في الدار بأوّل الورود في مسمّى الدهليز، و لا يحتاج إلى إنهائه إلى الغاية في حصول التحليل المذكور،

و اللّٰه العالم.

و أمّا عكس هذا الترتيب و هو تقديم الثانية فلم يدلّ دليل على مشروعيّته، كما أنّه في صورة الاقتصار على الثانية فلا دليل على لزوم إضافة: و رحمة اللّٰه و بركاته، كما لا دليل على عدم اللزوم، فيبقى منفيّا بالأصل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 337

مسائل

الاولى لو نسي التسليم

فإن قلنا بعدم كونه جزءا واجبا فلا إشكال في الصحّة، و إن قلنا به فالأكثر على البطلان، لأنّ المخرج شرعا منحصر به، فكلّ ما يقع من المنافيات قبله تقع في الصلاة، و يشكل بعموم لا تعاد المقتضي لعدم البطلان من جهة الخلل في غير الخمسة المستثناة.

فإن قلت: المقام من تعارض العموم في جانب المستثنى منه للعموم في طرف المستثنى، حيث إنّ الحدث الواقع بعد نسيان التسليم موجب للبطلان بمقتضى المستثنى، بل لا تعارض، لأنّ الحكم بالصحّة من جهة نسيان التسليم حكم حيثي، و لا ينافيه البطلان الناشئ من جهة وقوع الحدث في الأثناء، فإنّه من قبيل المقتضي، و الأوّل من قبيل اللامقتضي، إذ ليس مفاده إلّا الصحّة من حيث فقدان التسليم، لا الصحّة الفعليّة، و من المعلوم عدم المنافاة بينها و بين البطلان من جهة أخرى.

نعم قد يكون بين مدلولي عام واحد متكفّل للحكم الحيثي نسبة الحكومة، كما في عموم «لا تنقص» بالنسبة إلى الشكّ السببي و الشكّ المسبّبي، فإنّه و إن كان حكما حيثيّا بطهارة الماء، و لكنّه يرفع به مع وصف كونه حيثيّا الشكّ في نجاسة الثوب، لأنّها من آثار تلك الطهارة الحيثيّة شرعا، فيتقدّم العموم بالنسبة إلى الفرد الأوّل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 338

على نفسه بالنسبة إلى الثاني للحكومة.

و مقامنا ليس من هذا القبيل، لأنّ الحكم بالصحّة من جهة فقدان التسليم ليس

من آثاره شرعا الصحّة من جهة أخرى حتّى يقال بحكومته على المدلول الآخر الذي هو الحكم بالبطلان من جهة وجود الحدث، فلا محيص عن القول بالبطلان.

قلت: لا بدّ من بسط المقال في الأنحاء التي يتصوّر اعتبار الطهارة في الصلاة، ثمّ تعقيبه بما هو اللازم على كلّ تقدير من تلك الأنحاء.

فنقول: تارة يعتبر الطهارة في كلّ جزء من الأجزاء بمعنى مقارنتها لذلك الجزء و استمرارها من أوّل الصلاة إلى آخرها، فلو انقطع استمرارها في أيّ من أزمان الصلاة كان ورد النقص على جميع الأجزاء، و هذا النحو من الاعتبار لا دليل عليه، بل يمكن أن يقال: ظاهر الأدلّة خلافه.

نعم على تقدير القول به فلا محيص عن القول بالبطلان في مسألتنا، إذ المفروض اختلال شرط جميع الأجزاء حتّى تكبيرة الإحرام، و هو موجب للبطلان بحكم المستثنى، و لا يثمر الإغماض عن جزئيّة التسليم المستفاد من المستثنى منه.

و اخرى: يعتبر شرطا للمصلّي ما دام مصلّيا، و اللازم من انتفائها انتفاء وصف كونه مصلّيا، و يشهد لهذا النحو ما هو مسلّم بينهم من إجراء استصحاب الطهارة مع أنّها لو كانت قيدا في الأجزاء لما أمكن إثبات تقيّد الأجزاء بها إلّا بالأصل المثبت، كما في سائر الشروط المعتبرة فيها، مثل اشتراط عدم كونها في جزء ما لا يؤكل.

و الثالثة: يعتبر شرطا في الأجزاء، بمعنى لزوم اقترانها مع كلّ منها، فقيد كلّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 339

هو الطهارة المقارنة، و لازمة أنّه لو تخلّل الحدث بين الأفعال فبادر إلى الوضوء بدون مناف صحّت الصلاة، و الظاهر أنّه ممّا [لا] قائل به و لو فرض ورود خبر به فهو مطروح متروك، لكنّا نتكلّم في المقام على تقدير كلّ من هذين

النحوين الأخيرين.

فنقول: تارة نقول: إنّ مفاد لا تعاد جعل مستقلّ في عرض الجعل الأوّلي للصلاة التامّة الأجزاء، فيخصّص ذلك الجعل بالذاكر العامد، و هذا جعل للصلاة الناقصة في حقّ غيره بناء على ما هو الحقّ المحقّق في محلّه من إمكان تخصيص الناسي بالخطاب.

و اخرى نقول بأنّه تصرف في مقام الامتثال للجعل الأوّلي، و مرجعه إلى تقبّل ما ليس بامتثال و ليس بمصداق مقام الامتثال و المصداق الحقيقي، بناء على ما ذهب إليه شيخ المشايخ المرتضى قدّس سرّه من عدم إمكان تخصيص الناسي بالخطاب.

فإن قلنا بالأوّل فمفاد القاعدة في مقامنا أنّ ناسي التسليم ليس صلاته محتاجة إليه، بل يكون جزؤها الأخير هو التشهّد، هذا بحسب مدلولها في طرف المستثنى منه.

و أمّا في جانب المستثنى فعلى الاحتمال الثاني «1» مفادها أنّ هذا الشخص الصادر منه الحدث ليس بمصلّ، و على الثاني يكون مفادها أنّ التسليم ليس قابلا للّحوق بالصلاة، و كلّ من هذين المفادين غير منافيين مع المفاد الأوّل، بل يجتمعان معه، فإنّ خروج الشخص عن كونه مصلّيا و التسليم من قابليّة اللحوق بالصلاة مع

______________________________

(1) كذا، و الظاهر أنّ الصحيح: الأوّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 340

كون الصلاة مختومة بالتشهّد ممّا لا يتنافيان، فنأخذ بكليهما من دون تعارض.

و إن قلنا بالثاني فالأمر كالأوّل، إلّا أنّ الفرق أنّه على الأوّل لا تعارض أصلا بين المفادين، و على الثاني و إن كان بينهما تعارض، إذ الفرض وقوع الحدث بين الصلاة، إلّا أنّ المتعيّن تقديم العموم في المستثنى، لأنّ له لسان الحكومة.

و بعبارة أخرى: مفاد القاعدة إنّما هو الصحّة الواقعيّة، و هي المتفاهم منها بحسب العرف، و لكن الإشكال العقلي الذي هو عدم إمكان تخصيص الناسي بالخطاب ألجأنا إلى

تأويل الخطاب المذكور إلى تقبّل مرحلة الامتثال، مع كون اللسان أنّه صلاة واقعيّة، فيكون هذا اللسان حاكما على ما يقتضي كون هذا الشخص غير مصلّ، أو كون سلامه غير قابل اللحوق، فإنّه إنّما يقتضي ذلك بطلان الصلاة لأجل حاجتها إلى إلحاق التسليم، فإذا دلّ دليل على أنّ صلاتك تمّت و انقضت و لا احتياج لها إلى جزء آخر كان له حكومة على الدليل الأوّل.

لا أقول: إنّ من آثار الصحّة الحيثيّة هي الصحّة من جهات اخرى، بل أقول: إنّ من لوازم الحكم بتماميّة الصلاة من جهة فقد التسليم و المفروض عدم طروّ الخلل من ناحية ما تقدّمه هو عدم الإفساد من ناحية الحدث المتأخّر، فالحكم مع وصف حيثيّته حاكم على الحكم بالبطلان، كما في مثال الشكّ السببيّ و المسبّبي، و ذلك لأنّ الحدث إنّما يؤثّر إذا وقع في أثناء الصلاة، فالحكم بتماميّة الصلاة قبله معناه وقوع الحدث خارج الصلاة، و الحدث الخارج لا تأثير له، فلسان المستثنى أنّ هذا حدث في الأثناء، و هو مبطل و موجب للإعادة، و لسان المستثنى منه و لو مع كونه حيثيّا أنّه ليس بحدث في الأثناء، بل حصل امتثاله بالفراغ من التشهّد.

و بعبارة أخرى: نزّل بحكم المستثنى منه في حقّ ناسي التسليم مجموع ما أتى به منزلة المركّب التامّ، و لازم ذلك أنّه لو تخلّل هذا الذي أتى به حدث أو استدبار أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 341

مثلهما من الموانع المطلقة أو فات منه شرط من الشرائط المطلقة كان باطلا، و أمّا لو كان سالما ممّا ذكر و إن تعقّبه حدث فلا وجه لبطلانه، كما هو الحال في الامتثال الحقيقي للمركّب التامّ.

الثانية هل المحلّل ذات السّلام أو هي مع قصد الخروج؟

مقتضى قوله عليه السّلام في رواية

العيون و الخصال الواردتين في المنع عن قول: السّلام علينا في التشهّد الأوّل كما هو دأب العامّة معلّلا بأنّ التسليم تحليل و إذا قلت هذا فقد سلّمت هو الأوّل، لوضوح أنّ الآتي في التشهّد الأوّل لا يقصد به الخروج، بل يكون قاصدا للبقاء في الصلاة، و مع ذلك حكم عليه السّلام بأنّه تحليل.

و من الغريب الاستدلال على لزوم نيّة الخروج تارة بأنّ السّلام مناقض الصلاة، لأنّه كلام آدمي، فلو لم ينو به الخروج لم يقع جزء محلّلا، بل صار مبطلا، و اخرى بأنّ السّلام المخرج عمل، و لا عمل إلّا بنيّة، لوضوح فساد الأوّل بأنّ مناقضيّته إنّما هو إذا وقع في الأثناء، و أمّا إذا وقع في المحلّ الذي شرع فيه فليس مبطلا، كيف و قد علّل في الخبر محلّليته بكونه كلام آدمي.

و فساد الثاني بأنّ السّلام بعنوانه مقصود إجمالا كسائر أجزاء الصلاة، و أمّا هذا العنوان الثانوي فلا يجب الالتفات إليه فضلا عن قصده، لأنّه من الخواصّ المترتّبة قهرا على العمل حسب ما يستفاد من الروايتين المتقدّمتين.

و ممّا ذكر يعرف الحال في ما لو نوى الخروج بالثانية، فإنّه يخرج بالأولى، و أمّا الثانية فإن كان قصده الخروج بها جهلا بالحكم كانت امتثالا للسلام المستحبّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 342

و يلغو القصد المذكور و إن كان تشريعا، فإن كان التشريع موجبا لحرمة العمل القلبي كان معاقبا على العمل القلبي و ممتثلا للأمر الندبي بواسطة العمل الخارجي، و إن كان موجبا للحرمة الخارجيّة فلم يحصل الامتثال بالنسبة إلى الأمر الندبي، و على كلّ حال فالصلاة صحيحة.

الثالثة لا إشكال في أنّ الواجب مجرّد اللفظ

و إن لم يخطر المعنى في الذهن، لكنّ الكلام في أنّه لو أخطر المعنى و قصد المنفرد، التحيّة

على الملكين الكاتبين و الإمام، المأمومين مع ذلك، و المأموم، الإمام مع ذلك بأن قصد الردّ بالنسبة إليه فهل فيه منع أو لا؟

صريح نجاة العباد المنع مع تقرير المحشّين قدّس أسرارهم له.

و استشكل فيه شيخنا الأستاذ دام ظلّه بأنّ المنع إن كان من جهة أنّ القصد الاستقلالي المحتاج إليه لقصد الامتثال، حيث إنّ المأمور به هو اللفظ، لا يجتمع مع الفنائي المحتاج إليه للاستعمال في المعنى، إذ هما من الضدّين، فلا يجتمعان في لحاظ واحد.

ففيه أنّه لا بأس باجتماعهما طولا بأن يقصد أصالة إلى اللفظ و تبعا للمعنى، و كم له من نظير.

و إن كان من جهة أنّه مع القصد المذكور يصير كلاما آدميّا مبطلا.

ففيه ما مرّ من تعليل المحلّلية في الخبر بكونه كلاما آدميّا.

ثمّ إنّ المذكور في بعض الروايات أنّ المنفرد و الإمام يومئان إلى اليمين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 343

بسلامهما، و المأموم يأتي بقول: السّلام عليكم مرّتين، يومئ باولاهما إلى اليمين و بالثانية إلى اليسار، هذا لو كان في يساره أحد، و لو لم يكن فيسلّم واحدة موميا إلى اليمين كالإمام و المنفرد، و ليس في الروايات التقييد بمؤخّر العين، و إنّما قيّده الفقهاء قدّس أسرارهم، فإن كان الوجه رعاية جانب الاستقبال المعتبر بحسب دليله في جميع الحالات فالظاهر أنّه لا وجه له، لأنّ هذا المقدار من الالتفات اليسير بتمام الوجه أوّلا غير مناف لصدق الاستقبال عرفا، و ثانيا على فرض المنافاة فاللازم تقييد دليل الاستقبال بغير هذا الحال، و اللّٰه العالم.

الرابعة [في ما لو تبيّن الدخول بعد السّلام علينا و قبل السّلام عليكم]

لا إشكال في أنّه لو أحرز الوقت بالطريق المقرّر و دخل في الصلاة فتبيّن دخوله في الأثناء و لو قبل السّلام علينا، أو في أثنائه حكم بصحّة صلاته، إنّما

الكلام في ما لو تبيّن الدخول بعد السّلام علينا و قبل السّلام عليكم أو في أثنائه، فهل يحكم أيضا بالصحّة أو لا؟

مقتضى القاعدة أنّا لو قلنا بخروج الثانية من الصلاة رأسا بمقتضى ما دلّ على انقطاع الصلاة بقول: السّلام علينا، غاية الأمر كونه جزءا استحبابيّا للمركّب المأمور به، فلا وجه للقول بالصحّة، لأنّ شيئا من الصلاة لم يقع في الوقت، و إن قلنا بأنّه جزء استحبابي للصلاة فالظاهر أيضا ذلك، لأنّ معنى الجزئيّة الاستحبابيّة ليست إلّا الجزئيّة التقديرية دون المطلقة، بمعنى أنّه على تقدير الوجود يلتحق بالصلاة و يصير ملتئما مع الأجزاء السابقة، لا أنّه جزء مطلقا و يشترط في صدق كونه في أثناء العمل بقاء جزء مطلق الجزئيّة، و إلّا فإن تمّت تمام الأجزاء المطلقة غاية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 344

الأمر له ضمّ بعض الضمائم و له تركه فلا يصدق عليه، إلّا أنّه قد فرغ من الامتثال بالنسبة إلى طبيعة المأمور به و فرده.

أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلأنّ ما وجد في الخارج مصداق للطبيعة، فقد فرغ عن المصداق، نعم بقي عليه امتثال الأمر الاستحبابي بضمّ تلك الضميمة الاستحبابيّة، و لكنّه لا يضرّ بصدق كونه بعد تماميّة الصلاة.

و من هنا يظهر الحال في فرع آخر و هو ما إذا طرأ له شكّ بالنسبة إلى الأجزاء أو الركعات في ما بين السلامين، حيث إن قلنا بابتناء المسألة على الشكّ بعد الفراغ و أنّ له عنوانا مستقلّا في قبال الشكّ بعد المحلّ فقد تحقّق الفراغ هنا، و أمّا إن قلنا بأنّ قاعدة الفراغ ليست قاعدة أخرى غير قاعدة التجاوز عن المحلّ الشرعي و قلنا: إنّ الشكّ بعد المحلّ أعمّ من كون المشكوك شيئا

وجوديّا أو عدميّا، و كذا أعمّ من الأجزاء الخارجيّة و من العقليّة إمّا بحسب الموضوع أو بملاحظة التعليل بأنّه حين العمل أذكر، فالحكم بالصحّة لا يحتاج حينئذ إلى تجشّم و تكلّف، بل هو ثابت على كلّ تقدير، كما هو واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 345

فصل في قواطع الصلاة و هي أمور:

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 347

[أوّلها] الحدث في أثناء الصلاة

منها: ما ينقض الطهارة من موجبات الحدث الأصغر، كالبول و الغائط و أمثالهما، و موجبات الحدث الأكبر، كالجنابة و الحيض و نحوهما، و أمّا إبطال ذلك في صورة الوقوع العمدي فالظاهر أنّه ممّا لا إشكال فيه و لا خلاف، و عن غير واحد دعوى الإجماع عليه، بل عن بعض عدّه من ضروريّات المذهب.

و أمّا في غير صورة العمد فالظاهر المصرّح به بعض عدم الخلاف فيه أيضا في ما يوجب الغسل، و في ما يوجب الوضوء خلاف، فالمشهور أنّه كالعمد مبطل للصلاة، و قيل: لو أحدث ما يوجب الوضوء قهرا و خارجا عن الاختيار تطهر و بنى على ما مضى من صلاته، و نسب هذا القول إلى السيّد و الشيخ في بعض كتبهما، و عن المفيد في المقنعة الفرق بين المتيمّم و غيره بإيجاب البناء في الأوّل إذا سبقه الحدث و وجد الماء، و الاستيناف في غيره، و اختاره الشيخ قدّس سرّه في النهاية و المبسوط، و ابن عقيل، و قوّاه في المعتبر.

و كيف كان فربما يستدلّ للمشهور بقوله عليه السّلام: «لا صلاة إلّا بطهور» «1»،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 348

بضميمة قاعدة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه.

و ربما يناقش بأنّه لا إشعار في مثل هذه العبارة باعتباره في جميع أفعال الصلاة أيضا، فضلا عن استمراره من أوّلها إلى آخرها، بل لا يفهم منها إلّا اعتبار الطهور في ماهيّة الصلاة على سبيل الإجمال كما هو واضح، و يتّضح بقياسها إلى نظيرتها: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب.

و لكنّ المناقشة مدفوعة بالفرق بين أداء الجزء بهذه العبارة و بين أداء الشرط، فالأوّل

يفيد لابدّية اشتمال الكلّ على ذلك الجزء على وجه الإجمال، و أمّا الثاني فالظاهر إفادة الشرطيّة في جميع المركّب من أوّله إلى آخره.

نعم يمكن كونه كالطهارة الخبثيّة أو نيّة القربة شرطا معتبرا في أفعال المركّب، و يمكن كونه شرطا في المجموع منها و من الأكوان المتخلّلة بينها، و لا دلالة في العبارة على شي ء من الوجهين، فيكون المتيقّن هو الشرطيّة بالنسبة إلى حال التشاغل بالأفعال، و لازمة أنّه لو انتفض الشرط في الأثناء جاز له المبادرة إلى تحصيله للأجزاء الباقية، كما هو الحال في الطهارة الخبثيّة و نيّة القربة، حيث إنّه لو رعف و أمكنه التطهير بلا لزوم مناف وجب عليه ذلك و صحّت صلاته، فيكون الحال في الحدثيّة أيضا بهذا المنوال، و إذن فالدليل المذكور غير واف بمرام المشهور.

فالصواب الاستدلال لهم بالأخبار التي فيها الموثّق و غيره الواردة بالأمر بالإعادة و عدم الاعتداد بشي ء ممّا صلّى في من خرج عنه الحدث لا عن اختيار.

فمنها: موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سئل عن الرجل يكون في صلاته فيخرج منه حبّ القرع كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: إن كان خرج نظيفا من العذرة فليس عليه شي ء و لم ينقض وضوءه، و إن خرج متلطّخا بالعذرة فعليه أن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 349

يعيد الوضوء، و إن كان في صلاته قطع الصلاة و أعاد الوضوء و الصلاة» «1».

و مثلها أخبار أخر ليست بموثّقة، لكنّها معتضدة بالشهرة و عدم تحقّق خلاف يعتدّ به فيه، بل عن التذكرة و غيره دعوى الإجماع عليه.

مع أنّها لا معارض لها في مضمونها، فإنّ مستند القول بعدم البطلان مطلقا من غير فرق بين المتوضّي و المتيمّم صحيحة الفضيل بن

يسار «قال: قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: أكون في الصلاة فأخذ غمزا في بطني أو أزّا «2» أو ضربانا، فقال عليه السّلام: انصرف ثمّ توضّأ و ابن على ما مضى من صلاتك ما لم تنقض الصلاة بالكلام متعمّدا، و إن تكلّمت ناسيا فلا شي ء عليك، فهو بمنزلة من تكلّم في الصلاة ناسيا، قلت: فإن قلّب وجهه عن القبلة، قال عليه السّلام: نعم و إن قلّب وجهه عن القبلة» «3».

و هي إنّما تكون معارضة لتلك إذا كان المراد من الأزّ و الغمز فيها الكناية عن خروج الحدث بلا اختيار بقرينة الأمر بالانصراف، و لكنّه يمكن القطع بعدم إرادته و أنّ المراد أنّه عند طروّ هذه الحالة لا يجب عليه الصبر و التحمّل على الشدّة، بل يجوز أن ينصرف و يتخلّى و يستريح ثمّ يتوضّأ و يعود و يبني على ما مضى من صلاته.

و يصرّح بذلك خبر أبي سعيد القمّاط «قال: سمعت رجلا يسأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل وجد غمزا في بطنه أو أذى أو عصرا من البول و هو في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 5.

(2) خ ل: أذى.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 350

صلاة المكتوبة في الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ فقال عليه السّلام:

إذا أصاب شيئا من ذلك فلا بأس بأن يخرج لحاجته تلك فيتوضّأ ثمّ ينصرف إلى مصلّاه الذي كان يصلّي فيه فيبني على صلاته من الموضع الذي خرج منه لحاجته ما لم تنقض الصلاة بالكلام، قال: قلت: و إن التفت يمينا أو شمالا، أو ولّى عن القبلة؟ قال عليه السّلام:

نعم كلّ ذلك واسع، إنّما هو بمنزلة رجل سها فانصرف في ركعة أو ركعتين أو ثلاثة من المكتوبة، فإنّما عليه أن يبني على صلاته، ثمّ ذكر سهو النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله» «1».

فإنّ قوله عليه السّلام: لا بأس بأن يخرج لحاجته تلك فيتوضّأ، أنّه إنّما يحدث عمدا بعد خروجه.

و على هذا فلا دلالة في هاتين الروايتين على خلاف مفاد الأخبار الأول، إذ هي واردة في الحدث الاضطراري القهري في الأثناء، و هاتان موردهما الحدث العمدي الاختياري، بل و الاستدبار العمدي و الفصل الطويل كذلك، فلو لم يكن بطلان الصلاة مع وجود أمثال ذلك إجماعيا أمكن الجمع بين كلا المفادين بأن يقال بالبطلان في صورة القهريّة و الصحّة في ما إذا تردّد الأمر بين الإتمام مع مدافعة الأخبثين و الصبر على تحمّل الغمز و العصر و بين قطع الصلاة و التخلية، ثمّ استيناف الوضوء و الصلاة، فيقال بأنّ الشارع راعى جانب أهمّية حرمة القطع، فمع حفظ المصلّي عن مدافعة الأخبثين، فرخّصه في قضاء حاجته في أثناء الصلاة و إن اشتمل على الاستدبار و الفصل الطويل.

و لكن هذا المعنى مجمع على خلافه، و ذلك المعنى أعني الصحّة في الحدث

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 11.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 351

القهري ليس بمفاد هذين الخبرين حتّى يقال: إنّه في مقام المعارضة يترجّح الأخذ بهذين، لأصحّية السند.

و إذن فلا محيص عن عدم العمل إلّا بتلك و ردّ علم هذين إلى أهله.

و استدلّ للقول بوجوب البناء في المتيمّم إذا سبقه الحدث و وجد الماء دون غيره بصحيح زرارة المرويّ عن التهذيب عن أحدهما عليهما السّلام، «قال: قلت له:

رجل دخل في الصلاة و

هو متيمّم فصلّى ركعة، ثمّ أحدث فأصاب الماء؟ قال عليه السّلام:

يخرج و يتوضّأ، ثمّ يبني على ما مضى من صلاته التي صلّى بالتيمّم» «1».

و الصحيح المرويّ عن التهذيب بإسناده عن زرارة عن محمّد بن مسلم «قال: قلت: في رجل إلخ» «2».

و عن الفقيه بإسناده عن زرارة و محمّد بن مسلم «قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السّلام:

في رجل لم يصب الماء و حضرت الصلاة، فتيمّم و صلّى ركعتين ثمّ أصاب الماء، أ ينقض الركعتين أو يقطعهما و يتوضّأ، ثمّ يصلّي؟ قال عليه السّلام: لا، و لكنّه يمضي في صلاته و لا ينقضها، لمكان أنّه دخلها على طهور بتيمّم، قال زرارة: فقلت له عليه السّلام:

دخلها و هو متيمّم فصلّى ركعة واحدة و أحدث فأصاب ماء؟ قال عليه السّلام: يخرج و يتوضّأ و يبني على ما مضى من صلاته التي صلّى بالتيمّم» «3».

و الظاهر كونهما رواية واحدة مرويّة بطريقين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 10.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 21 من أبواب التيمّم، الحديث 4.

(3) الفقيه 1: 58- 214. و راجع الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 21 من أبواب التيمّم، الحديث 4 و ذيله.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 352

و قد يناقش في الاستدلال بإمكان الحمل على الاستيناف و أنّ المراد بالبناء هو البناء على الصلوات التي صلّاها بالتيمّم، فالمقصود عدم لزوم إعادتها بعد إصابة الماء.

و لكنّ المناقشة مدفوعة بعدم احتمال هذا المعنى في الرواية و صراحتها في إرادة البناء على الأجزاء الماضية من تلك الصلاة التي وقع الحدث في أثنائها، فإنّه مضافا إلى ظهور لفظ البناء في ذلك لا حاجة في البناء على صحّة الصلوات الماضية بالتيمّم إلى التوضّؤ، فالذي يحتاج إليه و

يحسن الإتيان بكلمة «ثمّ» فيه إنّما هو البناء على تتميم الصلاة الواحدة.

فالرواية صريحة في المدّعى صحيحة بحسب السند، فلا بأس بالعمل بها، و ليست النسبة بينهما و بين الروايات السابقة إلّا أضعف من نسبة العموم و الخصوص، و ذلك لأنّه ليس في تلك إطلاق أو عموم، لأنّ موردها المتوضّي.

نعم يعلم منها الحكم بالنسبة إلى المتيمّم، فلو كان لها عموم وجب رفع اليد عنه بهذه الرواية، لخصوصها و صراحتها، فكيف إذا لم يكن.

و حينئذ يمكن أن يستفاد من هذه الرواية أنّ الأجزاء السابقة من الصلاة باقية على صحّتها التأهّليّة و لم يحدث فيها خلل من قبل هذا الحدث المتخلّل في البين، و إذا لم يحدث فيها خلل و إنّما يحتاج صحّة الصلاة إلى بقيّة الأجزاء و هي أيضا قابلة للإلحاق بتحصيل الوضوء فهم منه الحال بالنسبة إلى صورة الحدث و عدم إصابة الماء و أنّ الحكم هو التيمّم.

و بعبارة أخرى: سؤال السائل في الفقرة الأولى أعني: ما إذا أصاب الماء بلا تخلّل حدث ممحّض في أنّه هل المقدار الذي تلبّس به من الصلاة يبطل بواسطة هذه الإصابة المتأخّرة، و ينكشف عدم وجود الإباحة فيرفع اليد عن المقدار

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 353

المتلبّس به و يستأنف الصلاة من رأس، أو أنّه ملزم بعدم رفع اليد عنه و الاعتداد به، فإذا أجابه الإمام عليه السّلام بالمضيّ في صلاته و عدم النقض فرض سؤاله في الفقرة الثانية في ما إذا تخلّل مع الإصابة المذكورة الحدث أيضا و أنّه هل حال تلك الأجزاء مع ذلك أيضا باق كما كان و لا يحدث فيها خلل يجوز بسببه رفع اليد عنها، فيكون ملزما بإتيان البقيّة، أو ليس كذلك، فأجاب عليه

السّلام بأنّه مع ذلك باق، فيخرج و يتوضّأ و يعود إلى المحلّ الذي أتى به، فيتمّ صلاته من ذلك المحلّ.

و معناه أنّ ما مضى من صلاته صحيحة، فيجب عليه المضيّ، و أمّا تعيين الوضوء فهو ما باب أنّه تكليف من كان واجد الماء، و ليس له مدخليّة في عدم إضرار الحدث بما مضى حتّى يكون مع عدمه مضرّا، فإنّ احتمال ذلك بعيد عن فهم العرف في نظائره، فيفهمون أنّ المكلّف لا بدّ أن يأتي بما هو وظيفته في تلك الحال، فإن كان فاقدا للماء يأتي بالتيمّم، و إلّا فبالوضوء، هذا.

و قد يتخيّل معارضة الأخبار المتقدّمة بما دلّ على أنّ الحدث الواقع بعد رفع الرأس عن السجدة الأخيرة قبل التشهّد ليس بمبطل، بل يتطهّر و يأتي بالتشهّد في ذلك المكان أو مكان آخر نظيف «1».

و لكنّ الحقّ أنّ هذه الأخبار غير منافية لما دلّ على مبطليّة الحدث في الأثناء، و ليست في مقام عدم مبطليّته إذا وقع في هذا الحال، بل هي في مقام تحديد الصلاة و جعل آخرها السجدة الأخيرة، كما يشهد بذلك تعليلها بأنّ التشهّد سنّة، أعني من الأجزاء التي فهم وجوبها من السنّة، لا من القرآن، فإنّه ظاهر في أنّ التشهّد قد أغمض و أسقط عن الصلاة، لمكان كونه سنّة و لا يوجب خلوّ الصلاة عنه بغير عمد

______________________________

(1) انظر الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب التشهّد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 354

خللا فيها، و ليس كالأركان يوجب خلله انتقاض الصلاة، و حينئذ فالحدث واقع خارج الصلاة، فلا ينافي ما دلّ على إضرار الحدث الداخل فيها.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ معارض أدلّة إضرار الحدث الواقع في أثناء الصلاة ثلاث طوائف من الأخبار.

الأولى: ما

توهّم فيه المعارضة و ليس كما توهّم، بل له مضمون آخر ممكن الاجتماع معه كما ذكرنا، و لكنّه خلاف الإجماع، و لو لم يكن إلّا نفسه فيجب طرحه من هذه الجهة.

و الثانية: ما ورد في المتيمّم إذا أحدث في الأثناء، و قد مرّ تقوية تخصيص تلك الأدلّة بسببه حتّى في صورة عدم إصابة الماء و إن كان مورد الخبر صورة الإصابة، لكن ذكرنا أنّ العرف يفهم إلغاء هذه الخصوصيّة بالمناسبة المقاميّة.

و الثالثة: ما ورد في من أحدث بعد السجدة الأخيرة قبل التشهّد، و قد عرفت عدم مساسها بمبطليّة الحدث في الأثناء، و إنّما يرفع جزئيّة التشهّد في هذا الحال، فإن وجد قائل به، و إلّا اطرح من تلك الجهة، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام.

[ثانيها:] التكفير في الصلاة

ثانيها: التكفير في الصلاة تأدّبا و خضوعا لغير تقيّة.

و الكلام تارة: في موضوعه و أنّه ما هو، و أخرى: في حكمه و أنّه مجرّد التحريم النفسي أو الكراهة أو الإبطال.

و العمدة هو التكلّم في المقام الثاني، و هو موقوف على التيمّن بذكر جملة من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 355

أخبار المقام، فنقول و باللّه الاعتصام و بأوليائه الكرام صلوات اللّٰه عليهم كرّ الليالي و الأيّام:

منها: ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام «قال: قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة، اليمنى على اليسرى؟ قال عليه السّلام: ذلك التكفير، فلا تفعل» «1».

و عن حريز عن رجل عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال عليه السّلام: لا تكفّر، إنّما يفعل ذلك المجوس» «2».

و عن الصدوق في الخصال عن أبي بصير و محمّد بن مسلم عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام «قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا

يجمع المؤمن يديه في صلاته و هو قائم بين يدي اللّٰه عزّ و جلّ يتشبّه بأهل الكفر، يعني المجوس» «3».

و عن كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه «قال: إذا قمت قائما في الصلاة فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، و لا اليسرى على اليمنى، فإنّ ذلك تكفير أهل الكتاب، و لكن أرسلهما إرسالا، فإنّه أحرى أن لا تشغل نفسك عن الصلاة» «4».

و عن الحميري في قرب الإسناد عن عبد اللّٰه بن الحسن عن جدّه عن عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: وضع الرجل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 7.

(4) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 356

إحدى يديه على الأخرى في الصلاة عمل، و ليس في الصلاة عمل» «1».

و عن عليّ بن جعفر عليه السّلام في كتابه عن أخيه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يكون في صلاته يضع إحدى يديه على الأخرى بكفّه أو ذراعه؟ قال عليه السّلام:

لا يصلح ذلك، فإن فعل فلا يعودنّ له، قال عليّ: قال موسى عليه السّلام: سألت أبي جعفر عليه السّلام عن ذلك فقال عليه السّلام: أخبرني أبي محمّد بن عليّ عليهما السّلام، عن أبيه عليّ ابن الحسين عليهما السّلام، عن أبيه الحسين بن عليّ عليهما السّلام، عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قال: ذلك عمل و ليس في الصلاة عمل» «2».

إذا سمعت ما تلونا

عليك فاعلم أنّ الأخبار بين ثلاث طوائف:

بين ما دلّ على النهي عنه إمّا مطلقا، أو معلّلا بأنّه فعل المجوس و تشبّه بأهل الكفر، و ظاهره الإرشاد إلى أنّه يعتبر في المركّب عدمه، فإنّ النواهي الواردة في أبواب المركّبات من العبادات و غيرها عن إيجادها بكيفيّة أو إيجاد شي ء فيها ظاهرة في الإرشاد إلى اعتبار عدم ذلك الشي ء في المركّب.

و بين ما دلّ على تشكيل صورة القياس من قولهم عليهم السّلام: التكفير عمل و ليس في الصلاة عمل، و هو أيضا بحسب الهيئة دالّ على الإبطال كما هو المتراءى من أمثاله من التراكيب، و يأتي إن شاء اللّٰه التكلّم فيه من جهة المادّة.

و بين ما دلّ بظاهره على عدم فساد الصلاة به، و هو رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام في كتابه المشتملة على قوله عليه السّلام: فإن فعل فلا يعودنّ له، فإنّه ظاهر في عدم لزوم إعادته للصلوات السابقة، و إلّا لأمره و لم يقتصر على نهيه عن العود.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 4.

(2) مسائل عليّ بن جعفر: 170- 288.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 357

و إذن فيحصل التعارض بين هذه الرواية مع تينك الطائفتين المتعاضدتين على الدلالة على الإفساد، فاللازم التكلّم في رفع هذا التعارض عمّا بينها و كذا بيان المراد من قضيّة: التكفير عمل و لا عمل إلخ.

و الذي اختاره في المقام شيخنا الأستاذ أطال اللّٰه أيّامه هو حمل النواهي على الحرمة النفسيّة، بدليل قوله عليه السّلام: لا يعودنّ له الذي قلنا: إنّه ظاهر في عدم ورود الخلل من ناحيته في الصلاة، و لمّا كان الحرمة النفسيّة الأجنبيّة عن الصلاة، كالنظر إلى الأجنبيّة و فيها منافية مع

قوله و لا عمل في الصلاة حيث يظهر منها أنّها مرتبطة بها، فيستفاد منه أنّ في التكفير جهتين، إحداهما نفسيّة، و الأخرى غيريّة، و لكنّ الثانية ليست على حدّ التحريم الملازم للبطلان معه، بل على حدّ الكراهة الغير المنافية مع الصحّة.

أمّا الحرمة النفسيّة فمن جهة الأخبار المشتملة على النهي، فإنّها بعد صرفها عن ظهورها في الإرشاد، لما تقدّم، يجب حملها على التكليف، و ظاهرها حينئذ هو الإلزام، و لا صارف عن هذا الظاهر، فيجب الأخذ به.

و أمّا الكراهة الغيريّة الراجعة إلى الصلاة فلأجل قوله عليه السّلام: هو عمل و لا عمل في الصلاة.

و أمّا معنى هذه القضيّة فتارة يقال: إنّ المراد بالعمل في الصغرى هو العمل الذي يكون متعارفا بين العامّة من قصد كونه مشروعا في الصلاة، ففي الكبرى أيضا يكون المراد هو سنخ هذا العمل المتّصف بكونه مأتيّا به بقصد المشروعيّة مع عدم كونه مشروعا.

و هذا المعنى مضافا إلى أنّ المناسب معه الإبطال، فلا يلائم ما استظهرناه من قوله عليه السّلام في رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام: فإن فعل فلا يعودنّ له، يوجب إرادته

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 358

خروج الكلام عن الطريقة المأنوسة إلى حدّ البرودة، و لا يليق صدور مثله عن متعارف أهل الكلام فضلا عمّن هو أفصح من نطق بالصاد.

فالذي ينبغي أن يقال في تفسير العبارة الشريفة و اللّٰه العالم بالحقيقة: إنّ المراد كما يظهر من رواية دعائم الإسلام المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «و لكن أرسلهما إرسالا، فإنّه أحرى أن لا تشغل نفسك عن الصلاة» أنّ المصلّي حال الصلاة ينبغي أن لا يشغل جوارحه و أعضاءه بغير الجهة التي أمره مولاه و كان كالميّت بين يدي الغسّال لا يحرّك

يدا و لا رجلا إلّا بتحريك أمره و إرادته من دون أن يدخل في خلاله إرادة نفسه، و على هذا فنتعدّى من التكفير إلى كلّ عمل مثله.

فلو اشتغل بفعل خارجي غير معدود ماحيا للصلاة كأن يرفع قلنسوته و يتعاهده للاطّلاع على خصوصيّاته كان هو أيضا فاعلا للمكروه في صلاته، لأنّه أشغل نفسه في صلاته بغير صلاته.

و على هذا نقول: في التكفير جهتان، إحداهما: كونه دأب المجوس، حيث يفعلونه في محضر ملوكهم تأدّبا و خضوعا، فمن هذه الجهة صار محرّما فعله في الصلاة نفسيّا لأجل حصول التشبّه في عبادة ربّ العالمين بتذلّل الكفّار لملوكهم.

و الجهة الأخرى: كونه عملا خارجيّا عن الصلاة شاغلا للنفس عن الصلاة، و هذه الجهة موجبة لصيرورته مكروها في الصلاة، و حيث إنّ وصفي الحرمة و الكراهة لا يجتمعان بحدّيهما، حيث إنّ الحدّ الضعيف إذا اجتمع مع القويّ يضمحلّ في جنب القوي و ينسلب عنه حدّه، فيكون حاصل اجتماع وصف الحرمة مع جهة الكراهة كاجتماع جهة الغايات المستحبّة في الوضوء عند دخول الوقت مع الوجوب، و لهذا يشرع الإتيان به بقصد إحدى تلك الغايات مع اشتغال الذمّة بالتكليف الوجوبي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 359

ثمّ هذا الذي ذكرنا وجه جمع بين جميع الروايات من دون طرح لشي ء منها.

لا يقال: لا يلائم هذا مع رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام المشتملة على النهي في صدرها و نقل القضيّة المشتملة على القياس في ذيلها، فإنّ الظاهر منها كون النهي معلّلا بذلك القياس المنقول في الذيل، لا أنّه مسبّب عن جهة أخرى.

لأنّا نقول: لا يستفاد منها إلّا وجود الأمرين فيه، و أمّا استناد النهي إلى كونه عملا في الصلاة، فليس في اللفظ ما يدلّ عليه، فإنّه

صلوات اللّٰه عليه نهى عنه مؤكّدا بقوله عليه السّلام: فإن فعل فلا يعودنّ، ثمّ نقل عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام أنّه تكلّم بتلك القضيّة، و مجرّد هذا لا دلالة فيه على استناد نهيه إلى جهة كونه عملا في الصلاة، بل يلائم مع كونه مجمعا لجهتين و معنونا بعنوانين، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

[ثالثها:] الالتفات عن القبلة

ثالثها: الالتفات عن القبلة، و لا إشكال في كونه مبطلا مع العمد، و أمّا لا معه فمقتضى عبارة الشرائع كونه غير مبطل، حيث أدرج الالتفات إلى ما وراءه في القسم الثاني من المبطلات، و هو عبارة عمّا يبطلها عمدا لا سهوا، كما حكي القول به عن غير واحد، بل عن البيان أنّه قال: ظاهر أكثر الأصحاب عدم بطلان الصلاة بالاستدبار سهوا.

و حكي عن ظاهر كثير من القدماء و المتأخّرين تعميم البطلان للحالين، و هو الذي قوّاه شيخنا الأستاذ دام بقاه.

و يدلّ عليه صحيحة زرارة «قال: قال أبو جعفر عليهما السّلام: لا تعاد الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 360

إلّا من خمسة، إلخ» «1» لكنّها وحدها لا يدلّ على أنّ محلّ اعتبار القبلة في الصلاة، هل هو الأفعال فقط، بحيث لو تذكّر قبل مضيّ محلّ التدارك أمكن إتيانه مستقبلا، أو الأعمّ منها و من الأكوان المتخلّلة حتّى لا يمكن التدارك في الفرض المذكور، فلا بدّ من إحراز ذلك من الخارج، ثمّ القول بالإبطال بالإخلال به مطلقا بمقتضى الاستثناء في الصحيحة.

و حينئذ نقول: تارة نستند في إحراز ذلك إلى مطلقات شرطيّة الاستقبال في الصلاة منضمّة إلى ما ورد في حقّ غير العامد من أنّ «ما بين المشرق و المغرب قبلة» مفرّعا عليه عدم وجوب الإعادة لو علم بعد الفراغ، و صحّة

ما تقدّم مع الاستقبال لما بقي لو علم في الأثناء، فإنّ المستفاد من مجموع الطائفتين كون القبلة شرطا للأكوان بالمعنى الأعمّ، و يؤيّده صدق المصلّي على الشخص حال عدم التشاغل بالفعل الصلاتي، و ليس إلّا لتوسعة المبدأ.

و حينئذ فيحكم بالبطلان لو خرج عمّا بين المشرق و المغرب و لو لا عن عمد، نعم لو صار ملتفتا مختارا بعد انقضاء الوقت فلا قضاء، لتصريح تلك الأخبار، هذا.

مضافا إلى أنّ الأصل في المقام أيضا يقتضي الاشتغال، بمعنى أنّا لو شككنا في أنّ اعتبار القبلة يكون بلحاظ الأفعال أو بلحاظ الأكوان فالاستدلال بحديث لا تعاد و إن كان غير جائز، لكونه تمسّكا في الشبهة المصداقيّة، إلّا أنّ المرجع في هذا الشكّ حينئذ هو الاشتغال، لأنّ اعتبار القبلة في الصلاة معلوم و هو معنى مبيّن، و الشكّ إنّما هو في أنّ ما به يتحقّق الخروج عن هذا المبيّن هل هو الأقلّ أو الأكثر، و المرجع في مثله الاشتغال.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 361

و حينئذ فإذا شككنا أنّ القبلة بأيّ المعنيين شرط و حصل الإخلال بها سهوا أو اضطرارا على وجه التجاوز عمّا بين اليمين و اليسار و لو كان على نفس النقطتين فمقتضى الأصل هو الحكم بالإعادة.

نعم لو كان غير متجاوز عمّا بينهما فيحكم بالصحّة و عدم لزوم الإعادة لا وقتا و لا خارجا بحكم ما دلّ على أنّ ما بين المشرق و المغرب قبله المنزّل إطلاقه على المضطرّ، هذا.

و لكنّ الإنصاف أنّ ما ذكر من كون المرجع عند الشكّ أصالة الاشتغال مخدوش، لرجوع الشكّ إلى الأقلّ و الأكثر في نفس مورد التكليف، لا في محقّقه بعد تبيّن

أصله، و ذلك لأنّا بعد القطع بالاعتبار في الأفعال إمّا لنفسها و إمّا لكونها مصداقا للكون الصلاتي نشكّ في أصل الاعتبار في الأكوان المتخلّلة، و من المعلوم أنّ المرجع حينئذ هو البراءة، بناء على القول بها في الأقلّ و الأكثر، كما أنّ استظهار الشرطيّة للكون من إطلاقات أدلّة اعتبار القبلة في الصلاة أيضا ربما يخدش فيه.

و الطريق الأسلم لإثبات هذا المدّعى أعني الشرطيّة في مطلق الأكوان هو استظهار ذلك من إطلاق القاطعيّة في أخبار الالتفات، فإنّه لو كان مجرّد شرط في الأفعال كنيّة القربة لم يوجب تعمّده انقطاع الصلاة، بل فساد ذلك الجزء، فمع بقاء محلّ العود أمكن التدارك، فالانقطاع بقول مطلق لا يستقيم إلّا مع الشرطيّة للكون الصلاتي، فيكون الفاقد للشرط خارجا عن الصلاة، و مع الخروج لا يمكن التحاق بقيّة الأجزاء بما سبق، و هذا معنى الانقطاع.

فإن قلت: نعم استظهار الشرطيّة الكونيّة في مقابل الأفعاليّة من التعبير المذكور حسن، لكن لا مساس له بشرطيّة الاستقبال، إذ من الممكن كون الاستقبال شرطا أفعاليّا و كون الالتفات قاطعا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 362

نعم حيث إنّ قاطعيّة شي ء للمركّب المأمور به لا معنى له إلّا مدخليّة عدمه في ذلك المركّب أو مدخليّة أمر وجودي ملازم معه، و إلّا فكيف يعقل تماميّة المأمور به جزءا و شرطا و مع ذلك كان حصول أمر مخلّا بصحّته بدون أن يرجع إلى قيديّة عدمه أو ملازم عدمه، بل و هكذا الحال في العلّة العقليّة للأشياء، فالمانع لا بدّ و أن يرجع إلى دخل عدمه في العلّة أو خصوصيّة وجوديّة ملازمة لعدمه في تأثيرها، فاللازم استكشاف كون الالتفات ممّا اعتبر عدمه، أو وجود أمر ملازم مع عدمه في أكوان الصلاة،

لكن أين هو من شرطيّة الاستقبال، إذ لا وجه لإرجاع أحدهما إلى الآخر.

و حينئذ فاللازم القول في صورة السهو و الاضطرار بعدم الإبطال، لكونه من أفراد المستثنى منه في «لا تعاد» بل و يصحّ التمسّك له بحديث رفع النسيان و الخطأ و ما اضطرّوا و ما استكرهوا عليه «1».

و لو قلنا بعدم جواز التمسّك بحديث الرفع لو كان الأثر لوجود الاستقبال بملاحظة أنّ ما ترك سهوا أو اضطرارا فالأثر الشرعي المترتّب على ذلك الترك- لو كان- مرفوع بالحديث، و المفروض حينئذ عدم وجود الأثر للترك إلّا عقلا، بملاحظة كونه ترك الشرط، و هو مورث لانتفاء المشروط عقلا، و إن كان فيه ما فيه، وجه عدم ورود الإشكال المذكور وضوح أنّ الأثر حينئذ للترك شرعا حسب الفرض.

و على هذا فإن أخلّ بالاستقبال في حال فعل من الأفعال و انقضى محلّ التدارك فالحكم فيه هو التفصيل المذكور، بمعنى أنّ الانحراف الغير البالغ حدّ المشرق

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الجهاد، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 363

و المغرب غير موجب للإبطال، و البالغ إليه موجب له في الوقت لا في خارجه، و أمّا إن التفت عن القبلة في أثناء الأفعال لا عن عمد فمطلقا و لو بلغ حدّ الاستدبار محكوم بصحّة صلاته، لدخوله في المستثنى منه في حديث لا تعاد، مضافا إلى حديث الرفع.

قلت: نعم ما ذكرت حسن لو فرض انفهام الاستقلاليّة و عدم الرجوع إلى شرطيّة القبلة من أخبار قاطعيّة الالتفات عرفا، و لكنّ الإنصاف أنّ المتفاهم عند العرف أنّ الحكم بالفساد من جهة الإخلال بالقبلة المعتبرة لا لرجوعه إلى شرط آخر وراء القبلة إمّا عدمي، و إمّا وجودي لا نعلمه،

فإنّ هذا خلاف المتفاهم عرفا.

و حينئذ فنقول: يستفاد من أخبار القاطعيّة أنّ شرطيّة القبلة يكون في الأكوان، ثمّ نضمّ ذلك إلى الأخبار الواردة في أنّ ما بين المشرق و المغرب قبلة لغير المختار، فيستنتج أنّ انتفاء هذه القبلة المجعولة لغير المختار بأن يكون إمّا إلى نفس المشرق أو المغرب، أو متجاوزا عنهما و إن لم يصل إلى الاستدبار الحقيقي موجب للإبطال في الوقت دون خارجه، فيخصّص المستثنى في حديث لا تعاد بالنسبة إلى الشقّ الأوّل أعني ما لم يصل إلى النقطتين مطلقا، أو بالنسبة إلى الشقّ الثاني في خارج الوقت.

ثمّ لو سلّمنا عدم هذا التفاهم العرفي و كونهما شرطين مستقلّين أعني القبلة و عدم الالتفات، أو الأمر الوجودي الملازم مع عدمه، لكن نقول: أخبار قاطعيّة الالتفات منضمّة إلى أخبار جعل ما بين المشرق و المغرب قبلة لغير المختار الواردة في من انحرف عن القبلة الحقيقيّة لا يرجعان إلى أمرين متغايرين، فإنّ الموضوع في الأولى هو الالتفات، و في الثانية هو الانحراف، و العرف لا يشكّ في كونهما راجعين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 364

إلى أمر واحد، فيكون مقتضى ذلك أيضا هو التفصيل المتقدّم، لكون الأخبار الواردة في مسألة الانحراف أخصّ من حديث لا تعاد، غاية الأمر أنّ الأمر حينئذ على العكس من الفرض السابق، حيث إنّ التخصيص على هذا من جهة الحكم بالإعادة في الاستدبار، كما كان على الوجه الأوّل من جهة الحكم بعدمها في ما بين النقطتين، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

ثمّ المذكور في أخبار الالتفات ثلاثة مضامين: قاطعيّة الالتفات إذا كان فاحشا، و قاطعيّته إذا كان لكلّ البدن، و قاطعيّته إذا كان إلى الخلف، فربما يقال بالرجوع بعد التعارض إلى المطلقات الواردة

في قاطعيّة الالتفات بلا قيد، و لكن الإنصاف وجود الجمع العرفي في المقام، كما في أمثاله من سائر التراكيب المتعدّدة المعلّقة لجزاء واحد على شروط متعدّدة، حيث إنّ الاحتمالات فيها بين أمور:

رفع اليد عن المفهوم رأسا، و رفع اليد عن كلّ من المفهومين في خصوص مورد المنطوق الآخر، و رفع اليد عن الخصوصيّة في المنطوقين و إرجاع الأمر إلى أنّ الشرط هو الجامع بين الأمرين، أو عن الاستقلال و جعل الشرط مجموع الأمرين.

و قد تقرّر في محلّه أنّ الأولى من هذه الأربع هو الأوّل، ثمّ الثاني، لكونهما تصرّفا في المفهوم بقرينة المنطوق، بخلاف الأخيرين، حيث إنّهما تصرّف في المنطوق بقرينة المفهوم، و الأوّل أولى، لأظهريّة المنطوق من المفهوم.

و حينئذ فيقال بأنّ أحد الأمرين كاف و لو انفكّ عن الآخر، فالالتفات بكلّ البدن و لو كان يسيرا إذا خرج عن جهة القبلة المجعولة للمختار مبطل، كما أنّ الالتفات بالوجه فقط إذا كان فاحشا أيضا كذلك، و أمّا الالتفات إلى الخلف فهو تحديد للالتفات الفاحش بالوجه، حيث إنّ التفات الوجه إلى الخلف إنّما يتحقّق بجعل الوجه منحرفا إلى حدّ يمكن رؤية من خلفه، فحينئذ يقال: التفت بوجهه إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 365

خلفه، كما يقال: التفت فاحشا بوجهه.

و أمّا إذا كان الالتفات غير بالغ إلى الحدّ المذكور، بل غاية من يمكن رؤيته من على اليمين أو اليسار فلا يطلق عليه اسم الفاحش، كما لا يطلق كونه إلى الخلف.

و الحاصل ممّا ذكرنا أنّ الالتفات الخالي عن كلا العنوانين كما إذا كان بالوجه، لكن إلى اليمين و اليسار ليس بمبطل، نعم هو من المكروهات.

[رابعها:] تعمّد الكلام

رابعها: تعمّد الكلام.

اعلم أنّ المطلب بحسب الكبرى ممّا لا إشكال فيه، أعني مبطليّة

الكلام عمدا و عدمها نسيانا و سهوا.

إنّما الكلام في تشريح الصغرى و تحديد الكلام، فعن جماعة، بل ينسب إلى الجلّ لو لا الكلّ أنّ الكلام عند عرف اللغة عبارة عن كلّ ما تركّب من حرفين و لو كان مهملا و بلا معنى، أو كان على حرف واحد مفهم للمعنى، كالأمر من الأفعال المعتلّ الطرفين ك «ق» من وقى و «ع» من وعى، و لكن استفادة ذلك من العرف في إطلاقات التكلّم و الكلام في غاية من الإشكال.

توضيح المقام أنّ التدبّر يقضي بالفرق عرفا بين لفظي التلفّظ و التكلّم و اختصاص الثاني بما إذا كان للمتكلّم به معنى و كان ذلك المعنى ملحوظا عند التكلّم به و لو بنحو الإجمال في مقابل أن يكون اللفظ مقصودا بلا لحاظ معنى أصلا، سواء كان له معنى أم لا، بأن قصد من التلفّظ بكلمة ضرب تعلّم أداء الحروف المذكورة من مخارجها من دون لحاظ معناه أصلا، أو بالحاء المهملة تصفية الحلق من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 366

الفضلات، فإنّ أمثال هذا لا يسمّى باسم التكلّم و الكلام، و لا نعني بملحوظيّة المعنى التي قلنا باعتبارها أن يكون اللفظ معنى حقيقي فاستعمل فيه أو في ما يناسبه بحيث اندرج تحت اسم الحقيقة أو المجاز الاصطلاحيين، بل الأعمّ من ذلك و أن يكون من قبيل استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو شخص مثله ممّا يستحسنه الطباع و إن كان لا يسمّى بأحد الاسمين اصطلاحا.

و لهذا يجري في المهملات أيضا، مثل ديز مهمل، بل و أعمّ من أن يكون داخلا في الاستعمال الصحيح كأحد الأنحاء الثلاثة المتقدّمة، أو في الغلط كما يستعمل أحيانا لفظة مهملة مضحكة مرادا بها شخص، كما

يقال: فلان حشلحف بغرض أنّه لا فائدة فيه، كما أنّ هذه اللفظة مهملة و مضحكة.

ففي أمثال هذه الموارد يصدق التكلّم و لو كان حرفا واحدا، مثلا قد يتكلّم بحرف الواو في مقام العطف، كما لو قال أحد: جاء زيد فتقول أنت «و» و قد يتلفّظ به في مقام تعلّم مخرج الواو، و هكذا تارة يتلفّظ بكلمة «ق» مرادا بها معناها الذي هو الأمر، من «وقى» و أخرى لأجل تعلّم مخرج القاف، فالأوّل من هذين كلام و الثاني ليس بكلام و لا تكلّم عند العرف.

فإن قلت: نحن نرى صدق التكلّم و الكلام في حقّ النائم و الساهي و الصبيّ في أوائل جريان لسانه، و كذا في حقّ من يقرأ كلمات العربيّة ليعلم آدابها النحويّة أو من يقرأ القرآن أو الإشعار العربيّة، و هو غير عارف بلسان العرف و لا يفهم معاني الألفاظ مع أنّه ليس للاستعمال لشي ء من وجوهه الأربع المتقدّمة في هذه المواضع عين و لا أثر كما هو واضح.

قلت: أمّا النائم و الساهي فالاستعمال متحقّق في حقّهما لحصول القصد الارتكازي، و هو كاف في تحقّق الاستعمال، كما أنّهما يؤدّيان الحروف من مخارجها،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 367

بواسطة الارتكاز أيضا، و أمّا الصبيّ فإن راجعت العرف ترى أنّهم لا يسمّون أوّل جريان لسانه و إظهاره أصواتا مهملة بلا تميّز له أصلا باسم التكلّم، فلا يقولون: إنّ طفلنا جرى لسانه بالنطق، بل يسمّونه باسم آخر، كما يقال في الفارسيّة: «باقون آمده»، نعم بعد ما حصل له تميّز في الجملة ففهم مثلا أنّ الخبز شي ء حسن فطلبه و تلفّظ بكلمة مشيرا إليه كان هذا تكلّما و استعمالا و يقال حينئذ جرى لسانه بالنطق.

و أمّا من تكلّم

لتعلّم آداب العربيّة فتارة يكون في مقام تعلّم أنّ العرب في مقام يقول الفرس: «زد زيد عمرو را» يقولون: «ضرب زيد عمرا» فحينئذ لا شبهة في كونه استعمالا و يصدق التكلّم أيضا، و أخرى في مقام تعلّم مخرج الضاد المعجمة، و حينئذ لا يصدق الكلام.

و أمّا قراءة الغير العارف باللسان فهو أيضا بلحاظ المعنى إجمالا، و لهذا لو علم أنّ الشعر الكذائي مضمونه من الكفريّات يتجنّب عن التفوّه به، و المقصود من الاستعمال أن يكون المعنى ملحوظا في أجزاء الحروف و الأصوات و لو بنحو الإجمال.

فإن قلت: يردّ ما ذكرت قوله عليه السّلام في ذيل مرسلة الصدوق «من أنّ في صلاته فقد تكلّم» «1»، و مثله خبر طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن عليّ عليه السّلام «2»، فإنّ المستفاد منه أنّ ما يتلفّظ به عند الأنين مع كونه مهملا مصداق للتكلّم، فيستفاد منه الضابط الذي ذكره العلماء و هو أنّ ما اشتمل على حرفين

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 368

فصاعدا و لو كان مهملا كلام، و أمّا الحرف الواحد فلا، إلّا إذا كان مفهما للمعنى.

قلت: الظاهر أنّ الخبر ليس بصدد تحديد المصداق العرفي كما ربما يؤيّده بعد مثله في مقام ذكر المصداق الحقيقي، بل المقصود أنّه مع عدم كونه مصداقا حقيقيا ملحق بالكلام في الحكم، و الاعتبار أيضا شاهد به، لكمال شباهة الأنين بأسماء الأفعال و إن كان غير دالّ بالوضع، بل بالطبع، فحاله كحال اللفظ الذي وضع اسما للفعل الذي هو قولك: أتألّم بالمرض.

و الشاهد بذلك أنّ

ما يتنطّق به عند الأنين حرف واحد و هو الهمزة المكسورة، غاية الأمر أنّها في بعض الأحيان تمدّ، و لكنّ المدّ أيضا ليس حرفا آخر.

و بالجملة، فأخذ الخبر شاهدا على صدق التكلّم حقيقة على ما اشتمل على الحرفين في غاية الضعف، و إذن فاللازم الاقتصار على مورده، فلا يتعدّى إلى كلمة «أح أح» عند السعال و نحو ذلك.

نعم قد يكون إتيان الكلمات المهملة بحدّ يوجب محو صورة الصلاة، فحينئذ حالها حال الوثبة، فيكون البطلان من هذه الجهة، لا من أجل التكلّم، و لهذا قد يتّفق في الحرف الواحد أيضا كما لو تلفّظ عند آخر كلّ آية بقول «ب» مثلا خصوصا مع مدّ الصوت، فإنّ حاله حال الوثبة قطعا، هذا كلّه في كلام الآدميين.

و أمّا الذكر و الدعاء و القرآن و إن لم يقصد بها التقرّب بل إعلام الغير و إيقاظه و نحو ذلك كأن يقول: «سبحان اللّٰه» إعلاما بأنّه في الصلاة و لا يتمكّن من إطاعة والده عند نداء الوالد إيّاه و نحو ذلك فلا ريب في جواز ذلك، لوجود الأخبار في كلا المقامين.

ففي بعضها أنّ كلّ ما ذكرت اللّٰه عزّ و جلّ به و النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله فهو من الصلاة «1»،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 369

و في آخر التصريح بقول: سبحان اللّٰه، لأجل إفهام المطلب للغير «1»، مضافا إلى المقابلة بين عنوان كلام الآدميين و التكلّم الذي جعل قاطعا و بين الأذكار و الدعاء و القرآن، فإنّ الأوّل ليس من سنخ أفعال الصلاة و الثاني منها، فلا يشمل عنوان القاطع أمثال ما ذكر حتّى يحتاج إلى الدليل المخرج.

ثمّ إنّه

في صورة الإتيان بالذكر أو القرآن لأجل إفهام المطلب قد يكون ذلك مقصودا لأجل كونه من لوازم الفعل أو مدلولا التزاميّا للقول أو جزئيّا من الحكم الكلّي المستفاد منه أو مناسبا لمضمونه، و بالجملة، لا يستلزم استعمال لفظ القرآن في غير معناه الذي أريد منه، و هذا ممّا لا إشكال فيه.

و قد يكون مقصودا باستعمال اللفظ المشاكل للّفظ القرآني في ذلك المعنى المقصود، كما إذا أراد مخاطبة رجل مسمّى بيوسف بالإعراض عن مطلب فقال:

يوسف أعرض عن هذا، فاستعمل لفظة يوسف في نفس الرجل المخصوص، و قوله:

«أعرض» في خطابه و قوله: «عن هذا» في المطلب المقصود إعراض ذلك الرجل عنه، غاية الأمر أنّه اختار تلك الألفاظ لمجرّد كونها أفصح من غيرها من دون أن يكون عنوان الحكاية الألفاظ القرآنيّة مقصودة له، و هذا لا إشكال في عدم جوازه.

توضيحه أنّ مجرّد المشاكلة الصورية للألفاظ القرآنيّة لا يوجب صيرورتها مندرجة تحت اسم القرآن ما لم يقصد الحكاية عن تلك الألفاظ المنزلة نوع حكاية الألفاظ عن معانيها بأن كان المحكيّ باللفظ اللفظ، كما في قولك: «ديز مهمل» فإنّ المقصود إلقاء نوع هذه الكلمة إلى المخاطب و الحكم عليه بالإهمال، لا على نفس هذه اللفظة، فإنّها مستعملة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 370

و الحاصل لا بدّ في صدق القرآن أو الشعر الكذائي أو نحو ذلك من أقوال الغير على المقروّ من أفناء الألفاظ بحيث كان الملقى إلى المخاطب نفس ألفاظ الغير، فلا يرى اللاحظ إلّا إيّاها و كان الحكم عليها و بها، لا على لفظ نفسه، كما هو الحال في نقل الألفاظ للمعاني.

و ظهر ممّا ذكرنا أنّ هذه الحكاية

ليست من سنخ الحكاية التصديقيّة كأن يقول: قال زيد كذا، فإنّه مستتبع للصدق و الكذب، و هذا حكاية إفراديّة كحكاية لفظة زيد عن الجثّة الخارجيّة.

نعم في صدق قراءة شعر الغير و كلامه نحتاج مضافا إلى الحكاية المذكورة إلى شي ء آخر و هو كون نظم الألفاظ بحيث يضاف إليه عرفا قراءة كلام ذلك المتكلّم و يقال: هذا قارئ كلامه، و إلّا فلو قال كلمة «إنّا» بحكايتها عن القرآن و كلمة «أنزلنا» كذلك، ثمّ كلمة «فرعون» كذلك، ثمّ «بشيرا» كذلك، ثمّ «هم المفلحون» كذلك فقال: إنّا أنزلنا فرعون بشيرا هم المفلحون، لا يقال: هو قارئ القرآن و لو علم أنّ اللافظ قصد بها الحكاية عن القرآن بالنحو الذي ذكرنا بأن ألقي بهذه الملفوظات الكلمات المنزّلة بالوحي إلى النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و نقلها بها إلى المخاطب و أحضرها في ذهنه، كما يلقي المتكلّم بزيد جثّته الخارجيّة و يحضرها في ذهن السامع.

و كيف كان ففي صورة فقد الحكاية المذكورة بأن أفنى الألفاظ في المعاني و أحضرها إلى ذهن السامع فأحضر الشخص الخارجي بكلمة يوسف و بخطاب:

أعرض، أحضر خطابه لا الألفاظ الصادرة بالوحي لا إشكال في أنّه لا يسمّى الملفوظ قرآنا و لو شاكل اللفظ القرآني في الصورة.

و يحدث من هنا إشكال و هو أنّه قد ذكر في الحواشي على الرسائل العمليّة في مقام الدستور و الحيلة في موارد الشكّ في وجوب ردّ السّلام على المصلّي إمّا لكون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 371

صيغة السّلام ملحونة، و إمّا لكون المسلّم صبيّا بأنّه يختار المصلّي اللفظ القرآني و يأتي به بعنوان الجواب فيقول مثلا سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ، و إضافة كلمة «طِبْتُمْ» يكون بملاحظة النكتة المشار إليها آنفا

من كون الهيئة من الهيئات التي يوجب صحّة نسبة قارئ القرآن.

و حاصل الإشكال أنّه إن قصد اللافظ في مقام جواب السّلام بكاف عليكم الخطاب إلى ذلك الرجل و هكذا بكلمة سلام تحيّة نفسه و بطبتم الخطاب و التحيّة المذكورين فقد حصل جواب تحيّته بالتحيّة، و لكن يلزم عدم صدق القرآن على مقروّه، لأنّه قد أفناه في المعاني المذكورة، و أين هو من الإفناء في الألفاظ القرآنيّة، فإنّ الإفناء فيها معناه إحضار تلك الألفاظ و هي ألفاظ الملائكة في خطاب أهل الجنّة و تحيّتهم.

و إن قصد إحضار الألفاظ القرآنيّة فلم يحصل ردّ التحيّة، فإنّه إنّما يحصل بالخطاب و توجيه التحيّة نحو المسلّم، لا بذكر تحيّة شخص آخر لشخص آخر، فإنّه لا يسمّى تحيّة عرفا، و الجمع بين الأمرين مستلزم لاجتماع اللحاظين المتنافيين.

نعم لو قصد بالألفاظ القرآنية معنى هي مشتملة عليه كما لو قصد بقوله: إيّاك نعبد و إيّاك نستعين، مع قصد الحكاية معناها فلا يضرّ بقصد الحكاية، و لا يرد أنّه كيف ينشأ هذه النسبة التامّة مع استلزامه للقصد التفصيلي نحوها، و هو مناف مع كون التوجّه التفصيلي إلى اللفظ، كما هو مقتضى الحكاية، فإنّ الجواب أنّ الممتنع اجتماعهما بوصف التفصيليّة و الأصاليّة، و أمّا اجتماعهما بوصف أصاليّة أحدهما و تبعيّة الآخر فلا مانع منه، و هذا الجواب لا يتمشّى في المقام، فإنّه إنّما يتمشّى لو قصد سلام الملائكة على أهل الجنّة، و المقصود إثبات صحّة قصد ردّ تحيّة الزيد المسلّم، هذا حاصل الإشكال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 372

و يمكن الجواب بأنّه إنّما يقصد بهذه الألفاظ نقل ألفاظ الملائكة، كما هو المقصود في القرآن، فكأنّه يلقي إلى السامع بهذا الألفاظ ألفاظهم عليهم السّلام، ثمّ تلك

الألفاظ الصادرة من الملائكة بحسب الذات قابلة لأن يقصد بها التحيّة الموجّهة إلى أيّ مخاطب، غاية الأمر أنّهم عليهم السّلام قصدوا بها التحيّة لأهل الجنّة، لكن هذا المصلّي يأتي بألفاظهم و يقصد التحيّة لهذا الرجل المسلّم، و لا يخرجها ذلك عن عنوان القرآنيّة، و إنّما يخرجها لو كان الإفناء في تحيّة الرجل مقصودا في أوّل الأمر.

و أمّا إذا كان المقصود الأوّلي نقل ألفاظ الملائكة بها ثمّ المقصود الثانوي قصد تحيّة الرجل بتلك الألفاظ المحكيّة فكأنّه جاء بألفاظ الملائكة و استعملها في تحيّة هذا الرجل، فهذا لا يضرّ بالحكاية و صدق القرآنيّة.

و نظير هذا قصد إظهار الخلوص للمكتوب إليه بتوسّط نقوش الكتابيّة، فإنّ نقش «ق» مثلا حاك عن القاف الملفوظة، و نقش «ر» عن الراء كذلك، و نقش «باء» عن الباء الملفوظة، و نقش «ن» و «ت» عنهما ملفوظتين، و هكذا نقش «ش» و «و» و «م». و تركيب هذه النقوش أعني نقشها هكذا: «قربانت شوم» حاك عن التركيب الملفوظ، فالكاتب إنّما يحكي أوّلا بهذه النقوش الألفاظ ثمّ يحكي بالألفاظ المحكيّة عرض الإخلاص للمخاطب بواسطة قابليّتها الذاتيّة لأن يقصد بها التحيّة لكلّ أحد و إنّما تعيّنها القصد.

فالألفاظ الصادرة من الملائكة حالها حال هذه الألفاظ المحكيّة بنقوش الكتابة، غاية الأمر اختلاف الحاكي مع الملائكة في القصد، فهم قصدوا بها تحيّة أهل الجنّة، و هذا قصد بعين تلك الألفاظ تحيّة هذا الرجل.

فإن قلت: إذا تلفّظ لافظ و قصد معنى، ثمّ تلفّظ به آخر بقصد معنى آخر، فلا يصحّ أن يقال: هذا الذي تلفّظه الثاني كلام الأوّل، كما إذا قال زيد مخاطبا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 373

لعمرو: سلام عليكم، فقال بكر مخاطبا لبشر هذه الصيغة بقصد حكاية

ألفاظ الزيد فلا يقال: إنّه تلفّظ بكلام زيد، لأنّه سلام موجّه إلى عمرو، و هذا موجّه إلى البشر، نعم لو أعاده بكر بقصد العمرو صحّت النسبة.

قلت: إن أردت بقولك: إنّه لم يصدق عليه حكاية كلام زيد أنّ ألفاظ زيد لكونها صدرت في مقام التحيّة لعمرو خرجت عن قابليّة إرادة غيره منها، فصارت كالأعلام الشخصيّة كما إذا دعا زيدا ابنه بقوله: يا يحيى، حيث إنّ حكاية كلامه غير صادقة إذا أريد بالمحكيّ شخص آخر مسمّى بهذا الاسم، فإنّ هذه اللفظة بذلك الوضع الذي صار لفظا لزيد غيرها بغير ذلك الوضع، فكذلك قول: سلام عليكم الصادر بعنوان تحيّة زيد غيره إذا صدر بعنوان تحيّة غيره.

فالجواب بالفرق بين الأعلام و غيرها مثل قول: سلام عليكم، إذ كلمة «كم» موضوعة للخطاب إلى أيّ مخاطب كان، و ليس خصوصيّات المخاطبين على عهدة هذه اللفظة، و لا أراد إفهامها بها المتكلّم أيضا، بل أراد معناها الكلّي، و طبّق الكلّي المراد على الجزئي المعيّن.

و هكذا كلمة سلام ليس مستعملا في خصوص سلام الشخص المخصوص، بل استعمل في الكلّي، و الجزئيّة نشأت من توجيه الكلام نحو الشخص المعيّن، فإذا أخذ أحد عين هذه الألفاظ التي معانيها عامّة من فم المتكلّم و وجّه بها نحو شخص آخر صدق أنّه تكلّم بكلام المتكلّم، غاية الأمر أنّه يتوجّه نفسه إيّاها إلى شخص آخر ألبسها عنوان تحيّة شخص آخر، و إلّا فالألفاظ ما غيّرت عمّا هي عليه من الوضع و المعنى.

و إن أردت عدم صدق الحكاية و النسبة إلى المتكلّم إلّا في صورة إرادة المعنى الذي أراده هو، فلو قيل: مخاطبا لبشر في المثال: قال لك زيد: سلام عليكم، كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 374

كذبا،

فالجواب أنّ المقصود بالحكاية هنا كما أشرنا إليه سابقا ليست هي الحكاية الإخباريّة المستلزمة للصدق و الكذب، بل نوع حكاية اللفظ عن المعنى، و من المعلوم أنّ تخلّف اللفظ عن المعنى لا يسمّى كذبا، فليس المقصود هنا نسبة السّلام الموجّه إلى رجل مثلا إلى الملائكة، بل يحكى بالألفاظ عين ألفاظ الملائكة حين وجّهوها إلى أهل الجنّة، و نحن نوجّهها إلى رجل سلّم علينا في الصلاة بغير الصيغة الصحيحة مثلا، و ليس فيه نسبة هذا السّلام إلى الملائكة حتّى يدفع بأنّ من المسلّم كونه كذبا و غير صادق عرفا، فتدبّر في المقام فإنّه دقيق و بالتدبّر فيه حقيق.

و هل التكلّم الإكراهي أيضا مبطل أو لا، كما إذا ورد قاهر و هو في الصلاة فأكرهه على السّلام عليه و وعده بالإيذاء على الترك و لم يلتفت إلى الحيلة التي ذكرنا فربما يتمسّك فيه بالصحّة نظرا إلى دخوله في ما استكرهوا عليه.

و يمكن الخدشة فيه أوّلا بعدم تسليم عموم الحديث لغير المؤاخذة من سائر الآثار، كما أنّ ذلك وقع مكرّرا في كلمات شيخنا الأجلّ المرتضى قدّس سرّه.

و أمّا حديث البزنطي الوارد في الحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك فيمكن القول بأنّ نظر السائل في قوله: أ يلزمني ذلك إلى أنّ الإثم لاحق بي لازم لي أو لا؟ فأجابه عليه السّلام بالعدم مستشهدا بالحديث «1»، حيث إنّ الحلف المذكور علاوة على عدم الأثر الوضعي الثابت في سائر الأيمان محرّم تكليفي أيضا عند الخاصّة، و على هذا فغاية الأمر ارتفاع الإثم بالإبطال المتحقّق بالكلام الإكراهي لا رفع أثر الإبطال.

و ثانيا: سلّمنا عموم الحديث للآثار الغير الراجعة إلى المؤاخذة أيضا كالقاطعيّة التي هي أثر للكلام، لكن مع ذلك يمكن

أن نمنع تقديم حديث الرفع و لو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأيمان، الباب 12، الحديث 12.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 375

كان لا يلاحظ النسبة بينه و بين أدلّة التكاليف بملاحظة حكومته عليها بواسطة أنّ المذكور في أخبار الباب جعل التقابل بين عنواني العمد و النسيان و أنّ التكلّم إذا كان عمدا مبطل، و إذا كان نسيانا فلا، و هذا في نهاية الظهور في أنّ جميع أفراد العمد التي منها ما كان سببه الإكراه حكمه الإبطال، و إنّما الخارج عن تحته ما قابل العمد و هو النسيان.

و بالجملة، لا يدخل في أذهان العرف تقديم ذلك العموم الواسع الدائرة على هذا المضمون، بل متى عرض عليهم هذان الكلامان فالظاهر أنّهم يقدّمون هذا الكلام على ذلك العموم، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

[خامسها:] القهقهة

خامسها: القهقهة، و لا إشكال في حكمها و أنّها من المنافيات للصلاة، إلّا أنّ الكلام فيها في مواقع ثلاثة:

الأوّل: في تحديد موضوعها.

و الثاني: في بيان حكمها عند حدوثها على سبيل الاضطرار إليها، دون وقوعها بالاختيار.

و الثالث: في حكمها عند حدوثها مع الغفلة عن الصلاة و تخيّل كونه خارجا عنها.

أمّا الأوّل فاعلم أنّ المذكور في غالب أخبار الباب ذكر قاطعيّة القهقهة بعد ذكر سلبها عن التبسّم «1»، فلا يعلم أنّ المعيار هو التبسّم، فما كان خارجا عنه هو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب قواطع الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 376

القاطع، أو هو القهقهة، فما خرج عنها و عن التبسّم داخل في غير القاطع.

و التبسّم هو الضحك الخالي عن الصوت الذي يسمّى بالفارسيّة ب «لبخند» و القهقهة ما كان مشتملا على الصوت مع الترجيع، و غيرهما ما كان مشتملا على الصوت بلا ترجيع.

فاعلم أنّ

المعيار الكلّي في أمثال هذا المورد ممّا إذا ورد قضيّتان متنافيا الحكم و كان الموضوع في إحداهما ضدّ الأخرى، كما في قوله عليه السّلام: «إن غسلته بالمركن فمرّتين، و إن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة» «1»، و كان هناك ضدّ ثالث كما في المثال، حيث إنّ الماء الكرّ ثالث القسمين المذكورين، هو الأخذ بظهور الصدر و جعل الذيل من باب المثال لمفهوم الصدر.

فيقال في الرواية المذكورة: إنّ المقصود عدم التعدّد في الماء العاصم، و ذكر أحد أفراده من باب عدم ابتلاء السامع بغيره، بملاحظة قلّة الكرّ في تلك الأمكنة إلّا في نادر كأوقات نزول المطر الموجب لاجتماع الماء في الغدران الواقعة في الصحراء.

و يقال في ما نحن فيه: إنّ المقصود إثبات القاطعيّة في ما خرج عن حدّ التبسّم، و ذكر خصوص القهقهة من باب غلبة وجوده، حيث إنّ الغالب أنّ الضحك إذا اقترن بالصوت يصل إلى حدّ الترجيع، و أمّا المشتمل على الصوت بدون الترجيع ففرد نادر.

ثمّ إذا فرض هذا الظهور في غالب أخبار الباب فالنادر المذكور فيه لفظ القهقهة فقط أيضا يسقط عن الظهور في الموضوعيّة، بل يحمل على ما استفدناه من

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 2 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 377

تلك الطائفة كما لا يخفى.

و أمّا الثاني: أعني حكم حدوثها في الصلاة قهرا و بلا اختيار لمقابلة لاعب و نحوه، فالظاهر كونها مبطلة، فإنّ عموم ما اضطرّوا إليه و إن كان شاملا لها، إلّا أنّه يلزم من إخراجها عن أدلّة القاطعيّة تقييد تلك الأدلّة بالفرد النادر، إذ قلّ ما يتّفق وجود القهقهة في الصلاة عن عمد، فدلالتها بالنسبة إلى الفرد الاضطراري يكون كالصريح، فيكون مخصّصة

للحديث، خصوصا مع كونه بذلك العموم و الوسعة.

و أمّا الثالث: أعني حدوثها لأجل السهو عن الصلاة فالظاهر إمكان التمسّك بالحديث بناء على عموم الآثار، كما لا مانع من التمسّك بلا تعاد أيضا.

[سادسها:] قاطعيّة فعل الكثير

سادسها: أن يفعل فعلا كثيرا ليس من أفعال الصلاة، فتبطل الصلاة بذلك، بخلاف القليل، بلا خلاف فيها في الجملة، بل عن غير واحد دعوى الإجماع، فإن تمّ الإجماع على هذين العنوانين من حيث هما حتّى كأنّهما وقعا في متن رواية معتبرة كان المرجع في تشخيص مصاديقهما العرف العامّ و إن كان ليس لهما ضابط عرفي رافع للتحيّر، لا لكونهما إضافيين، بل لاختلاف صدقهما بحسب المقامات.

ألا ترى لو انتشر مقدار ربع منّ من الحنطة في مكان على الأرض يقال: هذه الحنطة كثيرة، و لو فرض كونه قوتا لأشخاص كثيرين يقال: هذه الحنطة قليلة لمعاشهم، و كذلك حبّ ماء بالنسبة إلى خمسة أشخاص أو بالنسبة إلى أهل بلد، و هكذا.

مضافا إلى أنّهم علّلوا البطلان في الفعل الكثير بكونه ماحيا لصدق الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 378

و موجبا لخروج المصلّي عن كونه مصلّيا، فحينئذ يتوجّه عليهم إن أرادوا أنّ هنا بعد استجماع جميع الشروط و الأجزاء المعتبرة شرعا في الصلاة من الوجوديّات و العدميّات أمرا آخر لا بدّ من رعايته، و لو لم يرجع إلى اعتبار شرعي و هو حفظ عنوان كونه مصداقا لاسم المصلّي و كون الفعل مصداقا لاسم الصلاة، بحيث لا ينسلب عنه هذا الاسم من أوّل الشروع إلى آخره ففيه أنّه ما لم يندرج ذلك تحت اعتبار الشرع فلا موجب لرعايته، بل الأصل يقتضي نفيه بعد رعاية جميع ما علم اعتباره من الشارع، و مجرّد رفع الاسم في الأثناء لا يضرّ.

ألا

ترى أنّ المتوضّي لو أتى في الأثناء بوثبة أو نحوها ممّا لا يصدق عليه اسم المتوضّي لا يضرّ بصحّة وضوئه ما دام مستحفظا على جميع الشرائط و الأجزاء المعتبرة شرعا.

فإن قلت: ليس هذا مقام الرجوع إلى الأصل، لأنّ هذا ممّا يتقوّم به حقيقة المأمور به و صدق اسمه، و مثله لو شكّ في اعتبار شي ء فيه يكون حكم العقل فيه الاشتغال.

قلت: إن كان الصلاة المأمور بها عبارة عن أمر بسيط منتزع عن الأجزاء الخارجيّة كان الأصل هو الاشتغال في عامّة مواضع الشكّ في جزء أو قيد، و هو خلاف التحقيق، و إن كانت عبارة عن نفس الأفعال التي أوّلها التكبيرة و آخرها التسليمة فكلّما شكّ فيه ممّا زاد على المعلومات فالأصل فيه البراءة.

فإن قلت: نعم و لكن لا بدّ من المحافظة على بقاء الاسم بالمعنى الأعمّ الجامع بين الصحيح و الفاسد.

قلت: هذا المعنى محرز، إذ هو في حال الرقصة أو الوثبة لا يطلق عليه الاسم، و أمّا بعد عوده إلى الصلاة يقال: صلّى و فعل في أثناء صلاته كذا و كذا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 379

نعم لو فرض الفصل حصول المخلّ بالموالاة المعتبرة بين الأفعال، حيث إنّ الأمر المتعلّق بالمركّب كالذكر الكذائي أو السورة الكذائيّة أو نحو ذلك يتبادر منه الإتيان بتمام أجزائه بنحو التوالي و الاجتماع في مجلس واحد، فإذا فرض كثرة الفصل المخرج عن هذا التوالي كان مضرّا، سواء كان عمدا أم سهوا، إذ مع السهو أيضا خارج عن عنوان الصلاة، فلا يشمله قوله: لا تعاد الصلاة إلخ، و أمّا مع حفظ الموالاة المذكورة و الإتيان ببعض الأفعال من قبيل الوثبة و نحوها فالمعيار في شكّها هو البراءة.

فإن قلت: نعم و لكن

ملاحظة الأخبار الكثيرة الواردة في التعرّض سؤالا و جوابا أو ابتداء لحكم بعض الأفعال الجزئيّة من قبيل قتل العقرب و البقّ و البرغوث و نحو ذلك في أثناء الصلاة يورث الاطمئنان لمغروسيّة عدم الملاءمة بين الصلاة و بين الأفعال الخارجة عنها في أذهانهم حتّى احتاجوا إلى السؤال عن أمثال هذه الجزئيّات، و كذا احتاج الأئمّة صلوات اللّٰه عليهم إلى بيان الحال في بعضها الآخر.

قلت: لا يستكشف ذلك من تلك الأخبار، إذ بعد كون التكلّم و كذا و كذا قاطعا للصلاة أورث ذلك احتمال إضرار أمثال ما ذكر، و أين هذا من مغروسيّة كلّ فعل و كلّ عمل حتّى يكون السؤال عن الاستثناء.

و أمّا التعبير بالقاطعيّة فلا يستكشف منه إلّا اعتبار الهيئة الاتّصاليّة التي يقطعها ما ذكر في الأخبار من التكلّم و القهقهة و نحوهما، لا كلّ فعل و عمل لا يلائم الصلاة.

فإن قلت: يمكن استظهار المطلب من تعبير أنّ: تحريم الصلاة التكبيرة و تحليلها التسليمة، ببيان أنّ المراد بذلك إثبات وصف الحرميّة للصلاة، و مقتضى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 380

الحرميّة ممنوعيّة كلّ فعل إلّا ما وصل من الشارع فيه الإذن، فإنّ وصول الإذن موجب للخروج الموضوعي، فكلّ ما يفعل بلا إذن كان هتكا لحرمة الحرم، كما هو المشاهد في حرم المشاهد المشرّفة و في محاضر السلاطين.

و من هنا يتّجه الاستدلال أيضا بقولهم عليهم السّلام: لا عمل في الصلاة، فإنّه أيضا ناظر إلى اقتضاء كونه حرما، و ليس فيه تخصيص الأكثر، لما عرفت من أنّ موارد وصول الإذن خارجة عنه خروجا موضوعيّا، و مقتضى ذلك التوقّف عند موارد الشكّ.

قلت: لا نسلّم كون مقتضى الحرميّة ممنوعيّة كلّ عمل و شغل غير الذي وصل فيه الإذن

و الدستور، بل غاية الأمر أنّه ليس حال الحرم كحال غيره في أنّه كان يجوز فيه كلّ عمل و شغل، و هو رفع الإيجاب الكلّي لا إثبات السلب الكلّي، فيبقى موارد الشكّ موردا للأصل.

ألا ترى أنّ أفعال الحجّ و العمرة أيضا يكون التلبية إحرامها و التقصير تحليلها، و مع ذلك ليس الإنسان ما دام مشتغلا بها ممنوعا إلّا عن أشغال مخصوصة، بحيث لو شكّ في المنع عن شي ء يرجع فيه إلى البراءة، و لا يحكم بالمنع حتّى يعلم الإذن.

و أوثق شي ء يمكن أن يقال في هذا المقام: إنّ أذهان المتشرّعة بما هم متشرّعة متأبّية عن وقوع بعض الأعمال في الصلاة و يرون عدم الملاءمة بينها و بين الصلاة، و هذا التأبّي و التحاشي مركوز في أذهانهم بحيث كونهم متشرّعة، من غير فرق بين علمائهم و عوامهم، و هو طريق موصل إلى بيان الشرع، نظير التبادر الحاكي عن وضع الواضع في باب الألفاظ.

فيكون هذا ضابطة كلّية، فكلّما جرى فيه هذا الارتكاز المتشرّعي ينظر فيه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 381

هل يعمّه في كلتا حالتي العمد و السهو، أو مختصّ بحالة العمد مع ارتكاز الخلاف بالنسبة إلى السهو، أو مع الشكّ فيه، فإن كان الأوّل حكم بمنافاته شرعا في كليهما، و إن كان الثاني حكم بالمنافاة مع العمد دون السهو، و إن كان الثالث حكم بالمنافاة عمدا، و مع السهو يكون مرجعه الأصل، و هو البراءة على ما هو التحقيق.

و لا ينافي هذا الارتكاز ما ورد في الأخبار من الترخيص في بعض الأفعال، مثل حمل المرأة طفلها في الصلاة و إرضاعها، و مثل رمي الحصاة لإعلام أحد، و رمي الكلب و غيره بالحجر، و إحراز ما

يتخوّف ضياعه من متاع البيت، أو غسل دم الرعاف، و ما ورد من مشي رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بعرجون من عراجين ابن طاب و هو تمر بالمدينة، و حكّ النخامة الواقعة في المسجد و رجوعه صلّى اللّٰه عليه و آله قهقرى و بنائه على صلاته، و قد قال الصادق عليه السّلام: «و هذا يفتح من الصلاة أبوابا كثيرة» «1»، فإنّ ما ذكرنا من الارتكاز ليس من جنبة كونهم عقلاء، بل من حيث كونهم آخذين من الشرع.

فإذن لا منافاة له مع تلك الترخيصات، حيث إنّ النسبة بينهما هي النسبة بين العامّ و الخاصّ، و لا يمكن التعدّي من تلك الموارد إلى غيرها، إلّا إلى أشباهها، فيتعدّى مثلا من حمل المرأة طفلها إلى حمل ولد الشاة مثلا، و يتعدّى من فعل الرسول الأكرم صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم إلى أخذ شي ء آخر غير العرجون، و إلى المشي ء خطوتين مثلا لأجل حكّ النخامة في المسجد، و أمّا لأجل إعلام رجل كان في ذلك الموضع فلا.

و بالجملة مقتضى هذا الجمود على موارد ثبوت الارتكاز على المنع و عدم ورود الخلاف في الأخبار و كلّ ما شكّ فيه يكون المرجع فيه الأصل، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1)؟؟؟؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 382

[سابعها:] تعمّد البكاء من القواطع

اشارة

سابعها: تعمّد البكاء لشي ء من أمور الدنيا من ذهاب مال أو فوت عزيز على المشهور، و عن بعض نفي الخلاف، و عن التذكرة نسبته إلى علمائنا.

و الأصل فيه ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن النعمان بن عبد السّلام عن أبي حنيفة «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن البكاء في الصلاة أ يقطع الصلاة؟

فقال عليه السّلام: إن بكى لذكر جنّة أو نار

فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة، و إن ذكر ميّتا له فصلاته فاسدة» «1».

و عن الصدوق في الفقيه مرسلا قال: «و روي أنّ البكاء على الميّت يقطع الصلاة، و البكاء لذكر الجنّة و النار من أفضل الأعمال في الصلاة» «2» و لعلّ مراده الخبر الأوّل.

و كيف كان فينبغي التكلّم في مقامين:

الأوّل: في موضوع البكاء بالمدّ و القصر و أنّهما مختلفان معنى أو لا؟

و الثاني: في حكمه بحسب ما يستفاد من الخبر المذكور.

أمّا [المقام] الأوّل

فاعلم أنّ الشهيد الثاني قدّس سرّه قال في محكيّ الروض: و اعلم أنّ البكاء المبطل للصلاة هو المشتمل على الصوت، لا مجرّد خروج الدمع مع احتمال الاكتفاء به في البطلان، و وجه الاحتمالين اختلاف معنى البكاء مقصورا و ممدودا

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 383

و الشكّ في إرادة أيّهما من الأخبار، و قال الجوهري: البكاء يمدّ و يقصّر، فإذا مددت أردت الصوت الذي مع البكاء، و إذا قصرت أردت الدموع و خروجها، انتهى كلام الشهيد قدّس سرّه.

و قال في مجمع البحرين: و بكى يبكي بكى و بكاء بالقصر و المدّ، قيل القصر مع خروج الدموع و المدّ على إرادة الصوت، قال في المصباح و قد جمع الشاعر بين المعنيين فقال:

بكت عيني و حقّ لها بكاها و ما يغني البكاء و لا العويل

انتهى موضع الحاجة من كلامه قدّس سرّه.

قال شيخنا الأستاذ أدام اللّٰه على رءوس المحصّلين ظلال إفاداته: أنّ اللفظين إن كان وضعهما وضع الجوامد أمكن القول باختلافهما في المعنى، و لكنّه خلاف ما صرّحوا به من كونهما مصدرين، كما

عرفت التصريح به في عبارة مجمع البحرين.

و حينئذ فنقول: المادّة الموجودة في المصدر تكون بالضرورة متّحدة المعنى معها في سائر المشتقّات على ما هو الحقّ من أنّ المصدر أيضا كأحد من المشتقّات، و ليس هو أصلا لباقيها، و الذي هو الأصل عبارة عن ذوات الحروف المنفكّة عن جميع الهيئات الغير القابلة للتلفّظ الاستقلالي، فالمادّة بهذا المعنى متّحدة في المصدر و سائر المشتقّات، و الكلّ مشتملة على معناها، و الزوائد مستفادة من الهيئات، و الذي وضع له هيئة المصدر هو إفادة استقلال معنى المادّة الذي يعبّر عنه بالفارسيّة بدال و نون، أو بتا و نون.

فإذا فرضنا أنّ مصدر بكى يبكي اثنان: أحدهما بالقصر و الآخر بالمدّ فلا يفيد هذا الاختلاف الهيئي بين المصدرين زيادة في معنى أحدهما على الآخر، بل لا بدّ إمّا من كون المادّة في كليهما للجامع بين خروج الدمع مع الصوت و خروجه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 384

بلا صوت، و إمّا من كونها في كليهما لأحدهما خاصّة، و إمّا من كونها في كليهما مشتركة لفظيّة، و إمّا كونها في ضمن هيئة القصر للدمع بلا صوت و في ضمن هيئة المدّ له معه، فلازمه كون المادّة في ضمن سائر الهيئات أعني: بكى و يبكي و غيرهما أيضا مفيدة لمعنيين، و الحال أنّها فيها للجامع قطعا.

و الحاصل أنّ من المسلّم كونهما مصدرين لفعل واحد لا لفعلين مختلفين كغني و غناء، و إذن فينحصر الأمر في أن يكون هذا الاختلاف ناشئا من جهة الهيئة، و قد عرفت أنّ هيئة المصدر لم يوضع لإفادة زيادة معنى على معنى المادّة، بل لإفادة خصوص لحاظه استقلالا عن المحلّ و هو الذي يعبّر عنه بدال و نون أو

تاء و نون في الفارسيّة.

و من القريب أن يكون وجه توهّم القائل بالاختلاف غلبة مدّ الصوت عند استعمال الألفاظ لإفادة الكثرة في معانيها على ما هو المتعارف في الفارسيّة و غيرها، فحسب أنّ ذلك لأجل الدلالة الوضعيّة و غفل عن أنّه لأجل مدّ الصوت و كيفيّة اللهجة نظير اختلاف اللهجة، حيث إنّها بلهجة تفيد الإخبار، و بأخرى تفيد الاستفهام، و إذن فالاطمئنان حاصل بكون المعنى بحسب اللغة متّحدا.

و يؤيّده خبر منصور بن يونس أنّه سأل الصادق عليه السّلام عن الرجل يتباكى في الصلاة المفروضة حتّى يبكي «قال عليه السّلام: قرّة عين و اللّٰه، و قال عليه السّلام: إذا كان ذلك فاذكرني عنده» «1».

و رواية سعيد بيّاع السابري «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أ يتباكى الرجل في الصلاة؟ فقال عليه السّلام: بخّ بخّ و لو مثل رأس الذباب» «2» فإنّ الغالب في المتباكي

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 385

عدم الصوت، و قد بيّن عليه السّلام فضل البكاء الحاصل منه و لو مثل رأس الذباب بقوله عليه السّلام: بخّ بخّ إلخ و بقوله عليه السّلام في الرواية الأولى: قرّة عين إلخ، و من الواضح اتّحاد هذا المضمون مع ما مرّ في رواية أبي حنيفة من قوله عليه السّلام: فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة، و إذا ثبت أنّ الموضوع في هذه القضيّة أعني قوله عليه السّلام: إن بكى لذكر جنّة أو نار فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة هو الأعمّ ممّا يحصل عقيب التباكي و لو مثل رأس الذباب الذي عرفت غلبة

خلوّه عن الصوت، كان الموضوع في الثانية أعني قوله عليه السّلام: و إن ذكر ميّتا له أيضا ذلك، لوضوح اتّحاد الموضوع في القضيّتين، و اللّٰه العالم.

نعم يمكن دعوى الانصراف إلى صورة الاشتمال على الصوت، و لا أقلّ من الشكّ في إطلاقه من غير فرق بين الممدود و المقصور، فيكون الغير المشتمل على الصوت موردا للبراءة، لكن يبعّد الانصراف الروايتان المتقدّمتان، هذا هو التكلّم بحسب الموضوع.

[المقام الثاني] و أمّا الكلام في حكمه
اشارة

فاعلم أنّ الظاهر من القضيّة المذكورة في كلام الإمام المشتملة على التشقيق بين الشقّين بعد السؤال عن حقيقة البكاء في الصلاة أنّه عليه السّلام أراد بيان الحال في جميع شقوق و أنحاء تلك الحقيقة و لم يدع لها شقّا مسكوتا عنه، و ذلك لا يمكن إلّا بإرادة التمثيل ممّا ذكره عليه السّلام في كلّ من الشقّين.

فالأوّل يكون مثالا للبكاء من جهة أمر من أمور الآخرة، بل أو من جهة أمر من أمور الدنيا، لكن لا بعنوان تفجّعه من فوتها أو شوقه للوصول إليها، بل بعنوان التذلّل للّٰه تعالى ليقضي حاجة، و المقصود من الثاني ما كان لأجل الدنيا بدون طلبه ذلك من اللّٰه تعالى.

أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فبالنسبة إلى أمور الآخرة كذلك، و أمّا بالنسبة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 386

إلى أمور الدنيا فلأجل أنّ الظاهر من قوله عليه السّلام: إن بكى لذكر جنّة أو نار إلخ بعد البناء على كونه للتمثيل حسب البيان المتقدّم إرادة البكاء لأجل طلب الجنّة و التخلّص من النار، لا لأجل تصوّر ذاتهما من دون انقداح إرادة التحصيل أو التخلّص.

فمرجع الكلام إلى أنّه إن كان بكاؤه لأجل أنّه يطلب من اللّٰه تعالى الجنّة أو يطلب منه استخلاصه من النار فذلك هو أفضل

الأعمال في الصلاة، و حينئذ فمقتضى الاستظهار المتقدّم كونه مثالا لمطلق رفع الحوائج إلى اللّٰه تعالى، فلو بكى لأجل طلبه من اللّٰه تعالى الولد أو المال أو ألجأه أو مغفرة ميّت له أو دفع مكروه من مكاره الدنيا عن نفسه أو عن واحد من متعلّقيه كان أيضا من قبيل الشقّ الأوّل، و أمّا إذا بكى لأجل تذكّره فقدان المال أو ألجأه أو الولد أو غير ذلك من أمور الدنيا فذلك داخل في الشقّ الثاني.

و من هنا يعلم الحال في البكاء على الحسين عليه السّلام و على سائر المعصومين عليهم السّلام، فإنّه إن كان لمحض الرقّة البشريّة و التحسّر من جهة كونه عليه السّلام شخصا كبيرا قد ابتلى بالمكاره العظيمة من دون نشوية عن العقيدة بإمامته، كما هو الحال في بكاء الكفّار عليه، فهو من الشقّ الثاني المبطل.

و إن كان ناشئا من العقيدة الدينيّة فحاله حال البكاء على مظلوميّة الدين و هتك حرمة الشرع و انعطال أحكام اللّٰه تعالى و رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله، بل هو من أعظم أفراد ذلك.

فإن قلت: لا دليل على أنّ البكاء للدين غير مبطل، فإنّه غير راجع إلى التضرّع إلى اللّٰه لطلب حاجة أو دفع مكروه.

قلت: بعد ما عرفت من تعرّض الرواية لبيان الحال في حقيقة البكاء

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 387

في الصلاة و جعله مثال المبطل ما إذا كان بكاؤه لذكر ميّت له، و مثال غير المبطل ما كان لذكر جنّة أو نار فالإنصاف أنّ البكاء المذكور ألصق و أمسّ بالثاني منه بالأوّل.

فهل ترى أنّ المصلّي إذا قنت بقوله: اللّٰهمّ إنّي أسألك بحقّ الحسين المظلوم أسير الكربات و قتيل العبرات، فبكى لأجل تذكّر هذه المصائب الواردة

عليه عليه السّلام فهو خارج عن قوله عليه السّلام: إن بكى لذكر جنّة أو نار، و داخل في قوله: و إن ذكر ميّتا له إلخ؟

و الحاصل أنّه و إن كان ليس بكاؤه لأجل طلب الحاجة أو سدّ الخلّة، بل لمحض تذكّر المصائب الواردة على الدين و أحكام الشرع و حامي الإسلام و إمام المسلمين و لو لم يكن بقصد غاية التقرّب، بل كان بلا قصد للتحسّر و غلبة الحزن عليه فهو في الرجحان عند اللّٰه تعالى ليس بأقصر من ذلك البكاء، و إذا فرضنا أنّ البكاء لذكر جنّة أو نار كان مثالا لكلّ ما هو شبهه، فهذا من أوضح الأفراد المشابهة له، و لا يصلح أن يكون داخلا في ممثّل المثال الثاني، و اللّٰه العالم.

بقي الكلام في أنّ البكاء المبطل هل هو ما كان صادرا عن الاختيار المصحّح للتكليف، أو يعمّه و ما كان فاقدا للاختيار المصحّح للتكليف، كما إذا كان بلا سبق مقدّمة اختياريّة، بل لتهاجم الحزن عليه بغتة، بحيث لا يمكنه صرف نفسه و منعها عن البكاء؟

قد يقال بانصراف الأفعال المضافة إلى الفاعل المختار إلى صدورها عن اختيار، و لكنّ الحقّ خلافه و أنّ الانصراف المذكور صحيح بالنسبة إلى قسم من الأفعال الاختياريّة دون جميعها، و المقام ليس من ذلك القسم الذي يصحّ فيه الانصراف.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 388

الأفعال المضافة إلى الفاعل على قسمين

و توضيح المقام أنّ الأفعال الاختياريّة بمعنى ما اقترن بالاختيار المصحّح للتكليف و المؤاخذة على قسمين:

الأوّل: ما كان نشؤه و صدوره عن قوّة الفاعل بلا واسطة، بحيث كان قوّة الفاعل هو المؤثّر في إيجاد الفعل، و ذلك كالضرب، حيث إنّ حركة اليد و رفعها و نزولها بشدّة على رأس أحد يكون المؤثّر

فيها قوّة الضارب، و هي العلّة الموجدة التي يصدر منها تلك الوجودات بلا واسطة.

و من هذا القبيل أيضا الأفعال التي يحتاج إلى آلة توصل قوّة الفاعل إلى المحلّ كالكسر بواسطة آلة النحت، فإنّ قوّة الفاعل هي الكاسر، و الكسر فعل له بلا واسطة، و المنحت إنّما شأنه حمل القوّة من الفاعل إلى الخشبة، و ليس له فاعليّة في الكسر أصلا.

و الثاني: ما كان نشوه بغير فاعليّة قوّة الفاعل المختار و إرادته، كفعل الغير، حيث إنّه صادر بإرادة ذلك الغير، و معنى اختياريّته للشخص الآخر أنّ له الولاية على هذا الوجود بإيجاد مانعة، أو بتسبيب بعض مقدّماته.

مثلا: فعل المجي ء الصادر من زيد إلى بيت عمرو الذي هو حركات رجله بالرفع و الوضع ناشئة من إرادته و غير مرتبطة بإرادة العمرو أصلا، لكن يصحّ تكليف العمرو بالنسبة إليه وجودا أو عدما، لكونه اختياريّا له بالمعنى الأعمّ، أعني أنّ له تسبيب مقدّمته بإضافته زيدا و دعوته إيّاه إلى منزله، كما أنّ له إيجاد المانع بإغلاق الباب عليه لئلّا يدخل في منزله.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 389

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا أضيف القسم الأوّل إلى الفاعل المختار كما إذا قيل:

رأيت زيدا يضرب عمرا، كان المتبادر منه صدور الضرب بفاعليّة إرادته و تأثير قوّته في حركات جوارحه.

و أمّا إذا أضيف إلى القسم الثاني، كما إذا قيل: رأيت زيدا يضحك أو يبكي فلا ينصرف إلى أنّه أعمل مقدّمة اختياريّة لحصول حالة الفرح أو الحزن ثمّ حصول الضحك أو البكاء مسبّبا عن تينك الحالتين، أو أنّه كان في ضحكه أو بكائه قادرا على صرف نفسه عنهما بإشغال نفسه ببعض الخيالات المضادّة المانعة.

و من الشواهد على الفرق الذي ادّعينا بين القسمين ملاحظة

الحال في النتائج المرتّبة على الأفعال الاختياريّة، بحيث ليس هنا اختيار مستقلّ في حصول تلك النتائج، بل اختيارها باختيار مقدّماتها الغير المنفكّة عنها، مثل الكون على السطح المرتّب على رفع الرجل من الدرجة الأخيرة و وضعها على السطح، فإنّ الكون متحقّق حينئذ لا بإعمال قدرة اخرى و انقداح إرادة جديدة فيه، بل المؤثّر فيه هو الإرادة المؤثّرة في ذلك الرفع و الوضع الحاصلين من الدرجة الأخيرة.

و حينئذ فهل تشكّ في أنّه لو قال أحد: رأيت زيدا يصعد الدرج كان منصرف هذا الكلام أنّه بقوّة نفسه و إعمال إرادته كان يفعل هذا الفعل؟ و أمّا إذا قال: رأيته كان على السطح فهل يتبادر إلى الذهن أنّ هذا الكون حصل بمقدّمات صعود نفسه بإرادته و اختياره، أو بمقدّمة قهريّة خارجة عن قدرته؟ لا أظنّك ترتاب في عدم هذا التبادر في الثاني، مع وجوده في الأوّل.

و إذن فدعوى تبادر دليل: إن بكى لذكر ميّت له فصلاته فاسدة، أو دليل أنّ الضحك البالغ حدّ القهقهة مبطل للصلاة، إلى الاختياري منهما أعني: ما كان للمصلّي فيه إعمال قدرة إمّا لتسبيب مقدّمته أو لقدرته على إيجاد المانع واضحة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 390

الضعف، فإنّهما غير ناشئين من قوّة الفاعل و غير مندرجين في القسم الأوّل، بل نشوؤهما من غلبة الفرح أو الحزن على النفس، و سببهما ربما يكون اختياريّا، مثل دعوته ذاكر المصيبة أو ذاكر المضحكات و فاعل الملاعب بمحضره، كما أنّه ربما يكون بعد حصول أسبابهما في نفسه يقدر على صرف خياله حتّى لا ينتهي الأمر إلى حصول الأمرين.

و من هنا ينقدح أنّ حكومة حديث الرفع من قوله: رفع ما اضطرّوا إليه، بالنسبة إلى القسم الاضطراري من القهقهة

و البكاء أعني: ما لم يكن لقوّة المصلّي مدخل في مقدّمته، و لا في إيجاد المانع عنه لا يلزم منها محذور التقييد بالفرد النادر، كما تخيّلناه سابقا، فإنّ وجود مثل هذا القسم من الضحك و البكاء لا نسلّم كونه الشائع الذي يكون خلافه نادرا، فتدبّر، و اللّٰه العالم.

و ثامنها: الأكل و الشرب،

و حيث ليس فيهما كلام زائد على ما مرّ في الفعل الكثير، لكونهما من صغرياته، فكلّما اندرجا فيه حكم بالإبطال، و إلّا فلا نحتاج إلى إطالة الكلام.

و ها هنا مسائل:

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 391

الاولى في حكم المصلّي إذا سلّم عليه أحد
اشارة

و أنّه يجب عليه ردّ السّلام أو لا، و في كيفيّته على تقدير الوجوب و ما يتعلّق بذلك، و بسط الكلام في المقام يحتاج إلى رسم مقامات:

[المقام] الأوّل: في أصل وجوب ردّ السّلام و لو في غير الصلاة.

اعلم أنّ ردّ السّلام في حدّ ذاته واجب شرعا بلا خلاف فيه على الظاهر، قيل: الأصل فيه قبل الأخبار قوله تعالى وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا «1» بناء على أنّ المراد بالتحيّة بحسب الوضع الثانوي الطارئ عليه بغلبة الاستعمال خصوص ما يحيّى به عند الملاقاة الذي هو مختلف عند كلّ قوم، فعند بعض برفع القلنسوة، و عند آخر بوضع اليد على الجبين بالكيفيّة الخاصّة، و عند أهل الجاهليّة بقول: أنعم صباحا، و قد أبطل الإسلام كلّ ذلك و جعله بقول: سلام عليكم و أخواته من الصيغ الثلاث الأخر.

______________________________

(1) النساء: 86.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 392

و حينئذ فالمنصرف من إطلاقه في لسان الشارع هو التحيّة التي هو جاعل لها، فتكون الآية بملاحظة هذا الانصراف في كلامه بمنزلة قولنا: إذا سلّم عليكم بصيغة من صيغة الأربع: سلام عليك، أو عليكم، و السّلام عليك، أو عليكم، فسلّموا على المسلم بأحسن من سلامه بأن يزيدوا عليه رحمة اللّٰه إن قال: سلام عليك، و يزيدوا بركاته لو قال: سلام عليك و رحمة اللّٰه.

و لو قال: سلام عليك و رحمة اللّٰه و بركاته، فليس له أحسن، لأنّ هذا منتهى السّلام، فليس زيادة و مغفرته و رضوانه فردا أحسن، لأنّ الشارع حدّه بهذا الحدّ، كما يستفاد من النبوي المشتمل على جوابه لمن سلّم عليه ب «السّلام عليك» بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: و عليك السّلام و رحمة اللّٰه، و لمن سلّم عليه ب «السّلام عليك و رحمة اللّٰه» بقوله

صلّى اللّٰه عليه و آله: و عليك السّلام و رحمة اللّٰه و بركاته، و لمن سلّم عليه ب «السّلام عليك و رحمة اللّٰه و بركاته» بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: و عليك، فقيل: يا رسول اللّٰه زدت في الأوّل و الثاني في التحيّة، و لم تزد للثالث، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: إنّه لم يبق لي من التحيّة شيئا فرددت عليه مثله «1».

و بالجملة، فبناء على الانصراف المذكور يكون الآية أصلا في الباب و يكون دليلا يرجع إليه عند موارد الشكّ و يلتمس للخروج عنه الدليل.

و أمّا بناء على منع هذا الانصراف و القول بتعميمها لكلّ ما يسمّى باسم التحيّة عرفا و لو كان فعلا، كما يشهد بذلك ما عن الصدوق في الخصال بسنده في حديث طويل عن أبي جعفر عليهما السّلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه و عليهم السّلام «قال: إذا عطس أحدكم قولوا: يرحمكم اللّٰه، و يقول هو: يغفر اللّٰه لكم و يرحمكم،

______________________________

(1) تفسير الصافي: ذيل الآية 86 من سورة النساء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 393

قال اللّٰه تعالى وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا «1».

و عن كتاب المناقب لابن شهر آشوب «جاءت جارية للحسن عليه السّلام بطاق ريحان، فقال عليه السّلام لها: أنت حرّة لوجه اللّٰه، فقيل له عليه السّلام في ذلك، فقال عليه السّلام: أدّبنا اللّٰه تعالى، فقال وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا، و كان أحسن منها عتقها» «2».

حيث إنّ الظاهر من الخبرين أنّ الاستشهاد المذكور من باب التطبيق للآية على مصداق موضوعها، لا لأجل مجرّد المناسبة.

و إذن فيظهر أنّها واردة في مقام التأدّب الأخلاقي، لا في مقام التعبّد و الإيجاب

الشرعي.

و على هذا فيشكل التمسّك بالآية في المقام، لكن في الأخبار في إثبات أصل وجوب ردّ السّلام سواء في حال الصلاة أم غيرها غنى و كفاية، لكنّ الفرق في الرجوع عند موارد الشكّ بناء على التمسّك بالآية إلى الأصل الثانوي المستفاد منها، و بناء على التمسّك بالأخبار دون الآية إلى الأصل الأوّلي و هو البراءة، لكون الشكّ في أصل التكليف، إذ ليس لنا إطلاق نتمسّك به لوجوب الردّ في كلّ مقام صدق عليه اسم التحيّة السلاميّة، و على هذا فيجب الاقتصار في الخروج عن مقتضى الأصل على القدر المتيقّن من الدليل.

فلو كان السّلام خارجا عن صيغة الأربع و لو كان يقول: سلام، أو سلاما، أو سلامي، أو كان بإحداها لكن ملحونة في المادّة أو الأعراب فلا دليل على

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 58 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(2) تفسير الصافي: ذيل الآية 86 من سورة النساء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 394

وجوب الردّ، إذ المتيقّن هو الصيغ الأربع الصحيحة، فالخارج منها خارج عن المتيقّن، فلا دليل على وجوب جوابه، لا في الصلاة و لا في غيرها.

[المقام] الثاني: حكى بعض المحدّثين القول أو الميل إلى وجوب ردّ الكتابة،

و اختاره بعض متأخّري المتأخّرين، لصحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب ردّ السّلام، و البادي بالسلام أولى باللّه و رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله» «1».

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه الشريف: كيف يمكن القول بذلك و الحال أنّ السيرة الخارجيّة الجارية بين الناس على خلافه مع عموم البلوى و كثرة الابتلاء به بالنسبة إلى غالب الناس، و العادة قاضية بأنّ مثل هذا الأمر لو كان محكوما بالوجوب لذاع و فشا، فهذا دليل قطعي أو

قريب من القطعي على العدم بحيث لا يمكن رفع اليد عنه بواسطة هذا الخبر الواحد.

ألا ترى أنّه لو كتب أحد إلى أحد يسأله في تعيين القيمة السوقيّة للجنس الكذائي في البلد فهل المرتكز في أذهان المتشرّعة الحكم بلزوم كتابته الجواب إمّا بتعيين السعر أو بلا أدري؟ كلّا و حاشا من ذلك.

و إذن فلا يبعد ورود الرواية في مقام بيان أنّ ردّ السّلام الكتبي أيضا كالقولي واجب، فلو كتب أحد صيغة السّلام إلى آخر وجب عليه الجواب إن كان حاضرا إمّا بالنطق أو بالكتابة، و إن كان غائبا فبالكتابة إليه، و كما أنّه يجب الفور في الردّ القولي، كذلك الفور في ردّ الكتبي بمعنى عدم التأخير عن أوّل أزمنة إمكان الإرسال

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 33 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 395

عرفا، و هذا المعنى أيضا و إن كان ليس الارتكاز مساعدا له، لكن يمكن أن يكون لأجل عدم فهم العلماء هذا المعنى من الخبر، و ليس أمرا غالب الحصول حتّى يستوحش مجهوليّة حكمه من جهة ذلك، بل أمر اتّفاقي، و لعلّه نادر الاتّفاق، فليس في خفاء حكمه استيحاش.

[المقام] الثالث: لا خلاف على ما صرّح في الحدائق في جواز التسليم على المصلّي،

إنّما الكلام في الجمع بين اختلاف الأخبار، حيث يظهر من بعضها الأمر الظاهر في الاستحباب، و من آخر النهي الظاهر في الكراهة.

مثل خبر مسعدة بن صدقة المرويّ عن كتاب الخصال عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السّلام «قال عليه السّلام: لا تسلّموا على اليهود و النصارى، إلى أن قال عليه السّلام: و لا على المصلّي، لأنّ المصلّي لا يستطيع أن يردّ السّلام، لأنّ التسليم من المسلم تطوّع و الردّ فريضة، و لا على آكل الربا، و لا على رجل

جالس على غائط، و لا على الذي في الحمّام» «1».

و يمكن أن يقال: إنّ الرواية علاوة على عدم دلالتها على الكراهة دالّة على الاستحباب الابتدائي حتّى بالنسبة إلى المصلّي، كما أنّها دالّة على وجوب الردّ حتّى في حال الصلاة.

و أمّا النهي فهو إرشادي صرف، و المقصود منه أنّه ينبغي رفع اليد عن هذا المستحبّ لأجل رعاية الأهمّ منه و هو عدم التسبيب إلى اغتشاش خاطر المصلّي، فإنّ قلبه مشغول بصلاته، و إذا سلّمت عليه يلتفت إلى أداء هذا التكليف الوجوبي،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 28 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 396

و يوجب ذلك اغتشاش خاطره و خروجه عمّا هو عليه من الإقبال و التوجّه إلى العبادة، فهو مع وصف بقائه على شغل صلاته كما هي عليه من الإقبال غير مستطيع على أن يردّ الجواب، فينبغي عدم الإتيان بهذا المستحبّ الموجب، لذلك، لا أنّه ليس بمستحبّ، فضلا عن كونه مكروها، و أمّا جعله رديفا لما هو مكروه فليس له ظهور يقاوم ظهور التعليل في التطوّعيّة، بل المراد بمقتضى الجمع هو الاشتراك في أصل النهي الأعمّ من الإرشادي و التعبّدي، هذا.

[المقام] الرابع: لا خلاف بيننا على الظاهر في وجوب جواب السّلام في حال الصلاة

كما في سائر الأحوال، إنّما الكلام في رفع الاختلاف الواقع بين الأخبار في كيفيّة الردّ، فإنّها على ثلاث طوائف:

منها: ما يدلّ على أنّه يجب قول: سلام عليكم في الجواب، و لا يقول:

و عليكم السّلام «1»، مع سكوته في مقام البيان عن كون صيغة السّلام بأيّ نحو من أنحائها، و مقتضاه التعميم إلى الجميع.

و منها: ما يشتمل على حكاية سلام عمّار بن ياسر على النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في الصلاة إمّا بدون التعرّض لا لصورة السّلام، و لا لصورة

الجواب، كمرسلة الصدوق عن أبي جعفر عليهما السّلام «2»، و إمّا مع التعرّض لصورة الجواب دون السّلام و أنّ الجواب كان بصيغة سلام عليكم، كموثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «3».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 6.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 397

و إمّا بالعكس و أنّ صيغة السّلام كانت: السّلام عليك يا رسول اللّٰه و رحمة اللّٰه و بركاته، كالمرويّ في الذكرى عن البزنطي عن الباقر عليه السّلام «1».

و بناء على اتّحاد القضيّة كما هو الظاهر، إذ لو وقع السّلام من عمّار متعدّدا لأشارت النصوص إلى ذلك، مع خلوّها عنه بكون هذه الطائفة نصّا في عدم وجوب المماثلة بين السّلام و الردّ في جميع الجهات، حتّى في الإفراد و الجمع و التعريف و التنكير، لوجود المخالفة في كلتا هاتين الجهتين في ما وقع من جواب النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في سلام عمّار.

و إنّما اللازم هو اعتبار المماثلة، بمعنى كون الجواب من إحدى الصيغ الأربع المعمولة في مقام ابتداء السّلام في مقابل أن لا يقول: و عليكم السّلام بتقديم الظرف، كما هو المعمول المرسوم في مقام الجواب، و قد عرفت أنّ هذا أيضا مقتضى إطلاق الطائفة الأولى، بقيت الطائفة الثالثة، و هي ما اشتمل على وجوب المماثلة بين الجواب و السّلام، و ظاهرها في نفسها و إن كان المماثلة التامّة حتّى في الإفراد و الجمعيّة و التعريف و التنكير، إلّا أنّك عرفت أنّ هذا خلاف ما يظهر من السكوت في مقام البيان الواقع في

عدّة أخبار تعرّض فيها للجواب بصيغة السّلام بدون التعرّض لكون الصيغة في الابتداء بأيّ نحو من أنحائها، و كذلك مخالف لظاهر وحدة قضيّة عمّار المصرّح في أخبارها باختلاف ما بين السّلام و الجواب في هذه الخصوصيّات.

و إذن فمقتضى الجمع حمل المماثلة في هذه الطائفة على المماثلة بمعنى أنّ الجواب في الصلاة ليس على حذوه في غير حال الصلاة من تقديم الظرف، بل هو على حذو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 398

السّلام من تقديم السّلام على الظرف، فالمماثلة في هذه الجهة خاصّة، لا في جميع الجهات.

و من المؤيّدات لما ذكرنا أنّه لو كان المقصود وجوب المماثلة التامّة حتّى في التعريف و التنكير و الإفراد و الجمع لكان المناسب أن يقال: يجب إمّا اختيار المماثل المذكور، و إمّا اختيار الصيغة القرآنيّة بقصد القرآن ثمّ قصد الردّ تبعا، بناء على ما ذكرنا و نذكر إن شاء اللّٰه تعالى من صحّة هذه الحيلة، فحيث خلت الأخبار عن الإشارة إلى ذلك كان مؤيّدا لعدم إرادة المماثلة إلّا بالمعنى الذي قلنا.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه بناء على ما تقدّم من عدم تماميّة الاستدلال بالآية الشريفة للمقام و انحصار المدرك في الأخبار، يجب الاقتصار في الحكم بالوجوب على المتيقّن و الرجوع في ما زاد عنه إلى الأصل، و على هذا فلو كان السّلام بغير الصيغ الأربع المعروفة فلا دليل على وجوب ردّه، و كذا إذا كان المسلّم هو غير البالغ، إذ ليس في الأخبار إطلاق شامل له، فإن أراد الاحتياط في موارد الشكّ في غير الصلاة فلا كلام، و أمّا في الصلاة فيأتي بالصيغة القرآنيّة بعنوان القرآن و ردّ

التحيّة طولا، على توضيح تقدّم و يأتي إن شاء اللّٰه تعالى.

[المقام] الخامس: يجب الفور في الردّ،

و وجهه أنّه لا ردّ مع التراخي، ألا ترى أنّه لو حيّي أحد لصاحبه ثمّ أخّر جواب تحيّته إلى يوم آخر مثلا، بل أو إلى ساعة أخرى، لا يسمّى ذلك عرفا جوابا لتلك التحيّة، و حيث إنّ الموضوع متقيّد بالفور فلا يجي ء هنا البحث عن أنّه لو عصى فهل يسقط أو يجب فورا ففورا.

و لذا لو كان في الصلاة و أخّر الجواب إلى أن مضى محلّ الجواب و لم يشتغل بشي ء من الأفعال و الأقوال الصلاتيّة في هذه المدّة و فرض عدم اختلال الموالاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 399

فصلاته صحيحة حتّى على القول باقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه، بخلاف ما إذا اشتغل قبل مضيّها، فإنّه يبتني الصحّة و البطلان حينئذ على المسألة المذكورة.

[المقام] السادس: الظاهر اعتبار إعلام المسلّم بالجواب،

فلا يكفي الجواب بحيث لم يطّلع هو عليه، و لا خصوصيّة في أحداث الاطّلاع له بكيفيّة خاصّة من إسماع الصوت تحقيقا أو تقديرا، بل لو فرض تكلّمه بالجواب و إفهامه إيّاه ذلك بنحو آخر من حركة يد و إشارة رأس بوجه يفيد أنّه متكلّم بالجواب كان كافيا، و لا دليل على أزيد من ذلك، و الدليل على اعتبار ذلك عدم صدق ردّ السّلام بدونه عرفا.

[المقام السابع:] حكم تسليم واحد على جماعة

السابع: لو سلّم واحد على جماعة فهنا بحسب التصوير ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أن يقصد السّلام على كلّ واحد واحد من الأفراد، كما هو الشأن في العموم الاستغراقي، حتّى كأنّه في قوله: سلام عليكم، سلّم على كلّ واحد مستقلّا، فسلامه منحلّ إلى تسليمات عديدة بعددهم.

و الثاني: أن يقصد التسليم على الكلّ، بحيث كان المسلّم عليه كأنّه شخص واحد، و كلّ واحد واحد بمنزلة أبعاض ذلك الشخص الواحد، فلم يسلّم على هذا على كلّ من الآحاد، بل على مجموع هو بعضه، فكلّ واحد بعض المسلّم عليه، لا كلّه.

و الثالث: أن يقصد السّلام على الهيئة الغير المتبدّلة بتبدّل الأشخاص

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 400

الخاصّة، كهيئة الوزراء، بحيث لو تبدّلت الأشخاص الخاصّة لم يتبدّل المسلّم عليه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ مقتضى القاعدة في النحو الأوّل وجوب الرّد على كلّ واحد واحد، لصيرورته مسلّما عليه استقلالا، فيشمله ما دلّ على وجوب ردّ السّلام، و المفروض كونه بإحدى الصيغ الأربع أيضا، كما أنّه لو كان على أحد النحوين الأخيرين فلا دليل على توجّه التكليف بالردّ إلى أحد من الآحاد، إذ المفروض أنّه في النحو الأوّل منهما بعض المسلّم عليه، لا كلّه، و في النحو الأخير لا مدخليّة للشخص في المسلّم عليه حتّى بنحو الجزئيّة، هذا

مقتضى القاعدة.

و لكن ورد في بعض الأخبار أنّه «إذا سلّم على القوم و هم جماعة أجزأهم أن يردّ واحد منهم» «1».

و في آخر: «و إذا ردّ واحد أجزأ عنهم» «2»، و الظاهر أنّه ناظر إلى النحو الأوّل، إذا الأخير لم يعهد صدوره من أحد، و النحو الوسط أيضا خلاف المتبادر من حال المسلّم على الجماعة، فإنّه قاصد للتحيّة إلى الأشخاص بحيث يحيّي كلّا منهم بتحيّة خاصّة به، لا أنّه يحيّي تحيّة واحدة منقسمة عليهم بحيث يكون الواصل إلى كلّ واحد بعض التحيّة، فإنّ هذا خلاف المشاهد من المسلّمين على الجماعة بحكم الوجدان، فيبعد كون المنظور في الخبر هذا القسم النادر الاتّفاق، بل الظاهر كون المنظور خصوص النحو الأوّل، و حينئذ فيكون مقتضى الخبر كفاية أداء واحد منهم للردّ عن الباقين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 46 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 46 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 401

و الشاهد على الاختصاص قوله عليه السّلام: أجزأ عنهم، فإنّه ظاهر في توجّه الخطاب بالردّ إلى كلّ واحد، و هو لا يكون إلّا بصيرورة كلّ واحد محيّى بتلك التحيّة، و هو منحصر في الوجه الأوّل، هذا في طرف المسلّم عليه.

و قد ورد في جانب المسلّم أيضا أنّه «إذا سلّم عن القوم واحد أجزأ عنهم» «1».

و في آخر: «إذا مرّت الجماعة بقوم أجزأ عنهم أن يسلّم واحد منهم» «2».

و في ثالث: «إذا سلّم الرجل من الجماعة أجزأ عنهم» «3».

و هل الإجزاء في الطرفين يكون على نحو الرخصة بحيث يبقى أصل المشروعيّة بالنسبة إلى الباقين، أو على وجه العزيمة، بمعنى أنّ حال السّلام من الباقين حال صبّحك اللّٰه و نحوه

من الألفاظ الأخر المرسومة عند الملاقاة، و ليس داخلا في السّلام المسنون الشرعي حتّى يستحقّ الجواب لو كان ابتداء، و لا ردّا مسنونا لو كان جوابا؟

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 401

الذي قوّاه شيخنا الأستاذ دام ظلّه هو الثاني، و ذلك لأنّ عموم المشروعيّة للابتداء أو الجواب بالنسبة إلى كلّ واحد واحد من الجماعة المصطاد من الأخبار صار محكوما بهذه الأخبار الدالّة على الأجزاء، و ظاهره الإجزاء عن السنّة السلاميّة، فحاصل مفادها أنّ إقامة السنّة المذكورة قد تحقّقت بواسطة ذلك، و بعده فلا يبقى دليل على بقاء تلك السنّة بالنسبة إلى الباقين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 46 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 46 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 46 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 402

[المقام] الثامن: ردّ السّلام بالصيغة القرآنيّة
اشارة

الثامن: قد عرفت أنّ الاحتياط في الموارد التي يتحقّق الشكّ في وجوب الردّ فيها مثل كون المسلّم غير بالغ، أو كون السّلام بغير الصيغ المعهودة الإتيان بالصيغة القرآنيّة بقصد القرآن، ثمّ قصد ردّ التحيّة في طول ذلك، و قد مرّ توضيح ذلك في البحث عن قاطعيّة الكلام.

و نزيده هنا و نقول: لا إشكال في أنّ التحيّة و الردّ إنّما يتحقّقان بقصد ذلك موجّها إلى شخص خاصّ في قالب الألفاظ كما هو الشأن في إلقاء سائر المعاني بالألفاظ، فما دام لم يقصد بقوله: سلام عليك، توجيه السّلام نحو المخاطب باستعمال كاف الخطاب فيه و إهداء السّلام إليه لم يصدق كونه محيّيا أو رادّا للتحيّة، و لا يخفى عدم اجتماع ذلك مع قصد القرآنيّة بالألفاظ، إذ معنى

ذلك أنّه يقصد بألفاظ حكاية الألفاظ المنزّلة، و الألفاظ المنزّلة غير مستعملة إلّا في المعاني التي قصد بها حين نزولها.

فإن قلت: إنّه و إن كان بقصد القرآن، إلّا أنّه إذا أتى به في مقام الردّ يحصل به الردّ على سبيل الكناية من باب: إيّاك أعني و اسمعي يا جارة، إذ الظاهر كفاية مثله في صدق اسم ردّ التحيّة عرفا و عدم توقّفه على إرادته من اللفظ بالدلالة المطابقيّة.

السّلام أمر إنشائي

قلت: الكناية عبارة عن ذكر اللازم و إرادة الملزوم أو عكسه، و أيّ ملازمة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 403

بين قراءة سلام عليكم القرآني و إنشاء ردّ التحيّة، كيف و هو أمر إنشائي لا يحصل ما لم يحصل التوجّه المستقلّ إليه و استعمال اللفظ فيه كسائر الإنشاءات.

نعم ما ذكر إنّما يتوجّه بالنسبة إلى إفهام المقاصد الإخباريّة، كما لو أراد المصلّي إفهام أنّه طالب للوضوء من المخاطب، فقرأ آية إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أو إراءة كون المخاطب فاسقا أو ردعه عن الفسق، فقرأ آية إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ و المناسب لذلك في المقام أيضا أنّه يجب أن يردّ سلام المسلّم، و لكنّه لا يتمكّن من الردّ، لكونه في الصلاة، و هذا غير إنشاء الردّ.

و الحاصل أنّ بين قصد الحكاية و قصد الإنشاء منافاة واضحة إلّا على وجه الطوليّة كما فصّلناه سابقا، و المقصود هنا دفع توهّم إمكان حصول الردّ بصرف الاستعمال على وجه الحكاية القرآنيّة بدون حاجة إلى قصد الإنشاء المحتاج إليه في سائر ألفاظ الإنشاءات بدعوى كون المقام من باب الكنايات، و قد عرفت عدم تمشّي باب الكناية هنا، بل المقدار اللازم فهم كونه محبّا و طالبا للردّ، لا أنّه رادّ

للسلام، و المطلوب هو الثاني، و هو لا يتحقّق إلّا بالقصد من اللفظ، كما في سائر المقامات، و قد فرض أنّه لم يقصد من اللفظ إلّا الحكاية عن الألفاظ المنزّلة، فالمحيص منحصر في الجمع بين القصدين الحكائي و الإنشائي على نحو الطوليّة، فراجع ما ذكرنا.

إفهام المقاصد بالألفاظ القرآنيّة على أنحاء
اشاره

و حاصله أنّ إفهام المقاصد بالألفاظ القرآنيّة كأشعار الغير يكون على أنحاء:

الأوّل: أن يكون بصرف رفع الصوت

يسمعه الغير فيتيقّظ من النوم مثلا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 404

و الثاني: أن يكون مقصوده فردا و مصداقا

لمفاد الآية، و هو كلّي لذلك المقصد، أو يكون بينهما مناسبة بحيث يصحّ الكشف عن أحدهما بالآخر، كما إذا أراد الإعلام و الإرشاد للفاسق عن فسقه فقرأ قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ أو أراد أنّه يريد استعلام الفجر من خادمه فقرأ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ بحيث فهم بمناسبة المقام أنّه مريد استعلام الفجر.

و الثالث: أن يقتبس من القرآن و ينشأ الألفاظ من نفسه

و يستعملها في مقصده، لكنّه يأخذها من القرآن لكونه أبلغ الكلام مثلا.

و حينئذ فالمتكلّم بصيغة سلام عليكم في مقام الردّ بعد معلوميّة خروجه عن النحو الأوّل يدور أمره بين أحد الأخيرين، أمّا الأوّل منهما فغاية الكشف الحاصل من التلفّظ باللفظ القرآني في مقام ردّ سلام الغير مثل التلفّظ بألفاظ مدح الغير ممدوحه في مقام مدح الغير بعد فرض كون تكلّمه بعنوان كونها ألفاظ صادرة من ذلك الغير أحد أمور.

الأوّل: أنّك مستحقّ لمثل هذه الألفاظ كما قاله الملائكة لأهل الجنّة أو قائل الشعر مثلا لممدوحه.

الثاني: إنّي محبّ لذلك و طالب له.

الثالث: إنّ حالة التلبّس بالصلاة مانعة من أن أشتغل بردّك مثلا.

و شي ء من هذه الأمور و لو فرض التصريح بها لا يكون جوابا للسلام كما هو واضح، بل الجواب عبارة عن إنشاء السّلام بعنوان الردّ بالألفاظ الخاصّة موجّها لها إلى المخاطب، كما هو الحال في المدح.

مثلا، إنّما يكون قول: اى ز باريكى ميانت همچه موئى در كمر، مدحا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 405

لمخاطبك إذا أتيت بها قاصدا بها المخاطب مخاطبا في حال قولك «ميانت» إيّاه، و هو يمنع عن قصدك شعر النصاب الذي قاله قائله بقصد قصده نفسه.

و بالجملة، هذا القصد أعني حكاية ألفاظ الغير لا يجتمع مع الإفناء

في المعنى كأنّك تحدثها من نفسك، و الذي يحتاج إليه الردّ و المدح هو الثاني، و أمّا الأوّل فليس إلّا نقل ألفاظ مدح بها أحد شخصا آخر أو سلّم بها أحد شخصا آخر، و هذا لو فرض التصريح به أيضا مع المناسبة المقاميّة فليس المستفاد منه إلّا أحد الأمور المتقدّمة التي ليس شي ء منها ردّا و لا مدحا.

و أمّا النحو الأخير أعني الاقتباس من ألفاظ الغير، فالردّ و المدح حاصلان به قطعا، لأنّ المفروض أنّه يأتي بالألفاظ بعنوان إفنائها في معانيها الذي قصده نفسه، غاية الأمر أخذ الألفاظ من عبارة الغير، و لكن لا يصدق عليه قارئ القرآن أو قارئ شعر فلان، و إنّما يقال: إنّه مقتبس منهما، و المقتبس غير القارئ، إذا القراءة إنّما تتحقّق إذا كان سمت ألفاظ نفسه مع ألفاظ الغير سمت سائر الألفاظ مع معانيها، بمعنى أنّه جعل تلك الألفاظ في قالب ألفاظ نفسه و ألقاها عوض المعنى إلى المخاطب، كما هو المحقّق في استعمال اللفظ في اللفظ كقولك: ضرب فعل ماض، و هل ترى إمكان الجمع بين قول ضرب بحكاية نوعه و قوله بعنوان معناه الذي هو الفعل الخاصّ منسوبا إلى الفاعل في الزمان الماضي؟ كلّا، بل هو عين الجمع بين اللحاظين المتنافيين.

فإذا تحقّق بطلان جميع الأنحاء الثلاثة تعيّن النحو الرابع الذي اخترناه و هو جعل ألفاظه حكاية لألفاظ الغير، كما هو الحال في الحكاية، و بعد حكاية تلك الألفاظ و صيرورتها كأنّها بوصف صدورها من الغير مشاهدة للمخاطب و المفروض كونها من سنخ الألفاظ التي شأنها حكاية المعاني بها، يقصد بتلك

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 406

الألفاظ المحكيّة المعنى الذي قصده و إن كان مغايرا لمقصود قائلها الأوّل،

فإنّ حكاية ألفاظ الغير غير متوقّفة على التوجّه إلى معانيها المقصودة لذلك الغير، و لهذا يتمشّى من غير العالم بالوضع الغير الشاعر للمعنى أصلا، فضلا عن أن يتوقّف على إرادتها.

و حينئذ فالحكاية تحقّقت بالقصد المذكور، و أمّا المعنى فهو باختيار القائل، فالقائل الأوّل قصد معنى و هذا يقصد معنى آخر بعين ذلك اللفظ الذي حكاه بألفاظ نفسه.

فلفظ سلام عليكم ليس جوابا للسلام، بل هو حكاية عن سلام عليكم القرآني، و ذلك المحكيّ قصد به الجواب، فالجواب لم يتلفّظ بنفسه، بل بحاكيه، نظير سلام عليكم الكتبي، حيث إنّ هذا النقش ليس جوابا أو سلاما، بل هو حاك عن الألفاظ و قد قصد بالألفاظ المحكيّة السّلام أو الجواب، فإنّ المحكيّ هو صيغة سلام عليكم القابلة لأن يكون خطابا لكلّ مخاطب، و إنّما يتعيّن بالقصد، فهذا الكاتب قصد تعيّنه في مقصوده، كما أنّ لفظ الملائكة المحكيّ في القرآن صالح لكلّ مخاطب، و إنّما تعيّن في أهل الجنّة بقصد الملائكة، فالمتكلّم يقصد شخصا آخر.

بل نقول: يمكن تمشّي ذلك في ألفاظ الأعلام الشخصيّة أيضا، مثل يٰا يَحْيىٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ فإنّ اللفظ القرآني المحكيّ و إن قصد به قائله شخصا معيّنا، لكنّه خارج عن المشخّصات اللفظيّة للفظه، فيمكن قصد شخص آخر بذلك اللفظ بعد حكايته بألفاظ نفسه، و لا يخرج مع ذلك عن كونه لفظا قرآنيّا.

فإن قلت: القرآن المستثنى هو ما يؤتى به بعنوان القربة و العباديّة، و أين هو من هذا الذي حقيقته المكالمة و المخاطبة مع الناس في إفهام المطالب الدنيويّة؟

قلت: بعد صدق القرآن و كلام الربّ على المقروّ يكفي ذلك في الخروج عن الكلام المبطل و إن لم يكن بداع قربيّ، فإنّه بذاته حسن مع قطع النظر

عن الداعي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 407

كالخضوع للّٰه تعالى و البكاء من خوفه، و لا دليل على مبطليّة مطلق المخاطبة و لو بمثل ما ذكرنا، أعني جعل آلة الخطاب ألفاظ القرآن، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور و هو المأمول في الميسور و المعسور.

[المقام] التاسع: هل يجب ردّ سلام المرأة أو لا؟

فاعلم أنّا إن قلنا بإمكان الاستدلال بالآية الشريفة للمقام كانت المرأة أيضا داخلة في عموم قوله تعالى وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ فإنّه حيث أتى بصيغة المجهول كان عامّا لما إذا كان الفاعل رجلا أو امرأة، و لكن سبق الخدشة في التمسّك بها و عدّها من أدلّة المقام و انحصار المرجع في الأخبار، و لا يستفاد منها إطلاق أو عموم أو خصوص دالّ على وجوب الردّ فيهنّ و مقتضى الأصل البراءة.

نعم ورد في بعض الأخبار أنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كان يسلّم على النساء و يرددن عليه السّلام «1»، و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يسلّم على النساء، و كان يكره أن يسلّم على الشابّة منهنّ و يقول: أتخوّف أن يعجبني صوتها فيدخل عليّ أكثر ممّا أطلب من الأجر «2»، و لكن دلالة هذا على الوجوب قاصرة، إذ ليس إلّا حكاية فعل.

نعم لو كان المحكيّ جوابهم عليهم السّلام لسلام المرأة في صلاتهم عليهم السّلام لم يخلو من الدلالة، و إلّا فلا يعلم أنّه من باب الآداب المستحسنة كتفقّد الحال من المسلمات، كما

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 48 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 48 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 408

هو دأبهم عليهم السّلام، أو من باب إقامة السنّة الخاصّة السلاميّة.

و دليل الاشتراك إنّما يتمّ في ما إذا أحرز

وحدة الموضوع و عدم مدخليّة خصوصيّة الرجال، كما في بابي الصوم و الصلاة و نحوهما، فلو ورد في خطاب إلى رجل بيان كيفيّة أحد هذه الأمور فلا يحتمل أنّ لخصوصيّة الرجال مدخليّة، بل الظاهر كونه كيفيّة لحقيقة الصلاة التي هي تكليف الكلّ.

و أمّا في المقام فمن المحتمل أن يكون عقد موضوع تشريع الأدب السلامي الذي وجب في الشريعة ردّه مخصوصا بالرجال دون النساء، فإنّه كما يظهر من بعض الأخبار يكون حكمة تشريعه أمن كلّ من المتسالمين من شرّ الآخر، و لا يخفى أنّ الحاجة إلى ذلك إنّما هي بالنسبة إلى الرجال، إذ هم المحتاجون إلى الاجتماعات القوميّة، و النساء ليس لهنّ حظّ من ذلك، فمن المحتمل خروجهن عن هذا الحكم، هذا.

و لكن يمكن أن يستدلّ على وجوب الردّ فيهنّ إذا سلّمن على الرجال بما رواه الصدوق بإسناده عن عمّار الساباطي أنّه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن النساء كيف يسلّمن إذا دخلن على القوم؟ «قال عليه السّلام: المرأة تقول: عليكم السّلام، و الرجل يقول: السّلام عليكم» «1».

و هذه الرواية كما تدلّ على مشروعيّة السّلام المعهود في حقّ النساء، و من المعلوم أنّه مستحقّ للردّ و الجواب بطريق الوجوب، كذلك يدلّ على مشروعيّة الصيغة المذكورة التي هي خارجة عن الأربع المعهودة في مقام السّلام أيضا، لكن في خصوص النساء، و لا يعلم مشروعيّتها مطلقا، فيكون القدر المتيقّن بالنسبة إلى

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 39 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 409

الرجال هو الأربع فقط.

و في قوله عليه السّلام: و الرجل يقول السّلام عليكم احتمالان:

الأوّل: أن يقول ذلك في مقام السّلام.

و الثاني: أنّه يقول ذلك في جواب المرأة.

و الثاني هو

الأظهر، إذ الأوّل خارج عن المسئول عنه، و أجنبيّ بالنسبة إليه.

لا يقال: فيلزم استعمال «كم» في خطاب المرأة و هو غير جائز، لاختصاصه بخطاب الرجال.

لأنّا نقول: لا يبعد أن يكون اختيار ذلك في مقام خطاب المرأة إذا أريد التعظيم كما هو المتعارف الآن، حيث لم يعهد استعمال «كنّ» بالنسبة إلى المرأة الواحدة عند إرادة الجمع التعظيمي من باب أنّ المعظّم بالكسر ينزّلها لغاية العظمة بالغة مرتبة الرجال، بل مرتبة المتعدّد منهم حتّى يستحقّ الخطاب بهذه الصيغة.

[المقام] العاشر: هل يجب ردّ سلام الكفّار من أهل الكتاب و غيرهم أو لا؟

قد يقال بابتناء المسألة على مرجعيّة الآية الشريفة و عدمها، و لكنّ الحقّ خروج الكفّار عن العموم على القول بمرجعيّته.

وجهه أنّ الظاهر من الأخبار أنّ كيفيّة جواب سلام الكافر مغايرة لكيفيّته في سلام المسلم بكلا قسميه، ففي المسلم إمّا يكون بالأحسن أو بالمثل كما هو مضمون الآية الشريفة، و في الكافر بكيفيّة ثالثة، هي إمّا الاقتصار على قول: عليك بدون واو العطف إلّا في خبر غياث «1» المشتمل على الواو، و لكنّه ساقط عن الحجّية،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 49 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 410

و إمّا الاقتصار على قول سلام بدون عليك.

و الظاهر أنّ مرادهم عليهم السّلام الجمع بين عدم بقاء سلامهم بلا ردّ في الصورة مع عدم توجيه التحيّة السلاميّة إليهم، بل إمّا يقال: عليك، و المقدّر حينئذ شي ء آخر غير السّلام، مثل ما يستحقّه و نحوه، و إمّا يقال: سلام و المقدّر حينئذ: من اتّبع الهدى و نحوه، و من المعلوم أنّ هذا دستور خارج عن الردّ بالأحسن أو المثل، فالآية الشريفة على تقدير القول بدلالتها مخصّصة بالنسبة إلى الكفّار.

و أمّا الأخبار فالظاهر منها الوجوب بالكيفيّة المذكورة، مثل موثّقة محمّد

بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا سلّم عليك اليهودي و النصراني و المشرك فقل عليك» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 49 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 411

المسألة الثانية لا يجوز قطع الصلاة الواجبة اختيارا
اشارة

و بلا ضرورة شرعيّة أو عرفيّة مقتضية له بلا خلاف ظاهر، بل عن جملة التصريح بالإجماع في جملة من المنافيات المتقدّمة، كالشهيد في الذكرى في الكلام و الحدث و القهقهة، بل لعلّ المتدبّر في كلماتهم يراه من الأمور المسلّمة لديهم، بل و عند الرواة في الصدر الأوّل، كما يستشعر ذلك من الأسئلة و الأجوبة الواقعة في كثير من الأخبار التي وقع فيها التعرّض لبيان حكم بعض الأفعال التي مسّت الحاجة إليها في أثناء الصلاة، فإنّها مشعرة بكون حرمة القطع لديهم مفروغا عنها.

و يمكن الاستدلال عليه بثلاث طوائف من الأخبار.
الأولى: ما ورد في من لم يتمّ ركوعه و سجوده

بإخلال الطمأنينة المعتبرة فيها من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: لئن مات هذا و هكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني «1».

و في قول عليّ عليه السّلام لمن ينقر صلاته: «منذ كم صلّيت بهذه الصلاة؟ قال له

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 412

الرجل: منذ كذا و كذا، فقال عليه السّلام: مثلك عند اللّٰه كمثل الغراب إذا ما نقر، لو متّ متّ على غير ملّة أبي القاسم محمّد صلّى اللّٰه عليه و آله، ثمّ قال عليه السّلام: أسرق الناس من سرق من صلاته» «1».

تقريب الدلالة في هذه الطائفة أنّ الظاهر منها تعلّق التوبيخ و الخروج عن الملّة و السرقة، بل كونه أسرق الناس على ترك شي ء من الأمور المعتبرة، أو فعل شي ء من المنافيات في الصلاة الشخصيّة، و ذلك لأنّه المتبادر من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: و هكذا صلاته، أو قوله صلوات اللّٰه عليه: منذ كم صلّيت بهذه الصلاة، فإنّ المتبادر أنّ الموجب لخروجه عن الملّة و الدين صدور هذه الصلاة الشخصيّة بالوصف المذكور منه الذي هو أمر وجودي، لا

أنّ الموجب لكونه تاركا للصلاة المفهوميّة الذي هو أمر عدمي، فإنّه لازم العنوان المذكور في القضيّة، و ظاهر العنوان هو الموضوعيّة.

هذا مضافا إلى أنّ السرقة إنّما تتحقّق بالنسبة إلى الصلاة الشخصية المتلبّسة بالوجود الخارجي، لا بالنسبة إلى الصلاة الكلّية المفهوميّة، فلا يقال لمن لم يأت بالصلاة بأجزائها و شرائطها المعتبرة: أنّه سرق من مفهوم الصلاة، بل يقال: تركها، و إنّما يقال ذلك بالنسبة إلى المصداق، فيقال هذه الصلاة قد سرق منها شي ء كذا.

نعم قد يطلق السرقة بالنسبة إلى الصلاة الكلّية إذا ما نقص أحد بعنوان التشريع منها جزءا أو شرطا، كما فعله المتنبّي في صداق المتنبّية، و أمّا العصاة التاركون للصلاة رأسا أو بالوجه المعتبر فلا يطلق عليهم السرقة بالنسبة إلى مفهوم الصلاة، بل إلى مصداقها، و حيث إنّ الإمام عليه السّلام احتسبه سارقا، بل جعله أسرق الناس كان دليلا على حرمته.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 413

لا يقال: فيلزم أنّه لو أبطل صلاته بأحد من المنافيات ثمّ أتى بصلاة أخرى صحيحة في وقتها أن يكون سارقا و خارجا عن الدين و الملّة.

لأنّا نقول: نعم هو بواسطة عمله الأوّل ترتّب عليه الحكمان المذكوران، فهو سارق و خارج، لكن العمل الثاني موجب لعوده ثانيا إلى الدين، و أمّا عنوان السارقيّة فغير مسلوبة عنه، غاية الأمر أنّه لو تاب لم يعاقب عليه.

و بالجملة، مساق هذه الروايات مساق ما روي في إيقاع الصلاة في آخر الوقت من أنّه تضييع للصلاة و أنّ الصلاة في آخر الوقت تدعو على المصلّي و تقول:

ضيّعتني ضيّعك اللّٰه، و لهذا يقال بكراهته كراهة شديدة، بل ظنّ غير واحد حرمته، حيث إنّ التضييع

و الدعوة على المصلّي إنّما هما بالنسبة إلى الأمر الموجود، لا بالنسبة إلى الأمر المفهومي الذي لا نصيب له و لا حظّ من الوجود، و هكذا السرقة، كما في سرقة المال، حيث إنّها من الموجود و لا المال المفهومي الغير المتلبّس بالوجود، و إذن فيصير الصلاة بعد تلبّسها بالوجود و صيرورتها في عالم الخارج ذات حقّ على المصلّي بأن لا يضيّعها و لا يخلّ بشي ء من الأمور المعتبرة فيها وجودا أو عدما.

الثانية: ما دلّ على تعليق جواز القطع بالمعنى الأعمّ

المقابل للحرمة على تحقّق بعض الأمور في أثناء الصلاة كالخوف من الحيّة، أو ترتّب ضرر دنيوي معتدّ به.

مثل ما رواه الصدوق في الصحيح عن حريز بن عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كنت في صلاة الفريضة فرأيت غلاما لك قد أبق أو غريما لك عليه مال، أو حيّة تتخوّفها على نفسك، فاقطع الصلاة و ابتغ غلامك أو غريمك،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 414

و اقتل الحيّة» «1».

و موثّقة سماعة «قال: سألته عن الرجل يكون قائما في الصلاة الفريضة فينسى كيسه أو متاعا يتخوّف ضياعه أو هلاكه، قال عليه السّلام: يقطع صلاته و يحرز متاعه، ثمّ يستقبل الصلاة، قلت: فيكون في الصلاة الفريضة فتفلت عليه دابّة، أو تفلت دابّته، فيخاف أن تذهب أو يصيب منها عنتا، فقال عليه السّلام: لا بأس بأن يقطع صلاته و يتحرّز و يعود إلى صلاته» «2».

تقريب الدلالة في الرواية الأولى يحتاج إلى تقديم مقدّمتين:

الأولى: أنّ المذكور في الصدر الخوف على الأعمّ ممّا يجب حفظه كالخوف على النفس من أذى الحيّة و ممّا لا يجب في غير حال الصلاة، كالخوف من تلف المال بإباق العبد أو ذهاب الغريم.

لا يقال: كيف لا يكون هذا واجبا في غير

حال الصلاة و تركه من أفراد الإسراف و التبذير و تضييع المال الذي هو محرّم قطعا.

لأنّا نقول: لا نسلّم أن يكون رفع اليد من العبد الآبق أو الغريم الذاهب و عدم الذهاب في طلبهما معدودا من أفراد تلك العناوين، بل هو من باب الإعراض أو الإباحة بالنسبة إليهما، بل قد يعدّ طلبهما من بعض الأشخاص المحترمين قبيحا عرفا، فالإمساك على الطلب في أمثال هذه المقامات ليس تضييعا كإراقة الدهن مثلا على الأرض أو كسر الكأس مثلا و نحو ذلك، بل كوضع الكأس مثلا على موضع من الجادّة و عدم الاهتمام في أخذه نظرا إلى أنّ بعض المارّة يأخذه و ينتفع هو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 415

به، و ليس هذا من أفراد التضييع، و بالجملة فلا أمر في هذه الموارد بالإحراز لا وجوبيّا و لا استحبابيّا، نعم النهي عنه حرجيّ، فلا بدّ أن يكون مجوّزا و مباحا.

و من هنا يعلم أنّ المراد بقوله عليه السّلام في الصحيحة: اقطع الصلاة، هو الجواز بالمعنى الأعمّ حتّى يصلح بالنسبة إلى مورد وجوبه كالخوف على النفس، و مورد إباحته كالخوف على المال بذهابه، لا ضياعه.

الثانية: إنّ القضيّة الشرطيّة هنا أعني قوله عليه السّلام: إذا كنت في صلاة الفريضة إلخ ليست مسوقة لبيان المفهوم، لأنّ الشرط فيها من قبيل: إذا رأيت زيدا فاقرأه منّي السلام، يكون محقّق الموضوع، إذ لو لم يكن في الصلاة فلا موضوع للقطع، و كذا لو لم يكن الإباق فلا موضوع للابتغاء، فلو قلنا بظهور القضيّة الشرطيّة في المفهوم و الانتفاء عند الانتفاء

لا نقول به هنا من الجهة المذكورة.

و لكن هنا استفادة أخرى غير راجعة إلى المفهوم، و هي استفادة أنّ جواز القطع بالمعنى الأعمّ الملائم مع الوجوب و غيره ليس من الأمور المحمولة على ذات الصلاة حتّى لا يحتاج إلى حدوث أمر خارج عنها، و إلّا كان التعليق على الأمر الخارج غلطا، فحيث علّق ذلك في الصحيحة على حدوث تلك الأمور علم أنّ الجواز المذكور ليس بمحمول على الصلاة في حدّ ذاتها، و إنّما يحتاج إلى علّة خارجيّة، و لازمة أنّه في حدّ ذاته من المحرّمات المسلوبة عنه الجواز بالمعنى الأعمّ.

إذا تحقّقت المقدّمتان تحقّقت دلالة الصحيحة على المدّعى و هو أصل حرمة القطع في الجملة، نعم في تعميمها بالنسبة إلى موارد الشكّ نحتاج إلى التشبّث بذيل دليل آخر أو أصل، و إلّا فهذا المقدار الذي استفدنا لا يستفاد منه إلّا الإجمال و هو كون الجواز المذكور محتاجا إلى السبب و أنّ هذه الأمور أسباب، فلا ينافيه قيام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 416

أشياء أخر في مقامها، إذ المفروض إنكار الدلالة على المفهوم، و استفادة نفي السبب الآخر متفرّع عليه.

و حينئذ فنقول: كلّ ما استفدناه سببا للجواز من الصحيحة المذكورة فلا كلام، و الظاهر أنّ المستفاد منها مطلق ما يخاف منه على النفس و لو لم يكن حيّة، و ذكر الحيّة من باب المثال، و كذلك مطلق ما يخاف منه على ذهاب المال و لو لم يكن من أفراد إباق العبد و الغريم.

حكم الشكّ في جواز القطع و حرمته

و يبقى الشكّ بالنسبة إلى موارد لا يندرج تحت أحد العنوانين، أعني خوف النفس أو المال، كما لو أراد الاستراحة ثمّ الصلاة على وجه أكمل، أو الوصول إلى غرض مهمّ غير راجع إلى

المال يخاف فوته إن أخّر إلى آخر الصلاة، فلنا في هذه الموارد طريقان:

الأوّل: الرجوع إلى الأصل الموضوعي و هو أصالة عدم جعل هذا المشكوك السببيّة سببا.

لا يقال: إنّه مثبت، إذ الأثر الشرعي إنّما رتّب على مصداق هذا العنوان، فلو شككنا في تحقّق أحد المصاديق المحقّق المصداقيّة فأصالة عدم تحقّق ذلك المصداق جار، و أمّا إذا كان الشكّ في سببيّة الموجود فأصالة عدم تحقّق عنوان السبب ليس بجارية، لأنّ عنوان السبب لم يرتّب عليه في الأدلّة الشرعيّة أثر، بل الحاكم بترتّب المسبّب على عنوان السبب هو العقل، و المسبّب و إن كان شرعيّا، لكنّ الترتيب عقلي، و يكفي في المثبتيّة هذا المقدار.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 417

لأنّا نقول: قد تقرّر في محلّه أنّ كلّ مورد لم يخرج عن وظيفة الشارع و تناله يد الجعل فهو مشمول لعموم لا تنقض و إن فرض أنّ الحكم المتيقّن كان بترتيب من العقل، فإنّه إنّما يكون وظيفة له مع القطع بتحقّق عنوان السبب، و أمّا مع الشكّ فليس ترتيبه إلّا وظيفة للشرع و لا حكم حينئذ للعقل كما هو واضح.

و الثاني: الرجوع إلى العموم المستفاد ارتكازيّته في أذهان الرواة السائلين عن موارد الحاجة إلى بعض الأمور المنافية للصلاة، حيث ربما يستظهر منها أنّ السؤال إنّما هو عن المخرج عن ذلك العموم.

اللّٰهمّ إلّا أن يستشكل في الثاني بأنّه لعلّ المرتكز هو احتياج القطع إلى السبب و السؤال عن تحقّقه في تلك الموارد، و اللّٰه العالم.

و في الأوّل بأنّ عنوان السبب و المانع و أمثالهما من حيث هذا العنوان لا أثر له حتّى عقلا، و إنّما الأثر مرتّب على مصاديق ذلك، و المفروض عدم الشكّ في الخارج.

و من هنا قد يتخيّل

أنّ الشبهة تحريميّة، و قد خلت عن النصّ، و قد اتّضح في محلّه جريان البراءة فيها عقلا و نقلا كما هو الحال في الشبهة الموضوعيّة عند عدم الحالة السابقة.

و لكنّ الحقّ خلاف ما يتخيّل، لأنّا لا نجد من وجداننا في موارد ورود الدليل على حصر أسباب حلّية شي ء في أمور جواز الدخول في ذلك الشي ء بمحض الشكّ و عدم الدليل إيكالا على مجرّد الشكّ و قبح العقاب بلا بيان و حديث الرفع و نحوه من الأدلّة النقليّة.

ألا ترى أنّه لو شكّ أحد في رضى صاحب الدار بدخوله في الدار و كراهته، و لم يكن هناك حالة سابقة لأحد الأمرين فهل يعدّ هذا الشخص معذورا عند العقلاء لو دخل تلك الدار بدون إحراز الرضى بمحض أنّ الشكّ في التحريم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 418

و لا حالة سابقة، و العقاب بلا بيان قبيح، بل لا نشكّ في أنّ العقلاء يذمّونه على هذه الحركة و يقبّحون فعله.

و ليس الوجه فيه كون الاحتمال لأجل كون الكبرى اهتماميّة منجّزة كما اشتهر في الدماء و الفروج، بل نقول بجريان هذا الوجدان حتّى في موارد الشكّ في الاهتمام، و لكن مع العلم بحصر أسباب الحلّية في أمر أو أمور، و ليس ذلك إلّا لأجل أنّ قول المولى: لا يحلّ الفعل الفلاني إلّا عقيب السبب الفلاني أو الأسباب الفلانيّة حجّة عندهم لموارد الشكّ أيضا، بمعنى أنّه يستفاد منه علاوة على الحكم الواقعي قاعدة ظاهريّة أعني حصر أسباب حلّية ذلك الفعل واقعا و ظاهرا في ذلك الأمر أو تلك الأمور و أنّه لو كان الشكّ أيضا سببا كان خلاف ظاهر ذلك الحصر.

و بالجملة، الظاهر أنّ الحكم عدم الجواز في ما نحن فيه

حتّى يعلم الجواز، مضافا إلى الاستصحاب الحكمي الموجود في أكثر الموارد، تقريره أنّه قبل عروض الأمر الذي نشكّ في جواز القطع بسببه كنّا نقطع بحرمة القطع، و الآن نشكّ في ارتفاعه، فالأصل بقاؤه على ما كان، هذا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 419

المسألة الثالثة حكم قول آمين بعد الحمد

لا يجوز قول آمين في آخر الحمد على المشهور بين الإماميّة، بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه و على كونه مبطلا للصلاة أيضا، و قيل: هو مكروه.

و يدلّ على المشهور جملة من الأخبار، منها: حسنة جميل عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كنت خلف إمام فقرأ الحمد و فرغ من قراءتها فقل أنت:

الحمد للّٰه ربّ العالمين، و لا تقل: آمين» «1».

و نحوها في النهي عن ذلك عدّة روايات أخر، و ليس في البين ما يعارضها إلّا صحيحة جميل «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن قول الناس في الصلاة جماعة حين يقرأ فاتحة الكتاب: آمين؟ قال عليه السّلام: ما أحسنها و أخفض الصوت بها» «2».

بناء على كون ما أحسنها بصيغة التعجّب، لكنّها على هذا الاحتمال ليست معمولا بها، إذ المخالف إنّما قال بالكراهة، و أمّا الاستحباب فلم يحك عن أحد، مضافا إلى معارضة هذا الاحتمال باحتمال كونه بصيغة المتكلّم و كون كلمة «ما»

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 420

نافية، و إذن فالأقوى ما ذهب إليه المشهور من الحرمة.

و أمّا الإبطال فقد يقال بأنّ المنساق من مثل هذه النواهي ليس مجرّد الحكم التكليفي، بل الوضعي أيضا و أنّ المقصود خلوّ الصلاة عن المنهيّ عنه، لكونه

منافيا لصحّتها.

إلّا أن يقال: إنّ الظاهر كون النواهي في مقام الردع عمّا هو المتعارف بين العامّة، و حينئذ فإن كان المعمول لديهم هو هذا القول بعنوان كونه مستحبّا نفسيّا محلّه بعد الفراغ من حمد الصلاة، فلا يستفاد من هذه النواهي إلّا الحرمة التشريعيّة، و إن كان المعمول عندهم الإتيان به بعنوان الجزئيّة الاستحبابيّة فاللازم حصول عنوان الزيادة العمديّة، فنحكم بالبطلان من هذه الجهة.

و يمكن أن يقال بالبطلان و لو لم نقل بكونها زيادة، بتقريب تقدّم في بعض الأبحاث السابقة، و هو أنّ القول المحرّم إذا أتى به بعنوان الجزئيّة للصلاة كان ماحيا للهيئة الاتّصاليّة الصلاتيّة عند المتشرّعة و يكون حاله حال الوثبة و السكوت الطويل.

و من هنا يمكن القول بالبطلان في الدعاء لطلب شي ء محرّم، إذ لا شكّ في أنّ طلب مبغوض المولى من المولى قبيح عند العقلاء، فالإتيان به في الصلاة و إدراجه في الأقوال الصلاتيّة داخل في عنوان الماحي، و اللّٰه الهادي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 421

المقصد الثالث في الخلل الواقع في الصلاة

اشارة

و هو إمّا بالإخلال بشي ء ممّا يعتبر فيها وجودا أو عدما، سواء كان عن عمد أو عن جهل أو سهو أو اضطرار أو إكراه، أو بالشكّ، و على كلّ حال إمّا أن يكون بالزيادة أو بالنقيصة.

و إشباع الكلام في هذا المقصد يقتضي التكلّم في فصول

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 423

[الفصل] الأوّل حكم السهو في الصلاة

و ينبغي أوّلا التكلّم في مقتضى القاعدة الأوّليّة في النقيصة أو الزيادة

في المركّب المأمور به، ثمّ التكلّم بحسب مقتضى الأدلّة الثانوية.

فنقول و على اللّٰه التوكّل و به الاعتصام في جميع الأمور و منه الاستعانة في المعسور و الميسور: لا إشكال في أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في طرف النقيصة هو البطلان، لأنّه لم يمتثل المأمور به و لم يأت به بجميع ما له من الأجزاء و الشرائط، فيجب عليه الإعادة حتّى يحصل الامتثال.

و أمّا في جانب الزيادة فمقتضاها الصحّة، إذ المفروض أنّه لا يتحقّق عنوان الزيادة إلّا بعد تحقّق المأمور به بما له من الجزء و الشرط، غاية الأمر أنّه أتى بشي ء زائد أيضا، فهو قد أتى بالامتثال مع شي ء أجنبي.

نعم يمكن البطلان بأحد وجهين: إمّا بكونه قاصدا للمركّب من هذا الشي ء الأجنبي و المفروض كون المأمور به هو الخالي عنه، فما أمر به لم يقصده، و ما قصده لم يؤمر به، و إمّا بكون عدم ذلك الشي ء الزائد دخيلا في المركّب و معدودا من أجزائه أو شرائطه.

أمّا الوجه الأوّل فيمكن أن يقال بعدم تمشّيه في ما إذا رجع قصده إلى مقام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 424

التطبيق بعد مدعويّته بالأمر بمعنى أنّه بعد ما دعاه أمر المولى سمت العمل تخيّل و لو تشريعا أنّه يدعوه إلى هذا الذي يشتمل على تلك الزيادة، فقصد الأمر الحقيقي هو الباعث له، و التخيّل إنّما هو في

المتعلّق، و المضرّ هو أن يكون الباعث له هو الأمر التخيّلي، لا الحقيقي.

و أمّا الوجه الثاني فيحتاج إلى مراجعة أدلّة الصلاة و أنّه هل في شي ء منها اعتبر من أجزائها أو شرائطها عدم الزيادة أو لا؟

و الذي ذكروه دليلا في الباب أخبار:

منها: خبر أبي بصير «قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: من زاد في صلاته فعليه الإعادة» «1».

و منها: ما رواه الشيخ في الحسن عن زرارة و بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها و استقبل صلاته استقبالا» «2». هكذا روايته عن الشيخ.

و روى عن الكليني رحمه اللّٰه بإسناده عن زرارة و بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه «قال: إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتدّ بها و استقبل صلاته استقبالا إذا كان قد استيقن يقينا» «3».

و منها: مرسلة سفيان بن السمط عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: تسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة تدخل عليك أو نقصان» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.

(2) التهذيب 2: 194.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 1.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 32 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 425

هذه هي الروايات التي ربما يتمسّك بها لاستفادة القاعدة الكلّية أعني اعتبار عدم جنس الزيادة في الصلاة، سواء كانت من الركعة أم من أجزائها، و سواء كان المزيد ركنا أم غيره.

و لكن للخدشة في الاستدلال بها على هذا المدّعى مجال واسع.

أمّا الرواية الثانية فواضح، لأنّها مضطربة بعد اختلاف روايتي

الشيخ و الكليني رحمهما اللّٰه، فلا يمكن الاستدلال بها لزيادة ما سوى الركعة من الأجزاء، و لا سيّما الغير الركنيّة منها التي هي العمدة في هذا الباب، فإنّ إبطال الزيادة في الركنيّة منها فضلا عن الركعة يمكن الاستغناء في إثباته بالإجماع، و المحتاج إلى الاستدلال إنّما هو إثبات البطلان في زيادة ما عدا الأركان من الأجزاء، و هو مع اختلاف النسخة في الرواية المذكورة في محلّ المنع.

و أمّا الرواية الأولى فهي أيضا غير قابلة للاستدلال على هذا المدّعى المذكور، لأنّها مجملة، لأنّ أمرها دائر بين احتمالات أربعة:

الأوّل: أن يكون المراد بالزيادة في صلاته نظير: زاد اللّٰه في عمرك، و زاده بسطة في العلم و الجسم كون المزيد من سنخ المزيد عليه بحيث يصحّ إطلاق اسمه عليه، و هو في ما نحن فيه مختصّ بالركعة، لوضوح عدم صدق اسم الصلاة على سورة واحدة، أو حمد كذلك، بل أو ركوع كذلك، أو سجدة كذلك، بل أو سجدتين.

و الثاني: أن يكون المراد الأعمّ من ذلك و من غيره، و لكن بشرط أن يكون المزيد مماثلا لأجزاء المركّب المزيد عليه و مأتيّا به بقصد الجزئيّة له.

و الثالث: أن يكون أعمّ من ذلك و من أن يكون أجنبيّا عن أجزائه غير مشابه معها في الصورة، و لكن مع كونه مأتيّا بقصد الجزئيّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 426

و الرابع: الأعمّ من ذلك و من أن يكون مأتيّا بغير قصد الجزئيّة للمركّب.

و بعد تطرّق هذه الاحتمالات في الرواية تسقط عن درجة الاستدلال للمرام أعني الحكم بالبطلان في زيادة غير الأركان من الأجزاء الصلاتيّة أو زيادة شي ء آخر من غير سنخها.

مضافا إلى استلزام حملها على المعنى الأعمّ من الركعة و من غيرها

للتقييد بالفرد النادر بعد وضوح عدم لزوم الإعادة في الزيادة السهويّة لغير الأركان، فنحتاج إلى تقييدها بالنسبة إليها بغير حال السهو، و هو تقييد بالفرد النادر، و كما أنّ التخصيص بالكثير مستبشع، كذلك في الاستبشاع التقييد بالفرد النادر.

فكما لو قال: كل من أيّ شجرة من أشجار هذا البستان شئت، ثمّ قال منفصلا: لا تأكل من هذا و لا من هذا و لا من ذلك إلى أن تبقى شجرة واحدة كان بشيعا، كذلك لو قال: كل من أيّ صنف من الأصناف و كان في البستان أصناف كثيرة، ثمّ قال منفصلا: كل من الصنف الفلاني و ذكر واحدا من تلك الأصناف الكثيرة، فإنّه أيضا من البشاعة بمكانه الأوّل.

و أمّا احتمال انصراف قوله: من زاد إلخ إلى الزيادة العمديّة، لإشعار نسبة الفعل إلى الفاعل المختار بإرادة الاختيار.

ففيه أنّ الانصراف إلى العمد و الاختيار المساوق مع التشريع ممنوع.

و أمّا ما ذكر سندا له من الإشعار المذكور، ففيه أنّ المسلّم منه إنّما هو بالنسبة إلى الاختيار في مقابل الاضطرار و الحركة الصادرة عن المرتعش، فإنّه لا ينصرف من الأفعال المضافة إلى الفاعل المختار مثل هذا الصدور.

و أمّا الاختيار في مقابل السهو الذي هو محلّ كلامنا فالانصراف إليه ممنوع غاية المنع، لوضوح أنّ الفاعل لا يخرج عن كونه مختارا، بمعنى أنّ حركته ليست

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 427

كحركة المرتعش، نعم إنّما هو مبنيّ على مقدّمة سهويّة و هو أنّه زعم عدم الإتيان بذلك الجزء، لكنّه يأتي به بعد هذا الزعم مختارا و هو واضح.

و أمّا المرسلة فهي أيضا يمكن الخدشة فيها، لعدم ورودها في مقام البيان من هذه الجهة، بل هي واردة مورد حكم آخر، فلا يمكن التمسّك بعمومها

لما نحن فيه، فإنّ تقريب الاستدلال بها أنّ المستفاد منها أمران: إبطال الزيادة عمدا، و عدم إبطالها سهوا.

أمّا الأوّل: فلأنّه لو لم يكن عمدها مورثا لشي ء لما كان سهوها موجبا للسجدة التي جعلت لأجل تدارك الخلل الناشئ من قبل الزيادة.

و أمّا الثاني فلأنّه لو كان السهو موجبا للبطلان لما كان في سجدة السهو فائدة بعد بطلان أصل الصلاة، إذ هي موضوعة لتدارك النقص في الصلاة الصحيحة، فيستفاد منها بواسطة كلمة «كل» قاعدة كلّية في كلّ زيادة و هي أنّها يورث البطلان إذا وقعت عمدا، و لا يورثه إذا وقعت سهوا.

و لكن فيه ما أشرنا إليه من أنّ مجرّد وجود كلمة «كلّ» لا ينفع في استفادة الكلّية بعد ما كان سوق الكلام لإفادة مطلب آخر، نظير المقام ما إذا قال المولى لعبده: لا بدّ لك من شرب السكنجبين عقيب كلّ غذاء تأكله، فإنّه ليس للعبد أن يأخذ بعموم كلامه لتجويز أكل كلّ غذاء و لو كان سمّيا، بل المقصود أنّه يجب ذلك عقيب ما تعارف لك أكله من الأغذية، و كذلك الحال في ما نحن فيه.

نعم نعلم أنّ لنا بعضا من الزيادات حالها كذلك، أعني أنّ عمدها مضرّ بالصلاة و سهوها غير مضرّ، و أمّا أنّها ما ذا فليس الكلام بصدده.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّا نعلم من الخارج أنّ مصداق هذا منحصر في الأجزاء الغير الركنيّة، إذا الأركان منها يعلم بإضرار زيادتها عمدا و سهوا، فلو لم يكن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 428

غير الأركان ممّا يضرّ زيادته عمدا لا سهوا لزم أن لا يبقى للعموم المذكور مصداق و لو واحدا.

نعم تردّد الأمر بين أن يكون كلّها أو بعضها، و هو أيضا متردّد بين كلّ

منها، لكن يمكن تعيين العموم بضميمة الإجماع على عدم الفصل بينها، فإن كانت الزيادة العمديّة في بعضها مضرّة كما هو مقتضى ما ذكر فلا بدّ من أن يكون في كلّها كذلك، و إلّا لزم القول بالتفصيل بينها و هو خلاف الإجماع المركّب.

لكن يمكن الخدشة في هذا أيضا بأنّه مبنيّ على أمرين: أحدهما اختصاص الزيادة بما إذا كان المزيد من سنخ أجزاء المركّب المزيد فيه و مماثلا لها، و أنّه لو كان آتيا بشي ء من غير سنخها في أثنائها لا يصدق عليه أنّه زيادة في المركّب، بل يقال:

إنّه شي ء لغو وقع في المركّب، و الزيادة إنّما يصدق بتكرار أحد الأجزاء.

و ثانيهما: اختصاص الزيادة بما إذا أتى بالزائد بقصد جزئيّته للمزيد عليه.

و لكنّ المقدّمة الأولى يمكن إنكارها بالنسبة إلى المركّبات، سواء كانت من المعاجين و المركّبات الخارجيّة، أم من قبيل الصلاة و المركّبات الاعتباريّة، و المسلّم منها إنّما هي بالنسبة إلى المفردات، فزيادة الماء مثلا عبارة عن انضمام شي ء آخر من سنخ الماء على الماء الموجود، و كذلك زيادة الجسم و زيادة الخطّ و أمثال ذلك من المفردات.

و أمّا إذا كان هناك معجون قد قرّره المولى أو الطبيب و جعله من ثلاثة أجزاء مثلا، ثمّ زاد و أدخل فيه العبد شيئا رابعا من غير تلك الأجزاء فجعله مركّبا من أربعة أجزاء صدق عرفا عليه اسم الزيادة و لو فرض أنّه لا ضرر فيه و لا نفع.

و لا يلزم في صدق اسم الزيادة أن يكون المزيد من سنخ تلك الثلاثة بأن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 429

زاد على المقدار الذي عيّن لكلّ منها فجعل مكان المثقال مثلا مثقالين، و الحكم في الباب هو العرف، فإن كنت في

شكّ من ذلك فارجع إليهم تجدهم شاهدين على المدّعى.

و كذلك يمكن منع المقدّمة الأخرى أعني اعتبار قصد الجزئيّة في صدق الزيادة و أنّه يكفي في صدق الاسم مجرّد كون الأجزاء لذلك المركّب ظرفا و محلّا لوقوع ذلك الشي ء الزائد و لو لم يقصد الفاعل عنوان الجزئيّة، بل و لم يتخيّله، سواء في ذلك المركّبات الخارجيّة كالمعاجين أم الاعتباريّة كالمركّبات المأمور بها.

إذا عرفت هذا فنقول: يكفي لبقاء المورد للمرسلة تنزيلها على القواطع المذكورة في محلّها التي يقطع الصلاة إذا وقعت عمدا لا سهوا، مثل البكاء و القهقهة و نحوهما، فلا يبقى بالنسبة إلى الأجزاء الغير الركنيّة دليل يدلّ على إبطال الزيادة فيها و لو بعنوان الجزئيّة و قصدها، بل يمكن استفادة عدم الإبطال ممّا ورد من الحثّ على الدعاء و القراءة في الصلاة و أنّ كلّ ما ناجيت به ربّك فهو من الصلاة، فإنّه بعد كونه من الصلاة على ما هو مفاد تلك الروايات فلا مانع من قصد المصلّي بها الجزئيّة للصلاة، فضلا عن أن يكون دليل على إبطاله.

فإن قلت: في المعاجين ما ذكرته حقّ، و أمّا في المركّب الاعتباري فلا نسلّم أنّ مجرّد إيجاد شي ء أجنبيّ في إتيانها و لو لا بقصد الجزئيّة يصدق عليه اسم الزيادة.

قلت: الحكم بيننا و بينك العرف، و لا يخفى على من راجعهم مع الإنصاف أنّه لو دخل في مجلس متركّب من العقلاء و ذوي الآراء معدّ للفكر في المطالب المهمّة شخص أحمق عليل الرأي مضيّع لأوقاتهم يقال عند العرف: إنّ هذا زيادة في هذا المجلس.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 430

و حينئذ نقول: بعد عدم إمكان حمل قوله عليه السّلام في المرسلة: تسجد إلخ على زيادة الأركان، و كذا

عدم إمكان حمله على زيادة الأقوال و الأذكار الغير الركنيّة، لما تقدّم من تصريح الروايات بأنّها من الصلاة و مقتضى ذلك جواز إتيان حمدين بقصد كونهما من الصلاة، أحدهما بعنوان الوجوب و الآخر بعنوان الندب و هكذا، فلا يبقى للمرسلة محلّ يحمل عليه إلّا نادر لا يعبأ به.

فلا بدّ من أن يصار إلى معنى آخر لا يلزم منه هذا المحذور و هو أن يقال:

إنّ المراد بالزيادة كلّ ما اعتبر في الصلاة عدمه فاتي به، كما أنّ المراد بالنقيصة كلّ ما اعتبر فيها وجوده فلم يؤت به، و يناسبه المقابلة بينهما و يساعده العرف في المثال المتقدّم، حيث إنّ وجود شي ء لا يخلّ وجوده بالمجلس المنعقد لاجتماع أهل الشور و الآراء في المطالب المهمّة كوجود حجر أو حيوان لا يسمّى زيادة، و أمّا وجود شخص سخيف الرأي يسمّى بها، و ليس إلّا أنّ بناء المجلس على الخلوّ من مثل ذلك الشخص، و ليس مبنيّا على الخلوّ من الحجر و الحيوان، و هذا المعنى سالم عن المحذور كما لا يخفى، و لكن لم يقل به أحد في ما نعلم.

فإن قلت: لو فرضنا أنّه أتى بالحمد الثاني في الركعة الأولى بقصد الجزئيّة و الوجوب، فقد صدق حينئذ عليه اسم الزيادة.

قلت: كلّا، و هل هو إلّا مثل إتيان بعض مستحبّات الصلاة بقصد الوجوب، فإنّه ليس إلّا تشريعا من دون أن يكون مندرجا تحت عنوان الزيادة، و هذا واضح.

ثمّ إنّ ما في المرسلة من الحكم بالسجود و إن كان ظاهرا في الوجوب، و لكن لا بدّ من رفع اليد عنه و حمله على الندب، لوجود المطلقات الواردة في جانب نقيصة الحمد سهوا، و في طرف زيادة التكلّم سهوا بأنّه لا

شي ء عليه، و هي واردة في مقام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 431

البيان، و التصرّف فيها بتقييد المادّة بعيد، و في هيئة المرسلة بحملها على الندب ليس بتلك المكانة من البعد، فهو المتعيّن في مقام الجمع.

و بعد هذا يصير محصّل معنى المرسلة- و اللّٰه العالم- أنّ ترك كلّ شي ء يعتبر وجوده في الصلاة سهوا و إتيان كلّ شي ء يعتبر فيها عدمه كذلك يستحبّ فيهما سجدتا سهو.

ثمّ بناء على المعروف في تعريف الزيادة من اعتبار المجانسة لأجزاء الصلاة و قصد الجزئيّة قد يقال في مقام الجمع بين روايات إبطال الزيادة المتقدّمة و بين صحيحة زرارة: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» بناء على عمومها للزيادة بأنّ النسبة بين الصحيحة و بين مثل قوله عليه السّلام: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» و إن كانت عموما من وجه، إلّا أنّه لا بدّ من تقديم لا تعاد، لأجل الحكومة.

و أمّا بينها و بين مثل قوله عليه السّلام: «من استيقن أنّه زاد في المكتوبة استقبل» «1» هي العموم و الخصوص المطلقان، لاختصاص هذه بالزيادة السهويّة، و عموم الصحيحة لها و للنقيصة السهويّة.

و فيه أمّا في الشقّ الثاني أنّ النسبة عموم من وجه، و مادّة الافتراق من جانب رواية: من استيقن زيادة الأركان، حيث لا معارضة لها مع الصحيحة فيها، لاستثنائها عن حكم لا تعاد.

و أمّا في الشقّ الأوّل أنّه لا حكومة للصحيحة على مضمون الرواية أعني إثبات الإعادة، لوضوح تعارض نفيها الذي هو مضمون الصحيحة، مع إثباتها الذي هو مضمون الرواية.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 432

نعم لو كان مضمونها النهي عن إيجاد الزيادة في

الصلاة تمّت الحكومة، وجه الفرق أنّ الصحيحة متعرّضة لنفي الإعادة عند السهو بعد الفراغ عن أصل الاعتبار، فلا محالة يكون لها الحكومة على الدليل المتكفّل لأصل الاعتبار إمّا وجودا و إمّا عدما.

و هذا بخلاف ما إذا كان الحكم بوجوب الإعادة عند وجود الزيادة، فإنّه حينئذ مشارك مع الصحيحة في كونه لسانا متأخّرا عن أصل الاعتبار، فكأنّه في قوّة أن يقال: إنّ اعتباره بمكان لا يعفى عنه، بل يجب الإعادة بإخلاله، كما أنّ مفاد الصحيحة على العكس من ذلك، فلا وجه للحكومة، و المفروض كون النسبة عموما من وجه، هذا كلّه بناء على تفسير الزيادة بالمعنى الذي اختاره القوم.

و أمّا بناء على المختار من معناه فلا يخفى عدم المعارضة بين المرسلة و بين الصحيحة.

و أمّا بين روايتي: من زاد إلخ، و من استيقن إلخ، و بين الصحيحة فقد قلنا بأنّ المتيقّن منهما زيادة الركعة، و لا يمكن استفادة أزيد من ذلك منهما كما تقدّم تفصيله.

ثمّ إنّه بناء على ما اخترناه من التفسير للزيادة الواقعة في المرسلة يمكن حلّ شبهة لازمة بناء على تفسير القوم واردة في حديث النهي عن قراءة العزيمة في المكتوبة معلّلا بأنّ السجود زيادة في المكتوبة.

و أصل الشبهة أنّه كيف أطلق عليه السّلام عليه اسم الزيادة، و الحال أنّه لم يؤت به بعنوان الجزئيّة للصلاة، و صار ذلك سببا للإلجاء إلى حمله على التنزيل و كونه بمثابة قوله عليه السّلام: الطواف بالبيت صلاة، و لهذا لا يتعدّى عن مورده و لا يحكم بإبطال سجود الشكر، هذا بناء على المعروف.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 433

و أمّا بناء على ما اخترناه فعنوان الزيادة من العناوين التي لا بدّ من تعيينها و تشخيص موضوعها من

الشارع، و ليس من شأن العرف، كما كان كذلك على طريقة القوم، فإنّه بناء على المختار عنوان الزيادة منتزع عن النهي الوضعي و اعتبار عدم الشي ء في المركّب.

و حينئذ فنقول: كلّما أطلق الشارع على شي ء اسم الزيادة علمنا إنّا أنّه منهيّ بالنهي الوضعي و يعتبر عدمه في المأمور به.

نعم لو علّل النهي عن ذلك الشي ء بكونه زيادة فلا يمكن حمله على المعنى الذي ذكرنا، لأنّه ظاهر في أنّ النهي منتزع عن الزيادة، لا أنّ الزيادة معلول للنهي، و لكنّ الأمر في سجود التلاوة ليس من هذا القبيل، فإنّ النهي عن قراءة العزيمة قد علّل بكون السجود زيادة، و لهذا يجي ء فيه القول المختار و ينحلّ به الإشكال، و الحمد للّٰه المفضال.

ثمّ هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل الأوّلي في جانب الزيادة بالمعنى المعروف.

و أمّا في طرف النقيصة فلا إشكال في إضرارها عمدا، و أمّا سهوا فالمسألة بحسب الأصل الأوّلي مختلف بحسب المبنيين في امتناع تخصيص الساهي بالخطاب و عدمه، و على الثاني بحسب وجود الإطلاق في دليل الجزئيّة و عدمه، فعلى المبنى الأوّل و الشقّ الأوّل من شقّي المبنى الثاني مقتضى الأصل الأوّلي هو الاشتغال، لأنّ المفروض أنّه مخاطب بالتامّ و قد أتى بالناقص.

نعم يحتمل إسقاط التامّ عنه بواسطة الناقص، و المرجع في هذا الشكّ هو الاحتياط بالإعادة أو القضاء.

كما أنّه على الشقّ الأخير من المبنى الثاني مقتضى الأصل هو البراءة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 434

على ما هو التحقيق، إذ المفروض أنّا نحتمل بحسب مقام الثبوت اختصاص الساهي بالمركّب الناقص، و لا إطلاق لدليل الجزء أيضا بحسب الإثبات، فهو من جزئيّات الشكّ في الأقلّ و الأكثر، فمن قال هناك بالبراءة يقول هنا بها،

و من قال بالاشتغال قال به هنا.

امتناع تخصيص الناسي بالخطاب

و حيث ابتنى المسألة على تحقيق الحال في مسألة امتناع تخصيص الساهي و عدمه ناسب بسط الكلام فيها و إن تكلّمنا فيه في الأصول، لكنّ البحث عنها هنا لا يخلو عن فائدة.

فنقول و على اللّٰه الاتّكال في كلّ حال: إنّه ذهب شيخنا الأجلّ المرتضى قدّس سرّه الشريف في رسائله إلى الامتناع، و المنقول من سيّد تلاميذه الميرزا الشيرازي قدّس سرّه اللطيف هو اختيار الجواز.

و محصّل ما استند إليه الشيخ قدّس سرّه في اختيار المنع هو أنّ الغرض في الخطاب الإنشائي لا إشكال أنّه صلاحيّة البعث و التحريك، بمعنى أنّه عند الانضمام إلى الشرائط العقليّة المقرّرة للبعث من العلم و الالتفات و القدرة كان الخطاب باعثا للمكلّف إلى العمل، فلو خلّي عن هذا الغرض كان وجوده لغوا، بمعنى أنّه لا يمكن له صلاحيّة الباعثيّة في شي ء من التقادير، و مع أيّ فرض فرض، و الخطاب الخاصّ بعنوان الساهي بأن يقال في مرحلة الإنشاء: أيّها الساهي عن إتيان السورة في محلّلها ائت بالركوع و صلاتك خالية عنها و مركّبة ممّا عداها حالة من القسم الثاني، بمعنى أنّه لا يصلح لبعث المكلّف في حال من الأحوال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 435

أمّا حال غفلته عن انطباق الموضوع على نفسه فواضح، فإنّ شأن كلّ خطاب كلّي هو الباعثيّة عند الالتفات إلى صغراه و حصول موضوعه في الخارج.

و أمّا حال الالتفات إلى انطباق عنوانه أعني ساهي السورة مثلا على نفسه، فلا يبقى مندرجا تحت الموضوع، لأنّه في المحلّ، و المفروض تذكّره للسورة، فيدخل في عنوان الذاكر للسورة في محلّلها، فعلم أنّ الخطاب الموجود بالنسبة إلى الساهي ليس إلّا الخطاب بالمركّب التامّ، لأنّه قابل

و صالح للمحرّكيّة بعد ضمّ سائر الشروط العقليّة، هذا محصّل كلامه قدّس سرّه.

و أورد عليه تلميذه المشار إليه قدّس سرّه بوجهين على ما نقل عنه شيخنا الأستاذ نقلا عن سيّده الأستاذ الأصفهاني طاب رمسه.

أحدهما: أنّا سلّمنا عدم إمكان الخطاب المخصوص بالساهي، لكن لا يلزم ممّا ذكر اختيار الاشتغال في المسألة المفروضة أعني الشكّ في النقيصة السهويّة، فإنّ الاشتغال مبنيّ على إحراز كونه بعد عدم المخاطبيّة بالناقص للمحذور العقلي مخاطبا بالتامّ، و المفروض أنّه لم يأت به، لكن أنّى لنا بإحراز ذلك، فلعلّ الخطاب بالنسبة إليه معدوم لا بالناقص و لا بالتامّ، فإنّ الخطاب الفعلي غير متحقّق في حقّه قطعا لا بالتامّ، لغفلته، و لا بالناقص، لأنّه المفروض.

و أمّا المحبوبيّة و الإرادة الذاتيّة التابعة للمصلحة الذاتيّة التي ليست من مقولة الإنشاء و الخطاب فهي بالنسبة إلى كليهما ممكن و محتمل، و لا طريق إلى إحراز خصوص أحدهما، و مجرّد ثبوت المحذور في الخطاب الإنشائي في الناقص لا يصير دليلا على ثبوت المقتضي و المصلحة في حقّه بالنسبة إلى التامّ.

نعم إنّما يصير ذلك دليلا إذا قام إجماع على ثبوت الخطاب في حقّ كلّ أحد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 436

من آحاد المكلّفين بحيث لا يشذّ عنه واحد، إذ حينئذ بعد ثبوت المحذور في الناقص يتعيّن الأمر في التامّ، لكن هذا الإجماع لم يثبت، و إنّما المسلّم مساواة الآحاد في الحكم بالنسبة إلى السهو و الالتفات في الأحكام الكلّية، لا بالنسبة إلى الموضوعات، و ما نحن فيه من الثاني كما هو واضح.

و إذن فمن المحتمل أنّ ناسي السورة مثلا كان غير مخاطب بخطاب أصلا، بمعنى أنّه لم يوضع في حقّه خطاب في قالب الإنشاء، و إنّما الموجود

في حقّه كان صرف المحبوبيّة و الإرادة الذاتيّة المفروض استواء نسبتها إلى الناقص و التامّ، فإذا التفت بعد العمل إلى حاله و احتمل أنّه أتى بما هو المحبوب الذاتي للمولى في حقّه كان محكوما عقلا بالبراءة، إذ لا فرق في تردّد المأمور به بين الأقلّ و الأكثر، أو مورد تعلّق الحبّ و الإرادة الذاتيّة، و لا بين حصول الترديد قبل العمل أو بعده في أنّ الحكم عند العقل في الجميع هو البراءة و قبح العقاب على المنسيّ.

و الثاني تصوير أصل الخطاب في حقّ خصوص الناسي، قولكم: يلزم اللغويّة لعدم المحرّكية مدفوع بأنّه يكفي في التحريك الذي هو ثمرة الخطاب، و بدونه يلزم اللغوية التحريك الإجمالي، و لا يتوقّف على كونه تفصيليّا، فإنّه قد يصير ملتفتا تفصيلا إلى صورة المركّب و أمره، فيدعوه هذه الصورة التفصيليّة إلى العمل، و قد لا يصير ملتفتا إلى الصورة تفصيلا، بل يشير إلى الأمر المردّد بين الأمرين، لأنّه في أوّل الشروع في المركّب التدريجي الأجزاء لا يعلم حال نفسه في الأثناء، و نفرض عدم جريان أصل عدم السهو في حقّه، لكونه كثير السهو، و المفروض أنّه عالم بحسب الكبرى أنّ كلّ ذاكر حكمه التمام، و كلّ ساه في المحلّ حكمه ما عدا المسهي من سائر الأجزاء، فهو حين الورود في العمل يقصد تحرّكه بالأمر الواقعي المعلوم في علم اللّٰه المجهول عنده تعلّقه بأيّ الأمرين و يدخل في العمل بداعيه و ندائه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 437

و هو الداعي له في الأثناء أيضا إلى أن يفرغ.

أمّا في أوّل الشروع فواضح أنّه إنّما تحرّك بنداء: أقيموا الصلاة و ورد في العمل بدعوته، و أمّا في الأثناء فكذلك هو الداعي له، إلّا

أنّ المحرّك هو النيّة الارتكازيّة المسمّاة في لسانهم بالاستدامة الحكميّة.

ثمّ بعد العمل ينكشف حاله، فإن لم يسه عن جزء تبيّن أنّ داعيه كان الخطاب بالتامّ، و إن سها انكشف أنّ الداعي الّذي حرّكه هو الأمر بالناقص، و هذا لو تردّد في أوّل الشروع و لم يحرز بالعلم أو بأصالة عدم السهو أنّه ذاكر، و أمّا لو أحرز كونه ذاكرا و دعاه خطاب الذاكر ثمّ سها عن جزء في محلّه.

فحينئذ إن كان خطاب الذاكر داعيا له بوجه التقييد كانت صلاته فاسدة، لأنّ ما وقع لم يقصد و ما قصد لم يكن واقعا، و أمّا إذا لم يكن داعيا إلّا من باب أنّه الوظيفة الشرعيّة و الدستور الشرعي فصلاته صحيحة، لأنّه إنّما حرّكه بما هو أمره الموجود في حقّه، فينحلّ إلى قصد أمر الشارع، و إلى أنّه هذا الذي تخيّله، فالذي لا واقع له هو التطبيق الذي تخيّله، و أمّا أصل الأمر الشرعي فكان موجودا محقّقا، و لعلّ الموجود في حقّ نوع المصلّين عند أوّل الورود في العبادة هذا القسم الثاني، و بالجملة فإذا فرضنا صحّة الخطاب في حقّ الناسي و الغافل، فالأصل الأوّلي هو الصحّة كما عرفت، هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل الأوّلي في مسألتي الزيادة و النقيصة.

بيان قاعدة لا تعاد

اشارة

و أمّا القاعدة الثانوية المستفادة من قولهم عليهم السّلام: لا تعاد الصلاة إلّا من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 438

خمسة، فتفصيل الكلام فيها يحتاج إلى التكلّم في مدلول الحديث الشريف لكونه المدرك في الحكم بعدم الإعادة في مباحث الصلاة غالبا.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ التكلّم فيه يقتضي بسط الكلام في أمور:

[الأمر] الأوّل:
اشارة

اعلم أنّ مفاد الصحيحة أنّ الصلاة لا تعاد من أيّ خلل ورد فيها من قبل فقد الشرط أو الجزء أو وجود المانع إلّا من قبل هذه الخمسة المعتبرة أعني: فقد أحدها.

ثمّ الخلل تارة يكون عن علم و عمد بأن كان عالما بالموضوع و الحكم ملتفتا إليهما، و مع ذلك أخلّ و لم يمتثل عمدا، و أخرى يكون عن جهل إمّا بسيط أو مركّب، و إمّا بالموضوع أو بالحكم، و ثالثة يكون عن سهو أو نسيان لواحد من الأمرين.

و لكنّ الظاهر من العلماء قدّس أسرارهم تخصيص التمسّك بالخبر بخصوص الأخيرين في خصوص الموضوع، و إن قوّى بعض السادة المعاصرين من الأعاظم قدّس سرّه التمسّك به في ما عدا الصورة الاولى و أفتى على طبق ذلك في رسالة العروة الوثقى.

و الحقّ ما هو الظاهر من العلماء قدّس سرّهم، لكن مع تعميم الخبر للجهل المركّب في الموضوع مضافا إلى السهو و النسيان المتعلّقين به، فلا يصحّ التمسّك في الجهل البسيط بالموضوع و لا في شي ء من الجهل بقسميه و السهو و النسيان بالنسبة إلى الحكم و لا في العلم و العمد.

و الدليل على هذه الدعوى على ما أفاده شيخنا الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 439

مبنيّ على مقدّمتين.

الاولى: إنّ الظاهر المتبادر عند أهل العرف من العبارة أعني قوله: لا تعاد

الصلاة إلخ أنّه قاعدة مضروبة للعمل بعد الإتيان به على الوجه المقرّر لجواز الدخول فيه من العقل و النقل، ثمّ تبيّن الاختلال في شرط أو جزء بعد الإتمام أو بعد انقضاء محلّ التدارك، كما لو تذكّر بعد الركوع أنّه نسي الحمد من دون أن يستفاد منها حكم ابتداء الدخول في العمل، فلا يرى أحد من وجدانه تكفّل العبارة صحّة الدخول في الصلاة مع قصد أن لا يأتي بشي ء من أجزائه أو شروطه المفروغ عن شرطيّتها أو جزئيّتها أو مع قصد أن لا يأتي بشي ء يشكّ في شرطيّته أو جزئيّته بدون قيام دليل مرخّص للترك من عقل أو نقل، بل بمحض الاستناد إلى عموم قوله عليه السّلام: لا تعاد الصلاة، و ليس ذلك إلّا لأجل ظهور العبارة في بيان الحكم في حقّ من أتى بصلاته بما يقتضيه القواعد العقليّة أو النقليّة المتكفّلة لحال الشروع و ما قبل مضيّ محلّ التدارك ثمّ تبيّن له بعد المضيّ أنّه أخلّ بشي ء ممّا يعتبر فيه في محلّه.

فحال الصحيحة من هذه الجهة حال رواية إسماعيل بن رياح الواردة في إجزاء صلاة من صلّى و هو يرى أنّه في وقت و لم يدخل الوقت، فدخل الوقت و هو في الصلاة، حيث إنّه لا يجوز الاستناد إليها، لجواز الدخول في الصلاة مع الشكّ في الوقت و القطع بدخوله قبل الفراغ كما هو واضح.

و يترتّب على هذه المقدّمة خروج العلم و الجهل البسيط، سواء المتعلّق منه بالحكم أو بالموضوع عن مدلول الخبر خروجا تخصّصيا، لا بالتخصيص و ملاحظة الجمع مع الأدلّة الخارجيّة.

المقدّمة الثانية: إنّ الظاهر المتبادر من نفس الخبر مؤيّدا بقولهم عليهم السّلام في بعض الموارد الجزئيّة كنسيان الحمد حتّى ركع تمّت صلاته، أنّ

هذا الصادر من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 440

الساهي أو الناسي أو الجاهل المركّب للموضوع أو الحكم هو الوظيفة الأوّلية المشروعة في حقّهم في ضمن قوله تعالى «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» في عرض المكلّف العالم المجعول في حقّه الصلاة الواجدة للمنسيّ من دون منقصة في صلاة الأوّلين عن صلاته أصلا، بل حالهما حال الحاضر و المسافر.

و حينئذ فنقول: بعد إمكان تخصيص الخطاب بالناسي و الساهي كما تقدّم أنّ ذلك بالنسبة إلى ساهي الحكم و ناسيه و جاهله بالجهل المركّب مستلزم للمحذور العقلي أو ما هو بمنزلته في مقطوعيّة البطلان أعني الدور أو التصويب، فإنّ ناسي الجزئيّة أو الشرطيّة أو ساهيهما أو جاهلهما مركّبا إذا أسقط الجزئيّة أو الشرطيّة عنهما في مرحلة الواقع كان معناه تخصيصهما بالعالم بهما الملتفت إليهما، و هذا إمّا دور أو تصويب مجمع على بطلانه.

فيبقى بعد خروج هذه الأقسام بواسطة المحذور العقلي خروجا تخصّصيّا بقيّة الأقسام تحت العموم بواسطة شمول الدليل و عدم المحذور و هي السهو في الموضوع و النسيان له و الجهل المركّب به، فإنّ كلّا من هذه الثلاثة إنّما يدخل صاحبه في الصلاة لا باستناد إلى قاعدة لا تعاد حتّى يقال: إنّها ليست قاعدة مشرّعة للدخول على حسب ما مرّ في المقدّمة الاولى، بل بواسطة امتثال قوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ.

ثمّ بعد مضيّ محلّ التدارك يتبيّن أنّه إمّا أتى بمانع أو أخلّ بجزء أو شرط، و ليس تخصيص الخطاب بالمركّب الناقص في حقّه أيضا مستلزما لمحذور عقلي، كما كان مستلزما في حقّ الناسي و الساهي و الجاهل و المركّب في الحكم، فلا وجه لعدم الاندراج تحت العموم.

و على هذا فلو جهل جهلا مركّبا بكون اللباس ممّا لا يؤكل فصلّى فيه،

كتاب الصلاة

(للأراكي)، ج 2، ص: 441

ثمّ تبيّن بعد أنّه كذلك فلا مانع من الحكم بصحّة صلاته بمقتضى عموم الخبر و إن كان لم يظهر منهم رضوان اللّٰه عليهم إلّا التمسّك في خصوص السهو و النسيان المتعلّقين بالموضوع فقط.

فإن قلت: يمكن التمسّك بالخبر حتّى في نسيان الحكم و سهوه و جهله المركّب، و يدفع إشكال الدور و التصويب بالتزام العفو و الإغماض في مرحلة الامتثال، لا إسقاط الجزئيّة و الشرطيّة عن أصل متعلّق التكليف، و الإشكال إنّما يرد على الثاني دون الأوّل، لأنّه مبنيّ على تعميم الجزئيّة و الشرطيّة بالنسبة إلى كلّ المكلّفين.

و بالجملة، بعد ما اعترفتم بعموم الخبر بحسب المدلول للأقسام المذكورة من غير فرق بين تعلّقها بالموضوع أو الحكم و دوران أمر لا تعاد بين احتمالين، أحدهما يلائمه، و هو العفو عن الإعادة، و ثانيهما لا يلائمه، و هو الإسقاط عن مرحلة الجزئيّة للمركّب المأمور به أو الشرطيّة له، كان المتعيّن هو الأوّل بقرينة عموم المدلول، و لو فرض ظهور في الاحتمال الثاني فإنّما هو في ما إذا لم يكن معارضا بمثل العموم المذكور، و إلّا فهو المقدّم.

قلت: الحكم بيننا و بينك العرف، فهل يدخل في ذهن أهل العرف من قولنا:

أعد، أو: لا تعد، إلّا البطلان في الأوّل و الصحّة في الثاني من دون أن ينصرف الذهن إلى احتمال العفو عن مقام الامتثال بدون توسعة أو تضييق دائرة المأمور به، كلّا و حاشا، و لا أظنّ أن يرتاب فيه أحد، و إنّما ذهب إلى اختيار هذا المعنى شيخنا المرتضى قدّس سرّه بواسطة عدم تعقّله تخصيص الساهي و الناسي حتّى في الموضوع بالخطاب، فألجأه ذلك إلى إبداء هذا الاحتمال، و إلّا فليس هو ممّا يدخل في

أذهان العرف ابتداء، كما نشاهد في نظائره.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 442

مضافا إلى ما تقدّم من تأييده بقولهم عليهم السّلام: تمّت صلاته الوارد في بعض الموارد الجزئيّة الذي هو كالنصّ في ما ذكرنا.

نعم يمكن فرض الصحّة الواقعيّة في حقّ ناسي الشرطيّة و الجزئيّة و الساهي عنهما و جاهل المركّب بهما مع عدم لزوم الدور بأن يكون المجعول في حقّهم في الرتبة الأولى التامّ، و في الثانية الناقص، فكان الناقص وافيا بمرتبة نازلة من مصلحة التامّ، و لا يمكن مع استيفائها استيفاء المقدار الفائت.

و لكن هذا- مضافا إلى استلزامه التصويب المجمع على بطلانه- مدفوع بمخالفته مع ظاهر الكلام، حيث إنّ الظاهر كون الناسي و أخويه كالذاكر من دون منقصة لهم عنه، بل حالهما حال المسافر و الحاضر، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

فرع- نسيان الموضوع و الحكم معا

لو سها عن الموضوع و الحكم معا، أو نسيهما فترك الجزء أو الشرط لذلك، فهل هو خارج عن العموم الخبر بناء على ما ذكرنا من اختصاصه بسهو الموضوع و نسيانه، أو مشمول له؟ وجهان:

من انصراف الخبر إلى كون الترك مستندا إلى سهو الموضوع أو نسيانه فقط، و هذا مستند إلى المجموع منه و من نسيان الحكم.

و من أنّه إذا كان الجزءان من علّة الوجود مترتّبين في الوجود كما في المقام، حيث إنّ العلّة للفعل ذكر الموضوع و ذكر حكمه معا مع سبق الأوّل رتبة، ففي جانب العدم يستند عدم المعلول إلى عدم الأسبق منهما عرفا، فيكون استناد الترك في المقام إلى عدم تذكّر الموضوع.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 443

مضافا إلى منع أصل الانصراف المذكور، فإنّا بعد ما فرضنا عموم الخبر لجميع الأقسام المذكورة أعني سهو الموضوع و الحكم و نسيانهما، و إنّما

ألجأنا إلى التخصيص بسهو الموضوع و نسيانه القرينة العقليّة، فليس الحال كما إذا كان قيد الإضافة إلى الموضوع مذكورا في الكلام أو منصرفا إليه بالخصوص و الانصراف إلى صورة الاستناد التامّ إنّما هو مع أحد الأخيرين دون الأوّل كما هو واضح، فالأقوى هو القول بالشمول، و من المعلوم أنّه غير مستلزم للمحذور العقلي و اللّٰه العالم.

فإن قلت: مقتضى ما ذكرت من عدم مشموليّة الجهل البسيط و لو في الموضوع للصحيحة، نظرا إلى عدم كون الصحيحة في مقام تشريع الدخول من الأوّل للعالم و الشاكّ أنّه لو فرض كونه شاكّا في الموضوع، لكن جاز له الدخول بواسطة أصل من الأصول الظاهريّة، كما لو شكّ في لباس أنّه من المأكول أو غيره و كان مذهبه البراءة عقلا و نقلا في مثله، فدخل في الصلاة، فتبيّن بعد الفراغ أنّه كان من غير المأكول جاز التمسّك بعد الصلاة بالصحيحة، لأنّ المفروض أنّ اعتماده في الدخول على الأصل الظاهري، لا على الصحيحة، و الشبهة أيضا موضوعيّة لا يستلزم إجراء لا تعاد فيها الدور أو التصويب.

و لكنّ الظاهر عدم التزامهم به، لأنّه قول بالإجزاء في الأصول الظاهريّة في خصوص باب الصلاة في الشبهات الموضوعيّة الغير المتعلّقة بالأشياء الخمسة.

قلت: يمكن الجواب بأنّا قد ذكرنا أنّ كلّ موضوع دخل في حكم لا تعاد فمقتضاه جعل الناقص في حقّه من الأوّل، غاية الأمر لا يمكن أن يكون هذا الجعل الموجود من الأوّل داعيا و محرّكا تفصيليّا، و قد مرّ بيانه.

و على هذا فلا يمكن مشموليّة موارد الأصول للصحيحة، إذ المفروض كون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 444

الشرطيّة أو الجزئيّة الواقعيّتين في مواردها مطلقتين حتّى في حال الشكّ، و إلّا فلم يتحقّق الشكّ الذي

هو الموضوع للأصل، للقطع باختصاص الجزئيّة و الشرطيّة بغيره، و هذا خلف، فإنّ المفروض جريان الأصل في حقّه و أنّه المجوّز للدخول له.

و بعبارة اخرى: إنّ الشاكّ الملتفت لا محالة إلى المشكوك و حكمه لو جرى في حقّه لا تعاد، فهو من أوّل الأمر ملتفت إلى إسقاط الجزئيّة أو الشرطيّة عنه بحسب الواقع، فكيف يعقل مع ذلك إجراء الأصل المبتني على الشكّ المبتني على إطلاق الجزئيّة و الشرطيّة، فإنّ المفروض أنّا لم نقل بأنّ حديث الرفع مفيد لرفع الجزئيّة الواقعيّة في المشتبهات بالشبهة الموضوعيّة، و إلّا فلم يحتج إلى إجراء لا تعاد كما هو واضح، بل قلنا: إنّ مفاده الأصل الظاهري مع حفظ الجزئيّة بحسب الواقع، فإذا جرى لا تعاد لزم خلاف هذا الفرض و عدم كونه مجرى للأصل الظاهري.

فيرجع الأمر بالأخرة إلى أنّه إنّما يدخل في العمل بواسطة دليل لا تعاد، و قد فرضنا في المقدّمة الاولى عدم صلاحيّته لذلك، فإذا انحصر المدرك للدخول في الأصل فلا يعقل إجراء لا تعاد فيه بناء على ما استظهرنا من معناه من كونه الإسقاط الواقعي عن موضوعه في عرض من جعل في حقّه الصلاة التامّة كالحاضر و المسافر، دون العفو و الإغماض في مقام الامتثال و تقبّل ما ليس بمصداق له مكان ما هو المصداق.

فإن قلت: فما تقول في قاعدة الشكّ بعد المحلّ إذا أجريت في غير الخمسة من أجزاء الصلاة، ثمّ تبيّن بعد الدخول في الركن أو بعد الفراغ من الصلاة أنّه ما أتى بذلك الجزء الذي مضى عن محلّ تداركه بحكم القاعدة، فهل يحكم بصحّة صلاته أو لا؟ و على الأوّل كما هو المسلّم فهل المدرك إلّا قاعدة لا تعاد؟ و لهذا نفصّل بين ما

إذا اتّفق ذلك في الأركان و غيرها فنحكم بلزوم الإعادة في الأوّل دون الثاني، مع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 445

أنّ عين الإشكال الذي أوردته على مسألة من شكّ في اللباس أنّه من غير المأكول و نحوه جار فيه حرفا بحرف.

قلت: فرق بين ما إذا ترك جزء أو شرط في المحلّ الموظّف له اعتمادا على أصل ظاهري، و بين ما إذا فرض أنّ الجزء ترك في محلّه الموظّف له نسيانا و حصل الالتفات الشكّي بعد ذلك المحلّ قبل انقضاء محلّ تداركه، فإنّه يصحّ للشارع أن يرفع عنه التدارك، و يجوز له المضيّ مع هذا الحال إلى أن ينقضي محلّ التدارك.

و بعبارة أخرى: يرخّص في جرّ ذلك النسيان المشكوك إلى انقضاء محلّ التدارك، فيكون كالنسيان المستوعب إلى ما بعد انقضائه في كونه محكوما بسقوط الجزئيّة عنه، فكأنّه قال له: جرّ نسيانك إلى ذلك المحلّ حتّى يتحقّق الفوت المستند إلى النسيان مع الدخول في الركن المتأخّر. أمّا الأوّل فلحصول سببه الخارجي، و أمّا الثاني فلتجويز الشرع، فالذي يستند إلى حكم الشارع تفويت محلّ التدارك، و أمّا أصل الترك فقد وقع مستندا إلى السهو أو النسيان في المحلّ.

فيكون محصّل حكم الشارع: أيّها الجاهل بأنّه هل هو آت بالجزء في محلّه أو غير آت به سهوا أو نسيانا أدخل في الركن و لا تعتن بهذا الشكّ، فإنّك لا تخلو عن أمرين، إمّا أن أتيت بالجزء و هو المطلوب، و إمّا أن لم تأت به نسيانا و المفروض أنّك دخلت في الركن بحكمي، فيجري في حقّك قاعدة لا تعاد.

و مثل هذا الحكم الظاهري لا بأس به، و يسلم عن الإشكال الوارد في الأصل الظاهري المجعول، للشكّ في الشرطيّة بالشبهة

الموضوعيّة، فإنّ جريان لا تعاد في مورد، مناف معه كما بيّناه، و هذا الأصل الظاهري الذي مفاده الرخصة في دخول الركن غير مناف معه، بل يمكن جريانه مع النظر إلى لا تعاد كما لو صرّح في العبارة بمثل العبارة التي قلنا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 446

و بعبارة ثالثة: الأصل في ما نحن فيه مفاده نفي الدخالة في موضوع الشكّ في الدخالة، فلا يجتمع مع لسان الحديث الدالّ على نفي الدخالة، إذ لازمة اجتماع القطع و الشكّ معا، و أمّا في المثال فمفاد الأصل الترخيص في المضيّ في العمل عند الشكّ في الجزء القبل و أنّه هل سها عنه أو لا، و هذا يجتمع مع مفاد الحديث الدالّ على أنّه لا دخالة للجزء المنسيّ في صورة المضيّ إلى ما بعد الركن.

[الأمر] الثاني- في شمول القاعدة لكلّ من الزيادة و النقيصة:

هل العموم شامل لكلّ من الزيادة و النقيصة بناء على ما ذهب إليه الأصحاب من وجود الدليل على إبطال مطلق الزيادة؟

فنقول: ليس في الكلام لفظ الشي ء أو نحوه حتّى يدّعى انصرافه إلى الوجودي فيكون الزيادة لكونها عدميّة خارجة عن عمومه، بل المتعلّق محذوف، و مقتضاه العموم بالنسبة إلى كلّ مورد يتوهّم الإعادة، و هو أعمّ من الزيادة و النقيصة، فكأنّه قيل: لا تعاد الصلاة من خلل، سواء كان بإيجاد ما اعتبر عدمه أم بترك ما اعتبر إيجاده، هذا مقتضى الظاهر في المستثنى منه.

و أمّا المستثنى فيحتمل أن يكون المراد هو الركوع و السجود المعهودان، فيكون المراد أنّه تعاد الصلاة من خلل هذين، و هو نقصهما، و يحتمل أن يراد جنسهما أعني: تعاد من الخلل الناشئ من هذين المفهومين، سواء كان الخلل بإيجادهما أم بنقصهما، و الظاهر الأوّل، فلا يشمل المستثنى زيادتهما، فتكون داخلة في

المستثنى منه.

ثمّ بناء على مذهب الأصحاب يختلف النسبة بين هذا الحديث و أخبار مبطليّة الزيادة بناء على هذين الاحتمالين، فعلى الأوّل أعني دخول زيادة الركوع و السجود

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 447

في المستثنى منه يكون النسبة هي العموم من وجه بين هذا الحديث و قوله عليه السّلام:

من زاد فعليه الإعادة، و العموم المطلق بينه و بين قوله عليه السّلام: من استيقن أنّه زاد فعليه الإعادة، لاختصاص الأخير بالزيادة السهويّة و عموم الحديث لها و للنقصان.

و على الثاني أعني دخولها في المستثنى يكون النسبة بينه و بين الأوّل ما ذكر كما هو واضح، و بينه و بين الثاني هي العموم من وجه، لعدم التعارض في مادّتين، أعني النقيصة السهويّة مطلقا و الزيادة السهويّة في خصوص الركوع و السجود، و وجود التعارض في مادّة واحدة و هي الزيادة السهويّة في غيرهما، و فائدة العلم بالنسبة أنّه بناء على كونها العموم من وجه نحكم بتقدّم الحديث، لأجل الحكومة، و بناء على كونها العموم المطلق لا مساغ للحكومة كما هو واضح، هذا ما يؤخذ من كلام شيخنا المرتضى قدّس سرّه.

و قد استشكل فيه شيخنا العلّامة الأستاذ دام ظلّه من وجهين:

الأوّل: حكمه بكون النسبة هي العموم المطلق على تقدير أخذ زيادة الركوع و السجود في المستثنى منه كما تقدّم استظهاره.

و الثاني: حكمه بالحكومة على تقدير كون النسبة هي العموم من وجه.

أمّا الإشكال من الجهة الأولى فمحصّله أنّه بعد ما قام الإجماع على خروج هاتين الزيادتين عن عموم المستثنى منه لا يبقى حجّية له، فإنّ موضوع الحجّية صورة عدم القطع، فيكون الحجّية مخصوصة بالزيادة في غيرهما، و ملاك المعارضة ليس هو المدلول الساذج، بل بمقدار الحجّية، و معلوم أنّه

بهذه الملاحظة تكون النسبة عموما من وجه، و لا يرد النقض بالعامّ و الخاصّين اللفظيّين كأكرم العلماء و لا تكرم العلماء البغداديّين و لا تكرم النحاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 448

وجه عدم الورود أنّ دليل الحجّية شامل للكلّ على نهج واحد، فلا وجه لتقديم أحد الخاصّين و تخصيص العامّ به ثمّ ملاحظة النسبة بين العامّ المخصّص و الخاصّ الآخر.

و هذا بخلاف الحال في ما إذا كان الدليل مثل الإجماع ممّا يفيد القطع، إذ لا حجّية للعامّ إلّا في ما عدا مورد القطع كما هو واضح.

و أمّا من الجهة الثانية فحاصله أنّا لا نعقل الحكومة بين لا تعاد و مضمون الخبرين الذي هو إيجاب الإعادة، نعم لو قام الدليل على نهي المصلّي عن إتيان الزيادة في الصلاة كان للحكومة وجه، و أمّا إذا أفيد المانعيّة بلسان نفي الإعادة فكلاهما في عرض واحد لا حكومة لأحدهما على الآخر.

ثمّ هذا كلّه بناء على مذهب الأصحاب في تفسير الزيادة و حمل قوله عليه السّلام:

من زاد، و قوله عليه السّلام: من استيقن أنّه زاد على إبطال زيادة الأجزاء مطلقا.

و أمّا بناء على ما تقدّم اختياره منّا من كون المراد بهما زيادة الركعة أو كونها المتيقّن منهما، فيسقط هذا البحث من أصله.

نعم لا بدّ من التمسّك بالإجماع في مبطليّة زيادة الركوع و السجود، إلّا أن يكون الركعة الواردة في بعض نسخ رواية من استيقن إلخ شاملة للركوع أيضا، فيكون خصوص زيادته مستفادة من الحديث المذكور، و معلوم أنّه خاصّ بالنسبة إلى دليل لا تعاد.

[الأمر] الثالث- عدم شمول الحديث للحالات المتأخّرة عن الحكم:

من جملة الأمور التي يسقط البحث عنها- بناء على ما تقدّم اختياره منّا في معنى لا تعاد من عدم شموله للحالات المتأخّرة عن الحكم إمّا للمانع

العقلي و إمّا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 449

للزوم التصويب الباطل بالإجماع، بخلاف ما لو قلنا بالعموم و دعوى الانصراف إلى الحالات المتعلّقة بالموضوع، أو قلنا بأنّ الحالات المتأخّرة عن الحكم خارجة بالإجماع- هو البحث عن أنّ الذهول و العزوب عن الذهن يتصوّر على أنحاء:

لأنّه تارة يتعلّق بالموضوع كالحمد فقط، و أخرى بالمحمول أعني الوجوب إمّا بمصداقه أو بمفهومه، و ثالثة بإضافة المحمول إلى ذلك الموضوع، و رابعة: بالتجزّم بهذه الإضافة و النسبة الناقصة، و خامسة بما عدا الموضوع بتمامه.

فالقسم الأوّل أعني ما كان متعلّقا بصرف الموضوع لا إشكال في شمول الحديث له.

و أمّا باقي الصور فيمكن البحث بناء على القولين المذكورين، أعني خروج الحالات الحكميّة بالانصراف أو بالإجماع في أنّ الانصراف أو الإجماع إنّما هما بالنسبة إلى خصوص الأخير، أعني: من ذهل عن ذهنه الحكم بشراشره، لا خصوص مفهوم الوجوب بحيث لو التفت إليه لحصلت النسبة الجزميّة في ذهنه أو شخصه كذلك، أو النسبة الناقصة بينه و بين الموضوع كذلك.

و أمّا بناء على ما اخترناه من خروج جميع حالات الحكم بالمخرج العقلي أو لزوم التصويب فيسقط هذا البحث عن أصله، لوضوح اشتراك الكلّ في لزوم المحذور العقلي أو لزوم التصويب الباطل، كما هو واضح.

[الأمر] الرابع: لو علم بعد الفراغ من الصلاة أنّه ترك الحمد مثلا فيها،

و لكن يشكّ أنّه هل تركها عمدا أو سهوا فلا إشكال في عدم صحّة التمسّك بحديث لا تعاد، لكونه شبهة مصداقيّة بناء على ما ذكرنا من انصرافه عن العمد، و هل يجوز التمسّك بقاعدة الشكّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 450

بعد الفراغ، أو بأصالة الصحّة بتقريب أنّه لو كان الترك سهوا كان العمل صحيحا، لعدم دخالة الحمد فيه واقعا كما مرّ، بخلاف ما لو كان عن عمد، فمقتضى

الأصلين هو الحمل على الوقوع السهوي؟ الظاهر العدم.

أمّا الأوّل: فلأجل أنّ مقتضى التعليل بكونه حين العمل أذكر، معناه أنّه ذاكر حين العمل، و بعد الذكر آت بكلّ شي ء منه في محلّه، فلا يشمل ما نحن فيه، إذ اللازم منه الحمل على البطلان على تقدير الذكر، للقطع بأصل الترك، و إنّما الشكّ في الاستناد إلى أيّ الأمرين.

و أمّا الثاني: فمقتضى الأصل العقلائي و إن كان عدم الوقوع العمدي، و لكن ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على السهو مع أنّه خلاف أصالة عدم السهو التي هي أيضا من الأصول العقلائيّة محلّ إشكال أو منع.

[الأمر] الخامس- حكم الجهر موضع الإخفات و الإتمام موضع القصر:
اشارة

قد مرّ أنّ سقوط الإعادة و القضاء في حقّ ناسي الحكم و جاهله لا يستفاد من الحديث و أنّ الأصل الأوّلي الذي هو البطلان بالنسبة إليهما باق بحاله، و لكن خرج عن هذا الأصل الناسي و الجاهل بالحكم في مسألتين:

إحداهما: من أجهر في موضع لا ينبغي الإجهار فيه، أو أخفت في موضع لا ينبغي الإخفات فيه.

ثانيهما: من أتمّ الصلاة في موضع القصر، فإنّ الناسي و الجاهل فيهما معذوران من حيث الإعادة و القضاء على ما هو المعروف بينهم رضوان اللّٰه عليهم من غير فرق بين الجاهل و القاصر و المقصّر إلّا في العقاب، فيحكم بثبوته في الثاني دون الأوّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 451

[الموضع] الأوّل: في التكلّم في مسألة من أجهر في ما لا ينبغي الإجهار، أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء، و فيه مقامان من الكلام:
[المقام] الأوّل: في رفع الإشكال العقلي الوارد في المقام

من حيث اجتماع العقاب مع الإجزاء عن الإعادة في حقّ الجاهل المقصّر، مع أنّ مقتضى القاعدة أنّه لو علم المسألة و الوقت باق يحكم عليه بالإعادة و يسقط العقاب، لتحقّق الإطاعة، فالحكم بالإجزاء و إسقاط الإعادة عنه مع إيراد العقاب ممّا لا يجتمعان.

و [المقام] الثاني: في التكلّم في دليل المسألتين
اشارة

من الأخبار و النظر في مقدار دلالتها.

و لنقدّم الكلام في الثاني فنقول و على اللّٰه التوكّل: الدليل في المسألة الأولى صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام في رجل جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه و أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه «فقال عليه السّلام: أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته و عليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا، أو لا يدري فلا شي ء عليه و قد تمّت صلاته» «1».

و بسط الكلام في مدلول الصحيحة يقتضي تمهيد أبحاث:

[البحث] الأوّل:

لا يخفى أنّ كلمة «ذلك» في الموضعين إشارة إلى ما ذكر في السؤال من الجهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه، و الإخفاء في ما لا ينبغي الإخفاء فيه، فكأنّه قال عليه السّلام: إن أجهر في ما لا ينبغي إلخ، أو أخفى في ما لا ينبغي إلخ متعمّدا فعليه الإعادة، و إن فعل ذلك ناسيا إلخ، و حينئذ فيحتمل أن يراد بالموصول الصلاة و أن يراد الأعمّ منها و من الأجزاء.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب الخلل القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 452

و يظهر الثمر في التسبيحات الأربع، فعلى الثاني يدخل الإخلال فيها في العموم دون الأوّل، فإنّ الصلاة الجهريّة و الإخفاتيّة إنّما يلاحظ اتّصافها بهاتين بملاحظة الركعتين الأوليين، فالإجهار في الصلاة الإخفاتيّة عبارة عن الإجهار بالقراءة في ركعتيها الأوليين، و هكذا العكس، و الظاهر من هذين هو الثاني، فإنّ الشائع المتعارف في لسان الأخبار جعل الإخفات و الإجهار صفتين للصلاة لا لأجزائها.

ثمّ بعد هذا أيضا هنا احتمالان، الأوّل: أن يراد بالموصول الكناية و الإشارة إلى الصلاة الخارجيّة المعنونة، فكأنّه قيل: إن أجهر في صلاة الظهر

أو أخفى في صلاة العشاء، و الثاني: أن يراد به نفس العنوان المذكور.

و يظهر الثمر في المأموم المسبوق، حيث إنّ صلاة العشاء بالنسبة إليه إخفاتيّة، فعلى الثاني يدخل الإخلال بذلك في العموم، و على الأوّل لا يدخل، كما هو واضح، و الظاهر من هذين هو الأوّل، لشيوع إطلاق الجهريّة و الإخفاتيّة في الأشخاص الخاصّة، و صار ذلك إمّا بمثابة يوجب الانصراف إليها عند الإطلاق، أو يوجب الإجمال و عدم الإطلاق بالنسبة إلى غيرها، و على كلّ حال لا يجوز التمسّك في المأموم المسبوق.

ثمّ على تقدير الاحتمال الثاني أعني إرادة العنوان المذكور من حيث نفسه حتّى يشمل المأموم المسبوق فالظاهر كون عدم الانبغاء مأخوذا من كيفيّات الصلاة و راجعا إليها، فلا يشمل ما إذا كان ذلك لأجل جهة خارجة عن الصلاة مثل وجوب إخفاء الصوت على المرأة في مسمع الأجنبي إمّا لأجل كون صوتها عورة، أو لوجود الريبة، أو وجوب إخفائه للخوف من العدوّ على نفسه عند الإجهار، فلو أجهر في الموضعين فالظاهر عدم دخوله في العبارة، بل هو من مصاديق اجتماع الحرام و الواجب، و لا بدّ من أن نتكلّم فيه على قاعدة ذلك الباب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 453

البحث الثاني:

لا يخفى أنّ التعمّد بالعنوان المذكور أعني: الإجهار في ما لا ينبغي و الإخفات كذلك يحتاج إلى العلم بالموضوع و حكمه، فلو غفل أو جهل في واحد منهما أو كليهما لا يصدق عليه عنوان المتعمّد، كمن غفل عن كون هذه الصلاة ظهرا و تخيّلها عشاء، أو التفت إلى كونها ظهرا، لكن سها أنّ حكمها الإخفات، ففي الصورتين لا يصدق أنّه عامد في إتيان العنوان المذكور، كما هو واضح.

و الظاهر أنّ قوله عليه السّلام في

ذيل الصحيحة: فإن فعل ذلك ناسيا إلخ بيان لمصاديق مفهوم المتعمّد، فالمعيار كلّ من لا يدخل تحت عنوان المتعمّد، و هو أفراد، الناسي للموضوع، و الساهي فيه، و الجاهل به بسيطا أو مركّبا، و كذلك الناسي و الساهي و الجاهل بقسميه في الحكم.

فمقتضى الأخذ بمدلول الكلام لغة هو الحكم بالمعذوريّة في جميع هذه الأقسام، لكن مقتضى التأمّل خروج الجهل البسيط و هو الشكّ و الترديد، سواء تعلّق بالموضوع أم بالحكم عن العموم، و إن كان يمكن فرض قصد القربة فيه على تقدير العموم، بأن يلتفت إلى هذا الحكم المجعول في حقّه و يقصد الأمر المتوجّه إليه، لكن لا يمكن للإنسان الجزم باستفادة تصحيح الصلاة بالنسبة إلى المردّد الشاكّ من الرواية و إن كان اللفظ شاملا له لغة، لصدق عنوان لا يدري عليه، و عدم صدق عنوان المتعمّد عليه، لتوقّفه على العلم و الالتفات بثبوت العنوان في الفعل من غير فرق بين ما قبل الفحص و ما بعده، بل شمول عنوان لا يدري للأوّل بحسب اللغة أيضا محلّ إشكال.

نعم بعد استقرار الشكّ و الفحص عن مظانّه يصدق عليه بحسب اللغة، و لكن في مشموليّته لحكم الصحّة و التماميّة المذكورة في الرواية محلّ تأمّل، فيبقى الجهل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 454

المركّب سواء المتعلّق منه بالموضوع أم بالحكم سواء نشأ عن التقصير في المقدّمات أم عن القصور، ففي الأولى نحكم بتماميّة صلاته مع استحقاق العقوبة من جهة تقصيره.

فإن قلت: كما أنّك جعلت قوله: تمّت صلاته في بعض الأخبار قرينة على عدم الشمول للأحوال اللاحقة للحكم في حديث لا تعاد، فلم لا تجعله هنا قرينة على الاختصاص بالموضوعيّة؟

قلت: دعوى الاختصاص هنا بالموضوعيّة يكاد يكون مصادمة مع النصّ،

أو كالنصّ، فإنّ عموم قوله عليه السّلام: «لا يدري» للجاهل بحكم عدم الانبغاء أظهر و كالقدر المتيقّن، بحيث لا يمكن إخراج هذا الفرد عن تحته، نعم يبقى جمعه مع كلمة «تمّت صلاته» و رفع إشكاله العقلي، فإذا صحّحناه و رفعنا إشكاله كان الأخذ به متعيّنا.

البحث الثالث:

الجهل المركّب تارة يتصوّر بالنسبة إلى الموضوع، و أخرى بالنسبة إلى الحكم، و مثالهما واضح، و ثالثة بالنسبة إلى عنواني الجهر و الإخفات و تحديد مفهومهما، فاشتبه في ذلك فتخيّل أنّ بعض مصاديق الجهر مثلا إخفات، مع علمه بأنّ الصلاة ظهر و أنّ الظهر إخفاتيّة، و لا يخفى أنّه غير داخل في عنوان المتعمّد للعنوان المذكور، أعني: الجهر في ما لا ينبغي و إن كان عامدا في ذات العمل، لكن بعنوان كونه جهرا في ما لا ينبغي ليس من مصاديق العمد، فيكون داخلا في عنوان «لا يدري».

البحث الرابع- لو تذكّر الإخلال بالجهر أو الإخفات في أثناء القراءة:

لا إشكال في الصحّة لو تذكّر أو تنبّه بعد مضيّ محلّ التدارك أو بعد الفراغ من الصلاة، و لو تذكّر أو تنبّه في أثناء القراءة أو بعدها قبل الركوع فهل يجب عليه التدارك، أو يحكم بالصحّة؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 455

فتارة نتكلّم على حسب القاعدة بعد ورود الدليل على عدم الإعادة في الإخلال السهوي و أخويه، و أخرى على حسب ما يقتضيه ظاهر الصحيحة التي هي من النصّ الخاصّ في المقام.

أمّا الأوّل: فنقول و على اللّٰه التوكّل: مقتضى القاعدة هو الفرق بين ما لو اعتبر الجهر و الإخفات في موضعهما في عرض القراءة في الصلاة، و بين ما لو اعتبرا قيدين في نفس القراءة المعتبرة.

فعلى الأوّل نحكم بالصحّة، لعدم إمكان التدارك، و المفروض وجود الدليل على أنّ الترك السهوي و نحوه غير مضرّ، وجه عدم الإمكان أنّ المفروض أنّ محلّ اعتبار الجهر مثلا في الصلاة هو القراءة التي اعتبرت في الصلاة، و المفروض أنّها اعتبرت طبيعة الحمد بصرف وجودها، و قد حصلت و لا يمكن تكرارها.

و على الثاني نحكم بلزوم التدارك، لأنّ المحلّ باق، إذ المفروض أنّ

الحمد الخاصّ جزء للصلاة، و لم يحصل بعد، و لا حصل الدخول في الركن المتأخّر، هذا على حسب ما يقتضيه القاعدة.

و أمّا ما يستظهر من الصحيحة فهو الصحّة و عدم لزوم التدارك لوجهين:

الأوّل: استظهار أنّ اعتبار الجهر و الإخفات يكون على النحو الأوّل من النحوين السابقين، و ذلك بملاحظة حكمة عليه السّلام في صورة العمد بأنّ الإجهار في ما لا ينبغي و الإخفاء في ما لا ينبغي نقص في الصلاة، و معلوم أنّه لو كان الاعتبار على النحو الآخر فكان الحمد المقيّد معتبرا في الصلاة لا يلزم من إتيان الحمد المقيّد بالضدّ نقصان في الصلاة، بل لا يخلو إمّا أن يكون وجود هذا المقيّد بالضدّ مضرّا و مانعا، أو لا، فعلى الأوّل بطلت الصلاة، لكن لا لأجل النقيصة، بل للزيادة، و على الثاني لم تبطل الصلاة، بل وجب عليه ما لم يركع الإتيان بالحمد الخاصّ المعتبر،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 456

فحيث حكم بمجرّد إتيان الجهر في ما لا ينبغي بحصول النقصان دلّ على أنّ نحو الاعتبار في الصلاة يكون على الأوّل من الوجهين السابقين، و عرفت أنّ لازمة الصحّة في طرف السهو و أخويه، لوجود الدليل على إيجابهما عدم مضرّية الإخلال بالجهر و الإخفاء، هذا على تقدير قراءة قوله «نقص» بالصاد المهملة.

و أمّا على تقدير كونه بالمعجمة فيمكن استظهار ذلك أيضا، بملاحظة أنّ الظاهر أنّ جهة النقض هو هذا العمل، أعني: الجهر مكان الإخفاء أو العكس، و هذا مناسب مع الاعتبار الأوّل، و مناسب الثاني أن يقال: فقد أتى بشي ء زائد، أعني:

الحمد الإخفاتي في العشاء مثلا و أورث ذلك نقض الصلاة.

و الوجه الثاني: أنّ العامد حكم عليه بالإبطال حين صدور العنوان المذكور بلا انتظار

للدخول في الركن، و قرينة المقابلة تقتضي أن يكون حكمه بتمام الصلاة في جانب الناسي و أخويه أيضا هكذا، أعني: أنّه لا ينتظر فيه شي ء.

و القول بأنّ التقييد بذلك غير محتاج إليه، لأنّ مفروض الكلام حصول العمل من المصلّي الذي يرتكب ذلك في صلاته بدون التدارك في محلّه، مدفوع بأنّه ليس في الكلام ما يدلّ على هذا المعنى، و هل فرق بين قوله عليه السّلام: من تكلّم في صلاته عمدا فقد نقض صلاته، و بين قوله عليه السّلام: من جهر في صلاته في ما لا ينبغي الجهر متعمّدا فقد نقض صلاته، فإنّه في قوّة قولنا: من قرأ الحمد للّٰه ربّ العالمين جهرا في ما لا ينبغي الجهر فقد نقص صلاته، و لا إشكال في ظهوره في البطلان من حين الحصول، لا متأخّرا من الدخول في الركن، هذا تمام الكلام في بيان كمّية مدلول الصحيحة.

بقي الكلام في رفع الإشكال العقلي المتوجّه من جهتين:

إحداهما: أنّ لازم الحكم بالصحّة في حقّ جاهل الحكم و ناسية التقييد في الحكم الواقعي بالعالم الملتفت إليه، و هو دور صريح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 457

و الأخرى: بعد رفع الدور و فرض إمكان التقييد كيف يتعقّل استحقاق العقوبة في حقّ الجاهل المقصّر على المخالفة لأمر «صلّ» كما قام عليه الإجماع، مع أنّ المفروض صحّة صلاته كما هو نصّ الصحيحة و قام عليه الإجماع أيضا، و معناها موافقة الأمر المذكور، فكيف يصحّ اجتماع المخالفة و الموافقة حتّى يصحّ اجتماع الاستحقاق و الصحّة.

و من هنا يعلم أنّ الإجزاء بمعنى تفويت الموضوع غير متمشّ هنا، بأن يقال:

إنّ وجه استحقاقه أنّه فوّت المصلحة الواقعيّة بتفويت المحلّ عن قابليّة استيفائها، فلا يجب عليه الإعادة، لعدم الفائدة مع

كونه مستحقّا للعقوبة، إذ المفروض في المقام حصول الموافقة و الامتثال، فسقوط الأمر عنه بتحقّق متعلّقه لا بتفويت موضوعه.

نعم يمكن تصوير مصلحتين ملزمتين، إحداهما قائمة بالطبيعة المرسلة، و الأخرى بالمقيّدة، لكن كان محلّ القيد صرف وجود تلك الطبيعة الحاصل في ضمن أوّل وجودها دون الثاني و ما بعده، فيجب على الآمر أن يخصّ مورد أمره بالمقيّدة، لأنّه لو علّقه على المطلقة أوجب إتيانها في ضمن الفاقدة للقيد، و ذلك موجب لتفويت المحلّ بالنسبة إلى المصلحة الملزمة الأخرى، و لكن لو أتى المأمور بالطبيعة في ضمن الفرد الفاقد بداعي الجهة الموجودة فيه كفى في عباديّته، لما تقرّر في مبحث الضدّ من كفاية الجهة في العبادة.

و على هذا فإطلاق الصحّة يكون بهذه الملاحظة، و الاستحقاق بملاحظة تفويت المحلّ للمصلحة الملزمة الأخرى، لكن هذا الوجه يستلزم عدم الفرق بين العامد و غيره في الحكم بالصحّة، و هو خلاف ما نصّ عليه الصحيحة و قام عليه الإجماع من التفرقة بينها بالفساد فيه، و الصحّة في غيره.

فلا بدّ من الالتزام بأنّ قيام المصلحة الملزمة بالطبيعة المرسلة ليس على وجه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 458

الإطلاق حتّى في حقّ العامد، بل مشروط بطروّ الجهل و النسيان، و معه يصحّ التفرقة و يرتفع الإشكال العقلي بحذافيره.

و لا يلزم من ذلك اختلاف حكم اللّٰه في حقّ العالمين و الجاهلين الذي هو التصويب الممنوع إجماعا، إذ المفروض اختصاص التكليف و الحكم بالطبيعة المقيّدة، و هو مستوي النسبة إلى العالم و غيره، و الموجود في الطبيعة المطلقة مجرّد الملاك و الجهة، و لا ينافيه الحكم بتماميّة الصلاة، إذ لا دلالة في هذا التعبير على وجود الأمر الفعلي، و على فرض تصوير الأمر و لو

بنحو الترتّب نقول: إنّ ما ذكرنا من قبيل النكات بعد الوقوع، فإنّ المطلب من المسلّمات بين الأصحاب، و التكلّم إنّما هو في وجه تصويره العقلي.

فإن قلت: فلم لا نقول بمثل هاتين المصلحتين في تصوير عموم حديث لا تعاد للشبهات الحكميّة مع أنّك سلّمت خلوّه عن المحذور العقلي و عن التصويب، لفرض عدم التكليف و كفاية الجهة في الصحّة.

قلت: وجهه كون هذا أيضا خلاف الظاهر الأوّلي في: تمّت صلاته، الذي هو العرضيّة مع العامد العالم، و إنّما اخترنا هنا ما قلنا، لصراحة قوله عليه السّلام: «لا يدري» في الصحيحة في شمول الشبهة الحكميّة، مضافا إلى قيام الإجماع، و من المعلوم أنّه لا يمكن رفع اليد عن القطع بواسطة الظهور.

الموضع الثاني- من أتمّ في موضع القصر جهلا بالحكم:
اشارة

في التكلّم في مسألة من أتمّ في موضع القصر جهلا بالحكم، و الأشهر الصحّة، و يدلّ عليه ما روى الصدوق عطّر اللّٰه مرقده في الصحيح عن زرارة و محمّد بن مسلم أنّهما «قالا: قلنا لأبي جعفر عليهما السّلام: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي و كم هي؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 459

فقال عليه السّلام: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ فصار القصر في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر، قالا:

قلنا: إنّما قال اللّٰه عزّ و جلّ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ، و لم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه السّلام: أ و ليس قد قال اللّٰه عزّ و جلّ إِنَّ الصَّفٰا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعٰائِرِ اللّٰهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض، لأنّ اللّٰه عزّ و

جلّ ذكره في كتابه و صنعه نبيّه صلّى اللّٰه عليه و آله، و كذلك التقصير شي ء صنعه النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و ذكره اللّٰه في كتابه، قالا: قلنا:

فمن صلّى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟ قال عليه السّلام: إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّى أربعا أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه» «1».

لا يخفى أنّ قوله عليه السّلام في الفقرة الأولى من الجواب عن السؤال الثالث: إن قرئت عليه آية التقصير إلخ شامل لناسي الموضوع و لناسي الحكم، و أمّا العالم الملتفت إلى الموضوع و الحكم معا فربما يقال بأنّه منصرف عنه، لندرته في الغاية، إلّا إذا كان من المعاندين.

و على هذا فالكلام في قوّة قولنا: إذا صلّى أربعا ناسيا أو ساهيا للحكم أو الموضوع أعاد.

و ربما يمنع الانصراف و يقال: لا يبعد أن يكون العامد داخلا في محطّ النظر بملاحظة شيوع ذلك من المخالفين القائلين بجواز الإتمام في السفر، مع كونهم قد سمعوا

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2، و أورد ذيله في الحديث 4 من الباب 17 من هذه الأبواب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 460

تفسير الآية من أئمّتنا عليهم السّلام، و بالجملة فوقوع ذلك منهم يوجب استيناس الذهن بهذا الفرد، بل ربما يقال: إنّ الكلام مشتمل على التعريض بهم، فالقرينة المقاميّة شاهدة على عموم الكلام للعامد.

و يظهر الثمر بين الوجهين في أنّه على التقدير الثاني و هو العموم بالنسبة إلى العامد يكون قوله عليه السّلام: أعاد، كالنصّ في البطلان، إذ يبعد غاية البعد إرادة القضاء في خارج الوقت دون الإعادة فيه مع فرض

كونه عالما شاعرا بالحكم و الموضوع معا.

و على التقدير الأوّل و هو الانصراف إلى الناسي و الساهي للحكم أو الموضوع يكون ظاهرا في البطلان بواسطة الإطلاق، حيث لم يقيّد الإعادة بخارج الوقت، فيشمل الإعادة في الوقت.

و حينئذ فنقول: بحكم المقابلة بين الصدر و الذيل يكون المراد بالإعادة المنفيّة في الذيل عين ما أريد بالإعادة المثبتة في الصدر، فعلى تقدير العموم للعامد تكون الرواية صريحة في نفي الإعادة في الوقت بالنسبة إلى الجاهل بالحكم، و على احتمال الاختصاص بغيره تكون ظاهرة بالإطلاق في نفي الإعادة في الوقت عنه.

و حينئذ فالنسبة بين هذه الرواية و الرواية المفصّلة بين الوقت و خارجه بإثبات الإعادة فيه و نفيها في خارجه في من صلّى أربعا في السفر كالرواية العامّة الواردة بإثبات الإعادة فيه من غير تفصيل بين الوقت و خارجه هي العموم و الخصوص المطلقان بناء على العموم للعامد، لأنّ هذه الرواية بذيلها في قوّة رواية مستقلّة واردة بمضمون أنّ من صلّى أربعا جهلا بالحكم فلا إعادة عليه في الوقت، و تلك الرواية المثبتة للإعادة في الوقت عامّة للجاهل المذكور و غيره.

و أمّا بناء على الاختصاص بغيره فالنسبة بين هذا الذيل و بين الرواية المفصّلة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 461

المذكورة هي العموم من وجه، و ذلك لاختصاص كلّ منهما من جهة، و عمومه من أخرى.

أمّا ذيل هذه الرواية فجهة اختصاصه أنّه قد ذكر فيه الجاهل دون غيره، و تلك عامّ له و لغيره، و جهة عمومه أنّه قد ذكر فيه نفي الإعادة بلا تقييد بالوقت و خارجه، و تلك خاصّة بإثبات الإعادة في الوقت.

فهنا موردان لا تعارض بينهما فيهما، و مورد واحد يتعارضان فيه، فلا تعارض بينهما في

الناسي مطلقا، و في الجاهل في خارج الوقت، و مورد التعارض هو الجاهل في داخل الوقت، هذا.

و الحقّ أن يقال باختصاص مورد صحيحة زرارة بالعامد، إذ فرق بين أن يسأل ابتداء عن حكم من صلّى في السفر أربعا فيصحّ دعوى انصرافه إلى غير العمد، و بين مسبوقيّته بمثل سؤال زرارة و محمّد بن مسلم عن حكم الصلاة في السفر كيف هي و كم هي، و جواب الإمام عليه السّلام بآية وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ الآية ثمّ سؤالهما عن أنّه قال تعالى: لا جناح، و لم يقل: افعلوا، فكيف يستفاد منه حكم الوجوب، و جوابه عليه السّلام بآية مثل آية فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا حيث إنّ الطواف واجب، لفعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و ذكره في الكتاب، فكذا هنا أيضا، لذكر الكتاب و فعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله.

فالسؤال الثالث متفرّع على هذا الجواب، فإنّه حيث أجاب بأنّ جهة وجوبه فعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله لم يفهم الراويان أنّ جهة الوجوب هل هو من جهة صرف اتّباع النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله تكليفا، فهو واجب في واجب، فلو تركه أحد كان عاصيا من جهة تركه متابعة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، لا من جهة مخالفة تكليف صلّ، أو أنّ فعله صلّى اللّٰه عليه و آله صار سببا للإيجاب الوضعي أيضا، بحيث لو تركه أحد كان تاركا للصلاة أيضا، لفساد صلاته،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 462

فأجاب عليه السّلام بالتفصيل بين العالم و الجاهل و أنّ هذا الشخص الذي فرضتم أنّه أتى بالصلاة أربعا في السفر إن كان جاهلا بالحكم فصلاته مجزية، و إن

كان عالما فغير مجزية.

و الذي يدلّ على التفريع المذكور مضافا إلى شهادة ترتيب أجزاء الكلام و السؤال و الجواب هو الإتيان بكلمة الفاء الدالّة على التفريع في قول السائلين: فمن صلّى في السفر أربعا، حيث إنّ الكلام معه في قوّة قولنا بناء على ما ذكرتم من إيجابيّة القصر و كونه عزيمة لا رخصة، فمن صلّى في السفر أربعا أ يعيد أم لا، و لا يخفى ظهوره في ما ذكرنا.

و على هذا فمعنى قوله عليه السّلام في حقّ من قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له:

عليه الإعادة، فساد الصلاة و عدم إجزائها، و لازمة الإعادة في الوقت و القضاء في خارجه، فكأنّه قال: قد بقي تحت عهدة التكليف الصلاتي، و ليس الحكم بالقضاء إلّا من باب دليل القضاء، لا لأنّه داخل في إطلاق مفهوم لفظة الإعادة حتّى يقال بأنّ المراد بنفيها في الذيل أيضا نفي هذا المفهوم الجامع بين الفردين.

فإذا ورد دليل مثبت بعمومه في الجاهل بالحكم الإعادة في الوقت كان النسبة عموما من وجه، بل المستفاد عرفا من إثبات الإعادة و نفيها هو البطلان و عدمه، بحيث يكون إرادة مفهومها اللغوي الجامع باردا، و إذن فالنسبة بين هذه الصحيحة و بين الدليل المذكور هي العموم المطلق.

و تفصيل الكلام أنّ الذي ربما يتوهّم معارضته للصحيحة المزبورة روايتان:

إحداهما: صحيحة الحلبي «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: صلّيت الظهر أربع ركعات و أنا في سفر؟ قال عليه السّلام: أعد» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 463

و الأخرى: صحيحة العيص عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن رجل صلّى و هو مسافر فأتمّ الصلاة، قال

عليه السّلام: إن كان في وقت فليعد، و إن كان الوقت قد مضى فلا» «1».

أمّا الأولى: فمعارضتها للصحيحة المزبورة مبنيّة على عموم الجواب لصورة الجهل الحكمي، و لا يخفى بعده عن جلالة قدر السائل الذي فرض وقوع ذلك في حقّ نفسه و هو الحلبي الذي هو من أجلّة الرواة، و جهله بمثل هذا الحكم في غاية الغرابة و البعد، فالرواية مخصوصة بحال السهو و النسيان، فلا يرتبط بما نحن فيه، و على فرض العموم حالها حال الصحيحة الثانية.

و أمّا الثانية: فلا يخفى أنّ قوله عليه السّلام: إن كان في وقت إلخ إمّا يحمل على ملاحظة التفصيل المذكور بالإضافة إلى حال فراغه من الصلاة حتّى يكون المراد من الشقّ الثاني صورة إتيانه بالصلاة في الجزء الأخير من الوقت بحيث يمضي الوقت بفراغه.

و إمّا يحمل على ملاحظته بالإضافة إلى تذكّره و تنبّهه، يعني أنّه حينما يتذكّر إمّا أن يكون في وقت، و إمّا أنّ الوقت قد مضى.

و لا يخفى ظهور الثاني لو لم نقل بنصوصيّته، و حينئذ فاللازم حمل الكلام على وقوع ذلك منه على جهة الغفلة و النسيان و نحوهما، فإمّا يدّعى لأجل ذلك الانصراف إلى خصوص الناسي، فلا معارضة كالأولى، و إمّا يقال بالعموم للجاهل بالحكم، فاللازم تقديم الصحيحة، لأجل كونها أخصّ مطلقا من هذه.

مضافا إلى أنّ اللازم سقوط التفصيل بين العلم و الجهل على تقدير تقديم هذه،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 464

إذ الجهل بناء على هذا لا خصوصيّة فيه، بل ما سوى العمد حكمه كلّية هو الإعادة في الوقت دون خارجه، مع أنّ الصحيحة نصّ في التفصيل بين العالم بالحكم و جاهله،

فهذه جهة أخرى لتقديم الصحيحة المزبورة غير جهة العموم المطلق، و إذن فتعيّن كون الحكم في الجاهل بالحكم في مسألة من أتمّ في مقام القصر هو الإجزاء و عدم الإعادة، لا في الوقت و لا في خارجه.

بقي هنا أمور ينبغي التنبيه عليها:
الأوّل: الظاهر أنّ الجواب عن الإشكال العقلي هنا ليس على نسقه في الجاهل الحكمي

في المسألة الاولى، و ذلك لأنّ الموجود هناك هو القول بتماميّة الصلاة، و ليس في هذا المقام أزيد من عدم الإعادة، و ليس مفاده بأزيد من الإجزاء و عدم البطلان، و هو غير الصحّة و التماميّة، فلا داعي هنا إلى تصوير المصلحتين الطوليتين كما كان هناك، بل يمكن تصوير الإجزاء مع وحدة المصلحة الواقعيّة، و لكن كان الفعل الصادر من الجاهل مفوّتا لموضوعها، بحيث لا يمكن استيفاء المصلحة بالإعادة أو القضاء، فلا يلزم دور كما هو واضح، و يصحّ الحكم بعقوبة الجاهل المقصّر و سقوط الإعادة عنه في الوقت و خارجه.

الثاني- معنى الجهل بالحكم:

الجاهل تارة يكون جهله بأصل حكم القصر في السفر، و أخرى يكون بمفهوم السفر بعد العلم بأصل الحكم، بأن تخيّل أنّ مفهوم السفر غير متحقّق إلّا بعشرة فراسخ، أو تخيّل عدم تحقّقه في أربع فراسخ مع قصد الرجوع ليومه و نحو ذلك، و ثالثة يكون بموضوع السفر، كأن تخيّل أنّ المسافة إلى المكان الفلاني أقلّ من ثمانية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 465

و كان واقعا ثمانية أو أزيد، فهل الحكم بعدم الإعادة عامّ للجميع أو خاصّ بالبعض؟

لا إشكال في دخول الأوّل، كما لا إشكال في خروج الأخير، فلا بدّ من المشي فيه على القواعد.

و أمّا الوسط فربما يقال بأنّ قوله عليه السّلام: و لم يعلمها، شامل له، فإنّ تفسير قوله تعالى وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ «1» الآية. كما يحتاج إلى فهم المراد من الجزاء أعني: فليس عليكم جناح، كذلك يحتاج إلى فهم الشرط و هو الضرب في الأرض، فأيّ الأمرين لم يعلم يصدق عليه قوله عليه السّلام: و لم يعلمها، و لكنّ الظاهر بملاحظة صدر الصحيحة كون المراد هو

العلم و الجهل بخصوص المراد من، ليس عليكم جناح، و أنّه الوجوب، لا ما يوهمه ظاهر لفظه من الترخيص، فيكون الجاهل بغير ذلك من سائر الكيفيّات خارجا عن مصبّ الكلام، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام و أمنائه العظام عليهم السّلام.

الثالث- عدم معذوريّة القصر في موضع الإتمام:

قد عرفت حكم من أتمّ في موضع القصر جهلا، و أمّا من قصّر في موضع الإتمام فالمشهور على ما نسب إليهم عدم المعذوريّة، سواء كان نسيانا للموضوع أو الحكم، أو جهلا بالحكم، كما لو لم يعلم أنّ العازم على إقامة العشرة يجب عليه الإتمام، أو نسيه، أو نسي عزمه فقصّر.

خلافا للشيخ نجيب الدين بن سعيد في الجامع، حيث نفى عنه الإعادة، و استدلّ عليه في خصوص صورة الجهل بصحيحة منصور بن حازم عن

______________________________

(1) النساء: 101.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 466

أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام بها عشرة فأتمّ الصلاة، فإن تركه رجل جاهلا فليس عليه الإعادة» «1».

و بما رواه الشيخ بسند صحيح و الصدوق بأسانيد صحاح كلّها عن محمّد بن إسحاق الثقة عن أبي الحسن عليه السّلام «قال: سألته عن امرأة كانت معنا في السفر و كانت تصلّي المغرب ركعتين ذاهبة و جائية؟ قال عليه السّلام: ليس عليها قضاء» «2»، أو ليس عليها إعادة، على اختلاف الروايات.

و حقّ الكلام في المقام أن يقال: إنّ هاتين الروايتين ليستا بمثابة الرواية السابقة في عكس المسألة، حيث قلنا: إنّ نفي الإعادة فيها كالنصّ في إرادة نفي الإعادة في الوقت، بمعنى كون الصلاة مجزية في مقابل إثبات الإعادة الراجع إلى بقائه تحت أمر «صلّ».

وجه الفرق أمّا في الرواية الثانية فواضح، حيث إنّ مفروض الكلام انقضاء الوقت، فالمقصود من نفي الإعادة نفي القضاء.

و

أمّا في الأولى: فللفرق بين قولنا: من صلّى قصرا في موضع التمام جهلا فلا إعادة عليه، و بين قولنا: الذي يزمع الإقامة يجب عليه الإتمام، فمن تركه جهلا فلا إعادة عليه.

فالظاهر من الأوّل لو لم يكن صريحه هو نفي الإعادة في الوقت و الإجزاء عن أمر «صلّ» الموجود في الوقت.

و أمّا الثاني فتعبير الترك نظير تعبير الفوت، غاية الأمر اعتبار وجود

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 467

المقتضي في الثاني دون الأوّل، فكما أنّ الفوت لا يتحقّق إلّا بعد خروج الوقت فلا يقال لمن لم يمض عليه الوقت و لو قصّر الصلاة: إنّه قد فات منك الإتمام الذي هو تكليفك، فكذا لا يقال له: إنّك تركت وظيفتك و هو الإتمام، بل يقال: فعلك خلاف الوظيفة، و إنّما يطلق ترك الوظيفة إذا مضى عليه الوقت مقتصرا على الفعل المذكور.

فإن قلت: لعلّ الإطلاق المزبور من قبيل إطلاق الترك بالنسبة إلى الركوع أو الجهر إذا تركهما المصلّي في موضعهما و لو لم يمض عليه الوقت، فهاهنا أيضا يصحّ بملاحظة ترك الركعتين الأخيرتين، لأنّه لم يأت بهما في محلّهما من الصلاة الشخصيّة.

قلت: ليس المنظور في الرواية صلاة شخصيّة حتّى يقال: تركت إتمامها، بل المنظور إتمام الصلاة الكلّية الذي هو محطّ التكليف، و لا شكّ أنّ الترك إذا نسب إلى هذا المفهوم الكلّي فمعناه تركه في مجموع الوقت المضروب له.

نعم ليس للعبارة عموم بالنسبة إلى الترك الرأسي الغير المجامع مع فعل الصلاة المقصورة، بل المتبادر منها ترك الصلاة التامّة و الإتيان بالمقصورة، فكأنّه قيل:

الذي يقصّر صلاته و لا

يأتي بما هو وظيفته من التمام فليس عليه إعادة، و لا يخفى أنّه غير شامل لمن لم يأت بشي ء أصلا.

إذا عرفت هذا فنقول: الجاهل المذكور لو تنبّه المسألة في الوقت يجب عليه الإعادة على حسب القاعدة، و ليس هنا ما يدلّ على خلاف ما اقتضته القاعدة.

نعم لو استمرّ جهله إلى انقضاء الوقت فالروايتان دالّتان على سقوط القضاء مع صحّة سنديهما.

و أمّا الخدشة بإعراض مشهور الأصحاب عن العمل بهما و رميهما إلى الشذوذ فإن كان المقصود أنّ المشهور لم يفتوا بسقوط الإعادة في الوقت فليس هذا مستفادا من الروايتين أيضا، لأنّ مفادهما نفي القضاء خارج الوقت.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 468

و إن كان المقصود أنّهم لم يفتوا حتّى بنفي القضاء خاصّة عمّن استمرّ جهله إلى انقضاء الوقت فلا بدّ من التتبّع و الفحص، إذ يحتمل كون نظر المشهور في قولهم:

الجاهل كالعامد في عدم المعذوريّة إلّا في مسألتين إلى خصوص مسألة الإجزاء عن الأمر الصلاتي على ما هو مقتضى القاعدة العقليّة من عدم الإجزاء مع الإخلال بالمأمور به جزءا أو شرطا، لا إلى الأعمّ منه و من الإجزاء عن أمر القضاء الذي دلّ عليه عموم: من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته.

فإن علم أنّ نظرهم إلى خصوص الأوّل، أو لم يثبت من كلماتهم أزيد منه فلم يثبت حينئذ إعراضهم عن مضمون الروايتين، و يبقى حينئذ مزاحمتها مع عموم دليل القضاء، و هو سهل، إمّا لارتكاب التخصيص في عمومه، و إمّا لعدم تسليم العموم له و كونه حكما جهتيا ناظرا إلى بيان الكيفيّة في مورد الثبوت.

و يظهر الثمر في أنّه على التخصيص لا بدّ من الاقتصار على مورد الروايتين، فلا يجوز التعدّي إلى سائر أفراد الجاهل في مسألة

القصر و الإتمام فضلا عن الناسي، و على تقدير عدم العموم يكون حكما ساريا في الجميع حتّى الناسي كما هو واضح.

و إن علم أنّ نظرهم شامل للأمر القضائي أيضا فيكون هذا إعراضا منهم عن العمل بالروايتين، و يشكل حينئذ التمسّك بهما، لما تقرّر في محلّه من أنّ الإعراض يوجب الوهن، بل كلّما ازدادت الرواية صحّة يزداد بالإعراض و هنا، لسقوطها عن الأصل العقلائي الجاري في إحراز جهة الصدور الذي هو من شرائط الأخذ بالرواية، مضافا إلى إحراز أصل الصدور.

الأمر السادس- الجاهل و الناسي للنجاسة في الثوب أو البدن:
اشارة

و من موارد حكمهم بصحّة صلاة الجاهل و الناسي و عدم لزوم الإعادة عليهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 469

الجاهل بموضع النجاسة في الثوب أو البدن و الناسي لهما.

و تفصيل الكلام في المسألة يقتضي الكلام في مقامات ثلاثة:

الأوّل: في الجاهل إلى أن يفرغ من الصلاة.

و الثاني: في من زال جهله في أثناء الصلاة.

و الثالث: في الناسي.

أمّا المقام الأوّل [في الجاهل إلى أن يفرغ من الصلاة]
اشارة

فاعلم أنّ من صلّى جاهلا بالموضوع بأن لم يعلم أنّ ثوبه أو بدنه لاقى البول مثلا و لم يلتفت أصلا، أو التفت بعد الفراغ من الصلاة صحّت صلاته و لا يجب عليه القضاء، بل و لا الإعادة في الوقت على المشهور.

و قيل: يعيد في الوقت خاصّة.

و قيل: يعيد وقتا و خارجا.

و قيل بالتفصيل بين من اجتهد قبل الصلاة في البحث عن طهارة ثوبه و غيره، فلا يعيد الأوّل، و يعيد الثاني.

و قبل الشروع في الاستدلال ينبغي بيان مطلب و هو أنّه اشتهر التمسّك للقول المشهور بصحيحة زرارة الطويلة المذكورة في مبحث الاستصحاب من الأصول، و الحقّ خلافه و أنّه لا يجوز التمسّك بها لهذه المسألة، و ينبغي أوّلا التيمّن بذكرها و تقريب الاستدلال، ثمّ بيان النظر فيه.

أمّا الصحيحة فهي مضمرة زرارة «قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شي ء من المني، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فحضرت الصلاة فنسيت أنّ بثوبي شيئا و صلّيت، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال عليه السّلام: تعيد الصلاة و تغسله، قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه و علمت أنّه أصابه فطلبته و لم أقدر عليه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 470

فلمّا صلّيت وجدته؟ قال عليه السّلام: تغسله و تعيد، قلت: فإن ظننت أنّه أصابه و لم أتيقّن

ذلك فنظرت و لم أر شيئا فصلّيت فيه، فرأيت فيه؟ قال عليه السّلام: تغسله و لا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك؟ قال عليه السّلام: لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا» «1».

و لا يخفى أنّ الرواية تامّ الدلالة على مقالة المشهور لو لا التذييل بالسؤال و الجواب الأخيرين كما لا يخفى.

و أمّا بملاحظته فالتمسّك بها محلّ إشكال، إذ من الظاهر أنّ نفي وجوب [الإعادة] حسب استدلال الإمام عليه السّلام من صغريات الكبرى المذكورة، بمعنى أنّ الإعادة وجه عدم وجوبها كونها من مصاديق نقض اليقين بالشكّ، و من المعلوم أنّه بناء على تنزيل الرواية على مورد كلام المشهور من صورة العلم بعد الصلاة لوقوعها في النجاسة ليست الإعادة إلّا من مصاديق نقض اليقين باليقين.

فنحتاج لدفع هذا الإشكال إلى تمحّل أنّ الاستدلال بلحاظ كبرى اخرى كانت مرتكزة للسائل، أو أريد تنبيهه إيّاها بهذا الكلام، و هي إمّا كبرى إجزاء امتثال الأمر الظاهري مطلقا، أو في خصوص المقام، و إمّا كبرى أنّ الإحراز هو الشرط الواقعي، فإذا كانت الطهارة محرزة بالاستصحاب عند الدخول في الصلاة فقد وجد الشرط واقعا.

و كلا التوجيهين بعيد غاية البعد و إخراج للكلام عن متفاهم أهل العرف، مضافا إلى مخالفة الرواية على هذا التقدير لسائر النصوص الناصّة في أنّ جهة الحكم

______________________________

(1) التهذيب 1: 421- 1335، و أورد صدره في الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 7 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 471

بالصحّة و عدم الإعادة هو عدم العلم بالنجاسة حين الصلاة، و هذا يدلّ على أنّ الجهة هو إحراز الطهارة، إمّا لقاعدة الإجزاء، و إمّا لشرطيّة الإحراز.

و طريق السلامة عن الإشكال

حمل الرواية على صورة رؤية النجاسة بعد الصلاة بدون العلم بسبقها على الصلاة، بل كونها مردّدة بين السابقة و المتجدّدة بعد الصلاة، و من المعلوم أنّ الإعادة حينئذ من صغريات نقض اليقين بالشكّ بلا تمحّل أصلا.

نعم يبقى على هذا أيضا إشكال أنّ اللازم كون الطهارة شرطا واقعيّا، و مقتضى الأخبار كون المعتبر عدم العلم بالنجاسة.

فيقال في دفعه بأنّ من الممكن كون الشرط أحد الأمرين على سبيل منع الخلوّ، إمّا الطهارة الواقعيّة، و إمّا عدم العلم بالنجاسة، و هذا المقدار كاف لصحّة جريان الاستصحاب.

و هذا الجواب و إن كان متمشّيا على الحمل الأوّل أيضا لدفع إشكال المنافاة مع الأخبار، إلّا أنّه إذا دار الأمر مع ذلك بين ارتكاب ذلك التمحّل البعيد عن أذهان العرف و بين حمل قول السائل: فرأيت فيه، على هذا المعنى مع كونه ظاهرا في رؤية النجاسة السابقة، فإن لم أقل بتعيّن الثاني فلا أقلّ من مساواته مع الأوّل، و كفى ذلك في سقوط الرواية عن الاستدلال.

فالإنصاف أنّ المسألة غنيّة عن الاستدلال بهذه الرواية المجملة، لتظافر الأخبار الواردة بنفي الإعادة عند عدم العلم بالنجاسة إلّا بعد الفراغ.

منها: رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين، ثمّ علم به؟ «قال عليه السّلام: عليه أن يبتدئ الصلاة، قال: و سألته عن رجل يصلّي و في ثوبه جنابة أو دم حتّى فرغ من صلاته ثمّ علم؟ قال عليه السّلام: مضت صلاته

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 472

و لا شي ء عليه» «1».

و منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام:

عن الرجل يصلّي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور

أو كلب، أ يعيد صلاته؟

قال عليه السّلام: إن كان لم يعلم فلا يعيد» «2».

و منها: حسنة عبد اللّٰه بن سنان أو صحيحته «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال عليه السّلام: إن كان قد علم أنّه أصاب ثوبه جنابة أو دم قال عليه السّلام: إن كان قد علم أنّه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن يصلّي ثمّ صلّى فيه و لم يغسله فعليه أن يعيد ما صلّى، و إن كان لم يعلم به فليس عليه إعادة» «3». الحديث.

و منها: صحيح إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليهما السّلام قال في الدم يكون في الثوب: «إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، و إن كان أكثر من قدر الدرهم و كان رآه فلم يغسله حتّى صلّى فليعد صلاته، و إن لم يكن رآه حتّى صلّى فلا يعيد الصلاة» «4».

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام برواية الشيخ، و عن أبي جعفر عليهما السّلام برواية الصدوق «قال: ذكر المني فشدّده فجعله أشدّ من البول ثمّ قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 473

نظرت في ثوبك فلم تصبه و صلّيت فيه ثمّ رأيته بعد ذلك فلا إعادة عليك، و كذلك البول» «1».

و منها: رواية أبي بصير عن

أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلّى فيه و هو لا يعلم فلا إعادة عليه، و إن هو علم قبل أن يصلّي فنسي و صلّى فيه فعليه الإعادة» «2».

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر المرويّة عن قرب الإسناد عن أخيه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتّى إذا كان من الغد، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلّي و لا ينقص منه شي ء، و إن كان رآه و قد صلّى فليعتدّ بتلك الصلاة ثمّ ليغسله» «3».

و دلالة الكلّ كالسند في غالبها غير قابلة للخدشة.

لكن قد يقال بأنّها معارضة بأخبار أخر مفصّلة بين صورة النظر و الفحص و عدم العثور و صورة تركه بعدم الإعادة في الاولى و ثبوتها في الثانية.

مثل رواية ميسّر «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني، فلا تبالغ في غسله، فأصلّي فيه فإذا هو يابس؟ قال عليه السّلام: أعد صلاتك، أما إنّك لو كنت غسلته أنت لم يكن عليك شي ء» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 16 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 7.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 10.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 18 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 474

و مثل رواية ميمون الصيقل عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت له: رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل، فلمّا أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة، فقال: الحمد للّٰه الذي لم يدع شيئا إلّا و له

حدّ- إلّا و قد جعل له حدّا، حدائق-، إن كان حين قام نظر فلم ير شيئا فلا إعادة عليه، و إن كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة» «1».

و مرسل الصدوق قدّس سرّه «قال: قد روي في المني أنّه إن كان الرجل حيث «2» قام نظر و طلب فلم يجد شيئا فلا شي ء عليه، فإن كان لم ينظر و لم يطلب فعليه أن يغسله و يعيد صلاته» «3».

و مفهوم صحيحة ابن مسلم المتقدّمة: «و إن أنت نظرت في ثوبك» إلخ، و على هذا فيقيّد بهذه الروايات إطلاق تلك.

و قد يخدش في هذا الجمع بعدم ظهور هذه في التقييد، أمّا رواية ميسر فلأجل أنّه فرض الجارية غير مبالية، فالمقصود من الجواب الإرشاد إلى أنّه لا ينبغي إيكال أمر تطهير الثوب إلى من لا يبالي، بل لا بدّ من مباشرة الإنسان نفسه أو من يثق به حتّى لا يبتلي بالإعادة بحكم استصحاب النجاسة الجارية في حقّه.

فإن قلت: كيف يجري الاستصحاب و الحال أنّ أصالة الصحّة في فعل المسلم يقتضي الحكم بالطهارة، فليس الوجه في التفصيل إلّا الفرق بين الفحص و النظر و عدمه.

قلت: لا نسلّم إجراء الأصل في مثل هذه الموارد ممّا يكون الفاعل ممّن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) في الحدائق: حين قام، منه قدّس سرّه.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 475

لا يبالي، فالرواية ساكتة عن حكم ما إذا دخل في الصلاة دخولا مشروعا و هو محلّ الكلام، بل لعلّ ذيله يدلّ على المطلوب من حيث إنّه يدلّ على أنّه لو غسله نفسه فحصل له العلم أو الاطمئنان بالطهارة لم

يكن عليه شي ء، و إطلاقه شامل لما إذا ظهر حينئذ بعد الصلاة نجاسة المني في ثوبه.

و أمّا بقيّة الروايات فلا يخفى أنّ موردها الذي يحتلم في ثوبه، و من المعلوم أنّه يحصل العلم أو الاطمئنان بتلوّث الثوب بشي ء من المني حينئذ، فلو ترك الفحص و صلّى فقد دخل مع اطمئنان النجاسة، فيخرج أيضا من محلّ الكلام و هو الدخول المشروع، ففرض النظر و الفحص في هذه الروايات لأجل تحقّق المشروعيّة لأصل الدخول حتّى تكون الصلاة بعد ذلك لو ظهر وقوعها في النجاسة محكومة بالصحّة و عدم الإعادة.

و حقّ الكلام أن يقال بأنّه لا إطلاق في أخبار الباب، أعني: ما لم يذكر فيه قيد النظر، ليشمل ما قبل الفحص حتّى يحتاج إلى التقييد بهذه الأخبار المدّعى دلالتها على التقييد بل الظاهر المنصرف منها إنّما هو صورة الفحص و ذلك لأنّ الحكم فيها قد علّق على عدم العلم بالنجاسة، و لا يطلق أنّ فلانا لا يعلم كذا إلّا بعد ما تفحّص عن المظانّ الممكنة له بسهولة بلا حرج بحسب المتعارف، و أمّا إذا لم يتفحّص بهذا المقدار فهو و إن كان لغة غير عالم بأحد الطرفين و مردّدا بينهما، إلّا أنّ الإطلاق منصرف عن مثله.

و لهذا يقال بأنّ الأحكام المجعولة لعنوان الشكّ سواء في الشكوك الصلاتيّة أم في غيرها من الشبهات الموضوعيّة أم الحكميّة كلّها منصرفة إلى الشاكّ المتفحّص في مظانّه، و غير شاملة لغيره، فلا يحتاج في إيجاب الفحص إلى التشبّث بدليل خارجي، بل هو على طبق القاعدة، فيكون خلافه أعني: عدم وجوب الفحص في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 476

إجزاء الحكم الظاهري الذي نقول به في مطلق الشبهات الموضوعيّة التحريميّة، و في خصوص الموضوعيّة

من باب الطهارة و النجاسة محتاجا إلى التماس دليل من خارج من إجماع و أخبار، كما دلّ بعض الأخبار في خصوص باب الطهارة و النجاسة على عدم وجوب الفحص، مثل صحيحة زرارة المتقدّم بعض فقرأتها، و مثل قوله عليه السّلام:

حتّى ترى في منقاره دما.

و على هذا نقول: هنا حكمان علّق كلّ منهما في دليله على عدم العلم بالنجاسة، أحدهما: الحكم الظاهري بجواز الدخول في الصلاة ثمّ عدم الإعادة لما صلّاه ما لم ينكشف الخلاف، و هذا الحكم قد علمنا من الإجماع و النصّ عدم تقييده بالفحص.

و الآخر: الحكم الواقعي بأجزاء الصلاة الواقعة في النجاسة إذا انكشف ذلك بعد الصلاة و كان غير عالم بها قبلها و في أثنائها، و هذا الحكم باق على ما قلنا من انصرافه إلى صورة الفحص و النظر.

و لا منافاة بين كون الموضوع في الحكم الظاهري هو الأعمّ، و في الحكم الثانوي المرتّب على انكشاف خلاف ذلك الحكم الظاهري هو الأخصّ، كما في باب الصوم، حيث يجوز لمن لم يتفحّص عن العجز مع الشكّ فيه الأكل و الشرب و مع ذلك يفصّل في المعذوريّة عن القضاء بين من تفحّص عنه و غيره.

و بالجملة، لا دلالة في أخبار الباب إلّا على أنّ من كان في ثوبه جنابة أو دم و هو لا يعلم بذلك أو لم يره على حسب اختلافها في التعبير، فلا إعادة عليه لو انكشف له ذلك بعد الصلاة، و المدّعى عدم شمول هذا العنوان للشاكّ الذي لم يتفحّص مع تمكّنه منه بسهولة بلا حرج عرفي، بل أفراده منحصر في الغافل و الجاهل المركّب و الجاهل البسيط الذي تفحّص بالمقدار الميسور.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 477

نعم موضوع الحكم الظاهري

هو خصوص الجاهل البسيط، سواء القادر على الفحص و العاجز، و سواء تفحّص القادر أم لم يتفحّص.

و على هذا فالمانع عبارة عن النجاسة الواقعيّة المعلومة أو المشكوكة الغير المتفحّص عنها، و غيرها غير مانع واقعا، فالصلاة متقيّدة واقعا بعدم كونها مع النجاسة المعلومة أو المشكوكة الغير المتفحّص عنها، سواء وقعت مع الطهارة الواقعيّة أم مع النجاسة الواقعيّة المنفكّة عن العلم و الشكّ المذكور، هذا.

نعم لو اعتمدنا في المسألة على صحيحة زرارة المشتملة على التعليل المتقدّم كانت ظاهرة في اتّحاد الموضوع في الحكمين المذكورين، و حيث فرضنا أنّ الموضوع في القاعدة الظاهريّة هو الشكّ الأعمّ كان في الثاني أيضا ذلك، و لكن قد مرّ الإشكال في الاعتماد عليها.

هذا مضافا إلى أنّ قوله في صحيحة ابن مسلم المتقدّمة: و إن أنت نظرت إلخ تامّ الدلالة على تقييد الحكم بالنظر، و إلّا لكان ذكره في الكلام لغوا، لإمكان الاكتفاء بقوله: و إن لم تره و صلّيت إلخ، مع كونها صحيحة.

فلا نعلم وجه لما أفاده شيخنا المرتضى قدّس سرّه في المقام، حيث إنّه بعد ما ذكر الروايات التي استند إليها المفصّل بين الفحص و عدمه قال: إلّا أنّ ما هو صريح من هذه الروايات غير نقيّة السند، و ما هو نقيّ السند غير صريحة، بل و لا ظاهرة.

إلى أن قال ما حاصله: إنّ هذه الروايات لا تنهض لتقييد إطلاقات الأخبار، و قد عرفت الخدشة في كلا الكلامين، و اللّٰه العالم بحقيقة أحكامه.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 477

تنبيه:

لا يخفى أنّه بناء على ما اشتملت عليه الأخبار المتقدّمة يلزم أن يكون الشرط الواقعي للصلاة هو أحد الأمرين، إمّا الطهارة الواقعيّة،

و إمّا عدم العلم بالنجاسة بالمعنى الذي عرفت.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 478

فقد يستشكل حينئذ أنّه لا يبقى مجال لجريان الاستصحاب و قاعدة الطهارة، و كذا لا يبقى مجال لحجّية البيّنة، فإنّ الأصل و الأمارة الظاهريّة إنّما يجريان إذا كان الأثر مرتّبا على نفس الواقع، و في المقام يكون عدم العلم المتحقّق بالنسبة إلى الملتفت الشاكّ بعد الفحص في عرض الواقع موضوعا واقعيّا للشرطيّة، فلا معنى معه للتمسّك بالأصل و الأمارة لإحراز موضوع الشرط الواقعي، و الحال أنّ من المسلّم إجرائهما من غير فرق بين ما قبل الفحص و ما بعده، بل صحيحة زرارة ناصّة في إجراء قاعدة لا تنقض بعد الفحص، لكونه مفروض السؤال فيها.

إلّا أن يقال هنا بنظير ما قلنا في مسألة الجهل الحكمي بالقصر في السفر و الإتمام في موضع القصر، فيقال بأنّ هنا مصلحتين طوليّتين، إحداهما قائمة بالصلاة الواجدة للطهارة الواقعيّة في الثوب و البدن، و هذه متقيّدة بالوجود الأوّل للطبيعة، بحيث لو فرض وجودها في ضمن الوجود الأوّل خالية عن هذا الشرط ينعدم موضوع هذه المصلحة، و الأخرى قائمة بالصلاة الفاقدة، لكن في حقّ خصوص من كان إمّا غافلا ابتدائيّا، أو جاهلا مركّبا، أو مرخّصا شرعيّا بعد الفحص و النظر.

فصلاة أحد هؤلاء و لو وقعت مع النجاسة كانت صحيحة مجزية واجدة للمصلحة الملزمة، بخلاف العامد و الناسي، و غير المرخّص أو المرخّص الغير المتفحّص من الشاكّين.

المقام الثاني- في من صلّى في النجس جاهلا و علم بذلك في الأثناء:

و هذا له صورتان:

الاولى: أن يعلم بسبق النجاسة بحيث يقطع وقوع صلاته إلى الموضوع الذي وصل إليه في النجاسة إمّا كلّا و إمّا بعضا.

و الثانية: أن لا يعلم بذلك، بحيث يحتمل وقوع تمام ما مضى من الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 479

في الطهارة.

و لا شبهة في الصورة الأخيرة بعد وضوح أنّ شرطيّة الطهارة الخبثيّة إنّما هي في الأفعال لا في الأكوان كالحدثيّة.

ثمّ إن أمكن التبديل أو التطهير بدون فعل المنافي يأتي ببقيّة الصلاة، و إلّا فمع سعة الوقت يستأنف، و مع الضيق يتمّ الصلاة، و الظاهر عدم الخلاف في شي ء من ذلك، مضافا إلى كونه مطابقا للقاعدة.

و إنّما الإشكال في الصورة الأولى، وجه الإشكال أنّ الذي يظهر منهم التسالم عليه عدم القول بالتفصيل بين هذه المسألة و مسألة الجاهل إلى ما بعد الصلاة في الحكم بالصحّة و البطلان، و أنّ كلّ من قال هناك بالصحّة يقول بها هنا، و كلّ من يقول بالبطلان هناك يقول به هنا.

و أمّا الصحّة هناك و البطلان هنا فلم يعهد من أحد، بل في الجواهر أنّه خرق للإجماع، و لكنّ الذي يساعده الأخبار هو التفصيل بينهما بالصحّة هناك كما عرفت، غاية الأمر مع الفحص و النظر و البطلان ها هنا مطلقا، و ذلك لقوله عليه السّلام في صحيحة زرارة الطويلة بعد ما قال له زرارة: إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة «قال عليه السّلام:

تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، و إن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة و غسلته ثمّ بنيت على الصلاة، لأنّك لا تدري لعلّه شي ء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ» «1».

تقريب الاستدلال أنّ التعليل في ذيل الكلام حكمه بالصحّة بأنّه لعلّه شي ء إلخ يفيد أنّ وجه الحكم بالصحّة في الصورة الأخيرة في كلامه، أعني ما أشار عليه السّلام إليه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 46 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 480

بقوله: و

إن لم تشكّ، هو احتمال عدم وقوع جزء ممّا مضى من الصلاة في النجاسة، و هذا فيه دلالة ظاهرة على أنّ المعيار في طرف البطلان هو العلم بوقوع شي ء من الأجزاء السابقة في النجاسة من غير مدخليّة للفحص و النظر و عدمه.

و من هنا يظهر وجه التقييد في الشقّ الأوّل بقوله عليه السّلام: إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، فإن النكتة في هذا أنّه إذا حصل للشخص شكّ في موضع من ثوبه إمّا قبل الصلاة أو في الصلاة بأن أحسّ مثلا برودة في محلّ منه فشكّ في أنّه هل هو برودة البول مثلا أو شي ء آخر، ثمّ رآه بعد دخوله في الصلاة و إتيانه ببعض أجزائها يحصل له القطع بأنّه هو ذلك الشي ء الذي أحسّه من قبل و احتمل كونه بولا، فيورث ذلك القطع بوقوع مقدار من صلاته في النجاسة، فالتقييد أيضا مسوق لأجل إفادة هذا القطع، فالمعيار هو هذا القطع و لو انفكّ عن الشكّ المذكور.

كما أنّ النكتة في التقييد بقوله: رطبا في الشقّ الآخر أيضا هي الإشارة إلى احتمال الوقوع جديدا في تلك الحالة، فالمعيار هذا و لو انفكّ عن الرطوبة.

و بالجملة، فالرواية صدرا و ذيلا ظاهرة الدلالة في الحكم بالإعادة و البطلان مع العلم بوقوع شي ء من الصلاة في النجاسة، بحيث لا فرق بين الفحص و عدمه، و إلّا لأشير إليه في التعليل أو في التقييد، هذا مع أنّ موثّقة أبي بصير عن الصادق عليه السّلام عن رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين، ثمّ علم به «قال عليه السّلام: عليه أن يبتدئ الصلاة» «1» دالّة أيضا على لزوم الإعادة.

نعم روى الشيخ عن داود بن سرحان عن الصادق عليه السّلام «في

الرجل يصلّي فأبصر في ثوبه دما؟ قال عليه السّلام: يتمّ» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 44 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 481

و روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا عن كتاب الحسن بن علي بن محبوب عن ابن سنان عن الصادق عليه السّلام «قال: إن رأيت في ثوبك دما و أنت تصلّي و لم تكن رأيته قبل ذلك فأتمّ صلاتك، فإذا انصرفت فاغسله، و إن كنت رأيته قبل أن تصلّي فلم تغسله ثمّ رأيته بعد و أنت في صلاتك فانصرف و اغسله و أعد صلاتك» «1».

و هذان لم يعمل بظاهرهما و هو الإتمام في النجس و لو مع إمكان التبديل أو التطهير بلا فعل مناف أو سعة الوقت للإعادة أحد من الأصحاب.

فينحصر مدرك ما ذهبوا إليه من الإتمام مع الذي ذكرنا في صحيحة ابن مسلم عن الباقر عليه السّلام أنّه «قال له: الدم يكون في الثوب عليّ و أنا في الصلاة؟ فقال عليه السّلام:

إن رأيته و عليك ثوب غيره فاطرحه و صلّ في غيره، و إن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك فلا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، فإن كان أقلّ من درهم فليس بشي ء رأيته أو لم تره» «2».

هكذا رواه الصدوق و الكافي، و أمّا الشيخ رحمه اللّٰه فإنّه رواه هكذا: «و ما لم يزد على مقدار الدرهم فليس بشي ء رأيته أو لم تره» «3».

و الإنصاف عدم إمكان التمسّك بهذه الرواية للمشهور على شي ء من الروايتين، أمّا على الرواية الاولى و هي جعل قوله عليه السّلام: ما لم يزد إلخ من تتمّة السابق فلأنّه

لا يخلو إمّا أن يكون قيدا لكلتا الفقرتين المتقدّمتين أعني: قوله عليه السّلام:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 44 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 6.

(3) التهذيب 1: 254- 736.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 482

إن رأيته و عليك ثوب غيره إلخ، و قوله عليه السّلام: و إن لم يكن عليك ثوب غيره إلخ، أو لخصوص الأخيرة، و لا ثالث لهذين كما هو واضح.

فإن كان الأوّل حتّى يكون المعنى إناطة وجوب الطرح في حال عدم انحصار الثوب، و المضيّ في حال انحصاره بعدم الزيادة على مقدار الدرهم، فلا يخفى عدم صحّة الإناطة في كليهما، لعدم إناطة وجوب الطرح بعدم الزيادة، كما لا اختصاص لوجوب المضيّ مع عدم الزيادة بحال الانحصار.

و أمّا على الثانية، فلأنّه يلزم بحكم المفهوم بتنزيل الشقّين المذكورين على صورة الزيادة على مقدار الدرهم.

و حينئذ و إن كان يستقيم الحكم في الشقّ الأوّل، لكنّ الحكم بوجوب المضيّ مع الانحصار لا يستقيم إلّا بقيود ثلاثة: أحدها: عدم إمكان الاستبدال، و الثاني:

عدم إمكان الغسل بلا مبطل، و الثالث: ضيق الوقت عن الإعادة لو قطع الصلاة، إذ مع فقد أحد من هذه الشروط يكون الحكم بالمضيّ مخالفا للإجماع.

فهذه الرواية مع هذا الاضطراب كيف يمكن جعلها معارضة لصحيحة زرارة الصريحة في البطلان مع التصريح في صدرها بخصوص الدم، بل كان المتيقّن هو العمل بتلك الصحيحة لو لا مخالفة مضمونها أيضا لإجماع الأصحاب على ما هو الظاهر من الكلمات، حيث يظهر منها أنّ الجهل بالنجاسة المستمرّ إلى الآخر، و المنقطع في الأثناء حكمها واحد في العذر و العدم. هذا ما استفدته من مجلس بحث الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه.

ولي فيه نظر،

حاصله أنّ الظاهر أنّه عليه السّلام بمقام تعداد أنحاء تمكّن إتمام الصلاة معها و التنبيه على طرق صحّتها، فنبّه عليه السّلام أوّلا بأنّه إن كان عليه ثوب آخر يستر به عورته يطرح هذا الثوب و يتمّ صلاته في ذلك الآخر، و هذا صريح في أنّ النجاسة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 483

السابقة غير مضرّة بصحّة الصلاة، ثمّ فرض عليه السّلام انحصار ثوبه بذلك النجس، و لمّا كان الغالب تعذّر الاستبدال أو الغسل بلا لزوم مناف سكت عنه، ثمّ بيّن وجها آخر لصحّة الصلاة، و هو أنّه مع فرض عدم إمكان رفع النجاسة أيضا يصحّ الصلاة في صورة أقلّية الدم عن مقدار الدرهم، و مفهوم هذا هو أنّه مع كونه أزيد من ذلك لا يبقى وجه لصحّة الصلاة.

و أمّا قوله عليه السّلام في الذيل: إن رأيت المني قبل أو بعد إلخ فلا ينافي ما حكم به في الصدر من الحكم بالصحّة، لأنّ المفروض فيه بقرينة الشقّ الآخر الذي جعله بديل هذا أعني قوله: و إذا أنت نظرت إرادة صورة عدم الفحص و النظر، و قد قلنا:

إنّه يجب الإعادة مع ذلك في الجهل المستمرّ إلى آخر الصلاة أيضا، فيكون هذا مقيّدا لإطلاق الصدر و يكون محصّل المراد الحكم بصحّة الصلاة مع الجهل بالنجاسة إلى أثناء الصلاة إذا كان مسبوقا بالفحص و النظر مع الالتفات إليه قبل الصلاة، ثمّ إن أمكن إلقاء ذلك الثوب فهو، و إن لم يمكن فإن كان النجاسة من الدم المعفوّ عنه فهو أيضا، و إن لم يكن الإلقاء و لا كان النجاسة الدم المذكور و بحسب الغالب يتعذّر الاستبدال و الغسل بدون المنافي أيضا تعيّن حينئذ بطلان الصلاة، و هذا هو المفتي

به عند الأصحاب.

نعم يبقى معارضة الرواية مع صحيحة زرارة الناصّة بأنّ النجاسة السابقة بواقعيّتها مضرّة بالصلاة، و قد عرفت نصوصيّة هذه الرواية بعدم الإضرار إذا كانت مجهولة، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور و إليه المرجع في المعسور و الميسور.

المقام الثالث- في حكم من صلّى في النجاسة نسيانا:
اشارة

و قد اختلفت في ذلك الأخبار، و بذلك اختلفت كلمة العلماء و الأخيار، فمنهم من قال بالإعادة وقتا و خارجا و هم المشهور، و منهم من قال بعدمها مطلقا،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 484

و فصّل ثالث بين الوقت و خارجه بالإعادة في الأوّل و عدمها في الثاني، و ذهب رابع إلى الحكم باستحباب الإعادة.

و الأولى التيمّن أوّلا بذكر أخبار المسألة فنقول و على اللّٰه التوكّل:

منها: صحيحة زرارة «قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من المني، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فحضرت الصلاة و نسيت أنّ بثوبي شيئا و صلّيت، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك، قال عليه السّلام: تعيد الصلاة و تغسله» «1».

و منها: حسنة محمّد بن مسلم الواردة في الدم حيث «قال عليه السّلام: و إن كنت قد رأيته و هو أكثر من مقدار درهم فضيّعت غسله و صلّيت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صلّيت فيه» «2».

و منها: رواية أبي بصير في الدم أيضا «قال عليه السّلام: و إن علم قبل أن يصلّي و نسي فعليه الإعادة» «3».

و منها: رواية سماعة عن «الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتّى يصلّي؟ قال عليه السّلام: يعيد صلاته كي يهتمّ بالشي ء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه» «4».

و منها: صحيحة الجعفي في الدم أيضا «قال عليه السّلام: و إن كان أكثر من قدر درهم و كان رآه و لم يغسله

حتّى يصلّى فليعد صلاته» «5».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 6.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 7.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(5) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 485

و منها: رواية جميل بن درّاج في الدم أيضا «قال عليه السّلام: و إن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس ما لم يكن مجتمعا قدر درهم» «1».

و منها: صحيحة ابن أبي يعفور في نقط الدم يعلم به، ثمّ ينسى أن يغسله فيصلّي فيه، ثمّ تذكّر بعد ما صلّى، أ يعيد صلاته؟ «قال عليه السّلام: يغسله و لا يعيد صلاته، إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله و يعيد صلاته» «2».

و منها: رواية ابن مسكان «قال: بعثت بمسألة إلى الصادق عليه السّلام مع إبراهيم ابن ميمون قلت: اسأله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله فيصلّي فيه، ثمّ تذكّر أنّه لم يغسله؟ قال عليه السّلام: يغسله و يعيد صلاته» «3».

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن رجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتّى إذا كان من الغد، كيف يصنع؟

قال عليه السّلام: إن كان رآه و لم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلّي، و لا ينقص منه شي ء، و إن كان رآه و قد صلّى فليعتدّ بتلك الصلاة» «4».

هذه هي الأخبار الظاهرة في وجوب الإعادة وقتا و خارجا.

و أمّا ما ظاهره نفيها وقتا و خارجا فرواية واحدة هي

صحيحة العلاء عن الصادق عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي ء ينجّسه فينسى أن يغسله فيصلّي فيه، ثمّ تذكّر أنّه لم يكن غسله، أ يعيد الصلاة؟ قال عليه السّلام: لا يعيد،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 10.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 486

قد مضت الصلاة و كتبت له» «1».

و ظاهرها بقرينة قوله عليه السّلام: قد مضت الصلاة و كتبت له، عدم القضاء خارج الوقت أيضا، لعدم تحقّق الفوت في حقّه على ما يستظهر من العبارة المذكورة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ورد في خصوص نسيان الاستنجاء من البول أو الغائط بعض الأخبار الدالّ على عدم إعادة الصلاة إذا ذكر بعد الركوع و إن ورد بعض آخر بوجوب الإعادة، لكن لا يحسن عدّ تلك الأخبار من أدلّة هذه المسألة التي نحن بصددها، إذ من المحتمل اختصاص باب الاستنجاء ببعض الأحكام كما خصّ بطهارة غسالته، فيحتمل حمل الإعادة فيه على الاستحباب، و لا يوجب التعدّي إلى غير ذلك الباب، فاللازم التكلّم في خصوص الأخبار التي ذكرنا الواردة في مطلق الصلاة مع النجاسة أو خصوص الدم نسيانا.

فنقول: قد يجمع بين هذه الأخبار بحمل ما دلّ على الإعادة على الاستحباب، و لا يخفى منافاته مع التعليل في بعضها بأنّ ذلك عقوبة لنسيانه كي يهتمّ بالشي ء إذا كان في ثوبه، و قد يجمع بحمل الاولى على الوقت، و الثانية على خارجه، و هو أيضا لا يستقيم، لصراحة بعض الطائفة الأولى بإثبات القضاء كما يعلم بمراجعتها.

و

الذي احتمله شيخنا الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه أن يحمل الاولى على صورة حصول التضييع للغسل، و الثانية على غيرها.

و توضيحه أنّ الناسي تارة يكون ناسيا للموضوع أعني: ملاقاة ثوبه للنجس، أو غسل الثوب الملاقي، و اخرى يكون ناسيا للحكم، أعني: وجوب

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 487

غسل الثوب الملاقي، فالتضييع بالنسبة إلى الغسل إنّما يتحقّق في الصورة الأولى، لأنّه يتساهل في إتيانه و لا يهتمّ به حتّى ينتهي ذلك إلى نسيانه، فيصدق في حقّه أنّه قد ضيّع الغسل.

و أمّا الصورة الثانية فقد ذهل عن خاطره حكم الغسل، فلم يصدر منه بالنسبة إلى الغسل تفريط و تضييع، لأنّه فرع الالتفات إلى حكمه، نعم إنّما يصدق التضييع في الحكم، لعدم تحفّظه له، و لكن الرواية علّقت الإعادة على تضييع الغسل، و يؤيّده التعليل بالاهتمام بالشي ء إذا كان في ثوبه، هذا.

و لكن فيه أنّ صحيحة العلاء المتضمّنة لنفي الإعادة يكون مفروض السائل فيها نسيان الغسل لا نسيان حكمه، فهذا الجمع أيضا لا مساغ له، و اللّٰه العالم.

فرع: لو علم بالنجاسة المعلوم سبقها في أثناء الصلاة و ضاق الوقت عن الإزالة و الاستئناف
اشارة

و لم يمكن التبديل أو التطهير مع عدم إبطال الصلاة فهل يجب عليه الاستمرار في هذه الصلاة أو قطعها و الإزالة ثمّ القضاء؟ قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: الحقّ بناء المسألة على القولين المتقدّمين في الجهل بالنجاسة الزائل في الأثناء.

فإن قلنا بصحّة الصلاة إلى هذا الحال كما هو مفاد حسنة ابن مسلم المتقدّمة فالمسألة من جزئيّات دوران الأمر بين أصل الستر و طهارة الساتر، فمن قال هناك بأنّه يصلّي في النجس و لو لم يكن مضطرّا لبرد و نحوه إلى اللبس قال بالإتمام ها هنا أيضا مع النجس، و

من قال هناك بتعيّن إلقاء الثوب و الصلاة عاريا إلّا أن يكون ضرورة من برد و نحوه فيصلّي في النجس يقول به ها هنا و إن قلنا بالفساد كما هو مفاد صحيحة زرارة المتقدّمة فقد يقال بأنّ إطلاق صحيحة زرارة الدالّ على بطلان ما مضى حاكم بذلك في هذا الفرض أيضا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 488

و يورد عليه بأنّ الإطلاق حيثي غير ناظر إلى أصل تشريع الشرطيّة في حال الجهل الزائل في الأثناء، لا بالنسبة إلى حال مزاحمته مع شرطيّة الوقت، فإنّ الأمر حينئذ دائر بين حفظ شرطيّة الوقت و إلقاء شرطيّة الطهارة و العكس، و من المعلوم ضرورة تعيّن الأوّل.

و الحقّ أن يقال: إنّ إطلاق صحيحة زرارة و إن كان حيثيّا غير ناظر إلى حال التزاحم، لكن إنّما يصحّ الدوران إذا فرض أنّ هذا المصلّي من أوّل دخوله في الصلاة كان في علم اللّٰه أمره مردّدا بين تحصيل الطهارة أو إحراز الوقت.

و أمّا إذا فرض كونه من أوّل الأمر قادرا على الجمع و دخل في الصلاة بزعم الطهارة و حكمت الصحيحة عليه بإطلاقها بالفساد فالتزاحم المتحقّق بالنسبة إلى تتمّة هذه الصلاة المحكومة بالفساد من أوّلها في علم اللّٰه لا ينفع شيئا، لأنّ الصلاة الفاسدة من أصلها لا يصير صحيحة بعد الفساد.

و أمّا فسادها من أصلها فلإطلاق الصحيحة من غير مزاحم، و أمّا عدم صيرورة التزاحم الطارئ في أثناء الصلاة الفاسدة موجبا لصحّتها، فمن الواضحات التي لا يعتريها ريب، فلا محيص بناء على القول المذكور من الحكم بالإزالة ثمّ القضاء كما كان المتعيّن على القول الأوّل الاستمرار على الصلاة إمّا عاريا و إمّا مع النجس على الخلاف المقرّر في محلّه.

انحصار الساتر في النجس
اشارة

و حيث جرى البحث

عن مسألة انحصار الساتر في النجس فلا بأس بالإشارة إليها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 489

فنقول و على اللّٰه التوكّل: قد اختلفت كلمة الأصحاب رضوان اللّٰه تعالى عليهم فيها، فالمشهور على ما نسب إليهم إلى عدم العفو و وجوب الصلاة عاريا، إلّا أن يضطرّ إلى لبسه، فيجوز للضرورة، و آخرون إلى العفو مطلقا و أنّ المصلّي مخيّر بين الصلاة فيه و الصلاة عاريا.

و المنشأ لهذا الاختلاف اختلاف الأخبار، و نحن نتيمّن أوّلا بذكر الأخبار، ثمّ نتبعه بما يقتضيه القواعد، ثمّ بما يقتضيه تلك الأخبار على حسب ما يساعدنا التوفيق إن شاء اللّٰه تعالى، و باللّه الاستعانة و منه الهداية إلى سواء السبيل فنقول:

أمّا أخبار عدم العفو و تعيين الصلاة عاريا فالذي وصل إلينا روايتان:

إحداهما: رواية سماعة «قال: سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض ليس عليه إلّا ثوب واحد أجنب فيه و ليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام:

يتيمّم و يصلّي عريانا قاعدا و يومئ» «1». هكذا في الكافي و التهذيب.

و في الاستبصار: «و يصلّي عريانا قائما و يومئ إيماء» «2».

و الأخرى: رواية محمّد بن عليّ الحلبي عن الصادق عليه السّلام في رجل أصابته جنابة و هو بالفلاة و ليس عليه إلّا ثوب واحد، فأصاب ثوبه مني؟ «قال عليه السّلام:

يتيمّم و يطرح ثوبه و يجلس مجتمعا و يصلّي و يومئ إيماء» «3».

و أمّا أخبار العفو مطلقا فعدّة أخبار كلّها صحاح.

منها: صحيحة عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 46 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(2) المصدر، الحديث 3، و الاستبصار 1: 168- 582.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 46 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

كتاب

الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 490

رجل عريان و حضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كلّه، يصلّي فيه أو يصلّي عريانا؟ فقال عليه السّلام: إن وجد ماء غسله، و إن لم يجد ماء صلّى فيه و لم يصلّ عريانا» «1».

و منها: صحيحة محمّد بن عليّ الحلبي برواية الصدوق «سئل الصادق عليه السّلام عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله؟ قال عليه السّلام: يصلّي فيه» «2».

و منها: صحيحة محمّد الحلبي عنه عليه السّلام سأله عن رجل أجنب في ثوبه و ليس معه ثوب غيره «قال عليه السّلام: يصلّي فيه، فإذا وجد الماء غسله» «3».

و منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه عن الصادق عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يجنب في ثوب و ليس معه غيره، و لا يقدر على غسله؟ قال عليه السّلام: يصلّي فيه» «4».

و منها: موثّقة عمّار الساباطي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن رجل ليس معه إلّا ثوب و لا يحلّ الصلاة فيه و ليس يجد ماء يغسله، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام:

يتيمّم و يصلّي، فإذا أصاب ماء غسله و أعاد الصلاة» «5».

و منها: صحيحة الحلبي «قال: سألت الصادق عليه السّلام عن الرجل يجنب في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(5) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 491

ثوب أو يصيبه بول و ليس معه ثوب غيره؟ قال عليه السّلام: يصلّي فيه

إذا اضطرّ إليه» «1».

بناء على كون المراد من الاضطرار ما حصل له بملاحظة تكليف الستر الصلاتي و انحصار الساتر به على أبعد الوجهين، و أمّا على الوجه الآخر و هو كونه تقييدا في مفروض سؤال السائل لا تكرارا لما فرضه فالخبر يكون من أدلّة عدم العفو، إذ العفو مع الضرورة من برد و نحوه ممّا لا خلاف فيه، فهذه هي الأخبار التي وصلت إلينا من الطرفين.

مقتضى القاعدة في دوران الأمر بين الصلاة بلا ستر أو بلا طهارة

أمّا مقتضى القواعد مع قطع النظر عن النصوص الخاصّة فيختلف على حسب اختلاف المباني في تحديد الستر الصلاتي و في جعل الطهارة قيدا للستر على ما احتمله بعض، أو الصلاة في عرض الستر.

توضيح المقام أنّه قد تكرّر في الأبحاث السابقة أنّ الخطابات اللفظيّة إذا لم يقيّد بالقدرة على متعلّقاتها فإطلاق المادّة يقتضي المطلوبيّة المطلقة حتّى في صورة العجز، كما لو عجز عن إنقاذ الغريقين جمعا، فإنّه يستفاد من إطلاق المادّة في قوله: أنقذ الغريق أنّ هنا مطلوبين للمولى مطلقين، و لا فرق في ذلك بين الخطاب النفسي كالمثال و الغيري كما نحن فيه.

فمطلوبيّة الستر للصلاة أو طهارة اللباس كذلك ثابتتان حتّى عند العجز عن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 492

الجمع بينهما، بمعنى أنّه إذا فرض عدم سقوط المركّب الصلاتي عنّا بمجرّد العجز عن بعض ما اعتبر فيه كما هو قضيّة أنّ الصلاة لا تترك بحال، فمتى دار الأمر بين الصلاة بلا ستر أو بلا طهارة فالحال كما إذا دار بين إنقاذ الغريقين من كون مقتضى إطلاق دليل شرطيّة الستر مطلوبيّته حتّى في هذا الحال.

و كذا إطلاق دليل شرطيّة الطهارة أو مانعيّة النجاسة، فإن علمنا بمساواتهما في الملاك المقتضي

لاعتبارهما نقطع بأنّ الحكم هو التخيير، كما أنّه لو قطعنا بأنّ أحدهما المعيّن هو الأهمّ كان اللازم هو تعيين ذلك الأهمّ، و لو قطعنا بأهميّة أحدهما لا بعينه يجب الجمع بينهما بمقتضى العلم الإجمالي بتعيين ما كان هو الأهمّ واقعا الذي فرض تردّده بين الأمرين، فيصلّي تارة بلا ستر، و اخرى مع الثوب النجس، و لو لم يعلم أصل الأهميّة بأن احتمل المساواة و التفاضل فلا محيص عن التخيير.

لا يقال: بل المتعيّن هو اختيار الصلاة مع النجس، و ذلك لمحفوظيّة الركوع و السجود اللذين علم من الشرع ركنيّتهما للصلاة مع الصلاة فيه، بخلاف ما لو صلّى عريانا، فإنّه يومئ لهما أمّا قائما، و إمّا قاعدا إيماء، فالأمر دائر بين حفظ الستر و الركوع و السجود و إلغاء الطهارة، و بين حفظ الأخير و إلغاء جميع تلك الثلاثة، و من المعلوم أهمّية الأخير.

لأنّا نقول: قد ورد في الأدلّة اللفظيّة أنّ العاجز عن الركوع و السجود ينتقل إلى الإيماء بدلا عنهما، و ذلك يوجب تقييد جعل نفس الركوع و السجود بالقادر، و كلّما فرض لنا خطابان أحدهما مقيّد بالقدرة و الآخر مطلق فمقتضى القاعدة عند الدوران الأخذ بمقتضى ما هو المطلق، لأنّ مطلوبيّته غير مقيّدة بالفرض، و ذلك يوجب إيجابه على المكلّف، لعدم المزاحم له في رتبته، إذا المطلوب الآخر مقيّد بعدم العجز، فإذا تحقّق الإيجاب حصل العجز بالنسبة إلى المطلوب الآخر، فيكون هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 493

المطلق واردا على ذلك المقيّد، فيبقى المزاحمة في مسألتنا بين دليلي الستر و الطهارة.

نعم هذا كلّه مبنيّ على كون الستر المعتبر للصلاة أمرا غير حاصل بمثل وضع اليد، كما هو المقصود في باب الستر عن النظر، و

كذا مبنيّ على كون الطهارة شرطا للصلاة في عرض الطهارة، لا للستر، لوضوح أنّه مع كون الستر هنا مثله في باب الستر عن النظر يكون الجمع ممكنا، فيصلّي عريانا مع ستر قضيبه باليد، و المفروض مستوريّة الدبر بالأليتين.

فيبقى مانعيّة النجاسة للصلاة بحالها بلا مزاحم أصلا، إلّا الركوع و السجود اللذين عرفت حالهما، كما أنّه مع كون الطهارة شرطا للساتر تعيّن أيضا الصلاة عريانا، لعدم التمكّن من الستر المعتبر مطلقا حتّى مع الصلاة في الثوب المذكور، فيبقى مقتضى مانعيّة النجاسة أيضا بحالها كالصورة المتقدّمة.

فعلم أنّ مقتضى القاعدة بناء على ما هو الحقّ من اختلاف معنى الستر في البابين و عدم كون الطهارة إلّا قيدا للصلاة هو التخيير بين الصلاة مع النجس و الصلاة عاريا، حيث لم يعلم الأهميّة أصلا، و قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة حينئذ هو التخيير، كما أنّه على الاحتمالين الآخرين تعيّن الصلاة عريانا إمّا مع تحفّظ العورتين باليد و الأليتين، و إمّا بدونه، هذا مقتضى القاعدة.

و أمّا مقتضى النصوص الخاصّة المتقدّمة فاعلم أنّه قد يقال في مقام الجمع بحمل الأخبار الدالّة على الصلاة في النجس على حال الاضطرار، بشهادة الصحيحة المقيّدة، كما هو الحال في كلّ مقام ورد مطلقان و ورد مقيّد، فإنّ المقيّد شاهد جميع بين ذينك المطلقين.

لكنّ الحقّ خلاف ذلك و عدم جريان الجمع المذكور في المقام، و ذلك لأنّ الدليل الناظر إلى إسقاط الشرط أو اعتباره في المأمور به غير ناظر إلّا إلى حيث

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 494

اقتضاء ذلك المركّب بحسب ذاته، من غير نظر إلى الجهات الطارئة عليه من الخارج التي منها الاضطرار بالبرد و نحوه، فالأدلّة الدالّة على الصلاة عريانا ناظرة إلى حيث اقتضاء الصلاة

من حيث هي هي و أنّها ساقطة الستر في حال انحصار الساتر بالنجس.

كما أنّ أدلّة الصلاة في النجس ناظرة إلى حفظ شرطيّته في هذا الحال، و فرض حصول الاضطرار إلى اللبس لحفظ النفس أمر خارج عن مدلول كليهما، لأنّه من العناوين الثانويّة الغير الراجعة إلى جهة الصلاتيّة، و معلوم أنّ دليل الاشتراط أو عدمه في كلّ مقام ليس له إطلاق بالنسبة إلى حصول الاضطرار، بل يعمل فيه على طبق القاعدة الدالّة على حكم هذا العنوان الثانوي.

و على هذا فصحيحة الحلبي المشتملة على الصلاة في النجس مقيّدا بحال الاضطرار مضافا إلى عدم صلاحيّتها لصيرورتها شاهد جمع تكون من أدلّة الصلاة عريانا، فإنّ مقتضى هذا التقييد أنّه لو لا عروض هذا العنوان الثانوي كان شرطيّة الستر ملغاة و مانعيّة النجاسة محفوظة بحسب طبع الصلاة، فيوجد في أدلّة هذا القول أيضا رواية صحيحة و يدفع ما قيل من انحصار أدلّته بغير الصحاح.

فتلخّص أنّ هنا طائفتين متعارضتين، مقتضى إحداهما إلغاء شرطيّة الستر و مقتضى الأخرى حفظها.

بقي هنا جمع آخر و هو القول بالتخيير جمعا بين مفاد كليهما، و ليس هذا تخييرا بين الوجود و العدم، و لا بين الأقلّ و الأكثر، أمّا الأوّل فلأنّ ترك الصلاة رأسا شقّ ثالث، و أمّا الثاني فلأنّ أحد الطرفين هو الصلاة عريانا بالتقييد بالعريانيّة، و الآخر هو الصلاة في النجس بالتقييد به.

و بعبارة أخرى: طرفا التخيير هما الطرفان اللذان فرضنا دوران الأمر بينهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 495

حسب القاعدة الأوّليّة، غاية الأمر نحن لم نعلم بمساواة الملاكين، و لا بعدم مساواتهما، فدلّنا الشرع بواسطة هذه الأخبار على المساواة، فأحد الطرفين هو الصلاة المرعي فيها وجود الستر، و الأخرى الصلاة المرعيّ فيها

عدم النجاسة.

و لا يرد على هذا الجمع أنّه طرح لظاهر كلا الخبرين و خصوصا مع اشتمال بعض أخبار الصلاة في النجس على النهي عن الصلاة عريانا، و ذلك لأنّه و إن كان طرحا لظاهر كليهما، إلّا أنّه بواسطة نصّ الآخر، و من أحد الطرق العرفيّة للجمع هو طرح ظاهر دليل بنصّ الآخر، و هذا أيضا من هذا القبيل، إذ كلّ من الطرفين نصّ في الرخصة و ظاهر في الوجوب التعييني، فيؤخذ بنصّ كلّ منهما و يطرح الظاهر في كلّ منهما.

و أمّا النهي عن الصلاة عريانا فغايته الظهور في الحرمة، لكن مقتضى جمعه مع النصّ في الرخصة حمله على الكراهة، فيصير المحصّل أنّ المكلّف مخيّر بين الأمرين، لكنّ الأفضل له الصلاة في النجس، لا عريانا، كما اختاره بعض العلماء رضوان اللّٰه عليهم.

و إن أبيت عن كون هذا جمعا مقبولا عرفيّا فلا محيص عن التعارض، و لا مرجّح بعد ما عرفت من وجود الصحيح في كليهما، و هو و إن تعدّد في أحد الطرفين و اتّحد في الآخر، لكن الآخر معتضد بالشهرة الفتوائيّة، فالإنصاف تكافؤهما سندا، فيكون المرجع هو التخيير الظاهري.

بقي الكلام في ما تقدّم في ذيل موثّقة عمّار من الحكم بالإعادة بعد حكمه بالصلاة في النجس.

و أوجه وجه لهذا الكلام حمله على كون ذلك من أجل انكشاف فساد التيمّم، لانكشاف عدم موضوعه و هو الفقدان المستوعب لمجموع الوقت، فإنّ مفروض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 496

السؤال أمران: انحصار الثوب في النجس، و عدم وجدان الماء، فأجاب عليه السّلام بالتيمّم و الصلاة مع ذلك الثوب النجس، ثمّ قال عليه السّلام: فإذا أصاب ماء غسله و أعاد الصلاة، فهذا الكلام راجع إلى تيمّمه، يعني لو فرض انكشاف

خطأ خياله حيث كان مأيوسا من وجدان الماء في كلّ الوقت فوجده في أثنائه يجب عليه غسل ثوبه ثمّ إعادة صلاته، لأنّه تبيّن عدم كونه فاقدا في تمام الوقت، فلم يكن موضوعا للتيمّم، فوقعت صلاته بلا طهور، فوجب إعادتها.

فإن قلت: ليس في الكلام دلالة على وجدانه في أثناء الوقت، فلأيّ وجه يحمل الكلام عليه؟

قلت: لدلالة لفظ الإعادة على بقاء الوقت.

فإن قلت: المناسب أن يقول: توضّأ أو اغتسل و صلّى، لا كما قال عليه السّلام:

غسله و صلّى.

قلت: لعلّه للإيكال على وضوحه و أنّ مصيب الماء يشترط صلاته بالطهارة المائيّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 497

مسألة الصلاة في مكان المغصوب جهلا

لو صلّى في المكان المغصوب جاهلا، فتارة يكون جهلا معذورا فيه، و اخرى غيره.

فإن كان الأوّل فهل يمكن تصحيح العبادة بناء على القول بعدم كفاية تعدّد الجهة في رفع غائلة الاجتماع أو لا؟

و ليعلم أوّلا أنّ هذا البحث إنّما يبتني على أنّ القرب المائز بين العبادة و غيرها ليس مجرّد قصده، و بعبارة أخرى: ما يعبّر عنه تارة بالحسن الفاعلي، و اخرى بالقرب الانقيادي، بل هو عبارة عن القرب الواقعي، لا بمعنى كون العبد مندرجا في زمرة الملائكة المقرّبين حتّى يستشكل في صحّة صلواتنا، بل بمعنى كون الفاعل غير مساو مع التارك في نظر المولى.

وجه الابتناء أنّه من الواضح إمكان وقوع الصلاة المذكورة عبادة حتّى على الامتناع بمحض تحقّق القصد المذكور و لو من الغافل و الناسي، فالإشكال إنّما هو في أنّه كيف يمكن حصول القرب بما هو في كمال المبغوضيّة على ما هو الفرض من غلبة ملاك النهي على ملاك الأمر، و الغفلة و النسيان و أمثالهما إنّما يفيد في رفع العصيان و المعذوريّة من العقاب، و أمّا القرب و

استحقاق الثواب فحاشا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 498

و محصّل الجواب أمّا في موارد العذر العقلي منفكّا عن الرخصة الشرعيّة كالغفلة و النسيان الحكميين الغير الناشئين عن المسامحة في التحفّظ فهو أنّا قد اخترنا كفاية الملاك في تحقّق القرب، و لا يلزم وجود الأمر.

و حينئذ نقول: الأمر و إن فرض انتفائه، لكنّ الملاك على حاله، كما في سائر الأفراد بلا منقصة، و إنّما جامعه ملاك المبغوضيّة، و إذا فرضنا سقوطه عن التأثير في تحطيط رتبة العبد عند المولى كما هو المفروض من كونه معذورا غير معاقب و لا مبعّد عن ساحته، فلا جرم يؤثّر مؤثّر القرب أثره.

بل نقول: إذا تحقّق القرب فلا مانع من وجود الأمر في هذه الرتبة المتأخّرة عن النهي الواقعي، و غائلة التضادّ مدفوعة بما دفعنا به غائلة التضادّ في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

و أمّا في موارد الانضمام إلى الرخصة الشرعيّة كما في مورد اليد أو البيّنة أو الاستصحاب فالأمر سهل، فإنّه كما تصوّرنا اجتماع الرخصة مع النهي فلا بدّ أن نتصوّر إمكان اجتماع الأمر معه أيضا.

و من هنا يظهر أنّه و لو قلنا باحتياج العبادة إلى الأمر و عدم كفاية الجهة يمكن القول بصحّة العبادة و تماميّة القرب المعتبر فيه واقعا.

و يظهر أيضا عدم الحاجة إلى التمسّك بذيل لا تعاد، لأنّه فرع الإخلال بقيد القرب، و المفروض تحقّقه حقيقة.

نعم إنّما يجي ء التكلّم في إمكان التمسّك به في الجهل الغير المعذور فيه كالجهل بالحكم تقصيرا، و كذا نسيانه كذلك.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إن أمكن القول بحصول القرب مع العلم و العمد فلا حاجة في الصورتين المذكورتين أيضا إلى التمسّك بالحديث المذكور، و وجه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 499

الإمكان على ما قرّر في محلّه أحد الأمرين على سبيل المانعيّة الحقيقيّة.

إمّا القول بأنّ أجزاء الصلاة هي نتائج الأفعال لا نفسها، فالأفعال مقدّمات و مطلوبات مقدّميّة، و لا مانع من التوصّل إلى العبادة بالمقدّمة المحرّمة، و لا يضرّ ذلك بحصول القرب المعتبر.

و إمّا القول بأنّ الأفعال و إن كانت هي بأنفسها أجزاء، و لكن يمكن تصدير اجتماع الأمر و النهي طوليين، كما في اجتماع الأمرين في مبحث الضدّ و لو قلنا بامتناع ذلك عرضيّا، و ليس استحالة الاجتماع ها هنا بأزيد محذورا منها في مبحث طلب الضدّين، فكما صحّحنا هناك اجتماع الطلبين بنحو الترتّب و الطوليّة يمكن هنا أيضا كذلك، بأن يقال: إنّ النهي تعلّق بمطلق الأكوان و الحركات في الدار الغصبيّة على وجه الإطلاق، و الأمر تعلّق بالكون المقيّد بالأفعال الصلاتيّة على نحو الاشتراط بعصيان ذلك النهي.

فإن قلت: هذا ترتّب في الموضوع الواحد و هو محال و إن تصوّرناه في الموضوعين، فإنّ الأمر لم يتعلّق بالخصوصيّة فقط، بل بالمقيّد الذي هو مركّب من الذات و التخصّص، فيلزم اجتماع الحبّ و البغض و الإرادة و الكراهة في الذات، و هو محال و لو على نحو الترتّب.

ألا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال: لا تشرب الخمر، و على تقدير العصيان اشرب، فكذا الحال في المطلق و المقيّد، فلا يقال: لا تجي ء بالإنسان و على تقدير العصيان جي ء بالإنسان الأبيض، نعم يصحّ الترتّب بالنسبة إلى الأمر بالتخصّص، و هو خلاف ما نحن فيه و هو الأمر بالمتخصّص.

قلت: أمر القرب و البعد موكول إلى العرف لا العقل، و نحن إذا عرضنا هذين العبدين على العرف أعني: من غصب و صرف كونه في اللهويّات، و من غصب

كتاب الصلاة

(للأراكي)، ج 2، ص: 500

و صرف كونه في الصلاة نراهم لا يسوّون بينهما عند المولى، بل يقولون باستحقاق الأوّل و بعده عن ساحة المولى كالثاني من جهة أصل الكون، و مزيّة الثاني على الأوّل من جهة هذه الحركات الصلاتيّة، و ليس القرب إلّا ذلك، و من المعلوم أنّه ناش من فعل الصلاة، فإذا تحقّق القرب أمكن وجود الأمر أيضا.

و يشهد لما ذكرنا ملاحظة الحال في التوصّليّات كحرمة مطلق الكون في مكان و محبوبيّة خياطة الجبّة للمولى، فإنّه و إن كان الأمر توصّليّا، لكن من الممكن قصد القرب به، فإذا فرضنا اختلاف العبدين في نظر العرف فهذا معنى القرب، و اللّٰه العالم.

و على تقدير الغضّ عن ذلك فهل يمكن في صورة الجهل و النسيان الحكميين التقصيريين التمسّك لصحّة الصلاة بحديث لا تعاد، بأن يقال باختصاص القرب بحال العلم و الالتفات بحرمة الغصب أو في غيرهما يحكم بسقوطه عن الشرطيّة في العبادة.

و الحقّ في المقام أن يقال: إنّه إن قلنا بأنّ إباحة المكان شرط شرعي للصلاة، كما ربما يدّعى بملاحظة الإجماع و بعض الأخبار، فلا بأس بالتمسّك بالحديث، كما هو الحال في سائر الأجزاء و الشرائط الشرعيّة غير الخمسة المستثناة.

و إن قلنا بعدم ثبوت الإجماع على الاشتراط الشرعي و عدم دلالة بعض الأخبار أو ضعف سنده فالتمسّك بالحديث في غاية الإشكال، لأنّه إن قلنا بانصراف الحديث إلى الخلل في الأجزاء و الشرائط المعتبرة في المأمور به، و هذا ليس منها، لأنّه أمر متأخّر عن الأمر، فلا يعقل دخله في موضوعه، فواضح عدم صحّة التمسّك.

و أمّا إن قلنا بعدم الانصراف فالمانع من التمسّك مع فرض العموم في المستثنى منه، و من المعلوم أنّ القرب من الشرائط الشرعيّة الخارجة

عن الخمسة المستثناة،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 501

فمقتضى القاعدة الحكم باختصاص اعتباره في غير الحالة المفروضة ملاحظة التعليل الوارد في ذيل الصحيحة من قوله: إنّ السنّة لا تنقض الفريضة، فإذا كان وجه عدم الإخلال في غير الخمسة كونها سنّة، و وجه الإخلال في الخمسة كونها فريضة يعلم الحال في القرب من جهة هذا التعليل، لوجود هذه العلّة فيه بنحو أتمّ، لأنّه تمام المقصود من الجعل و تمام النظر في أمر العبادة يكون إليه، فإذا كان وجه الإخلال في الخمسة كونها مهتمّا بها ففي الأهمّ يتحقّق الإخلال بطريق أولى، فيدخل في عموم التعليل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 502

مسألة لو أخلّ ببعض الأمور المعتبرة في الركوع أو السجود

كوضع المساجد السبعة، أو كون المسجد من الأرض أو نباتها، أو الانحناء في السجود إلى ما لا يزيد عن لبنة، و في الركوع إلى أن تصل اليد إلى الركبة، فهل هو داخل في المستثنى أو المستثنى منه.

و بعبارة أخرى: هل المراد بالركوع و السجود الواقعين في المستثنى جنسهما الشامل لفاقد القيد المعتبر، أو أنّ المراد خصوص المقيّد المعتبر منهما في الصلاة، أو يفصّل بين القيود، فما كان في نظر الشارع تحديدا لمفهومهما نظير تحديد مفهوم السفر شرعا بالمسافة، و تحديد الكثير و القليل في الماء بالكرّ و ما دونه كان داخلا في المستثنى، و ما كان خارجا عن حدّ المفهوم شرعا و عرفا و قيد للمطلوبيّة فهو داخل في المستثنى منه، وجوه أوجهها الوسط، و يشهد له أنّ نسيان السجدة الواحدة غير مضرّ، مع أنّه لو أريد الجنس كان مضرّا.

و ليعلم أنّ محلّ الكلام هو القيود التي أحرز كونها قيودا للركوع و السجود، و أمّا ما كان معتبرا في الصلاة في عرض الركوع و السجود، غاية

الأمر صارا ظرفين لوقوعه فلا إشكال في كونه داخلا في المستثنى منه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 503

و لو شكّ في قيد أنّه من أيّ القسمين أعني أنّه معتبر في الصلاة حتّى يكون داخلا في المستثنى منه أو للركوع و السجود حتّى يكون داخلا في المستثنى فهل الأصل فيه البراءة أو الاحتياط، إذ لا إشكال في سقوط عموم لا تعاد، لكونه شبهة مصداقيّة كما هو واضح.

مقتضى القاعدة أن ينظر إلى دليل إثبات ذلك القيد الذي فرض إجماله من جهة إرجاعه إلى أيّ الأمرين هل له إطلاق ناظر إلى الأحوال بمعنى أنّه يثبت القيديّة حتّى بالنسبة إلى حالتي السهو و النسيان و يسمّى بإطلاق المادّة، أو أنّ القدر المتيقّن منه حال الذكر و الالتفات، فإن كان الثاني فالمسألة من صغريات مسألة الأقلّ و الأكثر الارتباطيين، و المختار فيها البراءة، و إن كان الأوّل فالمرجع إطلاق الدليل المذكور.

فإن قلت: لا فرق في عدم جواز التمسّك بين هذا الإطلاق و عموم لا تعاد، فكما أنّ المورد من الشبهة المصداقيّة للثاني فكذا للأوّل كما هو الحال في: أكرم العلماء و دليل: لا تكرم الفسّاق من العلماء بالنسبة إلى الزيد المشكوك الفسق، فإنّه شبهة موضوعيّة للثاني، و مصداقيّة للأوّل، و ما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّا نقطع بأنّ دليل القيديّة محكوم لدليل لا تعاد على تقدير الرجوع إلى الصلاة، و غير محكوم على تقدير الرجوع إلى الركوع و السجود، فإذا شككنا بين التقديرين كان شبهة مصداقيّة للمحكوم و موضوعيّة للحاكم كما هو واضح.

قلت: التخصيص تارة يكون بصرف القطع، و اخرى يكون بتقطيع العنوان في لسان المتكلّم، و الذي يمنع عن الرجوع إلى العامّ هو الشبهة المصداقيّة من الثاني دون

الأوّل.

مثلا لو ورد عامّ بنفوذ الشروط و لكنّا نقطع بأنّ الشرط المخالف لحكم اللّٰه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 504

الواقعي غير مراد من هذا العموم فلا مانع من التمسّك عند الشكّ في شرط أنّه من هذا القبيل أو لا، و هذا بخلاف ما لو صار ذلك معنونا في كلام المتكلّم بعموم أوفوا بالشروط، كأن قال: إلّا أن يكون مخالفا للكتاب و السنّة.

وجه الفرق أنّه في الثاني قد أحال تشخيص المصداق على عهدة السامع، و في الأوّل صار نفسه متعهّدا لذلك، و بإطلاق كلامه يستكشف أنّه غير مصداق لذلك المخصّص.

و حينئذ نقول: إنّ ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه قد ورد في دليل أنّ الطمأنينة مثلا شرط في حال الركوع، و نحن نقطع بواسطة دليل لا تعاد أنّه إن كان قيدا للصلاة كان مرفوعا عند السهو و النسيان، و إن كان قيدا للركوع كان ثابتا في جميع الأحوال، فلنا أن نتمسّك بذلك الإطلاق و نستكشف كونه من قبيل الثاني، و لا يضرّ كون منشأ القطع هو الدليل اللفظي بعد عدم وروده بلسان التقييد لذلك المطلق.

ألا ترى أنّه لو ورد دليل مطلق دالّ على وجوب إكرام الزيد، و ورد: أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم، ثمّ شككنا في أنّ الزيد عالم أو جاهل، و على التقديرين عادل أو فاسق فلا يجوز أن يقال: إنّ إطلاق دليل: أكرم زيدا ساقط، لأنّا نقطع بأنّه على تقدير العلم و الفسق غير مطلوب الإكرام، و إلّا فاللازم سقوط الإطلاق و العموم في كلّ مقام عن قابليّة التمسّك، إذ القطع على تقدير حاصل في كلّ مقام بعدم إرادة الخاصّ من ذلك المطلق أو العامّ.

فكما صحّ التمسّك بأكرم زيدا و استكشاف أنّه

إمّا جاهل و إمّا عالم عادل، و لا يضرّ العلم على تقدير بصحّة التمسّك، فكذا يصحّ في ما نحن فيه أيضا التمسّك بقوله عليه السّلام: الطمأنينة معتبرة حال الركوع، و لا يضرّ القطع بأنّه على تقدير كونها قيدا للصلاة حال الركوع ساقطة عند السهو و النسيان، و اللّٰه هو العالم و الموفّق.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 505

مسألة لو علم بترك سجدتين و لم يدر أنّهما من ركعة أو ركعتين،

فللمسألة صور أربع:

الاولى: أن يكون ذلك بعد تسليمه.

و الثانية: أن يكون في الأثناء، لكن مع مضيّ محلّ التدارك على جميع التقادير كما لو دخل في ركوع الركعة الثالثة.

و الثالثة: هذه الصورة، لكن مع بقاء محلّ التدارك على بعضها و عدم بقاء المحلّ المعتبر في قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الكلّ، كما إذا قام إلى الركعة الثالثة و لمّا يركع.

و الرابعة: هذه الصورة، لكن مع بقاء المحلّ المذكور بالنسبة إلى بعض المحتملات، كما لو حدث له الشكّ المفروض قبل قيامه إلى الثالثة و قبل التشهّد.

أمّا الصورة الأولى: فهو قاطع بأحد التكليفين إجمالا، إمّا إعادة الصلاة على تقدير تحقّق تركهما من ركعة واحدة، و إمّا قضاء السجدتين مع سجدتي السهو لكلّ منهما على تقدير تركهما متفرّقين، و مقتضى هذا و إن كان هو الاحتياط، لكنّ الأصل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 506

الشرعي المثبت جار في أحد الطرفين، و النافي في الآخر، فإنّ أصالة بقاء الاشتغال بتكليف صلّ و عدم سقوطه بالامتثال مثبتة للإعادة، و أصالة البراءة عن التكليف بالقضاء و سجدتي السهو نافية لهما، و من المقرّر في محلّه أنّ الأصول الظاهريّة في أطراف العلم الإجمالي لو لم يستلزم العمل بها مخالفة عمليّة قطعيّة جارية و أنّه لو جرى في أحد الأطراف أصل مثبت أوجب الانحلال و صيرورة سائر

الأطراف في حكم الشبهة البدويّة، و على هذا فيجب عليه في الصورة المذكورة إعادة الصلاة فقط.

لا يقال: هذا مع قطع النظر عن الأصل الموضوعي، و إلّا فالأصل يقتضي عدم طروّ المبطل و هو ترك السجدتين من ركعة واحدة، فإنّ هذا أمر حادث، إذ ليس نفس عدم السجدتين الحاصل و لو بعدم أصل الصلاة موجبا للإبطال، بل خصوص ما كان مجتمعا في ركعة واحدة من الصلاة المفروضة الوجود، و لا شكّ أنّه أمر حادث مسبوق بالعدم، فالأصل عدمه، و بواسطته يثبت صحّة الصلاة، و لا يعارضه أصالة بقاء الاشتغال، لأنّه أصل حكمي و هذا موضوعي كما هو واضح.

لأنّا نقول: نعم و لكن يعارضه أصالة عدم طروّ موجب القضاء و هو ترك السجدة الواحدة من ركعة فإنّه بملاحظة دخل قيد الوحدة و وقوعه في الصلاة المفروضة التحقّق يكون أيضا أمرا حادثا مسبوقا بالعدم، و قد شكّ في انقلابه إلى الوجود، فالأصل بقاؤه على العدم، و يترتّب عليه عدم وجوب القضاء و سجدتي السهو، كما يرتّب على الأصل المتقدّم عدم وجوب الإعادة، و هذا خلاف العلم الإجمالي بثبوت التكليفين، فيتعارض الأصلان و يتساقطان، فيبقى الأصلان الحكميّان المذكوران جاريين بلا مزاحم و حاكم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 507

و بمثل هذا يجاب عن تقديم أصالة الصحّة و قاعدة الفراغ المقتضية لصحّة العمل و عدم طروّ المبطل، و لعدم تحقّق ترك الجزء الموجب للقضاء، فإنّهما متعارضتان بالنسبة إلى الأثرين المذكورين، و لا اختصاص لقاعدة الفراغ بخصوص موارد الشكّ في الصحّة و البطلان، بل يعمّ ذلك و ما إذا أحرزت الصحّة و شكّ في أنّه هل ترك سجدة واحدة أو جزءا آخر حتّى يجب عليه سجدتا السهو أو لا، فكما أنّ

مقتضاه الصحّة في الأوّل مقتضاه نفي القضاء و السجدة في الثاني.

و على هذا فيتعارض الفردان من القاعدة في المقام، فيبقى الأصلان الحكميّان سليمين عن مزاحمتهما و لو كانا مقدّمين لو لا التعارض على الاستصحابات الموجودة في مواردهما لأجل عدم لزوم اللغويّة كما قرّر في محلّه.

فإن قلت: لا يجري الجواب المذكور ها هنا، و وجه ذلك أنّ أصالة الصحّة و الفراغ بالنسبة إلى ترك أحد المحتملات و هو ترك السجدتين من ركعة واحدة مقدّمة رتبة بالنسبة إلى نفسها في المحتمل الآخر و هو تركهما متفرّقتين، و ذلك لأنّ صحّة الصلاة مأخوذة في جانب الموضوع لحكم وجوب القضاء و سجدتي السهو، فليس مجرّد ترك سجدة واحدة و لو في صلاة باطلة موضوعا لوجوب القضاء و السجدة، بل في خصوص ما إذا تحقّق في ضمن الصلاة الصحيحة.

و إذن فقاعدة الفراغ الجارية في نفي موجب البطلان مقدّمة رتبة على القاعدة الجارية لنفي موجب القضاء، فلا تعارض بها، بل هي جارية في رتبتهما سليمة عن المعارض، و بعد جريانها لا يبقى محلّ لجريان الثاني، كما لا يبقى مجال لأصل البراءة عن القضاء و السجدة، لاستلزام جريان كلّ من هذين المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي، فيتعيّن عليه بمقتضى الاحتياط اللازم الإتيان بالقضاء و سجدة السهو من دون أن يجب عليه إعادة أصل الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 508

قلت: فرق بين أن يؤخذ الصحّة في موضوع حكم القضاء و السجدة، و بين أن يكون حكم القضاء و السجدة بترك السجدة الواحدة حكما حيثيّا متكفّلا لتدارك الخلل السهوي من حيث هو هو مع قطع النظر عن الجهات الأخر.

نعم هذا الحكم الحيثي إنّما ينفع إذا فرض كون العمل صحيحا من الجهات الأخر، فلو فرض

عدم صحّته من جهة أخرى فلا قصور من جهة هذا الحكم الحيثي، بل هو بحيثيّته متحقّق موضوعا و حكما، غاية الأمر لا ينتفع به في مقام الأثر الفعلي.

و إذن فالقاعدة بالنسبة إلى كلا الموردين جارية في عرض واحد بلا ترتّب و طوليّة، فيتحقّق التعارض الموجب للتساقط، فيبقى الأصلان المتقدّم إليهما الإشارة جاريين بلا مزاحم، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 509

الفصل الثاني في الشكّ في الركعات

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 511

الشكّ في الركعات و ليعلم أنّ الأصل الأوّلي المتّخذ من الروايات في هذا الباب هو الحكم بالبطلان و لزوم الإعادة إلى أن يعلم من الخارج بالصحّة كما هو في الصور المنصوصة، و الحاصل سقوط الاستصحاب و البناء على العدم في الركعة المشكوكة في هذا الباب عن درجة الاعتبار، بل المعتبر إمّا البناء على الأكثر، و إن لم يمكن فالإعادة.

و الدليل على هذا المدّعى طائفتان من الأخبار بانضمام إحداهما إلى الأخرى.

الطائفة الأولى: ما دلّ على أنّ الركعات العشر من الفرائض الخمس فرض اللّٰه، و السبع منها فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، و ليس في الاولى وهم، و فسّر الوهم بالسهو، ثمّ فرّع على نفي السهو فيهنّ وجوب الإعادة حتّى يكون على يقين، أو حتّى يثبتهنّ «1».

و الطائفة الثانية: ما دلّ على جمع السهو كلّه في كلمتين، و هما البناء على الأكثر و الإتيان بالركعة المحتمل النقصان خارج الصلاة «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب الخلل في الصلاة.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب الخلل في الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 512

فإنّ المتحصّل من انضمام الطائفتين أنّ الاكتفاء بالوجود المحتمل للركعة إنّما هو في الركعات السبع التي هي فرض النبيّ صلّى اللّٰه

عليه و آله، و أمّا في العشر الأخر فلا محيص فيها عن تحصيل اليقين و الإثبات.

و لو كان الاستصحاب و البناء على العدم طريقا للإحراز لما صحّ تفريع وجوب الإعادة على مجرّد عدم جريان السهو، و هو الاكتفاء بالوجود المشكوك، و حيث فرّع ذلك على مجرّده دلّ على سقوط الاستصحاب عند الشارع.

و دعوى أنّه لا يدلّ إلّا على السقوط في خصوص الركعتين الأوليين فلا دلالة فيه على البطلان إلّا بالنسبة إلى الصور التي يكون أحد أطراف الشكّ الركعة الثانية، و أمّا الصور الأخر كالثلاث و الخمس بعد الركوع فلا.

مدفوعة بأنّ حيث كون الركعتين الأوليين فرض اللّٰه أوجب مراعاتهما على وجه الإثبات و اليقين، و عدم جريان البناء على الأكثر ثمّ عدم جريان ذلك يوجب لزوم الإعادة.

و منه يستفاد أنّه لو فرض عدم جريان البناء المذكور لأجل عدم إمكانه كما في الشكّ بين الثلاث و الخمس بعد الركوع كان الحكم أيضا هو الإعادة، فكأنّه قيل: عدم جريان دستور البناء على الأكثر علّة للزوم الإعادة في أيّ موضع حصل، و هذا ملازم لعدم كون البناء على الأقلّ ممضى عند الشارع، فيكون ملغى في جميع الصور، فإن أمكن الإصلاح بالبناء على الأكثر فهو، و إلّا فالبناء على الأقلّ ليس محتملا، بل المتعيّن هو الحكم بالبطلان كما في الركعتين الأوّلتين.

و كيف كان فيقع الكلام في هذا المبحث في مسائل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 513

[المسألة] الأولى حجّية المظنّة في الركعات

اشارة

اعلم أنّ المستفاد من أخبار الباب حجيّة المظنّة في هذا الباب، بل نسب إلى المشهور حجّيتها في الأفعال أيضا، و نحن نتكلّم إن شاء اللّٰه تعالى في حجّيتها في الركعات ثمّ نتعقّبه بالكلام في الأفعال.

فنقول و على اللّٰه الاتّكال في كلّ حال: أمّا

حجّيتها في الركعات حتّى في الأوليين فيدلّ عليها الصحيح الآتي، مضافا إلى النبويّين، أحدهما: «إذا شكّ أحدكم في صلاته فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب و ليبن عليه» «1».

و الثاني: «إذا شكّ أحدكم فليتحرّ» «2».

و إلى ما يستفاد من تعليل الأذكريّة في بعض أخبار عدم الاعتناء بالشكّ بعد المحلّ من أنّ نظر الشارع إلى غلبة عدم الغفلة عن العمل و الإتيان به على خلاف ما تصوّره الفاعل أوّلا في ذهنه من الترتيب المقرّر لأجزائه.

توضيح ذلك أنّ حيثيّة التجاوز عن المحلّ يراها العرف غير دخيلة في هذا الملاك، بمعنى أنّه لو لم يتجاوز المحلّ الشرعي، و لكنّه رأى نفسه فارغا عن الجزء

______________________________

(1) سنن النسائي 3: 28، باب التحرّي، بتفاوت يسير.

(2) سنن النسائي 3: 28، باب التحرّي، بتفاوت يسير.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 514

الفلاني و مستعدّا للورود في الجزء المتأخّر، فالملاك المذكور موجود فيه بعينه، و هو غلبة عدم الغفلة عن النقشة الذهنيّة، إذ لو فرض كون الأمر على خلاف ما زعم أعني: كونه غير آت بذلك الجزء فلا محالة نشأ منه غفلة، و هو الذي يكون على خلاف الغالب.

و لهذا ترى أنّه قلّما يتّفق حصول العلم للإنسان بمخالفة ظنّه المذكور للواقع، و هذا المعنى أعني: غلبة عدم الغفلة للإنسان لو فرض أنّه بنفسه وقع تحت الاعتبار الشرعي فلا محالة يكون طريقا تعبّديا شرعيّا.

نعم لو صار سببا و حكمة لتشريع الحكم في موضوع الشكّ، كما وقع غلبة عدم الانفكاك بين الوجود اللاحق و السابق حكمة لجعل الحكم الأصلي في باب الاستصحاب كان أصلا تعبّديّا.

و على هذا فلو فرض أنّه بعد تجاوز المحلّ ظنّ بعدم الإتيان فمقتضى الحكم الأصلي البناء على الوجود، و مقتضى الحكم الطريقي البناء

على العدم و إن لزم منه الحكم بكون الجزء المتأخّر قد أتى به غفلة، و لا مزاحمة بينهما، لحكومة الثاني على الأوّل.

و لا يخفى أنّ هذا الملاك متساوي النسبة إلى الركعة و غيرها، فإذا رأى من نفسه أنّه واقع في الركعة الكذائيّة فلو كان على خلافه، إمّا بأن كان في ما دونها، أو في ما بعدها كان لا محالة لأجل غفلة منه عن النقشة الذهنيّة التي دخل في العمل بملاحظتها، و هو على خلاف الغالب، و هذا و إن لم يصل إلى حدّ الدلالة، لكنّه لا يخلو عن تأييد.

و بالجملة، يدلّ على المطلب مضافا إلى ذلك صحيحة صفوان عن أبي الحسن عليه السّلام «قال عليه السّلام إن كنت لا تدري كم صلّيت و لم يقع وهمك على شي ء

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 515

فأعد الصلاة» «1»، و هذا دليل عامّ لحجّية المظنّة في الركعات جميعا حتّى في الأوليين على احتمال، و نصّ فيها بالنسبة إلى خصوص الأوليين على آخر، سواء في الثنائيّة أم في الثلاثيّة أم في الرباعيّة، لكن لا بدّ من بيان فقه الحديث.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ المحتملات فيه بين أربعة:

الأوّل: أن يكون المراد الشكّ في ركعات الصلاة بجميع أقسامه من الصحيح و الباطل، فيلزم الحكم بالبطلان حتّى في الصور الصحيحة، فيلزم التخصيص في عمومه بالنسبة إليها، لكنّه تخصيص بعيد، لكثرة الأفراد الصحيحة.

الثاني: أن يراد أنّ الحكم بالإعادة في الأقسام الباطلة مقصور على صورة عدم وقوع الوهم على شي ء، و هذا خلاف الظاهر.

الثالث: أن يراد كثرة أطراف الشكّ و تردّدها بين الواحدة و الخمس عشرة مثلا، و يبعّد هذا أنّ الإنسان لا يفهم خروج الشكّ في صلاة الصبح بين الواحدة و

الاثنتين عن تحت هذه العبارة، و هذا يكشف عن عدم كون المعنى المزبور معناها.

الرابع: أن يراد أنّ كلّ واحد واحد من مراتب العدد من الواحد إلى ما فوقه لم يكن معلوما للمصلّي، بحيث لا يمكن للمصلّي الحكم بأنّ هذه المرتبة بحدّها كمّ صلاتي، بمعنى أنّها موجودة و غيرها من المراتب المتأخّرة معدومة، بل بين أنّه إمّا يمكنه الحكم بأنّها موجودة دون أنّ غيرها ليست بموجودة، كما في الواحدة، و بين أنّه يمكنه الحكم بأنّ ما فوقها غير موجودة و لا يمكنه الحكم بأنّها موجودة، كما في الخمس عشرة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب الخلل، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 516

و أمّا لو أمكنه الحكم بأنّ الواحدة ليست بحدّ لصلاته و تردّد بين ما فوقها فهو خارج عن العبارة، لأنّ عدم العلم بالحدّ بقول مطلق معناه احتمال انطباق الكمّ الصلاتي على جميع المراتب، و هذا يعلم بنفي انطباقه على مرتبة الواحدة.

فعلى هذا الاحتمال تكون الرواية نصّا في الشكّ المتعلّق بالأوليين، فيكون النسبة بينها و بين الروايات الحاكمة بالإعادة في الشكّ في الأوليين حتّى يستيقن أو حتّى يثبت هو العموم و الخصوص المطلقين.

كما أنّه بناء على الاحتمال الثالث يكون النسبة عموما و خصوصا من وجه، لأنّ الرواية على ذلك الاحتمال يشمل الشكّ بين الاثنتين و الخمس عشرة و ما بينهما، و لا تشمله تلك الروايات، كما أنّها شاملة للشكّ المعتدل الطرفين، و لا تشمله هذه، لكن على هذا أيضا يتعيّن تقديم هذه، لأجل أنّ لسانه لسان الطريقيّة للمظنّة إلى الواقع، فيكون حاكما على تلك الروايات الدالّة على لزوم إحراز الأوليين و إثباتهما، هذا.

و يدلّ على اعتبار المظنّة في خصوص الأخيرتين أخبار خاصّة مذكورة

في محالّها، من أراد فليطلبها من مظانّها.

فإن قلت: يمكن الخدشة في دلالة الرواية على اعتبار الظنّ، لأنّ ما يتوهّم دلالته عليه قوله فيها: و لم يقع وهمك على شي ء، فلم لا يكون هذا مؤكّدا للفقرة الاولى، و المقصود به استقرار الشكّ؟ فكأنّه قال: إذا شككت و استقررت على التزلزل.

قلت: مفاد العبارة غير ما ذكرته، فإنّ معنى وقوع الوهم أنّه خرج عن حالة التردّد بين الوجود و العدم، و الاستواء بينهما، و صار مائلا و واقعا على أحد الطرفين، ثمّ الوقوع يحصل بمجرّد رجحان أحدهما كما في الظنّ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 517

فإن قلت: لعلّ المراد أنّه إذا لم تدر و لم يقع شكّك على مرتبة معيّنة كالثلاث و الأربع، أو الاثنتين و الثلاث، بل كنت متحيّرا مطلقا.

قلت: هذا التعبير واقع في روايات أخر فرض فيها الشكّ بين أطراف معيّنة، و من المعلوم أنّ المقصود به هناك ما ذكرنا من الوقوع و الميل و الخروج عن حدّ الاستواء و الاعتدال، هذا حاصل الكلام في حجّية المظنّة في الركعات.

حجّية المظنّة في الأقوال و الأفعال

و أمّا في الأقوال و الأفعال فالذي قوّاه شيخنا الأستاذ أدام اللّٰه فيض أنفاسه القدسيّة علينا و على جميع المحصّلين حجّيتها فيها أيضا، و محصّل ما قال في مجلس بحثه الشريف في تقريب هذا المرام أنّه إذا عرض على العرف أنّ الشارع المقدّس جعل الظنّ في مجموع الركعة من حيث المجموع حجّة و المفروض أنّه المجموع ليس شيئا مغايرا لذوات الأجزاء فكيف يفهم التفكيك في حجّيتها بين تمامها و بعضها، إذ معنى التفكيك أنّه إذا كان وجود التمام بطريق الظنّ محرزا بحيث احتمل احتمالا موهوما عدم الكلّ كان الظنّ حجّة، و أمّا إذا ظنّ البعض من أجزاء

الركعة و علم وجود البقيّة و كان وهم العدم أيضا فيها معدوما فليس هذا الظنّ بحجّة، مع أنّه بعينه شخص ذلك الظنّ الذي لو كان متعلّقا بهذا البعض منضمّا إلى البقيّة لكان حجّة.

و الحاصل معنى الحجّية التعبّدية هو الاقتصار على شخص هذا الظنّ و عدم التعدّي إلى مثله ممّا نراه مماثلا له في غلبة المطابقة للواقع، إذ المعيار غلبة المطابقة بنظر الشارع، و هذا معنى تعبّديّته.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 518

ثمّ بعد عدم التعدّي إلى مثله ربما يكون المورد لأجل المهتمّية مانعا عن جعل الظنّ فيه حجّة و إن جعل شخص هذا الظنّ في مورد آخر أقلّ اهتماما منه حجّة، و هذا أيضا مفقود في المقام، إذ نعلم أنّ الاهتمام بشأن بعض الركعة ليس بأزيد من الاهتمام بكلّها الذي هو عبارة عن هذا البعض مع غيره.

و لا ندّعي أنّ اللفظ قاصر عن إفادة الحجّية إلّا بالنسبة إلى الكلّ و نحن نسريها إلى الأبعاض بالأولويّة حتّى يقال: إنّه مع عدم كونها قطعيّة قياس لا نقول به، بل المدّعى أنّه بعد ما أخذنا الظنّ طريقا إلى الواقع و موجبا لإحراز الواقع عند الشارع يكون محمولا في كيفيّة الطريقيّة على الطرق العقلائيّة.

فكما أنّ العقلاء في الطرق المعمولة بينهم إذا فرض كون شي ء طريقا عندهم لإحراز مجموع مركّب من خمسة أجزاء مثلا، فهو طريق إلى كلّ واحد واحد من تلك الخمسة منفردا، كما يكون طريقا إليها منضمّة بلا فرق، و لا يدخل في أذهانهم التفكيك في الطريقيّة بين هذين، فكذلك إذا أعطاهم الشارع طريقا من عنده لإحراز كلّ مركّب من أجزاء، فهم يفهمون منه الطريقيّة إلى أجزاء ذلك الكلّ منفردا منفردا أيضا.

ألا ترى أنّا نثبت اللوازم في باب

ظهور الألفاظ و حجّية الخبر و البيّنة، و لو فرض كون المخبر غير مطّلع على الملازمة، بل قاطعا بعدمها، فكيف يشمله قوله عليه السّلام: صدّق العادل، مع أنّ العادل لم يتفوه بالنسبة إلى اللازم المذكور شي ء، بل لو سئل عنه ربما يخبر بالعدم، و مع ذلك نقول: يفهم حجّية قوله بالنسبة إلى هذا اللازم أيضا من قوله: صدّق العادل، و ليس وجهه إلّا ما ذكرنا من أنّ العرف بعد أخذ الحجّية الطريقيّة من الشرع يحمله على ما هو المقرّر عندهم في الطرق المعمولة بينهم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 519

و هذا بخلاف ما إذا علّق الحكم على وصف الشكّ و لو بلسان أنّه عين الواقع كما في الاستصحاب، و كذا على الظنّ بما هو صفة، لا بما هو طريق و له غلبة المطابقة للواقع، فإنّه يجب الاقتصار على المؤدّى بدون التعدّي إلى ما عداه.

ففي ما نحن فيه إن كان النظر إلى ظنّ الركعة بحيث كونه صفة من الصفات لا بجهة طريقيّته و كشفه عن الواقع لما كان لنا حقّ التعدّي إلى أجزاء الركعة، كما أنّ الحكم المتعلّق بشكوك الركعة لا نعدّيه إلى أجزائها، و أمّا بعد ما كان النظر إليه بحيث طريقيّته و كشفه و فرض حصول شخصه من دون تفاوت في أجزاء الركعة و المعلوم قطعا أنّ حالها في المهتمّية أدون من تمام الركعة فكيف يفهم العرف تفكيك حجّيته بين هذين بالثبوت في الكلّ دون البعض.

نعم لو ورد إثبات الحجّية في البعض لم يفهمها العرف بالنسبة إلى الكلّ، لمكان الاهتمام بشأنه أزيد من البعض، و أمّا مع العكس فلا يفهم التفكيك.

و بالجملة، فالمدّعى الاستفادة من لفظ جعل الحجّية بعنوان الطريقيّة في الكلّ تعميمها بالنسبة

إلى الجزء كاستفادة تعميمها بالنسبة إلى لوازم المخبر به، حيث ندّعي استفادته أيضا من اللفظ، لا أنّه شي ء فهمناه من خارج اللفظ بتنقيح المناط.

فإن قلت: فيلزم اعتبار حفظ كلّ من الإمام و المأموم في حقّ الآخر بالنسبة إلى أجزاء الركعة، لاعتباره كذلك بالنسبة إلى نفسها، و لا تقولون به.

قلت: المقدار الحاصل من غلبة المطابقة في حفظ كلّ منهما بالنسبة إلى نفس الركعات غير حاصل في حفظه بالنسبة إلى أجزائها، إذ من المستبعد جدّا، بل من المقطوع خلافه تأخّر المأموم بمقدار ركعة عن الإمام أو تقدّمه عليه، و ليس الحال كذلك في تأخّره عنه بمقدار سجدة مثلا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 520

نعم لو فرض القطع بعدم التأخّر و التقدّم حتّى بهذا القدر أيضا أمكن القول بالحجّية بعين البيان المتقدّم.

و حاصل البيان المذكور أنّه كما أنّ وجود الكلّ خارجا متأخّر رتبة عن وجود جميع أجزائه و مترتّب عليه، و وجود أجزائه مقدّمة لوجوده، كذلك الحال في الكشف و الطريقيّة الذي هو الوجود العلمي الحاكي عن الوجود في الخارج، لا بمعنى أنّه في هذا الوجود أيضا متأخّر رتبة عن الوجود العلمي الطريقي للأجزاء، كيف و الحال أنّه قد يكون العلم بالمعلول علّة للعلم بالعلّة، كما في برهان الإنّ، بل بمعنى أنّ الكشف عن الكلّ حيث إنّ مرجعه إلى الكشف عن وجوده لا ينفكّ عن الكشف عن وجود الأجزاء، و الكاشف عنه لا يصير كاشفا عنه إلّا بعد كشفه عن الأجزاء، و لا يعقل التفكيك في اعتباره بين الكشفين، بل الاعتبار أوّلا يجب أن يشمله بملاحظة الأجزاء، ثمّ بملاحظة الكلّ، كما هو الحال في مرحلة واقع الوجود.

و هنا بعض الأمور ربما تذكر في مقام تأييد هذا المرام.

أحدها: أنّه

إذا فرض حجّية الظنّ و الاكتفاء به في الركعتين الأوليين اللتين هما فرض اللّٰه تعالى، فلو لم يكتف به في مثل الحمد الذي هو من السنّة لزم أسوئيّة حال فرض اللّٰه من السنّة، حيث لا يكتفى في الثاني بالظنّ، بل لا بدّ من تحصيل العلم، بخلاف الأوّل.

و فيه أنّه مضافا إلى كونه من القياس يكون مخدوشا، بأنّ ذلك لا يكشف عن الأسوئيّة المذكورة، لأنّ مرجع عدم حجّية الظنّ فيه إذا كان لزوم تحصيل العلم كان ما ذكرت حقّا، و لكن إذا كان مرجعه إلى أنّ الشارع لم يبال بحفظ حدّ الأجزاء من عدم زيادتها و عدم نقيصتها كمبالاته بذلك في الركعات، فلهذا حكم بالإتيان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 521

بالإجزاء مع عدم العلم بها في المحلّ و عدم الإتيان مع انقضائه، و لم يبال باحتمال الزيادة في الأوّل و لا بالنقيصة في الثاني، بخلاف الركعة، فلهذا جعل الظنّ فيها حجّة مع وجوده، و مع استواء الشكّ جعل قانونا آخر لحفظ حدّ الركعات عن الزيادة و النقيصة، و هذا ليس ناشئا عن عدم الاعتناء بالركعة كاعتنائه بالأجزاء، بل الأمر بالعكس.

و ثانيها: أنّه لو لم يكن الظنّ في الأفعال حجّة كما في الركعة لزم منه المحذور في بعض الفروع، كما لو تردّد بين الثلاث و الأربع و ظنّ بالأربع و كان قاطعا بأنّه لو صلّى أربعا كان آتيا بالسجدة الثانية، فلا محالة أنّه ظانّ بوجود السجدة الثانية، و مقتضى التفكيك بين الظنّين في الحجّية أنّه يجب عليه البناء على الأربع و الإتيان بالسجدة الثانية بمقتضى قاعدة الشكّ في المحلّ، فيلزم القطع بفساد الصلاة، للعلم إجمالا إمّا بزيادة السجدة المذكورة، و إمّا بنقصان صلاته بركعة.

و فيه أوّلا:

أنّ الأخذ بالظنّ المذكور لازم لا من باب حجّية الظنّ في الأفعال، بل من باب الأخذ بلوازم الطرق و كون الظنّ في الركعة حجّة من باب الطريقيّة.

و ثانيا: لا يلزم من حدوث المحذور في بعض الأحيان بواسطة اجتماع مصداقي القاعدتين بطلان إحداهما بحسب الكبرى.

ألا ترى أنّه لو شكّ في الركوع بعد ما سجد و شكّ أيضا في السجدة الثانية، لكن يقطع بأنّه على تقدير الإتيان بالركوع قد أتى بالسجدة الثانية أيضا فمقتضى قاعدة الشكّ بعد التجاوز بالنسبة إلى الركوع عدم إتيانه، و مقتضى قاعدة الشكّ في المحلّ بالنسبة إلى السجدة الثانية لزوم إتيانها، مع أنّه يقطع بفساد الصلاة حينئذ إمّا لفقد الركوع، أو لزيادة السجدة عمدا، و هذا لا يوجب خللا في إحدى الكبريين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 522

المذكورتين، أعني: قاعدة التجاوز و قاعدة الاستصحاب كما هو واضح، بل لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة أخرى متكفّلة لحكم تزاحم القاعدتين، و هذا واضح.

و بالجملة، أمر حجّية الظنّ في الأفعال غير محتاج إلى التشبّث بهذه الأمور الواهية، و العمدة فيه هو الاتّكال على الظهور العرفي و الملازمة العرفيّة بين الطريقتين، بحيث لا يفهم العرف من دليل الطريقيّة في الكلّ اقتصارها عليه و لو كان اللفظ غير مشتمل على عموم، بل يلغون هذا القيد و يفهمون من الظهور اللفظي عموم الطريقيّة بالنسبة إلى الأجزاء في شخص ذلك الظنّ، لا ما يخالفه في غلبة المطابقة و الكشف عن الواقع، كما مرّ بيانه مفصّلا، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 523

المسألة الثانية بيان ما يحصل به الفراغ من الأوليين

قد عرفت استفاضة الأخبار بأنّ القانون الظاهري المجعول في باب الشكّ في الركعات من الاكتفاء بالركعة الوهميّة و البناء على وجودها في مقام الامتثال

ثمّ إتيان النقصان المحتمل من الخارج مختصّ بغير الركعتين الأوليين اللتين هما فرض اللّٰه فلا يكتفى فيهما إلّا بالامتثال القطعي و الوجود المثبت الخالي عن الشكّ.

فلا بدّ من التكلّم في بيان ما به يحصل الفراغ من الأوليين، و هل هو الركوع من الركعة الثانية، أو السجدة الثانية و لو قبل الذكر أو الفراغ من ذكرها قبل الرفع، أو الرفع منها.

فنقول: أجزاء المركّب بحسب عالم التصوّر ينقسم إلى أقسام:

فمنها: ما له دخل في صدق الاسم، بحيث لا يصدق اسم ذلك المركّب بدونه، لا فاسدا و لا صحيحا.

و منها: ما له دخل في صحّته و ترتّب الأثر المقصود عليه و إن كان الاسم بالمعنى الأعمّ غير متوقّف عليه.

و منها: ما له دخل في كماله لا في صحّته، و هذا أيضا تارة يكون لازم التحصيل، و اخرى غير لازمة، فالأقسام أربعة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 524

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في عدم صدق اسم الركعة مع فقد الركوع، بل أو إحدى السجدتين، و أمّا بعد تحقّق السجدتين فصدق الركعة حاصل، لكنّها غير صحيحة، لأنّ الذكر له دخل في صحّتها، و أمّا بعد حصول الذكر فصحّة الركعة بمعنى صحّتها الجزئيّة حاصلة، و الرفع الذي هو واجب لأجل التشهّد كنفس التشهّد و إن كانا لازمين، إلّا أنّهما موجبان لكمال الركعة.

و إن شئت المثال من الخارج فانظر إلى حال الدار، فإنّ الجدران الأربعة مع بناء بيت كاف في صدق الاسم و لو لم تكن قابلة للسكنى، لكن مع عدم القابليّة فاسدة، و بعد حصول شرائط القابليّة يتحقّق الصحّة أيضا، ثمّ بعد تحقّق الصحّة فالاشتمال على السرداب و الحوض من أجزاء الكمال، و لكنّه من اللازم، بخلاف الاشتمال على بعض

المحسّنات الأخر الغير اللازمة فحال التشهّد و الرفع المذكورين حال السرداب و الحوض بالنسبة إلى الدار.

فكما إذا قيل: من بنى دارا فله كذا، لا يتحقّق صدقه إلّا بعد تحقّق الأجزاء المقوّمة للصدق و المقوّمة للصحّة و لا يتوقّف على تحقّق الأجزاء المقوّمة للكمال.

فكذا في مقامنا إذا قيل: إجزاء القانون الظاهري المجعول لمقام امتثال الركعة في مرحلة الشكّ إنّما هو بعد ما أحرز المصلّي الركعتين الأوليين، كان المتبادر منه حصول الأجزاء المقوّمة للصدق و المقوّمة للصحّة، دون المقوّمة للكمال، و هو يتمّ بالفراغ من الذكر في السجدة الأخيرة، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 525

المسألة الثالثة في بيان كيفيّة استفادة القانون الظاهري المجعول للشكّ في الركعات

اشارة

بعد إحراز الأوّلتين من الأخبار.

فاعلم أنّ صور الشكّ في غير الركعتين الأوّلتين- التي وقعت محلا لتعرّض الأخبار و كلمات العلماء الأخيار، و غيرها غير مذكورة في الأخبار، و إنّما قيل بجريان القانون المذكور فيها بواسطة إرجاعها إلى الأولى- منحصرة في خمس:

الشكّ بين الاثنتين و الثلاث، و الشكّ بين الثلاث و الأربع بعد إكمال السجدتين، و الشكّ بين الاثنتين و الأربع، و الشكّ بين الاثنتين و الثلاث و الأربع، و الشكّ بين الأربع و الخمس بعد الإكمال.

و أمّا الصور التي قيل بإرجاعها إلى إحدى هذه الخمس فخمس أيضا، الشكّ بين الثلاث و الأربع قبل الإكمال، و الشكّ بين الأربع و الخمس في حال القيام، و الشكّ بين الثلاث و الخمس في حال القيام، و الشكّ بين الثلاث و الأربع و الخمس في حال القيام، و الشكّ بين الخمس و الستّ في حال القيام، فالمجموع عشر صور.

و أمّا كيفيّة استفادة القانون الظاهري في مجموع هذه الصور فتارة يبحث في استفادته من العمومات المتكفّلة لبيان ذلك القانون، و اخرى يبحث في استفادته

من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 526

النصوص الخاصّة الواردة في واحدة من الصور الخمس الاولى، فهاهنا مقامان.

المقام الأوّل [في استفادة القانون من العمومات المتكفّلة لبيان ذلك القانون]

الحقّ أنّ العمومات الدالّة على أنّه متى شككت في الركعات فابن على الأكثر ثمّ تمّم النقص المحتمل خارج الصلاة بعد ضمّها إلى المستفيضة الواردة في أنّ الركعتين الأوليين لا يجري فيهما الوهم، أعني لا يكتفى بوجودهما الموهوم المحتمل في مقام الامتثال، كما هو مضمون: ابن على الأكثر، و إنّما ذلك مخصوص بالأخيرتين اللتين هما فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله يستفاد منها الحكم بالعلاج المذكور في جميع الصور العشر المذكورة، إلّا في الأربع و الخمس بعد الإكمال و الخمس و الستّ.

بيان ذلك أمّا بالنسبة إلى الصور الأربع الأولى فواضح، حيث إنّ المصلّي فيها بعد ما أحرز الثنتين يشكّ إمّا في وجود الثالثة، و إمّا في وجود الرابعة، و إمّا فيهما بنحو التلازم في الوجود مع عدم احتمال التفكيك، و أمّا فيهما مع احتمال التفكيك و قد فرض دلالة الأخبار المذكورة على أنّ الوهم أعني: البناء على الأكثر و الاكتفاء بالوجود المحتمل للركعتين الأخيرتين هو العلاج المجعول في مقام الشكّ، ثمّ إتيان النقصان المحتمل من الخارج، و هذا واضح الانطباق على جميع تلك الصور الأربع.

و أمّا بالنسبة إلى الأربع الأخرى فحاصل التقريب أنّه يستفاد من تلك العمومات أنّه كلّما حصل للمكلّف الشكّ في عدد الركعات التامّة من صلاته بين الاثنتين و الزيادة عنهما، فهو يكتفي بالوجود المحتمل و يعامل معه معاملة المقطوع، ثمّ يأتي لجبر النقص المحتمل بما يحتمل نقصه بعد السّلام.

و لا يخفى أنّ الذي يرى نفسه في حال القيام أو في الركوع أو بينه و بين السجود، أو في السجدة الأولى أو الثانية قبل إتمام

الذكر الواجب و يشكّ في أنّ ما بيده ثالثة أو رابعة، فشكّه بالنسبة إلى هذا الذي بيده لا يحسب شكّا في الركعة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 527

التامّة، بل في نصفها أو ثلثيها و نحو ذلك، و مورد العمومات إنّما هو الشكّ في الركعة التي هي اسم للمجموع من حيث المجموع، فهذا المصلّي لا محالة يكون شكّه بملاحظة الركعة راجعا إلى الشكّ بين الاثنتين و الثلاث كما هو واضح، و قد عرفت أنّ مقتضى العمومات أنّه يبني على أنّ الثالثة الموهومة كالمقطوعة، فيبادر إلى إتمام ما بيده بعنوان الرابعة، ثمّ يأتي بركعة محتملة للنقص بعد السّلام.

هذا هو الحال في الشكّ بين الثلاث و الأربع قبل الإكمال.

و منه يظهر الحال في الثلاث الأخر أعني: الأربع و الخمس في حال القيام، و الثلاث و الخمس كذلك، و الثلاث و الأربع و الخمس كذلك، غاية الأمر أنّه يلزم عليه في هذه الثلاث- بعد ما بنى على تحقّق الرابعة المحتملة و عامل معها معاملة المقطوعة- هدم القيام الذي هو فيه، لأنّ هذا عمل من يقطع بكون القيام السابق ركعة رابعة، فإنّه يهدم و يجلس و يتشهّد و يسلّم، ثمّ بعد ذلك يأتي بجبر النقصان المحتمل كسائر الصور المتقدّمة.

فهذه الأربع الخالية عن النصّ الخاصّ أيضا يمكن استفادتها، لكن من العمومات بالتقريب الذي عرفت، لا كما قد يتوهّم من أنّ الثلاثة الأخيرة بعد الهدم يرجع الشكّ فيها إلى تلك الصور المنصوصة، فيندرج تحت النصوص الخاصّة بهذه الحيلة، كما لعلّه إليه يشير ما في بعض النصوص من أنّ الفقيه يحتال لأجل صلاته حتّى لا يعيدها.

و لا كما يظهر ارتضاؤه من كلام شيخنا المرتضى قدّس سرّه من استفادة حكمها من العمومات بتقريب

آخر، و هو شمول الأكثر الذي أمرت العمومات بالبناء عليه للركعة المحتمل كونها خامسة قبل الركوع، فإنّه يمكن تصحيحها أيضا بالبناء المذكور، فإنّ أثره هدمها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 528

وجه عدم المصير إلى الوجهين، أمّا إلى الوجه الأوّل فواضح، لأنّ كلّ عنوان تحقّق للشكّ في أوّل حدوثه هو المعيار، و لا عبرة بما يحدث له باعتبار الوجود البقائي، كما أنّ الشكّ في الجزء قبل الدخول في الجزء المرتّب عليه لا يمكن إدراجه تحت أخبار الشكّ بعد تجاوز المحلّ بالورود في الجزء المتأخّر شاكّا.

لا يقال: في ذلك المقام الشكّ محفوظ بشخصه، و إنّما تغيّر المحلّ، و أمّا هنا فالشكّ متغيّر بنفسه، لأنّه قبل الهدم شكّ في عدد، و بعده يصير شكّا آخر في عدد آخر.

لأنّا نقول: كلّا، بل الوحدة هنا أيضا محفوظة، فإنّ الشكّ في أيّ مرتبة من العدد تحقّق بالنسبة إلى ركعة، فهو بعينه شكّ في المرتبة النازلة عنها بالنسبة إلى ما سبقها، فالشكّ في العدد النازل بعد هدم القيام ليس شكّا آخر، بل عين ذلك الشكّ الأوّل، و إنّما تغيّر محلّه، و بعد ما كان العبرة بأوّل حدوثه لا بما يحدث له من العنوان في مرحلة بقائه فلا عبرة بالرجوع إلى أحد الشكوك المنصوصة بالحيلة المذكورة.

و أمّا إلى الوجه الثاني «1» فلأنّ الأكثر المأمور بالبناء عليه ليس عامّا لكلّ أكثر و لو كان مضرّا بالصحّة كالسادسة أو الخامسة بعد الركوع، كما هو واضح، أو غير مضرّ و لا نافع، و إنّما ينفع بالصحّة هدمها كالخامسة قبل الركوع.

وجهه أنّ النصوص المذكورة تنادي بأنّ الأكثر المذكور شي ء يكون البناء عليه ملازما لاحتمال النقيصة في عدد الركعات، حتّى أنّه احتيج إلى إتيان ركعة الاحتياط لتدارك تلك

النقيصة المحتملة، و تكون ركعة الاحتياط دائرة بين الجابريّة للنقصان و كونها نافلة غير مرتبطة بالصلاة، و من المعلوم أنّ هذا المعنى لا يتحقّق

______________________________

(1) أي عدم المصير إلى الوجه الثاني.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 529

بالنسبة إلى الخامسة قبل الركوع كما هو واضح.

فالمحيص منحصر بما ذكرنا من أنّ هذا القانون غير شامل للقيامات، و لا للقيامات مع الركوعات، و إنّما هو متعرّض لحال الشكّ في الركعات، و إذن فشكّه بالنسبة إلى القيام، أو هو مع الركوع المتلبّس بهما ملغى و غير محكوم بحكم أصلا، و الذي وقع تحت الحكم هو شكّه بالنسبة إلى الركعات التامّة من صلاته هذه، و هي منحصرة في القيامات السابقة، و شكّه بالنسبة إليها فعلا، و قبل الهدم يكون معنونا إمّا بالاثنتين و الأربع، و إمّا بالثلاث و الأربع و إمّا بغيرهما من الأربع المنصوصة، و المستفاد حكمها من العمومات أيضا.

و من هنا يظهر الحال بالنسبة إلى الشكّ بين الخمس و الستّ في حال القيام، فإنّه أيضا مشمول للنصّ الخاصّ الحاكم في من لا يدري أنّه صلّى أربعا أو خمسا بالتشهّد و التسليم ثمّ سجدتي السهو، لأنّه بالنسبة إلى قياماته السابقة التي هي المسمّاة باسم الركعة التامّة شاكّ بين الأربع و الخمس، فيجب عليه بمقتضى ذلك النصّ الخاصّ البناء على كون قيامه المتّصل بهذا القيام رابعا، فيجب عليه هدم ما بيده ثمّ التشهّد و التسليم و سجدتي السهو، و اللّٰه العالم.

المقام الثاني: في ذكر النصوص الخاصّة الواردة في الصور الخمس الأول،
اشارة

فنقول و على اللّٰه التوكّل:

[الصورة الأولى] الشكّ بين الاثنين و الثلاث

أمّا الصورة الاولى: أعني الشكّ بين الاثنتين و الثلاث فالمحكيّ عن الذكرى أنّه قال: و أمّا الشكّ بين الاثنتين و الثلاث فأجراه معظم الأصحاب مجرى الشكّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 530

بين الثلاث و الأربع، و لم نقف فيه على رواية صريحة، و نقل فيه ابن أبي عقيل تواتر الأخبار، انتهى.

أقول: أمّا الأخبار العامّة فيمكن الخدشة في عمومها للمقام، لإمكان دعوى ظهور مثل قوله عليه السّلام: من شكّ في الأوّلتين أعاد حتّى يحفظ، كما في بعض الأخبار، أو حتّى يثبتهما، كما في آخر، في وجوب حفظ الأوليين على نحو التفصيل، فلا يشمل ما لو وقع إحداهما طرفا للعلم الإجمالي، فلا يمكنه في مقام عدّ الركعات أن يقول:

هذه الركعة بخصوصيّتها ثانية، بل نقول إمّا ثانية و إمّا ثالثة.

لكنّ الذي يسهّل الخطب وجود النصّ المعتبر في الشكّ بين الثنتين و الأربع بصحّة الصلاة، و منه يستكشف كفاية هذا المقدار من الحفظ و تماميّة عموم الأخبار العامّة للمقام.

و أمّا الأخبار الخاصّة فهي بين ما هو ظاهر في البناء على الأقلّ، كرواية سهل ابن اليسع «1»، و رواية زرارة «2»، و ما هو ظاهر في البناء على الأكثر بقرينة تعيين فاتحة القرآن، كرواية قرب الإسناد «3»، و ما هو ظاهر في وجوب الإعادة، كرواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن رجل لم يدر أ ركعتين صلّى أم ثلاثا؟ قال عليه السّلام: يعيد، قلت: أ ليس يقال: لا تعاد الصلاة فقيه؟ فقال: إنّما ذلك للثلاث و الأربع» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب الخلل

في الصلاة، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 531

أمّا ما دلّ على البناء على الأقلّ فسيأتي أنّه عدم جواز الاعتماد عليه، لإعراض الأصحاب عنه، و منافاته لما يستفاد من سائر الأخبار، فيتعيّن حمله على التقيّة إن لم يمكن إرجاعه إلى البناء على الأكثر.

و أمّا ما دلّ على وجوب الإعادة فالظاهر أنّ المراد منه ليس ما يتراءى في بادي الرأي من الحكم في البطلان، كيف و مقتضى ذلك انحصار العلاج بالشكّ بين الثلاث و الأربع، بل المراد منه الرخصة، أو الرجحان في الإعادة في غير الشكّ بين الثلاث و الأربع حتّى يحصل الامتثال القطعي للأمر بأربع ركعات، و مرجوحيّة ذلك في الشكّ المزبور بالنسبة إلى علاج ما بيده بالبناء على الأكثر.

فمحصّل ما يستفاد من الخبر الشريف أنّه كما يجوز إحراز الأربع بالطريق الظاهري المنصوص عليه في الأخبار العامّة، كذلك يجوز إحرازها بنحو اليقين.

و الذي يشهد بصحّة هذا الجمع أنّ الأخبار العامّة، سياقها تعليم الطريق لإتمام الصلاة مع الشكّ، و ليس مفادها تعيين العمل به، نعم يعيّنه دليل حرمة الإبطال لو كان له عموم يشمل المقام، فالخبر الشريف إنّما ينافي حرمة الإبطال، لا مدلول تلك الأخبار.

لا يقال: الأمر بالإعادة ظاهر في البطلان، بحيث يكون صرفه إلى تجويز القطع و رفع حرمة الإبطال خارجا عن متفاهم أهل العرف، كما أشير إليه في بعض المباحث السابقة.

لأنّا نقول: ليس الأمر بالإعادة في مثل المقام ظاهرا في البطلان، إذ لا يتوهّم أحد أن يكون الشكّ بنفسه من المبطلات، فمعناه لا محالة تجويز القطع، لإحراز المصداق القطعي

للامتثال، غاية الأمر أنّ له أيضا إحراز المصداق التعبّدي الذي أشار إليه الأخبار العامّة، لكنّ الإعادة في خصوص الشكّ بين الثلاث و الأربع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 532

مرجوحة بالنسبة إلى عمل الشكّ، و راجحة عليه في الشكوك الصحيحة للآخر، و اللّٰه العالم.

[الصورة الثانية:] الشكّ بين الثلاث و الأربع

و أمّا الصورة الثانية: أعني الشكّ بين الثلاث و الأربع، فتارة يكون عروضه بعد الفراغ من الركعة، و اخرى في أثناء التلبّس بها، و لا يخفى انحصار مورد الأخبار الخاصّة الواردة في هذا الشكّ بالقسم الأوّل، لأنّه مفاد قوله في بعضها:

إذا لم تدر ثلاثا صلّيت أم أربعا «1»، و في آخر: لا يدري أثلاثا صلّى أم أربعا «2»، و في ثالث: إذا لم يدر في ثلاث هو أم في أربع و قد أحرز الثلاث «3»، فإنّه لا يقال:

صلّى ثلاثا أو أنّه أحرز ثلاثا إلّا بعد ما فرغ من الثالثة، و لا يقال ذلك في أثناء التلبّس بها.

و على هذا فلا بدّ في القسم الثاني من الرجوع إلى إطلاق الأخبار العامّة و الخاصّة الواردة في الصورة السابقة أعني: الشكّ بين الثنتين و الثلاث، فإنّ الشكّ في الركعة المتلبّس بها بين كونها ثالثة أو رابعة ملازم للشكّ في سابقتها بين كونها ثانية تامّة، أو ثالثة كذلك، و قد دلّت الأخبار العامّة و الخاصّة المزبورة على أنّه متى دار أمر الركعات التامّة بين الثنتين و الثلاث يبني على الثلاث و يجي ء بركعة منفصلة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص:

533

و يجوز له قطع الصلاة و إعادتها من رأس على ما مرّ.

و أمّا القسم الأوّل فالأخبار الخاصّة متعارضة فيه بحسب الظاهر.

فمنها: ما يدلّ على البناء على الأربع، و هو مفاد أكثر الأخبار «1».

و منها: ما يستظهر منه البناء على الأقلّ، كصحيحة زرارة عن أحدهما عليه السّلام «قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو أو في اثنتين و قد أحرز الثنتين؟ قال عليه السّلام:

يركع ركعتين و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الكتاب و يتشهّد و لا شي ء عليه، و إن لم يدر في ثلاث هو أو في أربع و قد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى و لا شي ء عليه، و لا ينقض اليقين بالشكّ، و لا يدخل الشكّ في اليقين، و لا يخلط أحدهما بالآخر، و لكن ينقض الشكّ باليقين و يتمّ على اليقين فيبني عليه، و لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» «2».

فإنّ ظاهر قوله عليه السّلام: قام فأضاف إليها أخرى، هو اتّصال الركعة الملازم للبناء على الأقلّ، كما هو مقتضى قوله عليه السّلام في مقام التعليل: و لا ينقض اليقين بالشكّ هذا.

و لكنّ التحقيق عدم دلالة الخبر على ذلك، بل و دلالته على البناء على الأكثر، توضيحه أنّه إذا كان المأمور به أربع ركعات مأخوذة بشرط لا من الزيادة، فكما لا بدّ في مقام التفريع من القطع بوجود ذات الأربع بلا نقص كذلك لا بدّ من إحراز وصفها بعدم الزيادة إمّا بالقطع أو بالأصل و حينئذ فالشاكّ بين الثلاث و الأربع إن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3، و الباب 11

من هذه الأبواب، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 534

اكتفى في مقام التفريع بهذه الركعات المردّدة بين الثلاث و الأربع فقد نقض يقين اشتغاله بالشكّ، لأنّه يحتمل كون هذا المأتيّ ناقصا من الأربع، و قد كان مقتضى اشتغاله اليقيني بتحصيل هذا العنوان الاقتصار على الفرد المعلوم منه و عدم الاكتفاء بالفرد المشكوك، هذا إن اكتفى بما أتى به من الركعات.

و إن لم يكتف، بل ضمّ إليها ركعة أخرى موصولة فقد خرج عن عهدة الاشتغال بذات الأربع خروجا قطعيّا، و لكنّه من حيث الاتّصاف بعدم الزيادة عن هذا الحدّ لم يخرج عن الاشتغال القطعي إلّا بالشكّ، فالفراغ بالنسبة إلى ذات المحدود قد حصل بالقطع، و بالنسبة إلى حدّه قد حصل بالشكّ، و قد كان مقتضى الاشتغال القطعي بالمحدود، الفراغ القطعي الغير المخلوط بالشكّ.

إن قلت: و إن كان في هذه الصورة غير محرز لعدم الزيادة بالقطع، و لكنّه محرز له بالأصل.

قلت: الأصل بالنسبة إلى إعطاء الحدّ لهذا الموجود و أنّه محدود بالأربع من دون زيادة مثبت، هذا إن تمّ الركعة الأخرى موصولة، و أمّا إن عمل بالقانون المشار إليه في الأخبار من إتيان الركعة المحتملة النقصان مفصولة فقد أحرز المأمور به بذاته وحده على سبيل القطع، لأنّه إن كان المأتيّ به أوّلا ثلاثا فقد تمّمه بهذه الركعة المفصولة بواسطة قبول الشارع إيّاها مقام الموصولة، و إن كان أربعا فقد سلّم من زيادة الخامسة، لاحتساب الشارع هذه الركعة المفصولة على تقدير تماميّة الصلاة نافلة.

إذا عرفت هذا فنقول: الظاهر من الفقرات الستّ أو السبع أعني قوله:

و لا ينقض إلخ هو إرادة البناء على الأربع و الإتيان بالركعة المحتملة النقصان مفصولة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 535

و يشهد على

ذلك أمران: أحدهما: نفس تكرار هذه الفقرات، إذ لو كان المراد هو البناء على الأقلّ و إتيان الركعة المحتملة النقصان موصولة لكفى في تأدية هذا المراد الفقرة الأولى، كما في سائر الموارد التي ورد فيها هذه الفقرة، فيكون ذكر سائر الفقرات لغوا مستدركا، بخلاف ما إذا حمل على المعنى الذي ذكرنا، فإنّه يراد حينئذ بكلّ فقرة معنى غير ما يراد بالأخرى كما عرفت من تقريرنا.

و الثاني: ظهور رجوع هذه الفقرات إلى كلتا الصورتين المذكورتين في صدر الصحيحة، و لا يخفى ظهور قوله في الصورة الاولى و هو الشكّ بين الثنتين و الأربع يركع ركعتين و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الكتاب في كون الركعتين مفصولتين لما في تعيين فاتحة الكتاب و التصريح باسم القيام من الدلالة الواضحة على ذلك، و حينئذ فلا محيص عن حمل الفقرات المذكورة على المعنى الذي ذكرنا، و اللّٰه العالم.

بقي شي ء ينبغي التنبيه عليه و هو أنّ مادّة النقض لا بدّ و أن يكون متعلّقا بشي ء له الاستحكام كاليقين، فما وجه قوله عليه السّلام: و لكن ينقض الشكّ باليقين، و يمكن أن يكون جاريا مجرى قول الشاعر:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخة قلت اطبخوا لي جبّة و قميصا

[الصورة الثالثة:] الشكّ بين الثنتين و الثلاث و الأربع
اشارة

و أمّا الصورة الثالثة: أعني: الشكّ بين الثنتين و الثلاث و الأربع ففيها مقامان:

الأوّل: هل يمكن استفادة حكم هذه الصورة من الأخبار العامّة أو لا؟

الثاني: في ما يستفاد من الأخبار الخاصّة الواردة في حكم هذه الصورة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 536

أمّا [المقام] الأوّل:

فالحقّ عدم العموم في تلك الأخبار لهذه الصورة، وجه ذلك أنّ الأخبار متعرّضة للشكوك التي يكون أمر الركعة المفصولة فيها مردّدا بين كونها تتميما لتمام النقصان على تقدير نقص الصلاة أو نافلة مستقلّة على تقدير تماميّتها.

و حينئذ نقول: إنّ الشاكّ بين الثنتين و الثلاث و الأربع إن أتى بركعتين عن قيام، ثمّ بركعتين عن جلوس فإن كانت الصلاة تامّة غير ناقصة فلا كلام، و إن كانت ناقصة بركعتين فلا كلام أيضا، و أمّا إن كانت ناقصة بركعة فالركعتان عن قيام لا تصلحان لتتميم نقصها مع كونها ناقصة، فلا بدّ من كونهما نافلة، و الأخبار إنّما دلّت على نافليّة الركعة المفصولة التي يصلح على جميع تقادير النقص لتتميم الصلاة في تقدير تماميّتها، لا على نافليّة الركعة المفصولة الصالحة للتتميم على بعض تقادير النقص دون بعض في تقدير عدم الصلاحيّة.

و إن أتى بركعة عن قيام و ركعتين عن جلوس فإن كانت صلاته تامّة أو ناقصة بركعة فلا كلام، و أمّا إن كانت ناقصة بركعتين فالركعة المفصولة عن قيام لا يصلح لتتميم تمام النقصان، فلا بدّ من كونها نافلة في هذا التقدير، و قد عرفت عدم دلالة الأخبار على ذلك إلّا في مورد دوران أمر الركعة بين كونها تتميما لتمام النقص الوارد في الصلاة بجميع تقاديره و نافلة في تقدير عدم النقص، فالنافليّة في بعض تقادير النقص خارجة عن مدلولها.

و أمّا المقام الثاني:

فيدلّ على المشهور من البناء على الأربع ثمّ الإتيان بركعتين عن قيام و ركعتين عن جلوس مرسلة ابن أبي عمير «1» التي هي في حكم المسانيد، و لكن يعارضها صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه السّلام

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الخلل

في الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 537

«قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: رجل لا يدري اثنتين صلّى أم ثلاثا أم أربعا؟

فقال عليه السّلام: يصلّي ركعة من قيام، ثمّ يسلّم، ثمّ يصلّي ركعتين و هو جالس» «1».

و يدفع المعارضة أنّه نقل عن بعض نسخ التهذيب أنّ فيها بدل الركعة الركعتين من قيام، فيكون الصحيحة مجملة المراد، لاختلاف نسخها، فلا يعارض تلك المرسلة الصريحة في مرام المشهور، مع أنّه على تقدير صحّة النسخة الأولى يمكن الجمع بينها و بين المرسلة بالتخيير بين الأمرين، و اللّٰه العالم.

[الصورة الرابعة:] الشكّ بين الثنتين و الأربع

و أمّا الصورة الرابعة: أعني الشكّ بين الثنتين و الأربع فقد ورد فيها الأخبار المعتبرة على طبق مرام المشهور من البناء على الأربع بإتيان ركعتين منفصلتين.

نعم ظاهر بعض الأخبار البناء على الأقلّ بقوله عليه السّلام فيه: اركع ركعتين ثمّ سلّم «2»، حيث إنّ الظاهر منه كون هذا التسليم تسليم الصلاة، فيكون الركعتان موصولتين، و قد ورد في الصحيح عن محمّد بن مسلم الأمر بالإعادة أيضا.

و يمكن أن يقال- بعد الغضّ عمّا مرّ من كون البناء على الأقلّ مورد المنع البليغ الوارد في صحيح زرارة المتقدّم في ضمن الفقرات الستّ أو السبع على ما فصّلنا، و عمّا سيجي ء من كون البناء على الأقلّ غير معتمد عليه عند الشارع في الركعات الصلاتيّة على ما يستفاد من الأخبار المستفيضة الحاكمة بكون الركعتين

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 538

الأوليين فرض اللّٰه، و لأجل ذلك ليس فيهما الوهم، فيجب الإعادة كما يأتي بيان ذلك إن شاء اللّٰه

مفصّلا-: إنّ الشارع جعل في حقّ هذا الشاكّ ثلاثة أنحاء من الامتثال:

الأوّل: رفع اليد عمّا بيده و استئناف صلاة أخرى ليكون قد امتثل المأمور به بمصداقه القطعي.

و الثاني: تتميم ما بيده بقاعدة تعبّديّة يأمن المصلّي عن كشف الخلاف لها، و هي البناء على الأكثر و إتيان الركعتين مفصولتين.

و الثالث: أيضا تتميم ما بيده، لكن بقاعدة ظاهريّة لا يستفيد المكلّف منها إلّا ما دام باقيا على الشكّ، و أمّا بعد زوال الشكّ و تبيين الخلاف فيجب عليه الإعادة، و هي البناء على الأقلّ الذي هو مقتضى الاستصحاب، هذا.

و لكن قد عرفت و سيجي ء إن شاء اللّٰه تعالى عدم كون البناء على الأقلّ مرضيّا عند الشارع، فالأولى حمل ما ظاهره ذلك على ما لا ينافي الأخبار الأول إن أمكن، و إلّا فعلى التقيّة.

بقي في المقام شي ء ينبغي التنبيه عليه و هو أنّه قد يقال: من أين يستفاد ابتداء الركعة أو الركعتين المفصولتين بتكبيرة الافتتاح، و أين موضع استفادته من أخبار الباب العامّة منها أو الخاصّة، و أيضا هل يستفاد من الأخبار العامّة في صورة كون النقصان المحتمل ركعة واحدة تعيين كونها عن قيام أو عن جلوس أو التعميم.

و الجواب أمّا عن السؤال الأوّل فهو أنّ موضع الاستفادة حكم الأخبار بكون هذه الركعة أو الركعتين صلاة مستقلّة نافلة على تقدير عدم نقص صلاة الأصل، و من المعلوم أنّ الصلاة المستقلّة لا يكون بلا افتتاح.

و أمّا عن السؤال الثاني: فهو أنّه يمكن الاصطياد من حال الشارع عدم جعل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 539

الركعة الواحدة صلاة مستقلّة إلّا في الوتر و ركعة الاحتياط في بعض الشكوك التي ورد النصّ فيها من الشارع بكونها عن قيام، فاحتساب الركعة عن

قيام نافلة يحتاج إلى تنصيص الشارع به في خصوص المقام، و إلّا فلا بدّ من صلاة الركعتين عن جلوس اللتين قد علمنا من الشارع أيضا احتسابهما مكان الركعة الواحدة القياميّة.

و يعلم ما ذكرنا من تعليل زيادة الوتيرة على عدد النوافل النهاريّة و الليليّة بكونها لأجل تكميل عدد النوافل إلى عدد الأربع و الثلاثين ليكون مكان كلّ ركعة من الفرض ركعتان من النفل.

و حينئذ فنقول: إنّ الركعة المفصولة المأتيّ بها لجبران النقص المحتمل لا بدّ و أن يكون صالحة للجبر على تقدير النقص و لوقوعها صلاة مستقلّة على تقدير التمام، فلا بدّ من اشتمالها على تكبيرة الإحرام و عدم كونها ركعة واحدة قياميّة، بل إتيان الركعتين عن جلوس مكانها.

لكنّ الذي سهّل الخطب وجود مرسلة جميل في خصوص الشكّ بين الثلاث و الأربع، فإنّه قد نصّ فيها بالتخيير بين الركعة عن قيام و الركعتين عن جلوس «1».

[الصورة الخامسة:] الشكّ بين الأربع و الخمس

و أمّا الصورة الخامسة: أعني الشكّ بين الأربع و الخمس فقد ورد فيها النصّ الخاصّ بالبناء على الأربع ثمّ الإتيان بسجدتي السهو «2»، نعم بعض الأخبار

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1 و 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 540

مشتمل على عطف فقرة مجملة على الشكّ المزبور في الحكم بالسجدتين، لكن إجمال المعطوف لا يضرّ بالمعطوف عليه الذي هو المطلوب، مضافا إلى وجود النصّ الخالي عن هذا العطف.

و أمّا النصّ المشتمل عليه فهو صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

إذا لم تدر أربعا صلّيت أو خمسا، أم زدت، أم نقصت فتشهّد و سلّم و اسجد سجدتين بغير ركوع و

لا قراءة يتشهّد فيهما تشهّدا خفيفا «1».

و مجمل الكلام في بيان الجملتين المعطوفتين أعني قوله: أم زدت أم نقصت و إن كان خارجا عمّا نحن بصدده أنّ فيه احتمالات:

الأوّل: أن يكون العطف على فعل الشرط، فيكون الكلام في قوّة قولنا:

إذا زدت أو نقصت فاسجد سجدتين إلخ، فيكون مساوقا لمرسلة سفيان بن السمط:

تسجد سجدتي السهو لكلّ زيادة يدخل عليك أو نقصان، و هذا الاحتمال في مخالفة الظاهر بمكان، لمنافاته لمقتضى وضع «أم» العاطفة من معادلتها لهمزة الاستفهام أو همزة التسوية.

و الثاني: أن يكون العطف على معمول الشرط، فيكون الكلام في قوّة قولنا:

إذا لم تدر زدت أم نقصت إلخ.

ثمّ على هذا التقدير تارة يحمل الكلام على إرادة العلم الإجمالي بطروّ الخلل على الصلاة من ناحية أحد الأمرين: إمّا زيادة الركعة و إمّا نقيصتها، لكن من المعلوم عدم علاج هذا الشكّ بسجدتي السهو، فلا يصحّ حمل الكلام عليه.

و اخرى: على إرادة الشكّ البدوي، إمّا بجعل كلّ من عنواني الزيادة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 541

و النقيصة متعلّقا للشكّ مستقلّا، فيكون الكلام في قوّة قولنا: إذا لم تدر زدت أم لا، أو نقصت أم لا، و إمّا بجعل المراد من النقص عدم الزيادة، كما لعلّه المتعارف في التعبيرات العرفيّة، فيطلق الزيادة و النقيصة في مقام الزيادة و العدم، فيكون الكلام في قوّة قولنا: إذا لم تدر زدت أم لم تزد.

و لعلّ الأظهر من هذين هو الأخير، و عليه يكون حكم السجدتين جاريا في جميع صور الشكّ في الزيادة، كالأربع و الستّ، و الأربع و السبع و نحوهما ممّا يكون أحد طرفي الشكّ فيه الأربع و الآخر

الزيادة عليه.

كما أنّه على الأوّل منها يجري حكم السجدتين في الثلاث و الأربع و الاثنتين و الأربع و غيرهما ممّا يكون أحد طرفي الشكّ فيه الأربع و الآخر النقيصة منه، فيلزم منه الاكتفاء بالسجدتين في علاج مثل هذه الشكوك و عدم الحاجة إلى ركعات الاحتياط.

فيكون هذا مبعّدا لهذا الاحتمال و مقرّبا للاحتمال الآخر، أعني كون قوله:

أم نقصت بمعنى: أم لم تزد.

لكن قد يعارض ذلك مضمرة الشحّام «قال: سألته عن رجل صلّى العصر ستّ ركعات أو خمس ركعات؟ قال عليه السّلام: إن استيقن أنّه صلّى خمسا أو ستّا فليعد، و إن كان لا يدري أ زاد أم نقص فليكبّر و هو جالس، ثمّ يركع ركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب في آخر صلاته، ثمّ يتشهّد» «1» الحديث.

لكن قد يجمع بينهما بتخيير المكلّف في مقام علاج الشكّ المذكور بين الأمرين:

إمّا بسجدتي السهو، و إمّا صلاة الركعتين جلوسا، و ليس المقصود بالركعتين تدارك

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 542

النقص حتّى يشكل بعدم تطرّقه في الشكّ في الزيادة، بل المقصود بهما إرغام أنف الشيطان كما هو المقصود بالسجدتين أيضا.

و على كلّ حال فإجمال الفقرة المزبورة لا يضرّ بما نحن بصدده بعد وضوح المراد بالصدر على جميع التقادير.

نعم على تقدير إرادة الاحتمال الأوّل من الاحتمالات المذكورة يسقط الكلام عن الظهور في إيجاب السجدتين بواسطة عطف الزيادة و النقيصة اللتين قد قام الدلالة الخارجيّة على إرادة مطلق الرجحان بالنسبة إليهما، لكن يكفينا من هذه الجهة وجود النصّ الخالي عن عطف الزيادة و النقيصة.

و ليعلم أنّ للشكّ بين الأربع و الخمس صورا عديدة.

إحداها: أن يشكّ هذا الشكّ بعد إكمال السجدتين،

و هذه هي المتيقّن من موارد النصوص.

و الثانية: أن يشكّ في أثناء القيام قبل الركوع، و هذه راجعة إلى الشكّ بين الثلاث و الأربع، كرجوع الشكّ بين الخمس و الستّ في حال القيام إلى الشكّ بين الأربع و الخمس، كما يأتي إن شاء اللّٰه تعالى بيانه.

و الثالثة: أن يشكّ بعد الدخول في الركوع أو بعد رفع الرأس منه و قبل السجود، أو في السجدة الأولى، أو بين السجدتين، أو في السجدة الثانية قبل إكمال الذكر الواجب، و الشكّ المذكور في جميع هذه الصور خارج عن مورد النصوص الخاصّة الواردة في من لا يدري أنّه صلّى أربعا أو خمسا، فإنّ هذا العنوان غير صادق إلّا بالنسبة إلى من اتّفق له هذا الشكّ في الركعات الماضية، لا في الأعمّ منها و من الركعة المتلبّس بها، نعم الشاكّ المزبور يصدق عليه أنّه شاكّ في الركعات الماضية بين الثلاث و الأربع، لكن نصوص الشكّ بين الثلاث و الأربع كالنصوص

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 543

العامّة غير شاملة لهذا الفرد، فإنّ اللازم عن البناء على كون الركعة السابقة رابعة هدم هذه الركعة التي تلبّس بها، و اللازم من ذلك بطلان الصلاة بسبب طروّ وصف الزيادة على الركوع أو عليه و على السجدتين، و طروّ وصف الزيادة بعد الوجود و إن كان غير مضرّ في غير الأركان، لكن لا إشكال في إبطاله فيها، و من المعلوم أنّ نصوص البناء على الأكثر غير شاملة لما إذا لزم من البناء المذكور بطلان الصلاة.

هذا حاصل الكلام في الصور الخمس التي ورد فيها النصّ الخاصّ من الشكوك المتعلّقة بالركعتين الأخيرتين.

و أمّا غيرها من الصور فلا يخلو إمّا أن يكون راجعا إلى إحدى تلك الخمس

كالشكّ بين الثلاث و الأربع في جميع الحالات غير حال ما بعد إكمال السجدتين، و الشكّ بين الأربع و الخمس في حال القيام، و الشكّ بين الثلاث و الخمس كذلك، و الشكّ بين الثلاث و الأربع و الخمس كذلك، و الشكّ بين الخمس و الستّ كذلك.

و إمّا أن لا يكون راجعا إلى واحدة منها، كالشكّ بين الأربع و الخمس بعد الركوع، و الشكّ بين الثنتين و الخمس في جميع الأحوال، و الشكّ بين الثلاث و الستّ أو أزيد كذلك، و الشكّ بين الأربع و الستّ أو أزيد كذلك.

ثمّ القسم الأوّل أيضا على قسمين، إمّا أن يكون مقرونا بالعلم بحصول الزيادة السهويّة كالشكّ بين الخمس و الستّ في حال القيام، أو باحتمال ذلك، كالشكّ بين الأربع و الخمس في حال القيام، أو لا يكون مقرونا لا بالقطع و لا بالاحتمال المذكورين، كالشكّ بين الثلاث و الأربع حال القيام مثلا.

و القسم الثاني، أعني: ما لا يرجع إلى واحد من الشكوك المنصوصة أيضا على قسمين: إمّا أن يكون الشكّ غير راجع إلى الصور المنصوصة أصلا، كالأمثلة المتقدّمة، و إمّا ان يكون مركّبا من الشكوك المنصوصة، و حيث يكون بهيئته

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 544

التركيبيّة غير منصوص لا يشكّ بين الثلاث و الأربع، حيث يكون مركّبا من بسائط منصوصة، و نفسه أيضا منصوص، و هذا كالشكّ بين الثلاث و الأربع و الخمس، و كالشكّ بين الاثنين و الأربع و الخمس.

و مجمل الكلام في المقام أمّا في الشكوك الراجعة إلى المنصوصة بكلا قسميها فهو ما تقدّم من إمكان استفادة هذه الصور من النصوص الخاصّة الواردة في الصور الخمس المتقدّمة، و كذا من النصوص العامّة الدالّة على أنّ الفرق

بين الركعتين الأوليين اللتين هما فرض اللّٰه و الأخيرتين اللتين هما فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله دخول الوهم في الأخيرتين دون الأوليين «1»، بضميمة ما ورد في الأخبار الأخر من قولهم عليهم السّلام:

«ألا أجمع لك السهو في كلمتين؟ متى شككت فابن على الأكثر ثمّ أتمم ما ظننت أنّك نقصت» «2» فإنّ المستفاد من هاتين الطائفتين أنّه متى تعلّق الشكّ بعدد الأخيرتين مع تيقّن الأوليين يبنى على وجود الركعة المحتملة من الأخيرتين، ثمّ يجبر احتمال النقص بركعة الاحتياط من الخارج.

و لا يخفى أنّه حال القيام إذا شكّ أنّ هذا القيام رابع القيامات أو خامسها مثلا فقد شكّ بالنسبة إلى الركعات التامّة من هذه الصلاة بين الثلاث و الأربع، فهو على يقين بوجود الثلاث و على شكّ في وجود الركعة الرابعة، و بمقتضى الأخبار يجب البناء على تحقّق الركعة الرابعة، فيلزم من ذلك هدم هذا القيام الذي شكّ في أنّه رابع القيامات أو خامسها.

و هكذا الكلام في سائر الصور الراجعة إلى الصور المنصوصة، و هذا مراد

______________________________

(1) راجع الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 545

شيخنا المرتضى رحمه اللّٰه حيث تمسّك في حكم هذه الصور بعمومات البناء على الأكثر، لا ما حملنا كلامه عليه سابقا من إرادة البناء على الأكثر في هذا القيام المردّد أمره بين كونه رابعا أو خامسا بأن يبنى على كونه خامسا، فيهدم لأجل ذلك حتّى يرد عليه ما استشكلناه سابقا، فتبصّر.

هذا مجمل الكلام من حيث علاج هذه الشكوك، و أمّا من حيث لزوم الزيادة من هدم الركعة المتلبّس بها في الصور

المحتاجة إلى الهدم فهل يجب سجدة السهو لأجلها بعد ركعة الاحتياط بناء على القول بوجوبهما في مطلق الزيادة و السهويّة أو لا يجب؟

الحقّ هو التفصيل بين ما إذا قطع بتحقّق الزيادة من أوّل وجودها زائدا، كما في الشكّ بين الخمس و الستّ في حال القيام، حيث إنّه يقطع بزيادة هذا القيام من أوّل الوجود، و كذا بزيادة قول: بحول اللّٰه، و التسبيح و الحمد إن تلبّس به أيضا كذلك، فيجب سجدة السهو لأجلها، و بين ما إذا لم يقطع بذلك، كما في الشكّ بين الأربع و الخمس حال القيام، فإنّه كما يحتمل وجود القيام و قول بحول اللّٰه زائدين بأن يكون قياما خامسا، كذلك يحتمل وقوعهما في المحلّ بأن يكون قياما رابعا.

نعم اللازم من حكم الشارع بكون الركعة السابقة على هذا القيام ركعة رابعة تعبّدا لغويّة هذا القيام قهرا، فيكون قد طرأ عليه وصف الزيادة قطعا بسبب هذا الحكم الظاهري، لكن قد تقرّر في محلّه أنّ الزيادة الموجبة لسجود السهو مختصّة بحكم الانصراف بما إذا اتّصف الشي ء من أوّل وجوده بوصف الزيادة، و لا يشمل ما إذا طرأ هذا الوصف بعد الوجوب.

لا يقال: بعد هدم القيام و البناء على كون الركعة السابقة رابعة نقطع بأحد الأمرين: إمّا بنقصان الصلاة بركعة، و إمّا بوجوب سجود السهو، و قد تقرّر في محلّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 546

أنّ مجرّد جريان أصل النافي في أحد طرفي العلم الإجمالي لا يرفع الاشتغال العقلي عن الطرف الآخر، ففي المقام بعد جريان الأصل النافي لنقصان الصلاة المستلزم للبناء على الأكثر لا يرفع الاشتغال العقلي عن وجوب سجود السهو.

لأنّا نقول: ليس حكم الشارع بالبناء على الأكثر حكما ظاهريا، بل هو حكم

واقعي، بمعنى أنّ صلاة الشاكّ بين الثلاث و الأربع و لو كانت في نفس الأمر ثلاثيّة فالركعة الرابعة غير مطلوبة منه واقعا، إلّا مفصولة، بحيث لو تبيّن نقصان الصلاة له بعد ذلك يجزي بما فعل و لا يجب عليه الإعادة، و حينئذ فيكون الشكّ بالنسبة إلى سجود السهو شكّا بدويّا موردا لأصالة البراءة.

هذا حاصل الكلام في الشكوك الراجعة إلى المنصوصة.

و أمّا الغير الراجعة إليها فقد عرفت أنّها على قسمين: قسما يكون مركّبا من بسائط منصوصة، و لكن التركّب منها غير منصوص، كالشكّ بين الاثنتين و الأربع و الخمس، و الشكّ بين الثلاث و الأربع و الخمس، و قسم يكون غير راجع إليها أصلا.

أمّا الأوّل فحاصل الكلام فيه أنّه قد يقال بعلاج الشكّ المذكور من حيث طرفه الأوّل، أعني الشكّ بين الثنتين و الأربع أو الثلاث و الأربع بالبناء على الأربع ثمّ الإتيان بركعتين في الأوّل، و بركعة واحدة في الثاني على ما هو علاج الشكّ بين الثنتين و الأربع منفردا و الشكّ بين الثلاث و الأربع كذلك و علاجه من حيث طرفه الآخر، أعني الشكّ بين الأربع و الخمس بسجود السهو بعد الفراغ من صلاة الاحتياط.

و فيه أنّ من المحتمل كون سجود السهو مشروعا في الشكّ بين الأربع و الخمس لأجل تدارك الخلل الوارد على الصلاة من جهة الزيادة المحتملة، فيكون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 547

مربوطا بإجزاء أمر الصلاة، و ليس حاله كسجود السهو للتكلّم ساهيا و غيره من سائر موجبات سجود السهو، حيث إنّه غير مربوط بأجزاء أمر الصلاة، و لهذا لو أخّر أثم بالتأخير و لا يبطل الصلاة، بل و كذا لو تركه رأسا.

و هذا بخلاف الحال في ما نحن فيه،

فإنّه بعد احتمال جعل الشارع إيّاه بدلا ظاهريّا لامتثال أمر الصلاة المحدودة بالأربع بشرط لا لا يجوز الإخلال بفوريّته و اتّصاله بالصلاة، فإنّه يوجب الشكّ في سقوط الأمر بالصلاة، و بالجملة لا يستفاد من نصوص الشكّ بين الأربع و الخمس اغتفار الفصل بين الصلاة و سجود السهو بمقدار صلاة الاحتياط، فمقتضى الاحتياط اللازم في المقام إعادة أصل الصلاة أيضا بعد العمل بموجب الشكّين.

و أمّا الغير الراجعة إلى المنصوصة و لا المركّبة منها كالأمثلة المتقدّمة فملخّص الكلام فيها أنّه لا طريق إلى تصحيحها لا من جهة البناء على الأكثر، لاختصاصه بما إذا كان ملازما لاحتمال النقيصة و مأمونا عن احتمال الزيادة، فلا يشمل ما إذا كان الأمر بالعكس، أو كان الأمر دائرا بين النقيصة و الزيادة.

و لا من جهة البناء على الأقلّ بتخيّل أنّه مقتضى استصحاب عدم الزيادة، كما هو الحال في الشكّ في الأجزاء، كما لو شكّ و هو جالس في أنّه هل سجد سجدة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فإنّه يبني على الواحدة، فيأتي بالأخرى و ينفي الثالثة بالأصل، و ذلك لانسداد باب الاستصحاب في الشكوك المتعلّقة بالركعات.

و الذي يدلّ على ذلك تعليل وجوب الإعادة في الشكّ المتعلّق بالأوليين بعدم الوهم المفسّر بالبناء على الأكثر فيهما، لكونهما من فرض اللّٰه، فإنّه يستفاد منه أنّ كونهما من فرض اللّٰه صار علّة لعدم جريان حكم البناء على الأكثر فيهما، و عدم جريان ذلك صار علّة لوجوب الإعادة، و مقتضى الأخذ بظهور العلّية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 548

في الأخير التعدّي إلى غير موردهما ممّا ليس من فرض اللّٰه أعني الأخيرتين إذا وجد فيه العلّة المذكورة، و هي عدم جريان الحكم بالبناء على الأكثر، فيحكم في

الأخيرتين أيضا في هذه الصورة بوجوب الإعادة أخذا بظاهر التعليل المذكور، و هذا ملازم لانسداد باب الاستصحاب، و إلّا لم يصحّ تفريع وجوب الإعادة على انسداد باب البناء على الأكثر، هذا.

و ربما يستدلّ للصحّة في خصوص ما إذا شكّ في الزيادة دون النقيصة كما في الشكّ بين الأربع و الستّ أو أزيد بإطلاق صحيحة زرارة أو حسنته «قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر زاد أم نقص فليسجد سجدتين و هو جالس، و سمّاهما رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله المرغّمتين» «1».

تقريب الاستدلال هو أنّ الظاهر من الصدر أعني: قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: إذا شكّ أحدكم في صلاته، حصول الشكّ في أصل وقوع الخلل في الصلاة، فلا يشمل صورة العلم بأصل الخلل و الشكّ في كيفيّته.

و على هذا فلا بدّ من حمل قوله صلّى اللّٰه عليه و آله تفريعا على ما تقدّم: فلم يدر زاد أم نقص، على إرادة الشكّ في وقوع الزيادة و العدم، لا العلم الإجمالي بحصول أحد الأمرين من الزيادة أو النقيصة، فالمراد بالنقص عدم الزيادة، لا النقص عن حدّ المأمور به.

لا يقال: من لم يدر أنّه صلّى ثلاثا أو خمسا غير عالم ببطلان صلاته، لأنّها على تقدير الثلاث قابلة للإتمام.

لأنّا نقول: لا يقال: نقّص صلاته بمجرّد وصوله إلى الركعة الثالثة ما لم يعامل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 549

معها معاملة الرابعة بأن يأتي بالسلام بعدها، و معه لا محالة يكون قاطعا بأصل الخلل، و قد فرضنا خروجه عن ظاهر الصدر،

فمورد الرواية مخصوص بمن لا يدري أنّه صلّى أربعا أو أزيد، و إطلاقه شامل لمن تردّد بين الأربع و الزيادة عن الخمس، هذا.

فروع

1- المراد بالشكّ هو التحيّر

المراد بالشكّ في أخبار المقام هو التحيّر، و لا يطلق التحيّر عرفا إلّا بعد ما لم يمكن رفع الشكّ بسهولة، ألا ترى أنّه لو علّق حكم على الشكّ في وجود زيد في المسجد مثلا فلا يصحّ ترتيب هذا الحكم لمن دخل المسجد شاكّا في وجود زيد مع تغميض عينيه لحفظ شكّه، فإنّه بمجرّد فتح العين إلى الأطراف ينكشف له الحال، فكيف يقال: إنّه متحيّر.

و كذلك الحال في من شكّ أنّه مديون و لكنّه بمجرّد النظر إلى الدفتر يحصل له العلم، فلا يحصل له التمسّك بأصل البراءة النقليّة.

و كذا الحال في الشكّ المأخوذ في أخبار المقام، فإنّ المنصرف منه أيضا هو التحيّر المتوقّف صدقه على استقرار الشكّ بعد مقدار من التروّي، و على هذا فلا يحتاج إلى إقامة دليل بالخصوص على لزوم التروّي.

2- إذا شكّ أحد الشكوك المعتبر فيها إكمال السجدتين و اتّفق له الشكّ في السجدة أو السجدتين من هذه الركعة

التي هو فيها فللمسألة ثلاث صور

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 550

الاولى: أن يتّفق له الشكّ الثاني في حال الجلوس قبل التشهّد، و الثانية:

أن يتّفق له في أثناء التشهّد، و الثالثة: أن يتّفق له في حال القيام.

لا إشكال في الصورة الاولى في الحكم ببطلان الصلاة، لأنّه بعد عدم الطريق لإحراز السجدة أو السجدتين من هذه الركعة و المفروض أنّه يحتمل كونها ركعة ثانية داخل في من لم يحرز الأوّلتين و لم يثبتهما، و قد حكمت الأخبار عليه بالإعادة.

كما أنّه لا إشكال في الصورة الأخيرة في الحكم بالصحّة، لأنّه بواسطة إجراء قاعدة الشكّ بعد التجاوز يندرج في من أثبت الأوليين و تيقّنهما، إذ اليقين موضوع في هذا المقام على وجه الطريقيّة.

إنّما الكلام و الإشكال في الصورة المتوسّطة، أعني ما إذا اتّفق له الشكّ الثاني في أثناء التشهّد، فهل يحكم فيها أيضا بالبطلان كالأولى،

أو بالصحّة كالأخيرة؟

قد يقال بالأوّل، نظرا إلى أنّ المقام شبهة مصداقيّة لقاعدة التجاوز، لأنّه على فرض كون ما بيده ركعة ثالثة يكون التشهّد فيها غير مشروع، و المحقّق للتجاوز هو الدخول في الغير المرتّب على المشكوك شرعا، فيبقى المقام داخلا في عنوان من لم يحرز الأوليين، و قد مرّ أنّ الحكم فيه الإعادة.

إلّا أن يقال بأنّ إحراز الأوليين حاصل بضميمة الوجدان إلى التعبّد، فإنّه على فرض كون ما بيده ركعة ثالثة قاطع بحصول الأوليين وجدانا، و على التقدير الآخر محكوم بوجود السجدتين شرعا، لكونه موردا لقاعدة التجاوز.

إلّا أن يدفع ذلك بأنّه كيف يمكن التعبّد شرعا بوجود السجدتين و لو تعليقا على تقدير خاصّ، ثمّ التعبّد ثانيا مرتّبا على الأوّل بالبناء على الثلاث اللازم منه رفع [اليد] عن التشهّد المستلزم للتعبّد شرعا بعدم السجدتين، فيكون في الحقيقة قد رتّب التعبّد شرعا بعدم السجدتين من هذه الركعة بتّا و بلا تعليق على التعبّد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 551

شرعا بوجودهما فيها على تقدير خاصّ، و من المعلوم التنافي بين التعبّد بوجود شي ء على بعض التقادير و بين التعبّد بعدم ذلك الشي ء بعينه جزما و بلا تعليق.

نعم لو عمّمنا المحلّ المعتبر انقضاؤه في قاعدة التجاوز للمحلّ العادي أمكن أن يقال بإحراز السجدتين هنا بالقاعدة، لأنّ الدخول في التشهّد و لو كان في الركعة الثالثة اشتباها لا يكون بحسب العادة إلّا بعد السجدتين، إلّا أنّه قد تقرّر في محلّه ورود بعض الإشكالات على التعميم المذكور و إن ساعده الفهم العرفي.

3- الشكّ حال القيام بين الثلاث و الأربع

لو شكّ حال القيام بين الثلاث و الأربع و علم أنّه ترك سجدة أو سجدتين من الركعة التي قام عنها فلا محيص عن البطلان، لأنّه بعد رجوع الشكّ

إلى الثنتين و الثلاث و اندراجه تحت أدلّته إمّا حال القيام و إمّا بعد هدمه على الوجهين المتقدّمين يكون فاقدا لما هو الشرط في صحّة الشكّ المرجوع إليه، و هو إحراز الثنتين.

نعم لو قلنا باندراج الشكّ بين الثلاث و الأربع في أثناء الركعة في عمومات البناء على الأكثر، و قلنا أيضا بشمولها للقيام اللازم الهدم على كلّ تقدير، أو قلنا بأنّ إحراز الثنتين المعتبر بين الشكّ في الثنتين و الثلاث مثلا يحصل بإتمام الركوع أمكن القول بالصحّة، لكن ضعف كلا الوجهين غنيّ عن البيان كما مرّ سابقا.

4- لو تردّد في حاله، أنّه ظنّ أو شكّ

لو تردّد في أنّ الحالة الفعليّة الحاصلة له ظنّ أو شكّ قالوا كان ذلك شكّ،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 552

و فيه إشكال من وجهين:

الأوّل: في تصوّر أصل الموضوع، فإنّ الشكّ في اعتدال الوهم و عدمه ليس إلّا كالشكّ في الجزم بأحد الطرفين و عدمه، و كما لا يمكن للإنسان الترديد في جزم نفسه، كذلك لا يمكن الترديد في اعتدالها، لأنّهما من واد واحد.

نعم يمكن الترديد بالنسبة إلى الحالة الموجودة في خزانة نفسه المحجوبة عليه فعلا، و أمّا الترديد في الحالة الفعليّة غير متصوّر في المقامين.

الثاني: بعد تصوّر الموضوع المذكور أعني الشكّ في الحالة الفعليّة ما وجه الجزم بكونه شكّا، و هل هو إلّا التهافت و التناقض؟ إن أريد أنّه بحكم الشكّ فلا وجه له أيضا بعد إرادة اعتدال الطرفين منه في المقام، فإنّ التمسّك بكلّ من دليلي الظنّ و الشكّ ليس إلّا من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

و إن كان مفروض كلامهم الشكّ الفعلي في الحالة المخزونة. ففيه أنّ الحالة المخزونة لا اعتبار بها، و إنّما أنيط الحكم في الأدلّة على الحالة الفعليّة، و من المعلوم أنّه

إذا لوحظ حاله بالنسبة إلى عدد الركعات يكون وهمه معتدلا فيها.

5- لو علم أنّه حصل له حالة تردّد بين الاثنتين و الثلاث مثلا

في الركعة التي قام عنها و بنى على الثلاث، و لكنّه لا يعلم أنّه حصل له الظنّ بالثلاث فبنى عليه، أو أنّه بقي على الشكّ و كان بناؤه على الثلاث من باب حكم الشكّ فلا يخفى أنّه فعلا شاكّ في أنّه صلّى ثلاثا أو أربعا إذا اتّفق له ذلك بعد تمام الركعة.

فإن قلنا بتوافق حكمي الشكّين فلا كلام، و كذلك إن قلنا بتخالفهما و أنّ المتعيّن في الأوّل ركعة من قيام و في الثاني ركعتان من جلوس و لكن قلنا بعدم إضرار فصل صلاة الاحتياط عن صلاة الأصل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 553

و أمّا إن قلنا بتخالفهما و إضرار الفصل فلا محيص عن اختيار أحد الطريقين ثمّ إعادة أصل الصلاة.

و لا وجه للجزم بإجراء حكم الشكّ الثاني بعد ما كان المفروض احتمال كون هذا الشكّ هو الشكّ الحادث أوّلا، إذ على هذا التقدير لا شكّ في كونه محكوما بحكم الشكّ الأوّل، لوضوح أنّ كلّ شكّ وقع بين الثنتين و الثلاث يصير بعد ركعة أخرى شكّا بين الثلاث و الأربع، فيلزم محكوميّته بحكم الثاني، و هو خلف.

و السرّ أنّ الشكّ بين الثلاث و الأربع الواقع موضوعا في أدلّته عبارة عن الشكّ الذي كان بهذه الصورة من أوّل حدوثه لا الأعمّ منه و ممّا إذا عرض له هذا العنوان ببقائه.

و حينئذ فنقول في المقام: إنّه و إن كان شاكّا فعلا بين الثلاث و الأربع، لكنّه لا يعلم أنّه شكّ حادث كذلك، أو أنّه شكّ حدث أوّلا بين الثنتين و الثلاث، و صار ببقائه معنونا بالعنوان الآخر.

و إذا اتّفق له ذلك بعد الفراغ من الصلاة فلا

يعلم أنّ شكّه الفعلي بين الثلاث و الأربع شكّ حادث بعد الفراغ و قد أتمّ صلاته بالظنّ حتّى لا يكون لشكّه الفعلي حكم بمقتضى قاعدة الفراغ، أو أنّه شكّ باق من أثناء الصلاة و قد أتمّ صلاته بحكم الشكّ حتّى يكون فعلا محكوما بصلاة الاحتياط.

و لا يخفى أنّ الشكّ في إيجاب صلاة الاحتياط عليه ليس من الشكّ في تكليف مستقلّ برأسه حتّى يكون موردا للبراءة، بل التكليف بصلاة الاحتياط إنّما هو بعنوان البدليّة في مقام الامتثال و تفريغ الذمّة عن عهدة الصلاة الرباعيّة التي اشتغلت الذمّة بها أوّلا، و من المعلوم أنّ الشكّ الواقع في مثل هذا المقام مورد للاشتغال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 554

6- لو شكّ في أنّ شكّه السابق كان موجبا للبطلان أو للبناء

لو شكّ في أنّ شكّه السابق كان موجبا للبطلان أو للبناء، بنى على الثاني.

مثلا لو علم أنّه شكّ بين الثنتين و الثلاث، و بعد ما دخل في فعل آخر أو ركعة أخرى لم يعلم أنّ شكّه حدث قبل إكمال السجدتين أو بعده جرى في حقّه قاعدة الشكّ بعد المحلّ، و مقتضاها الحكم بحدوثه بعد الإكمال.

بيان ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، و هي أنّه لا إشكال في الحكم بالمضيّ و عدم الاعتناء بالشكّ في شرائط المأمور به بعد انقضاء محلّها بحكم قاعدة التجاوز.

إنّما الكلام و الإشكال في جريان هذه القاعدة في الشكّ في شرائط الأمر و التكليف، كما لو قلنا بعدم صحّة عبادات الصبيّ قبل البلوغ، فوقع الشكّ في صلاة أنّها هل وقعت قبل البلوغ أو بعده، فهل يصحّ التمسّك لصحّتها و الحكم بوقوعها بعد البلوغ بذيل القاعدة أو لا؟

و كذا لو شككنا في صلاة بعد الفراغ منها أنّها هل وقعت بعد دخول الوقت أو قبله، إلى غير ذلك من

الأمثلة.

و لا يبعد دعوى الانصراف إلى القسم الأوّل و خروج الثاني عن مدلول القاعدة بدعوى ظهور قوله عليه السّلام: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» «1» في أنّ

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 554

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 555

الملاك أذكريّة المكلّف حين العمل الذي اشتغلت ذمّته به بالنسبة إلى أجزائه و شرائطه، و أنّه لا يغفل عن إتيان شي ء من هذه الأمور في محالّها، و أين هذا من الحكم بالأذكريّة و عدم الغفلة في مراعاة سائر الأمور الغير المرتبطة بالمأمور به، و إنّما أنيط بها أصل التكليف كالبلوغ و الوقت.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال بأنّ المناط مطلق الأذكريّة لا المقيد بحال العمل المأمور به، بمعنى أنّه متى دار الأمر بين سهو الفاعل في فعله الصادر منه أو ذكره يجب البناء على كونه ذاكرا، و من المعلوم أنّ المصلّي لو صلّى قبل الوقت أو قبل البلوغ مع علمه ببطلانها في الحالين فلا محالة يكون ناشئا عن سهوه، و الأصل عدمه.

إذا عرفت ذلك فنرجع إلى ما كنّا بصدده فنقول: إنّ الشاكّ المذكور في مسألتنا يرجع شكّه إلى أمرين:

الأوّل: الشكّ في حدوث الشكّ قبل الإكمال، و هذا بمنزلة الشكّ في طروّ أحد القواطع، و مقتضى الأصل البناء على عدمه.

و الثاني: الشكّ في حدوث الشكّ بعد الإكمال الذي هو شرط لتوجّه التكليف بالبناء على الأكثر، فإن كان هذا التكليف في عرض التكليف بالأربع الموصولة فالشكّ المذكور شكّ في شرط توجّه هذا التكليف، و إن كان تكليفا ثانويّا واقعا في طريق امتثال التكليف الأوّلي بالأربع الموصولة فالشكّ المذكور شكّ

في شرط توجّه هذا التكليف الثانوي.

و ربما يدّعى انصراف دليل القاعدة إلى الشكوك المتعلّقة بما يتعلّق بالتكاليف الأوّلية، و يدفعه ما عرفت أخيرا من ظهور الدليل في أنّ الملاك مطلق الأذكريّة حال الفعل الصادر عن الفاعل المختار و عدم الغفلة عن شي ء من الجهات الراجعة إليه، و يستوي فيه العمل بمقتضى التكاليف الأوّلية أو الثانويّة، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 556

7- لو علم بعد الفراغ أنّه طرأ له الشكّ في الأثناء

لو علم بعد الفراغ أنّه طرأ له الشكّ في الأثناء، لكن لم يدر كيفيّته من رأس، فإن انحصر في الوجوه الصحيحة أتى بموجب الجميع و هو ركعتان من قيام و ركعتان من جلوس و سجود السهو، ثمّ الإعادة، و إن تردّد بين الوجوه الصحيحة و الفاسدة قال في نجاة العباد و في العروة الوثقى: استأنف الصلاة، لأنّه لم يدر كم صلّى، انتهى.

و الفرق بين هذا الفرع و الفرع المتقدّم أعني الشكّ في كون شكّه السابق قبل الإكمال أو بعده غير معلوم، بل معلوم العدم، و قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو الحمل على الوجه الصحيح، و من العجيب تعليل الاستئناف بأنّه لم يدر كم صلّى، فإنّه «1» ..

8- الشكّ في الركعات لو نوى القصر في مواضع التخيير
اشارة

لو نوى القصر في أحد مواضع التخيير فشكّ بعد إكمال السجدتين أنّه صلّى ثنتين أو ثلاثا فهل له العدول إلى التمام ثمّ البناء على الثلاث، ثمّ صلاة الاحتياط كما هو وظيفة الشكّ المذكور في الرباعيّة، أو أنّه يحكم ببطلان الصلاة، لكونه شكّا في الثنائيّة؟ و على الأوّل هل يجب العدول بناء على حرمة الإبطال أو لا؟

______________________________

(1) كذا في الأصل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 557

القصر و الإتمام ماهيّتان مختلفتان أو لا؟

مجمل الكلام أنّه تارة يقال بأنّ القصر و الإتمام ماهيّتان مختلفتان، و اخرى يقال باتّحادهما ماهيّة، فذات العمل قبل تحقّق التسليم في الركعتين الأوليين صالحة لكليهما، فإن تحقّق التسليم عقيب التشهّد الأوّل يعيّن القصر، و إلّا فالإتمام.

فإن قلنا بالأوّل فمقتضى القاعدة عدم جواز العدول من إحدى الماهيّتين إلى الأخرى، و لو ورد دليل في بعض المقامات كما في الحاضرة إلى الفائتة السابقة كان على خلاف القاعدة، فلا يتعدّى عن مورده، و على هذا فلا محيص عن البطلان في مسألتنا، إذ لا دليل بالخصوص على العدول مع قطع النظر عن وقوع الشكّ.

و إن قلنا بالثاني فالأخبار الخاصّة الواردة في الثنائيّة ببطلان الشكّ فيها أو في الرباعيّة بصحّة الشكّ فيها و إن كان لا يشمل شي ء منها للمقام، إذ المتبادر من الثنائيّة و الرباعيّة هي الصلاة المجعولة، كذلك تعيينا، لكن لا مانع من الأخذ بقوله في موثّقة عمّار: أجمع لك السهو كلّه في كلمتين، متى شككت فابن على الأكثر «1» إلخ، فإنّه و إن كان لا يمكن دخول الثنائيّة التعيينيّة في عموم هذا الخبر و لو فرض عدم وجود الأخبار الخاصّة في خصوص الثنائيّة بملاحظة أنّه إذا كان الشكّ فيها بين الواحدة و الاثنتين، فقد أخرجته الأخبار الدالّة على أنّ فرض اللّٰه

غير قابل للوهم و إن كان بعد إكمال الركعتين كالشكّ بين الثنتين و الثلاث، فالبناء على الأكثر غير شامل له، لكونه ظاهرا في الأكثر الصحيح الذي بعد البناء عليه يحتمل نقص

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 558

الصلاة، و لهذا حكم في الرواية بجبره بصلاة الاحتياط، و بعد عدم شمول العموم المذكور يتعيّن البطلان على ما استفيد من الأخبار المفصّلة بين فرض اللّٰه و فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، حيث يستفاد منها أنّه متى لم يجر الحكم المجعول للسهو في الصلاة فلا محيص فيها عن الإعادة، و قد فسّر حكم حقيقة السهو في الموثّقة بالبناء على الأكثر، لكن هذا كلّه في الثنائيّة التعيينيّة.

و أمّا في مثل مواضع التخيير فالعموم المذكور لا مانع من الأخذ به.

بيان ذلك أنّا لو فرضنا الأمر التوصّلي من المولى بحصول الخطّ إمّا محدودا بنصف الذرع و إمّا بالذرع التامّ فاشتغل المكلّف بالخطّ و غفل، ثمّ التفت فرأى نفسه متجاوزا عن نصف الخطّ غير بالغ إلى تمامه فلا إشكال في أنّه إذا أتمّ ما بيده إلى تمام الذرع كان وافيا بغرض المولى، لما فرضنا من كونه توصّليّا.

فنقول: أمر الشارع بصلاة القصر أو الإتمام تخييرا في المواطن الأربع بعينه من هذا القبيل، إلّا أنّه اعتبر صدور الفعل على وجه الاختيار الحسن، و لا إشكال في أنّه لو قصد حين الشروع في القصر بمعنى أن يأتي بالتسليم عقيب التشهّد الأوّل، ثمّ غفل و أتى بالركعة الثالثة فإتيانه بهذه الركعة الثالثة لا يكون من قبيل الحركة الغير الاختياريّة مثل حركة المرتعش، و بعد كونه اختياريا ليس المحرّك له إلّا الداعي الإلهي،

فلا محالة يكون إتمامه أربع ركعات وافيا بالغرض الصلاتي، لما فرضنا من عدم النقصان، لا من جهة ذات العمل و لا من جهة قصد القربة، فإذا كان هذا حال القطع بوقوع الثالثة فالشكّ فيها أيضا إذا قرّر له الشارع طريقا إلى الإتمام بالبناء على وجود الركعة المحتملة و ضمّ ركعة أخرى موصولة، ثمّ أخرى مفصولة حاله كذلك، غاية الأمر أنّه مع القطع تتميم لأربع ركعات وجدانا، و في صورة الشكّ تعبّدا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 559

ثمّ الظاهر أنّ العدول بعد ما فرضنا جوازه كما عرفت يكون واجبا عقلا من باب تعيين أحد فردي الواجب التخييري في صورة تعذّر الفرد الآخر، فإنّ إتمام هذه الصلاة ثنائيّة متعذّر، و استئناف صلاة أخرى ثنائيّة أيضا منعنا عنه حرمة الإبطال، فيتعيّن إتمامها رباعيّة.

لا يقال: ليس في المقام إبطال، بل المتحقّق هو البطلان، فليس ترك العدول إلّا رفعا لليد عن العمل الباطل، لا إبطالا للعمل الصحيح.

لأنّا نقول: ما ذكرت مبنيّ على كون الشكّ في الصلاة الثنائيّة من المبطلات، و هو خلاف التحقيق، بل غاية الأمر أنّه شكّ بلا علاج، فالصلاة بعد غير باطلة، و المفروض أنّا لو عدلنا إلى الرباعيّة أمكننا إتمامها بأعمال وظيفة الشكّ، فترك ذلك و رفع اليد عنها ليس إلّا إبطالا للعمل الصحيح، و اللّٰه العالم.

و ممّا ذكرنا من اتّحاد القصر و الإتمام ماهيّة يظهر أنّ أمر العدول في مسألتنا أسهل منه في ما إذا دخل في المغرب مثلا فشكّ بين الاثنتين و الثلاث، فذكر أنّ عليه فائتة رباعيّة، فإنّ العدول من صلاة إلى صلاة أخرى مخالفة معها ماهيّته أمر تعبّدي على خلاف القاعدة.

و يمكن أن يقال بانصراف دليل العدول إلى ما إذا كان إتمام الصلاة

بعنوان المعدول عنه لو لا ملاحظة الترتيب بينه و بين المعدول إليه ممكنا، فلا يشمل الفرض المذكور، لعدم إمكان إتمام الصلاة بعنوان المغرب.

و لو انعكس الأمر بأن دخل في رباعيّة فشكّ بين الاثنتين و الثلاث فذكر أنّ عليه ثلاثيّة، فلا إشكال في عدم شمول دليل العدول هنا، فإنّه إمّا نفرض العدول بعد البناء على الثلاث و لازمة الاكتفاء بالركعة المشكوكة في المغرب، و قد نصّت الأدلّة فيها بالعدم، و إمّا نفرض قبل ذلك فيكون نتيجته الحكم بالبطلان، و من المعلوم أنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 560

دليل العدول إنّما يشرّع العدول لأجل إتمام المعدول إليه، لا للحكم على الصلاة بالبطلان بعده.

و حينئذ فهل الحكم إتمام الصلاة رباعيّة بإعمال وظيفة الشكّ ثمّ الإتيان بالثلاثيّة بعدها، أو أنّه يلزم رفع اليد عنها و استئناف صلاة أخرى بلا نيّة ثمّ الإتيان بالرباعيّة بعدها؟

الحقّ في المسألة التفصيل بين صورة جواز العدول كما في العدول عن الحاضرة إلى الفائتة، فيحكم بإتمام الصلاة رباعيّة، و لا يجوز القطع، و بين صورة وجوب العدول كما في العدول من العشاء الحاضرة إلى المغرب كذلك، أو من العشاء الفائتة إلى المغرب كذلك، فالحكم في هذه الصورة هو الحكم في ما إذا تذكّر بعد تجاوز محلّ العدول، فإن قلنا فيه بصحّة صلاته عشاء نقول به ها هنا، و إن قلنا بالبطلان بفوات الترتيب بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة مع وجود الذكر نقول به ها هنا أيضا.

و العجب من شيخنا المرتضى رحمه اللّٰه، حيث قال في صلاته ما حاصله الفرق بين صورة وقوع الشكّ بين الثنتين و الثلاث، فقوّى فيها البطلان، و بين صورة وقوعه بين الثلاث و الأربع فحكم بإتمامه رباعيّا بالعمل بوظيفة الشكّ.

و أنت

خبير بأنّه إن كان الوجه في ما ذكره في الصورة الثانية هو أنّ مقتضى البناء على الأربع مضيّ محلّ العدول فالفرع الأوّل أيضا مشترك معه في عدم إمكان العدول على حسب ما قرّرنا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 561

الفصل الثالث في كيفيّة صلاة الاحتياط و جملة من أحكامها

اشارة

و فيه مسائل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 563

[المسألة] الأولى يعتبر في صلاة الاحتياط أمران: المبادرة و تكبيرة الإحرام

اشارة

يعتبر في صلاة الاحتياط جميع ما يعتبر في سائر الصلوات، لتسميتها في الأخبار صلاة مستقلّة، و لا صلاة بغير افتتاح، فيعتبر فيها تكبيرة الإحرام، كما يعتبر فيها تجديد النيّة و قراءة الفاتحة.

و هل يجب الفور فيها و لا يجوز تخلّل أحد المنافيات بينها و بين صلاة الأصل، نظرا إلى أنّها تتميم للصلاة على فرض النقصان و إن كان أجنبيّا عنها على فرض التمام، فيجب مراعاة كلتا الجهتين فيها أعني جهة الجزئيّة و الاستقلال، فبلحاظ الجهة الأولى يجب المبادرة و لا يجوز الفصل بالمنافي، كما هو شأن الأجزاء، و بلحاظ الثانية يجب تكبيرة الإحرام و تجديد النيّة و قراءة الفاتحة.

التحقيق عدم تماميّة هذا الوجه، إذ بعد فرض عدم كون صلاة الاحتياط ركعة متّصلة حقيقة، بل هي صلاة مستقلّة، غاية الأمر يحتسبها الشارع مكان الركعة المتّصلة على فرض النقصان لا يكون المكلّف حال الفراغ من الصلاة الأصل و عدم الاشتغال بالاحتياط بين الصلاة الواحدة، بل بين الصلاتين، نعم هو بين المأمور به، إذ الصلاتان مأمور بهما بأمر واحد، و فرق بين الكون في أثناء المأمور به و بين الكون في أثناء الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 564

نعم يمكن تنزيل الشارع هذه الحالة المتوسّطة مكان الحالة الصلاتيّة، لكن يحتاج ذلك إلى دليل.

و حينئذ فإن قلنا بإطلاق الأدلّة الواردة في مقام البيان الساكتة عن التقييد بعدم تخلّل مثل الحدث و كذا عن التقييد بالفور فهو، و إلّا بأن قلنا: إنّ المفروض في هذه الأخبار المصلّي الجامع لجميع الشرائط الصلاتيّة الفاقد لجميع موانعها و الخطاب متوجّه إليه بصلاة الاحتياط فلا نظر فيها لغير هذا الموضوع، كما أنّ الملحوظ هو

الفور، فليس التراخي أو الفصل بالمنافي مشمولا للأخبار كما لعلّه الظاهر.

فحينئذ المرجع هو الأصل العملي، و لا يخفى أنّ الشكّ و إن كان راجعا إلى تقييد متعلّق التكليف و إطلاقه و المرجع فيه على حسب المختار في محلّه هو البراءة عقلا و نقلا، إلّا أنّه في غير أمثال ما نحن فيه ممّا كان الاشتغال بالمفهوم المبيّن معلوما و الشكّ واقع في مرحلة امتثاله و إسقاط تكليفه إمّا بواسطة الشكّ في دخالة شي ء في محصّله الشرعي و في دخالة شي ء في ما جعله الشارع بدلا له في حال الشكّ كما في المقام، فإنّ التحقيق عدم جريان البراءة في هذه الصورة لا عقلا و لا نقلا.

أمّا الأوّل فواضح، لأنّ العقاب على المخالفة على فرضها ليس بلا بيان كما هو المفروض من تبيّن المأمور به بحدوده و قيوده، و إنّما الشكّ في مرحلة الإسقاط و الإغماض و العفو.

إذا أخلّ بالمبادرة و أتى بالمنافاة

و أمّا الثاني: أعني حديث الرفع فهو فرع شموله للآثار الوضعيّة أعني الشرطيّة و القيديّة، لكنّه محلّ إشكال، فلا محيص عن الاحتياط بإتيان الاحتياط

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 565

فورا قبل الفصل بالمنافي، و على فرض وقوع السكوت الطويل أو سائر المنافيات فالاحتياط هو الإتيان بالاحتياط مع إعادة أصل الصلاة، للعلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين.

إلّا أن يقال: إنّ مبنى هذا العلم الإجمالي حرمة الإبطال، و القدر المتيقّن منها ما إذا أمكن تسليم العمل على أنّه مصداق المأمور به، فلا يشمل مثل ما نحن فيه ممّا يكون مشكوك المصداقيّة، فليس الإبطال بمحرّم في هذه الصورة واقعا، لا أنّه محتمل، و حينئذ يتعيّن الإعادة بواسطة الاشتغال بالأمر الأوّلي.

اللّٰهمّ إلّا أن يتمسّك لدفع القيدين المحتملين بذيل الاستصحاب، و تقريبه من وجهين:

الأوّل: استصحاب

التكليف بصلاة الاحتياط الثابت قبل حدوث المنافي أو الفصل الطويل، و المفروض بقاء الموضوع العرفي، فإنّه يقال: الركعتان المخصوصتان كانتا في الساعة السابقة متّصفة بالوجوب و الآن نشكّ في بقائهما على هذه الصفة، و مقتضى الاستصحاب البقاء.

و الثاني: استصحاب بقائهما على صفة التدارك على تقدير الوجود، و هذا و إن كان استصحابا تعليقيّا، لكن قد قرّر في الأصول صحّته حتّى في الموضوع فضلا عن الحكم.

و الحقّ عدم تماميّة الوجه الأوّل و تماميّة الثاني.

أمّا الأوّل: فلمنع بقاء الموضوع عرفا، كيف و موضوع القضيّة السابقة لعلّه كان هو الركعتان المقيّدتان بكونهما قبل المنافي أو متّصلتين بالصلاة، و في القضيّة المشكوكة هو الركعتان المتّصفتان بخلاف ذلك.

و مثل هذه الاختلافات و إن كان لا يضرّ في وحدة الموضوع العرفي، لكن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 566

عدم إضراره مخصوص بمثل الأحكام المتعلّقة بالموضوعات بعد وجودها في الخارج، مثل النجاسة و الطهارة و أمثال ذلك، فإنّ الموضوع بعد وجوده في الخارج كالماء المتغيّر إذا زال عنه الوصف الموجود فيه، فلا يسمّى عند العرف موضوعا مغايرا لما كان في السابق.

و أمّا الأحكام المتعلّقة بالأفعال بلحاظ الوجود مثل الأمر المتعلّق بالصلاة حيث لا يمكن تعلّقه بالصلاة المفروضة الوجود، بل لا بدّ و أن يتعلّق بها قبل الوجود بلحاظه، فليس مثل هذا الاختلاف غير قادح بالوحدة في أمثال ذلك.

و الشاهد مراجعة العرف، حيث إنّهم يفرّقون في المفاهيم الكلّية قبل تلبّسها بالوجود و بين الأشخاص المتلبّسة بالوجود، فيحكمون بتغاير المفهومين المطلق و المقيّد في الأوّل، دون الثاني، كيف و تقسيم الماهيّة إلى المطلق و المقيّد تقسيم عرفي، لا دقّي عقلي.

بيان صحّة الاستصحابات التعليقيّة في الحكم و الموضوع

و أمّا وجه تماميّة الثاني فيبتني على مقدّمتين:

الاولى: بيان صحّة الاستصحابات التعليقيّة، سواء كان

التعليق في الحكم كما في: العنب إذا غلى ينجس، أو في الموضوع، كما في ما لو علم كون الماء بحدّ من الكمّ بحيث لو صبّ عليه منّ لصار كرّا.

و الثانية: بيان أنّ التطبيق و الحكم بانطباق المأتيّ به على المأمور به ليس حكما عقليّا فقط لا تناله يد الجعل، بل ممّا تناله.

وجه الحاجة إلى هذه أنّ المستصحب هنا أنّ الركعتان على تقدير الوجود في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 567

السابق كانتا منطبقتين على المأمور به، و لا يرد عليه الإشكال السابق، فإنّ المشار إليه هو الشخص، لا المفهوم و الكلّي، فإنّ هذا أعني الانطباق من أحكام الشخص لا الكلّي، بل الإيراد عليه من وجهين:

الأوّل: احتياجه إلى التقدير و التعليق، و الثاني: أنّ الانطباق من حكم العقل، و ليس بمجعول للشرع، و لا له أثر مجعول، و الحقّ اندفاع كلا الإيرادين.

أمّا الأوّل: فلما حقّقناه في محلّه من صحّة التعليق و التقدير في أمثال هذه المقامات و إن لم يكن القضيّة التعليقيّة مجعولة للشارع بصورة التعليق، بل كانت من منتزعاتنا.

و أمّا الثاني: فلما حقّقناه أيضا من أنّ التقبّل أيضا حكم قابل للجعل، و حقيقته الإغماض و رفع اليد عن أمره مع عدم إتيان متعلّقه.

المسألة الثانية لو تذكّر النقص بعد البناء على الأكثر و التسليم

فإمّا أن يتذكّر النقص المحتمل أو غيره، و على التقديرين إمّا أن يكون قبل الاحتياط أو بعده، أو بين الاحتياطين، أو في أثناء احتياط واحد، و على الأخيرين إمّا أن يكون ما أتى به مطابقا للمنقوص كمّا و كيفا، أو مخالفا له فيهما، أو في أحدهما.

فإن تذكّر قبل صلاة الاحتياط قالوا: دخل في مسألة من نقص ركعة أو أزيد.

و قد يشكل بأنّ مورد تلك المسألة ما إذا سلّم سهوا، و ما نحن

فيه [ليس] ما وقع فيه السّلام بزعم الفراغ، بل لأجل أمر الشارع، و هو أيضا قد بان عدمه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 568

لأنّه متعلّق بالشاكّ المستمرّ إلى آخر الاحتياط، فهذا التسليم ليس بمشمول لأدلّة السّلام الواقع سهوا في غير المحلّ، و لا لأدلّة المقام، فالحكم بعدم إضراره و عدم مانعيّته عن إلحاق الركعة المنقوصة يحتاج إلى دليل، فيجب علينا العمل بمقتضى العلم الإجمالي من الجمع بين إتيان الركعة المنقوصة ثمّ الإعادة.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال بمنع حرمة الإبطال، كما تقدّمت الإشارة إليه، فيكتفى بالإعادة.

لكنّ الحقّ صحّة ما ذكروه من إلحاق المسألة بمسألة من نقص ركعة أو أزيد في غالب الفروض.

توضيح المقام أنّه من المسلّم أنّه لو اعتقد جهلا مركّبا تماميّة الصلاة فسلّم، ثمّ بان الخلاف ليس هذا السّلام بمانع عن إلحاق التتمّة، هذا في الجهل المركّب بالنسبة إلى الاعتقاد الوجداني.

و كذا الحال في الطرق التعبّديّة المجعولة لرعاية الواقعيّات مطلقا أو في حال الشكّ، فإنّ شأن الحكم الطريقي كونه كالعلم في الأعذار و التنجيز مع الإصابة و الصوريّة مع عدمها، فلو شهدت بيّنة بأنّك قد أتممت الركعات فسلّمت ثمّ تبيّن كذبها كان أيضا هذا السّلام غير مانع من الإتمام، و كذا لو اقتضى أصل من الأصول الشرعيّة ذلك.

إذا عرفت هذا فنقول: المصلّي الذي عرض له في أثناء الصلاة شكّ من الشكوك الصحيحة لا يخلو من أحد الأحوال الثلاثة:

إمّا أن يكون قاطعا ببقاء شكّه إلى آخر العمل بالوظيفة، و إمّا أن يكون قاطعا بزواله في الأثناء قبل الآخر، و إمّا أن يكون شاكّا، و الغالب هو القسم الأوّل.

ففي الأوّل يكون سلامه بزعم أنّه مأمور به بأمر شرعي و قد ظهر كونه جهلا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص:

569

مركّبا، و قد عرفت أنّه غير مانع.

كما أنّه في القسم الثاني يرفع اليد عن هذه الصلاة و يأتي بصلاة مستأنفة.

و في القسم الثالث حيث إنّ البقاء مطابق للأصل العقلائي، لغلبة عدم الانقلاب نظير أصالة السلامة من السهو و النسيان، فالسلام المبني على هذا الأصل أيضا غير مانع كما عرفت.

نعم لو فرض انقلاب الأصل في حقّه لغلبة انقلاب شكّه في الأثناء فربما يقال بجريان استصحاب البقاء في حقّه، لكنّ الظاهر عدم جريانه، إذ الأثر ليس مرتّبا على وجود الشكّ في الأزمنة المتأخّرة، بل على وجوده بوصف الاتّصال.

و بعبارة أخرى: العناوين الواقعة موضوعا للعمل التدريجي ظاهرة في وجود الاتّصالي الدائم بدوام ذلك العمل، فالاستصحاب لا يثبت وصف الاتّصال، و إنّما يثبت أصل الوجود.

هذا كلّه في ما لو تذكّر النقص قبل الاحتياط.

و لو تذكّر بعده فإن كان مطابقا للمنقوص فالنصوص مصرّحة بالإجزاء في هذا الفرض، من غير فرق بين المخالفة في التكليف و عدمها، و من غير فرق بين ما لو كان للاحتياط المطابق للمنقوص المقدّم من الاحتياطين في صورة الاحتياج إلى تعدّد الاحتياط و غيره، و كذا من غير فرق بناء على عدم إضرار تخلّل المنافي بين صلاة الأصل و الاحتياط بين تخلّله و عدمه، و شبهة الفرق يشبه أن يكون اجتهادا في مقابل النصّ، أو رفعا لليد عن المبنى.

و إن كان مخالفا له، إمّا بأن كان النقص أزيد من الاحتياط، كما لو تذكّر في الشكّ بين الثلاث و الأربع بعد الإتيان بركعة الاحتياط نقصان صلاته ركعتين، و إمّا بأن كان بالعكس، كما لو تذكّر في الشكّ بين الاثنتين و الأربع بعد الإتيان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 570

بركعتي الاحتياط نقصان صلاته ركعة، فلا إشكال

في أنّ دليل الجبر غير شامل لهذا الفرض.

كما أنّ دليل الوقوع نافلة أيضا غير شامل له، لأنّ الموضوع هو الشاكّ بين الثلاث و الأربع الذي كان محرزا للثلاث، و ظاهره كون الإحراز جزء للموضوع على وجه الطريقيّة، بحيث يكون للمتعلّق أيضا مدخليّة، فإذا تبيّن أنّه ما صلّى ثلاثا، بل اثنتين فقد انكشف كونه خارجا عن موضوع الحكم.

و هكذا الكلام في من شكّ أنّه صلّى ثنتين أو أربعا و قد أحرز الثنتين، فإنّه إذا علم أنّه صلّى ثلاثا تبيّن أنّ إحرازه كان على خلاف الواقع، لأنّه علم إجمالا إمّا بالاثنتين أو بالأربع و تبيّن الثلاث، فيقع الكلام في مانعيّة هذا المقدار الذي وقع منه من الأفعال و الأقوال عن إلحاق التتمّة و عدمها.

و لعلّ الأظهر عدم المانعيّة، فإنّ حاله حال من سلّم بزعم الفراغ، ثمّ اشتغل بقراءة سورة البقرة بعنوان التعقيب فتذكّر أنّه سلّم على الثالثة مثلا.

و من هنا يظهر الحال في ما لو تبيّن النقص في أثناء الاحتياط أو بين الاحتياطين، و كان الذي جاء به منهما غير مطابق للمنقوص.

و أمّا هذا الفرض مع كون ما جاء به مطابقا فيمكن تقوية كفايته و جبره للمنقوص بوجهين:

الأوّل: دعوى القطع بعدم دخالة الاحتياط الثاني لجابريّة الاحتياط الأوّل، بل كلّ منهما جابر مستقلّ على تقدير أحد من طرفي الشكّ، هذا مع بقاء الشكّ إلى آخر الوظيفة.

و أمّا إذا انقطع بعد الاحتياط الأوّل فهو و إن كان خارجا عن مفاد اللفظ، لكن يمكن فهمه بتنقيح المناط، فإنّ الإنسان يقطع بأنّ حفظ الشكّ إلى زمان الاحتياط الثاني يكون لأجل وقوع الاحتياط الثاني جائزا على تقدير الحاجة إليه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 571

و إلّا فليس لهذا الشكّ المتأخّر نفع بالنسبة

إلى الاحتياط المتقدّم.

الوجه الثاني: دعوى إطلاق اللفظ، إذ ليس في اللفظ إلّا أنّ من شكّ بين الثنتين و الثلاث و الأربع يفعل كذا و كذا، و ليس فيه تعرّض لبقاء الشكّ و زواله، و إنّما الحكم بالتقييد بالاستمرار هو العقل، لاستحالة التكليف بالعمل التدريجي بأن يصدر عن العنوان الغير المستمرّ إلى مقدار ذلك العمل، و القرينة العقليّة تتقدّر بقدر الضرورة و الحاجة، و الذي يحتاج إلى رفع [اليد] عن إطلاقه في ما نحن فيه إنّما هو بالنسبة إلى كلّ من الاحتياطين بمقدار نفسه، و أمّا بمقدار صاحبه فمقتضى الأخذ بالإطلاق عدم مدخليّته في الحكم بالإجزاء، هذا، و اللّٰه العالم.

المسألة الثالثة لو شكّ في عدد ركعات صلاة الاحتياط

اشارة

فظاهر الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم على ما حكي عن الحدائق الاتّفاق على عدم الاعتناء بالشكّ و البناء على المصحّح، فيبني على الأكثر ما لم يستلزم الزيادة، و إلّا فعلى الأقلّ.

و الأصل فيه ما عن الشيخ في الصحيح «ليس على الإمام سهو، و لا على من خلف الإمام سهو، و لا على السهو سهو، و لا على الإعادة إعادة» «1».

و في حديث آخر رواه الصدوق و الكليني رحمهما اللّٰه «قال عليه السّلام: ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه باتّفاق منهم، و ليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام، و لا سهو في سهو» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 24 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 572

بيان محتملات قوله عليه السّلام: لا سهو في السهو

و توضيح معنى الرواية الشريفة أنّ قولهم عليهم السّلام: لا سهو على السهو، أو لا سهو في سهو، يحتمل معاني، إذ السهو في كلّ من الموضعين يحتمل أن يراد به ما هو المتعارف منه في المحاورات، أعني النسيان، و يحتمل أن يراد به الشكّ، و يحتمل أن يراد به الأعمّ الشامل لكليهما، و يحتمل أن يراد بكلّ منهما واحد من هذه الثلاث، و بالأخير غيره، فيرتقي الاحتمالات إلى تسعة يحصل من ضرب الثلاث في مثلها.

ثمّ المراد بالسهو الأوّل نفي أثره، لا نفيه بحقيقته، لعدم انتفائه كذلك، كما أنّ المراد بالثاني ما يوجبه السهو من ركعة الاحتياط أو سجدتي السهو، و القدر المتيقّن الذي يمكن استفادته من الرواية الشريفة نفي حكم الشكّ في أعداد الركعات في صلاة الاحتياط، و حكم الشكّ هو البناء على الأكثر، فالرواية

صريحة في نفي الحكم المذكور عن الشكّ المزبور.

و بعد ارتفاع ذلك بنصّ الخبر يدور الأمر بين البناء على الأقلّ، كما هو مقتضى أصالة عدم الإتيان بالمشكوك، بناء على أنّ المتيقّن من سقوط هذا الأصل كما استفيد من التفريع الواقع في الأخبار نفي السهو في الأوليين على ما تقدّم توضيحه إنّما هو في الفرائض الأصليّة، لا مثل صلاة الاحتياط التي هي واجبة بالعارض.

و بين الحكم بالبطلان، نظرا إلى عدم جريان الأصل المزبور في حدّ ذاته في باب الركعات، لكونه بالنسبة إلى إثبات الحدّ مثبتا.

و الدليل على مطلوبيّة الحدّ ما نراه من الشارع من جعل الاحتياطين في الشكّ بين الثنتين و الثلاث و الأربع، و لو لا ملاحظة حفظ الحدّ عن الزيادة و النقصان لكان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 573

المناسب الاكتفاء بالركعتين، لاندفاع احتمال الزيادة بالأصل، فإيجاب كلتيهما دليل على أنّ المطلوب في الصلاة هو الأربع بحدّها سليمة عن النقيصة و الزيادة، بحيث يكون الحدّ قيدا للمطلوب، فلا يكفي إحراز أصل الذات من دون إحراز القيد، و أصالة العدم إنّما ينفع في ما إذا كان المطلوب نفس الذوات مع مانعيّة الخامسة، و أمّا إذا كان المطلوب هي الأربع المحدودة المأخوذة بشرط لا عن الزيادة فلا يمكن إحرازه بالأصل المزبور كما هو واضح.

و ربما يوجّه الصحّة على طبق ما ذكره المشهور بالمقايسة على ما ورد في كثير الشكّ من قولهم عليهم السّلام: لا شكّ لكثير الشكّ، فإنّ المراد به بقرينة وروده مورد المنّة هو البناء على الطرف الصحيح.

و فيه أنّه قد ورد أنّه «ليس في المغرب سهو، و لا في الفجر سهو، و لا في الركعتين الأوليين من كلّ صلاة سهو» «1».

و من المعلوم أنّ المراد

نفي العلاج الملازم مع البطلان، فيعلم من ذلك أنّ العبارة بنفسها لا تدلّ على شي ء من البطلان و الصحّة، و إنّما يستفاد كلّ من الأمرين في المقامات بحسب القرينة الخارجيّة.

و على هذا فيمكن أن يقال: لو لا خوف المخالفة للإجماع بأنّ القرينة المقاميّة في ما نحن فيه تدلّ على إرادة نفي العلاج رأسا، فإنّ صلاة الاحتياط إنّما شرّع ليقع جبرا أو تتميما لنقص الصلاة على تقديره، و ما كان شأنه الجبر يناسبه أن لا يقبل الجبر، و أيضا فالمقصود من تشريع صلاة الاحتياط على ما يستفاد من الأخبار هو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 13، و الباب 1 من هذه الأبواب، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 574

إحراز الحدّ للصلاة الأصليّة بطريق القطع و هذا يناسب مع عدم العلاج في نفسه لمخالفته مع المقصود من حصول القطع، و على كلّ حال فالاحتياط بإتيان ركعة الاحتياط المذكور كما يقوله المشهور، ثمّ بإعادة نفسها، ثمّ بإعادة صلاة الأصل طريق النجاة.

المسألة الرابعة لو شكّ في إتيان صلاة الاحتياط بعد العلم بوجوبها

لو شكّ في إتيان صلاة الاحتياط بعد العلم بوجوبها فإن قلنا باستفادة الفور من الأدلّة كان من الشكّ بعد تجاوز المحلّ إذا كان شكّه بعد مضيّ زمان ينافي الفور، هذا إن قلنا باستفادة الفور وضعا، و إن قلنا باستفادة الإطلاق فإن قلنا باعتبار المحلّ المعتاد نوعا في قاعدة الشكّ كان أيضا كما تقدّم محكوما بالإتيان في الصورة المزبورة، و إن قلنا بعدم الاعتبار فلا بدّ من الإتيان إذا كان في الوقت، هذا إن قلنا باستفادة أحد الأمرين من التقييد بالفور أو الإطلاق.

و إن قلنا بالقدر المتيقّن فلا بدّ من الإتيان بالاحتياط، و لا حاجة إلى إعادة أصل الصلاة، إذ

لا يخلو الحال من أمرين: إمّا يكون الفور قيدا فهو مورد القاعدة، و إمّا لا يكون فمحكوم بالإتيان، و اللّٰه العالم.

المسألة الخامسة لو شكّ بعد الفراغ بين الثلاث و الأربع مثلا،

و شكّ أنّ شكّه هذا حادث بعد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 575

الفراغ، أو أنّه باق من أثناء الصلاة حتّى يجب عليه صلاة الاحتياط، كان شبهة مصداقيّة لكلّ من الدليلين، و لا يمكن إحراز موضوع القاعدة بأصالة عدم حدوث الشكّ في الصلاة، لكونه مثبتا من هذه الجهة، نعم هو ملازم مع عدم وجوب صلاة الاحتياط في الواقع، فلا محيص في مقام الفراغ اليقيني عن التكليف عن الإتيان بصلاة الاحتياط، لحصول الجزم معه بالفراغ على كلّ تقدير.

المسألة السادسة إذا نسي صلاة الاحتياط و شرع في صلاة أخرى

إذا نسي صلاة الاحتياط و شرع في صلاة أخرى فلا يخلو إمّا تكون تلك الصلاة مرتّبة على الصلاة التي شكّ فيها كالعصر إذا شكّ في العصر، و إمّا لا يكون كذلك، سواء كانت فريضة أم نافلة.

فإن كانت مرتّبة فلا دليل على العدول، لأنّ القدر المتيقّن من دليله العدول إلى نفس الظهر مثلا، لا صلاة احتياطه، بل الوجه حينئذ أن يقال: أمّا العصر فلا وجه لإتمامه بعد اشتراطه بالترتيب، و قد فرض انتفاؤه و إن كان قد سقط بالنسبة إلى أجزائه الماضية، لكن لا دليل على السقوط بالنسبة إلى المستقبلة.

و بعد ذلك فاللازم الشروع في صلاة الاحتياط بناء على ما هو الحقّ من عدم لزوم خلل من ناحية ما أتى به من إجزاء العصر، لعدم اندراجه في شي ء من العناوين المبطلة، و هل يجوز بعد الفراغ من الاحتياط البناء على ما مضى من العصر و إتمامه من ذلك المكان، أو يجب استئناف العصر؟ يبتني على الوجهين في الفرض اللاحق.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 576

و إن كانت غير مرتّبة كقضاء العشاء مثلا إذا شكّ في الظهر، فإن اتّفق الفصل المنافي للفور و قلنا بقيديّته تبيّن بطلان الظهر و تعيّن

إتمام العشاء.

و إن لم يتّفق ذلك فإن قلنا بأنّه لا منافاة لشي ء من الصلاتين بالنسبة إلى الأخرى عاد إلى صلاة الاحتياط، و بعدها إلى صلاة العشاء، فيبني على ما مضى و يتمّه من ذلك المحلّ، و إن قلنا بالمنافاة فقد تحقّقت المزاحمة بين وجوب الإتمام الثابت في واحدة من الصلاتين بحسب الذات معه في الأخرى، و حيث لا ترجيح تعيّن التخيير.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 577

الفصل الرابع في حكم الأجزاء المنسيّة

اشارة

و أعلم أنّها على أقسام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 579

فقسم منها يجب تداركه و لكن لا قضاء له لو فات محلّ تداركه.

و قسم منها يجب تداركه و له القضاء عند فوت محلّ التدارك.

و قسم منها لا تدارك له و لا قضاء، بل و لا سجود سهو.

و قسم منها يوجب بطلان الصلاة مع فوت محلّ تداركه.

أمّا القسم الواجب التدارك الذي ليس له القضاء

فهو مثل الحمد إذا تذكّره و هو قبل الركوع، و هل يجب إعادة السورة التي قدّمها أو لا؟ الظاهر نعم، و إن كان لو استمرّ نسيانه إلى ما بعد الركوع لا يجب عليه سجدة السهو إلّا لنقيصة الحمد لا لها و لنقيصة السورة أيضا.

و قد يشكل ذلك بأنّ الترتيب إمّا معتبر في الصلاة في ظرف الأجزاء فاللازم عدم إعادة السورة لو تذكّر قبل الركوع، لأنّ محلّ الترتيب و هو السورة التي هو الجزء قد فات، و لا يمكن إعادته ثانيا، لأنّ صرف الوجود لا يقبل التكرار، أو معتبر في الأجزاء فالإعادة حينئذ على طبق القاعدة، لأنّه لم يأت حينئذ بما هو الجزء، لأنّه المقيّد بالترتيب، و ما أتى به خال عنه، و لكنّ اللازم الإتيان بسجدتي السهو، لنقيصة السورة أيضا مع استمرار سهوه إلى ما بعد الركوع كما هو واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 580

و أمّا احتمال كون الترتيب قيدا للجزء في حال عدم استيعاب السهو إلى ما بعد الدخول في الركن، و معه كان الجزء هو الذات المجرّدة عن القيد، فمدفوع بأنّه و إن كان ممكنا، لكنّه خلاف مقتضى الأدلّة، إذ ليس لنا إلّا دليل اعتبار السورة و اعتبار الترتيب و اغتفار سهو غير الخمسة المستثناة و لزوم سجدتي السهو لكلّ زيادة و نقيصة، و من

المعلوم أنّ قضيّة الجمع ليس إلّا أحد الأوّلين.

و الذي اختياره شيخنا الأستاذ دام علاه أنّ المقام أشبه شي ء بباب مقدّمة الواجب من حيث اعتبار قيد الإيصال و عدمه، حيث إنّه يترتّب على كلّ واحد من اعتباري التقييد بوجوهه و الإطلاق، الإشكال الغير القابل للذبّ كما بيّن في محلّه.

و الحلّ في المقامين أنّ الترتيب هنا و الاتّصال هناك موجود يواقعهما في عالم اللحاظ، و ليسا بقيد في المأمور به، يعني أنّ الآمر جعل الأمر في لحاظ رؤيته المقدّمات موصولة، و الأجزاء مترتّبة، و في هذا اللحاظ القيد حاصل، و لا حاجة إلى التقييد، فلهذا علّق الأمر بنفس الذوات، ففي اللبّ الأمر متقيّد، و لكن عنوان التقييد غير ملحوظ.

و نظيره جار في تقييد الطبيعة المعروضة للكلّية بالتجريد و في تقييد المأمور به بكونه بداعي الأمر و في تقييد الموضوع له بالوحدة كما اختاره المحقّق القمّي قدّس سرّه.

و على هذا فيرتفع الإشكال عن المقام، أمّا وجوب الإعادة مع التذكّر قبل الركوع فلأجل أنّ المفروض أنّه لم يأت بالأجزاء بالهيئة التي وقعت بتلك الهيئة في لحاظ الآمر مأمورا بها.

و أمّا بعد الدخول في الركوع فلا يمكن الإتيان بالحمد، للزوم زيادة الركن، فيدخل تحت عموم اغتفار المنسيّ، و لا شكّ أن وقوع السورة على خلاف الترتيب كان مسبّبا عن جزئيّة الحمد قبله، فإذا سقط الحمد عن الجزئيّة قبله كان السورة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 581

واقعة في المحلّ.

فإن قلت: السهو بالنسبة إلى كلّ من الحمد و وصف السورة بالترتيب في عرض واحد فلا وجه لإيراد دليل الاغتفار على الأوّل أوّلا حتّى ينتج النتيجة المذكورة، بل اللازم ملاحظته بالنسبة إليهما في عرض واحد.

قلت: كما عرفت وقوع السورة على خلاف الترتيب

أو على وفقه مسبّب عن جزئيّة الحمد قبله و عدمها، فالدليل النافي للجزئيّة حاكم على الدليل الحاكم على السورة الواقعة على خلاف الترتيب، كما في كلّ عامّ له فردان سببيّ و مسبّبي.

و أمّا القسم الذي لا تدارك له و لا قضاء و لا سجود سهو،

فمنه الجهر و الإخفات في القراءة في الأوليين إذا وقع أحدهما مكان الآخر سهوا، فإنّ الحقّ أنّه متى تذكّر و لو كان قبل الركوع لا يجب التدارك، بل و لو كان في أثناء الآية أو الكلمة لا يجب إعادتها، بل يجب مراعاة ما هو الواجب بالنسبة إلى ما بقي من الآية أو الكلمة.

و بطلان محلّ التدارك فيهما بمجرّد المضيّ عن محلّهما مبنيّ على استفادة كونهما قيدين للصلاة في ظرف القراءة، و إلّا فلو فرض كونهما وصفين للقراءة المأخوذة جزءا للصلاة فالواجب تداركهما بتكرار القراءة ما دام لم يدخل في الركوع.

و الذي يدلّ على الوجه الأوّل أمران:

أحدهما: قول السائل في الرواية الواردة في المقام: رجل أجهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه، أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه «1»، و لا يخفى ظهور التعبير في كونهما معتبرين في حدّ أنفسهما في الصلاة، لا أنّهما مطلوبان مقدّمة لإحراز

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 582

الخصوصيّة المعتبرة في القراءة.

و الثاني: قوله عليه السّلام في تلك الرواية: «أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته، و إن كان ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فقد تمّت صلاته و لا شي ء عليه» «1».

و قد بيّنا سابقا وجه الاستظهار فراجع في مبحث الجهر و الإخفات من بحث القراءة، كما أنّ الظاهر من قوله عليه السّلام: و لا شي ء عليه حيث إنّ الظاهر كونه في مقام بيان

تمام الوظيفة للرجل المفروض نفي وجوب سجود السهو.

و منه: الطمأنينة في الركوع، و بطلان المحلّ فيه أيضا مبنيّ على أخذ الطمأنينة قيدا للصلاة، لا للركوع، فإنّه على الأوّل فالركوع الصلاتي قد تمّ و أتى، و الطمأنينة واجب آخر فات محلّ تداركه، و على الثاني كان من نقيصة الركوع، فالواجب الإتيان به.

و محصّل الكلام في القيود المعتبرة شرعا في الركوع أنّه لا بدّ أن يلاحظ هل يكون لذلك القيد مدخل في تحقّق مادّة الركوع عرفا، غاية الأمر أنّ الشارع تصرّف فيه ببيان حدّه و مقداره، كما أنّ البعد في الجملة معتبر في تحقّق صدق السفر عرفا، و الشارع عيّن حدّه في ثمانية فراسخ، و هكذا مفهوم الكرّ.

و في المقام أيضا الانحناء في الجملة معتبر في مفهوم الركوع عرفا، و الشارع عيّنه في مقدار وصول اليد إلى الركبة، أو لا يكون له مدخل في صدقه عرفا أصلا، و إنّما هو معتبر في المطلوب كالطمأنينة، فالمنسيّ إن كان من القسم الأوّل فلا إشكال في أنّه من نقيصة الركوع الذي حكم بعدم اغتفارها و لو سهوا، و إن كان من القسم الثاني فلا بدّ من ملاحظة أنّه هل اعتبر قيدا للصلاة في هذا الطرف و المحلّ، فنقيصته

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 583

مغتفرة، لأنّه من غير الخمسة، أو أنّه أخذ قيدا للركوع، أعني أنّ الموضوع للوجوب الغيري هو الركوع الخاصّ.

فحينئذ ربما يمكن أن يقال بأنّ الظاهر من قوله عليه السّلام: إلّا من الركوع إلخ هو الركوع المعتبر شرعا، و لو كان نقصه بنقص قيده مع حصول ذاته فاللازم عدم اغتفار سهو هذا القيد، لكونه من نقص

الركوع.

و الذي يدلّ على عدم كون الطمأنينة قيدا للركوع حتّى في حال السهو حتّى يكون سهوه غير مغتفر أحد أمور ثلاثة:

الأوّل: إطلاق دليل الركوع بخلاف دليل الصلاة، فإنّه غير وارد في مقام البيان، و أمّا دليل الركوع فالأدلّة الواردة في تحديده خالية عن ذكر الطمأنينة، كما في الموثّقتين الواردتين في نسيان القنوت، حيث عيّن في إحداهما ميزان عدم الرجوع في الوصول إلى الركوع، و في الأخرى في وصول اليد إلى الركبة، فإنّهما إذا انضمّا يفيدان شرح الركوع و أنّه عبارة عن وصول اليد إلى الركبة من دون اعتبار شي ء آخر فيه.

و الثاني: لو فرض أنّ دليل الصلاة أيضا له إطلاق فالمتعيّن أيضا الأخذ بإطلاق دليل الركوع، لأنّ تقييد دليل الصلاة متيقّن على كلّ تقدير.

و الثالث: الأخذ بالبراءة بناء على ما هو الحقّ من البراءة في الدوران بين التقييد و الإطلاق و إمكان تخصيص الناسي بالخطاب، فإنّا نشكّ أنّ قيد الطمأنينة بحسب دليله الأوّلي مع قطع النظر عن ورود دليل لا تعاد هل له إطلاق شامل لحالتي الذكر و السهو، سواء كان قيدا للركوع أم للصلاة، أو لا إطلاق له، فمقتضى الأصل هو عدم الإطلاق و الاختصاص بحال الذكر.

لا يقال: لا مجرى للبراءة لو فرض كونه قيدا للركوع بعد ورود قوله عليه السّلام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 584

إلّا من الركوع إلخ، يعني: تعاد الصلاة من خلل الركوع و لو كان بإخلال قيده.

لأنّا نقول: حديث لا تعاد ناظر إلى الأجزاء و الشرائط التي لأدلّتها إطلاق لحال السهو، فكأنّه قيل: الأجزاء و الشرائط التي ثبت جزئيّتها و شرطيّتها من خارج هذا الدليل مطلقا يعفى عن إعادة الصلاة بخللها سهوا في غير الخمسة، و لا يعفى في

الخمسة، فلا نظر للحديث بالنسبة إلى موارد عدم إطلاق دليل الجزء و الشرط، بل المرجع في أمثاله البراءة على ما هو الحقّ، فتنبّه.

و أمّا القسم الذي يتدارك مع بقاء المحلّ و يقضى مع انقضائه

فهو أمران:

السجدة الواحدة و التشهّد.

ساعت 5- 12 شب جمعه 30- 5- 1377 ه ش از استنساخ كتاب صلاة مرحوم آية اللّٰه العظمى اراكى قدّس سرّه فراغت حاصل شد و الحمد للّٰه رب العالمين- مرتضى واعظى اراكى

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.